- 10 سبتمبر 2010
- 45
- 1
- 0
- الجنس
- ذكر
- القارئ المفضل
- محمود خليل الحصري
الصرفة والصرف في اللغة:
لسان العرب
( صرف ) الصَّرْفُ رَدُّ الشيء عن وجهه صَرَفَه يَصْرِفُه صَرْفاً فانْصَرَفَ وصارَفَ نفْسَه عن الشيء صَرفَها عنه وقوله تعالى ثم انْصَرَفوا أَي رَجَعوا عن المكان الذي استمعُوا فيه وقيل انْصَرَفُوا عن العمل بشيء مما سمعوا صَرَفَ اللّه قلوبَهم أَي أَضلَّهُم اللّه مُجازاةً على فعلهم وصَرفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ... وقوله عز وجل فما يَسْتَطِيعُون صَرْفاً ولا نَصْراً أَي ما يستطيعون أَن يَصْرِفُوا عن أَنفسهم العَذابَ... والصَّرْفُ أَن تَصْرِفَ إنساناً عن وجْهٍ يريده إلى مَصْرِفٍ غير ذلك وصَرَّفَ الشيءَ أَعْمله في غير وجه كأَنه يَصرِفُه عن وجه إلى وجه
العين , (ف , ر , ص)
وتصريف الرِّياحِ: تَصَرُّفُها من وَجْهٍ الى وَجهٍ، وحالٍ الى حال، وكذلك تصريف الخُيُول والسُّيُول والأمُور...
المحيط في اللغة للصاحب ابن العباد (ص ر ف)
وأنْ تَصْرِفَ إنساناً عن وَجْهٍ تُرِيْدُه إلى مَصْرفٍ غَيْرِ ذلك
الصحاح في اللغة للجوهري (ص ر ف)
صَرَفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ. وصَرَفْتُ الصبيان: قَلَبْتهم. وصَرَفَ الله عنك الأذى
القاموس المحيط
..." فما يَسْتَطيعُونَ صَرْفاً ولا نَصْراً " ، أي ما يَسْتَطِيعُونَ أن يَصْرِفوا عن أنْفُسِهِم العَذابَ ... واسْتَصْرَفْتُ اللّهَ المَكارِهَ: سألتُه صَرْفَها عَنِّي. وانْصَرَفَ: انكَفَّ،...
اللعاب الزاخر (ص ر ف)
والانصراف: الانكفاء...
وخلاصة القول في مادة صرف أنها تدور حول معنى تغير شيء عن وجهته وأصله وهو معنى ظاهر في صرف العرب بذواتهم أو هممهم عن معارضة القرآن فهم محوّلون من اتجاه الإتيان بمثل القرآن إلى وجهة أخرى وهي عدم الإتيان بمثله ...
الصرفة في اصطلاح المتكلمين :
يمكننا تعريف نظرية الصرفة في اصطلاح المتكلمين والمختصين بقولنا هي صرف العرب عن إجابة التحدي الرباني والإتيان بمثل القرآن الكريم رغم قدرتهم على ذلك .
حقيقة الصرفة :
إنّ نظرية الصرفة تقابل عند المتكلمين وعلماء الإسلام نظرية القول بإعجاز القرآن في ذاته أو ما يسميه البعض الإعجاز بالنظم , فإذا كان جمهور المسلمين يرون أنّ القرآن من حيث بلاغته وبداعة سبكه وروعة نظمه وجمال أسلوبه وصل درجة الكمال والإعجاز وبالتالي تقصر القدرة البشرية وتعجز عن الإتيان بمثله سواء في زمن الوحي والنبوة يوم وقع التحدي أوّل مرة أو قبله أو بعده على حدّ سواء ...
بينما نظرية الصرفة على خلاف مذهب الجمهور قائمة على ثلاثة أسس :
أولا : الاعتراف بفصاحة القرآن وبلاغته ولكن ليس إلى حدّ الكمال والإعجاز ...
ثانيا : إمكانية الإتيان بمثله فإنّ ذلك في طوق بلغاء العرب وقدرتهم ...
ثالثا : إنّ إعجاز القرآن يكمن في الحيلولة دون معارضته رغم إمكانية ذلك ...
يقول الإمام الزركشي (794هـ) مبيّنا وشارحا قول النظّام :"إنّ الله صرف العرب عن معارضته , وسلب عقولهم , وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات ."
ويقول الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (1360هـ 1948م) :"ومن الباحثين من طوّعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة ؛ أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية وضربوا لذلك مثلا فقالوا : إنّ الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته , إما لأنّ البواعث على هذا العمل لم تتوافر , وإما لأنّ الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأنّ حدثا مفاجئا لا قِبَلَ له به قد اعترضه فعطّل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهراً عنه , على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه . فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن ..."
قال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي (388هـ) : "وذهب قوم إلى أنّ العلة في إعجازه الصرفة أي صرف الهمم عن المعارضة , وإن كانت مقدورا عليها و غير معجوز عنها , إلاّ أنّ العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات , صار كسائر المعجزات فقالوا : ولو كان الله عزّ وجلّ بعث نبيا في زمان النبوات , وجعل معجزته في تحريك يده أو مدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه , ثم قيل له ما آيتك فقال أن أخرج يدي أو أمدّ رجلي ولا يمكن أحدا منكم أن يفعل مثل فعلي , والقوم أصحاء الأبدان , لا آفة بشيء من جوارحهم , فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه و كان ذلك آية دالّة على صدقه . وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي , ولا إلى فخامة منظره , وإنما تعتبر صحتها خارجا عن مجرى العادات ناقضا لها و فمهما كانت بهذا الوصف كانت آية دالّة على صدق من جاء بها وهذا أيضا وجه قريب"
أوجه الصرفة الواقعة على المتحدين:
لا تخرج جميع أوجه الصرف التي تحدث عنها القائلون بها أو مثلوا لها عن ثلاثة أوجه :
الأولى : صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة يقول الرّماني مبيّنا هذا الوجه من الصرفة : (أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول...)
الثانية : سلبهم علوم وأدوات المعارضة وفي هذا يقول السيد المرتضى من الشيعة الإمامية : "إنّ تعالى سلب العرب العلوم الّتي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة الّتي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم..." ويقول ابن سنان الخفاجي وهو شيعي كذلك : ( إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن : صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة ، وقت مرامهم ذلك...) قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي (447 هـ): "معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة الّتي لولا انتفاؤها لصحّت المعارضة، وهذا الضرب مختصّ بالفصاحة والنّظم معاً، لأنّ التحدي واقع بهما، وعن الجمع بينهما كان الصرَّف )
الثالثة : توفر الدواعي والهمم والعلوم ولكن " لم يمنعهم إلاّ إلجاؤه تعالى فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم " وعلى هذا الوجه يحمل كلام العديد من القائلين بصرفة العرب عن معارضة القرآن رغم توفر الدواعي الباعثة والعلوم المساعدة ومنهم الراغب الأصفهاني في جامع التفسير : ( فلما رئي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم ، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، وليس تهتز غرائزهم ألبتة للتصدي لمعارضته ، لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهيا يصرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيرة في الظاهر أن يعارضوه ، ومجبرة في الباطن عن ذلك ، وما أليقهم بإنشاد أبي تمام :
فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا وإن نك أجبرنا ففيم نتعتع .
والله ولي التوفيق والعصمة . ) ويقول الفخر الرازي في مفتاح العلوم : ( الطريق الثاني ، أن نقول : القرآن لا يخلو إما أن يقال : إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول : ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني : كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع كون المعارضة ممكنة ، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه ، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب )
وحقيقة هذه الأوجه الثلاثة أنّ الأولى متوجهة للهمم والدواعي فكأنها لم تتخطى مخيلة وأفكار المتحدين بينما هي في الثانية متوجهة لآليات هذا التحدي وأدواته أما في الثالثة فهي متعلقة بعوارض منفصلة تحول دون الوصول إلى التحدي
الصرفة النظّامية :
نظرة النظّام للقرآن أنه كتاب عادي كسائر الكتب السماوية أنزل لبيان الحلال والحرام لا غير وأنّ كلّ ما فيه من الإعجاز منحصر في أخبار الغيب أما من حيث نظمه فلا إعجاز فيه ومثله في كلام العرب كثير بل العرب قادرة على الإتيان بما هو أفضل وأرقى منه
فمن أقوال النظام التي تنص صراحة على هذا المعتقد قوله : (الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف والنَّظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أَحدثهما فيهم...) ويقول أيضا
... وإنّه من حيث الإخبار عن الأُمور الماضية ومنع العرب عن الإهتمام به جبراً وتعجيزاً، حتى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغةً وفصاحةً ونظماً ...)
يقول أبو منصور عبد القاهر الجرجاني مبيّنا معتقد النظّام في القرآن من حيث إعجازه : (والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ، ليست بمعجزة للنبي – عليه الصلاة والسلام - ولا دالة على صدقه في دعواه النبوة ، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه ، ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته ، فإن العباد قادرون على مثله ، وعلى ما هو أحسن منه في النظم ، والتأليف )
ولعل أكبر دليل على أنّ النظّام لم يكن يرى للقرآن في باب البلاغة والفصاحة أدنى فضل على كلام العرب وأنّه أبدا ما بلغ حدّ الإعجاز كما كان سائدا قبله بل ومجمع عليه قبل ظهور مقالته الفاسدة كلام تلميذه الجاحظ (255هـ) وهو أقرب الناس إليه وأعرفهم بمقالاته ...حيث يقول مخاطبا ابن أبي داؤد (240هـ) في (حجج النبوة) : (فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي ، وبلغت أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن ، والرد على الطعان ، فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي ، ولا لحشوي ، ولا لكافر مباد ، ولا لمنافق مقموع ، ولا لأصحاب النظام ، ولمن نجم بعد النظام ، ممن يزعم أن القرآن حق ، وليس تأليفه بحجة ، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة.) ويقول الفخر الرازي (606هـ) : (قال النظام : إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليؤيد به النبوة ، بل هو كتاب مثل سائر الكتب المنزلة ، لبيان الأحكام من الحلال والحرام ، وإنما لم يعارضه العرب ، لأن الله صرفهم عن ذلك وسلب دواعيهم عن الاعتراض)
فخلاصة الصرفة عند النظام وأسسها ما يلي :
1. الوجه الأوّل لإعجاز القرآن هو ما حواه من الأخبار الغيبية
2. الوجه الثاني لإعجاز القرآن ــ وهو الأهمّ ــ يكمن في صرف الله تعالى العرب عن معرضة القرآن والإتيان بمثله
3. القرآن ليس بمعجز من حيث نظمه
4. قدرة العرب على معارضة القرآن الكريم والإتيان بمثله وبما هو أفضل منه
لسان العرب
( صرف ) الصَّرْفُ رَدُّ الشيء عن وجهه صَرَفَه يَصْرِفُه صَرْفاً فانْصَرَفَ وصارَفَ نفْسَه عن الشيء صَرفَها عنه وقوله تعالى ثم انْصَرَفوا أَي رَجَعوا عن المكان الذي استمعُوا فيه وقيل انْصَرَفُوا عن العمل بشيء مما سمعوا صَرَفَ اللّه قلوبَهم أَي أَضلَّهُم اللّه مُجازاةً على فعلهم وصَرفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ... وقوله عز وجل فما يَسْتَطِيعُون صَرْفاً ولا نَصْراً أَي ما يستطيعون أَن يَصْرِفُوا عن أَنفسهم العَذابَ... والصَّرْفُ أَن تَصْرِفَ إنساناً عن وجْهٍ يريده إلى مَصْرِفٍ غير ذلك وصَرَّفَ الشيءَ أَعْمله في غير وجه كأَنه يَصرِفُه عن وجه إلى وجه
العين , (ف , ر , ص)
وتصريف الرِّياحِ: تَصَرُّفُها من وَجْهٍ الى وَجهٍ، وحالٍ الى حال، وكذلك تصريف الخُيُول والسُّيُول والأمُور...
المحيط في اللغة للصاحب ابن العباد (ص ر ف)
وأنْ تَصْرِفَ إنساناً عن وَجْهٍ تُرِيْدُه إلى مَصْرفٍ غَيْرِ ذلك
الصحاح في اللغة للجوهري (ص ر ف)
صَرَفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ. وصَرَفْتُ الصبيان: قَلَبْتهم. وصَرَفَ الله عنك الأذى
القاموس المحيط
..." فما يَسْتَطيعُونَ صَرْفاً ولا نَصْراً " ، أي ما يَسْتَطِيعُونَ أن يَصْرِفوا عن أنْفُسِهِم العَذابَ ... واسْتَصْرَفْتُ اللّهَ المَكارِهَ: سألتُه صَرْفَها عَنِّي. وانْصَرَفَ: انكَفَّ،...
اللعاب الزاخر (ص ر ف)
والانصراف: الانكفاء...
وخلاصة القول في مادة صرف أنها تدور حول معنى تغير شيء عن وجهته وأصله وهو معنى ظاهر في صرف العرب بذواتهم أو هممهم عن معارضة القرآن فهم محوّلون من اتجاه الإتيان بمثل القرآن إلى وجهة أخرى وهي عدم الإتيان بمثله ...
الصرفة في اصطلاح المتكلمين :
يمكننا تعريف نظرية الصرفة في اصطلاح المتكلمين والمختصين بقولنا هي صرف العرب عن إجابة التحدي الرباني والإتيان بمثل القرآن الكريم رغم قدرتهم على ذلك .
حقيقة الصرفة :
إنّ نظرية الصرفة تقابل عند المتكلمين وعلماء الإسلام نظرية القول بإعجاز القرآن في ذاته أو ما يسميه البعض الإعجاز بالنظم , فإذا كان جمهور المسلمين يرون أنّ القرآن من حيث بلاغته وبداعة سبكه وروعة نظمه وجمال أسلوبه وصل درجة الكمال والإعجاز وبالتالي تقصر القدرة البشرية وتعجز عن الإتيان بمثله سواء في زمن الوحي والنبوة يوم وقع التحدي أوّل مرة أو قبله أو بعده على حدّ سواء ...
بينما نظرية الصرفة على خلاف مذهب الجمهور قائمة على ثلاثة أسس :
أولا : الاعتراف بفصاحة القرآن وبلاغته ولكن ليس إلى حدّ الكمال والإعجاز ...
ثانيا : إمكانية الإتيان بمثله فإنّ ذلك في طوق بلغاء العرب وقدرتهم ...
ثالثا : إنّ إعجاز القرآن يكمن في الحيلولة دون معارضته رغم إمكانية ذلك ...
يقول الإمام الزركشي (794هـ) مبيّنا وشارحا قول النظّام :"إنّ الله صرف العرب عن معارضته , وسلب عقولهم , وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات ."
ويقول الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (1360هـ 1948م) :"ومن الباحثين من طوّعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة ؛ أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية وضربوا لذلك مثلا فقالوا : إنّ الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته , إما لأنّ البواعث على هذا العمل لم تتوافر , وإما لأنّ الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأنّ حدثا مفاجئا لا قِبَلَ له به قد اعترضه فعطّل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهراً عنه , على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه . فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن ..."
قال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي (388هـ) : "وذهب قوم إلى أنّ العلة في إعجازه الصرفة أي صرف الهمم عن المعارضة , وإن كانت مقدورا عليها و غير معجوز عنها , إلاّ أنّ العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات , صار كسائر المعجزات فقالوا : ولو كان الله عزّ وجلّ بعث نبيا في زمان النبوات , وجعل معجزته في تحريك يده أو مدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه , ثم قيل له ما آيتك فقال أن أخرج يدي أو أمدّ رجلي ولا يمكن أحدا منكم أن يفعل مثل فعلي , والقوم أصحاء الأبدان , لا آفة بشيء من جوارحهم , فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه و كان ذلك آية دالّة على صدقه . وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي , ولا إلى فخامة منظره , وإنما تعتبر صحتها خارجا عن مجرى العادات ناقضا لها و فمهما كانت بهذا الوصف كانت آية دالّة على صدق من جاء بها وهذا أيضا وجه قريب"
أوجه الصرفة الواقعة على المتحدين:
لا تخرج جميع أوجه الصرف التي تحدث عنها القائلون بها أو مثلوا لها عن ثلاثة أوجه :
الأولى : صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة يقول الرّماني مبيّنا هذا الوجه من الصرفة : (أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول...)
الثانية : سلبهم علوم وأدوات المعارضة وفي هذا يقول السيد المرتضى من الشيعة الإمامية : "إنّ تعالى سلب العرب العلوم الّتي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة الّتي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم..." ويقول ابن سنان الخفاجي وهو شيعي كذلك : ( إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن : صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة ، وقت مرامهم ذلك...) قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي (447 هـ): "معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة الّتي لولا انتفاؤها لصحّت المعارضة، وهذا الضرب مختصّ بالفصاحة والنّظم معاً، لأنّ التحدي واقع بهما، وعن الجمع بينهما كان الصرَّف )
الثالثة : توفر الدواعي والهمم والعلوم ولكن " لم يمنعهم إلاّ إلجاؤه تعالى فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم " وعلى هذا الوجه يحمل كلام العديد من القائلين بصرفة العرب عن معارضة القرآن رغم توفر الدواعي الباعثة والعلوم المساعدة ومنهم الراغب الأصفهاني في جامع التفسير : ( فلما رئي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم ، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، وليس تهتز غرائزهم ألبتة للتصدي لمعارضته ، لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهيا يصرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيرة في الظاهر أن يعارضوه ، ومجبرة في الباطن عن ذلك ، وما أليقهم بإنشاد أبي تمام :
فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا وإن نك أجبرنا ففيم نتعتع .
والله ولي التوفيق والعصمة . ) ويقول الفخر الرازي في مفتاح العلوم : ( الطريق الثاني ، أن نقول : القرآن لا يخلو إما أن يقال : إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول : ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني : كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع كون المعارضة ممكنة ، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه ، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب )
وحقيقة هذه الأوجه الثلاثة أنّ الأولى متوجهة للهمم والدواعي فكأنها لم تتخطى مخيلة وأفكار المتحدين بينما هي في الثانية متوجهة لآليات هذا التحدي وأدواته أما في الثالثة فهي متعلقة بعوارض منفصلة تحول دون الوصول إلى التحدي
الصرفة النظّامية :
نظرة النظّام للقرآن أنه كتاب عادي كسائر الكتب السماوية أنزل لبيان الحلال والحرام لا غير وأنّ كلّ ما فيه من الإعجاز منحصر في أخبار الغيب أما من حيث نظمه فلا إعجاز فيه ومثله في كلام العرب كثير بل العرب قادرة على الإتيان بما هو أفضل وأرقى منه
فمن أقوال النظام التي تنص صراحة على هذا المعتقد قوله : (الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف والنَّظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أَحدثهما فيهم...) ويقول أيضا
يقول أبو منصور عبد القاهر الجرجاني مبيّنا معتقد النظّام في القرآن من حيث إعجازه : (والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ، ليست بمعجزة للنبي – عليه الصلاة والسلام - ولا دالة على صدقه في دعواه النبوة ، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه ، ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته ، فإن العباد قادرون على مثله ، وعلى ما هو أحسن منه في النظم ، والتأليف )
ولعل أكبر دليل على أنّ النظّام لم يكن يرى للقرآن في باب البلاغة والفصاحة أدنى فضل على كلام العرب وأنّه أبدا ما بلغ حدّ الإعجاز كما كان سائدا قبله بل ومجمع عليه قبل ظهور مقالته الفاسدة كلام تلميذه الجاحظ (255هـ) وهو أقرب الناس إليه وأعرفهم بمقالاته ...حيث يقول مخاطبا ابن أبي داؤد (240هـ) في (حجج النبوة) : (فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي ، وبلغت أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن ، والرد على الطعان ، فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي ، ولا لحشوي ، ولا لكافر مباد ، ولا لمنافق مقموع ، ولا لأصحاب النظام ، ولمن نجم بعد النظام ، ممن يزعم أن القرآن حق ، وليس تأليفه بحجة ، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة.) ويقول الفخر الرازي (606هـ) : (قال النظام : إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليؤيد به النبوة ، بل هو كتاب مثل سائر الكتب المنزلة ، لبيان الأحكام من الحلال والحرام ، وإنما لم يعارضه العرب ، لأن الله صرفهم عن ذلك وسلب دواعيهم عن الاعتراض)
فخلاصة الصرفة عند النظام وأسسها ما يلي :
1. الوجه الأوّل لإعجاز القرآن هو ما حواه من الأخبار الغيبية
2. الوجه الثاني لإعجاز القرآن ــ وهو الأهمّ ــ يكمن في صرف الله تعالى العرب عن معرضة القرآن والإتيان بمثله
3. القرآن ليس بمعجز من حيث نظمه
4. قدرة العرب على معارضة القرآن الكريم والإتيان بمثله وبما هو أفضل منه