إعلانات المنتدى


نظرية الصرفة حقيقتها القائلون بها والردّ عليها (6) الأدلة النظرية على بطلانها

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

فتحي بودفلة

مزمار نشيط
10 سبتمبر 2010
45
1
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمود خليل الحصري
الفصل الثاني

إبطال نظرية الصرفة :



يمكننا تصنيف وترتيب جملة الأدلة التي تمّ بها إبطال نظرية الصرفة في مجموعتين اثنين الأولى عبارة عن ردود وأدلة نظرية وعلمية نقلية وعقلية والثانية عبارة عن ردود عملية تطبيقية واقعية

أولا الأدلة العلمية النقلية والعقلية المبطلة لنظرية الصرفة :

1) استدلّ الإمام الخطابي على بطلان نظرية الصرفة بقوله تعالى : ÇÑÐÈ @è% ÈûÈõ©9 ÏMyèyJtGô_$# ß§RM}$# `Éfø9$#ur #’n?tã br& (#qè?ù'tƒ È@÷VÏJÎ/ #x‹»yd Èb#uäöà)ø9$# Ÿw tbqè?ù'tƒ ¾Ï&Î#÷WÏJÎ/ öqs9ur šc%x. öNåkÝÕ÷èt/ <Ù÷èt7Ï9 #ZŽÎgsß ÇÑÑÈ قال عليه رحمة الله الواسعة : " ...فأشار في ذلك إلى أمر طريقة التكلف والاجتهاد وسبيله التأهب والاحتشاد والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدلّ على أنّ المراد غيرها والله أعلم ." اهـ [53] ويقول الإمام السيوطي مستدلا بهذه الآية : (...فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة ، لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ،...)[54]

لو كان الإعجاز في الصرفة كما يزعمون لكان الأبلغ فيها أن يأتي القرآن في أدنى مراتب البلاغة والبيان فالعجز عن الإتيان بالشيء البسيط بالصرفة أبلغ وأوكد من العجز عن الإتيان بالشيء العظيم , وإلى هذا الوجه أشار الباقلاني (403هـ) بقوله : (لو كان الأمر على ما ذهبوا اليه ، وكان الإعجاز بالصرفة حقا ، لكان الأقوى في الحجة ، والأبين في الدلالة ، أن يجيء القرآن في أدنى درجات البلاغة ، لأن ذلك أبلغ في الأعجوبة ، فإن الذي يعجز عن كلام هو في مستوى كلام الناس أو أدنى منه، يكون ذلك دليلاعلى أن هناك قوة غلابة ، حالت بينه وبين المعارضة، ولم يكن هناك حاجة لمجيء القرآن الكريم في نظم بديع ، ومستوى رفيع عجيب ، لأن الأقرب إلى قوة الدليل ، ووضوح الحجة حين تكون الصرفة هي الوجه للإعجاز- أن يكون القرآن في مستوى كلامهم ، أو دونه .)[55]

2) الآيات الدالة على التحدي والإعجاز تحمل في طياتها دلالة واضحة على مزية القرآن وأنّه فوق قدرة البشر فإنّ الخطاب القرآني لم يوقع التحدي إلاّ بعد الحديث عن نظم القرآن وعن معارضة العرب ورفضهم لدعوته وأحكامه ومعانيه [56] والقول بالصرفة مناقض ومخالف لذلك

3) الإجماع وقع قبل قول النظام بالصرفة على أنّ القرآن معجز بنظمه ولا سبيل لخرقه يقول الإمام القرطبي في أحكام القرآن مفندا القول بالصرفة : ( وهذا فاسد ، لأن الإجماع قبل حدوث المخالف : أن القرآن هو المعجز ، فلو قلنا : إن المنع والصرفة هو المعجز ، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا ، وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك ، علم أن نفس القرآن هو المعجز ، وأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة ، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه ، فلما لم يكن كذلك مألوفا معتادا منهم ، دل على أن المنع والصرفة ، لم يكن معجزا .)[57] وممّا قاله السيوطي رادّا على القاشلين بالصرفة : (...هذا مع أنّ الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز للقرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة الإعجاز ...)[58]وممن ذكر هذا الإجماع واستدل به كذلك علي بن محمد الجرجاني (812هـ) في شرح المواقف[59] والألوسي في روح المعاني[60]

4) إذا كان العرب صرفوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم بعد نزوله ووقوع التحدي فما بالنا لا نجد في كلامهم قبل وقوع التحدي ما يشبهه أو يقاربه في بلاغته وبيانه ؟ يقول الإمام الباقلاني : (إننا لوسلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب الرصف ، فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله)[61] ويقول أبو القاسم الخوئي (1413هـ) من علماء الشيعة الإمامية ) لو كان إعجاز القرآن بالصرفة ، لوجد في كلام العرب السابقين مثله ، قبل أن يتحدى النبي البشر ، ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن ، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر ، لكثرة الدواعي إلى نقله ، وإذ لم يوجد ولم ينقل ، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا ، خارجا عن طاقة البشر . )[62] وإلى مثل هذا أشار الشريف الجرجاني (812هـ) بقوله : (إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة ، وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به ، بل قبل نزوله ، فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي ، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة)[63]

5) القول بالصرفة يقتضي أنّ بلاغة العرب تعطّلت أو على الأقل تراجعت بعد وقوع التحدي والواقع خلاف ذلك فإنّ شعراءهم هم هم وخطباءهم كذلك وكلامهم الفصيح وأسلوبهم البديع والألفاظ المنمقة والمعاني الجليلة السامية بقيت هي هي لم يتغير من ذلك كلّه شيء ... ممّا يؤكد أنّ العجز واقع في أنفسهم وقدرتهم لمزية هذا القرآن وعلوّ شأنه وإعجازه في بلاغته ونظمه لا غير ... وإلى مثل هذا أشار القاضي عبد الجبار المعتزلي (415هـ) : (لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان - على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .) وليس بعيد عن هذا قول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز : (البرهان الثالث : الرجع بالصرفة التي زعموها ، هو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ ، فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله ، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة في مدة يسيرة ، يدل على نقصان العقل ، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره ، فلو أصبح في بعض الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة ، لكان دليلا على فساد عقله وتغيره ، والمعلوم من حال العرب ، أن عقولهم ما زالت بعد التحدي بالقرآن ، وأن حالهم في الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل ، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة . )[64] ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ) :( أنه يلزم على ادعائهم هذا ، أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان ، وفي جودة النظم وشرف اللفظ ، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها ، - من بعد أن أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحدوا إلى المعارضة - قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد ، وإذا كان الأمر كذلك ، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها ، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم ، ولو عرفوا لجاء عنهم ذكره ، ولكانوا قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إنا كنا نستطيع هذا قبل الذي جئتنا به ، ولكنك سحرتنا ، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه ، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم ، ويشكوا البعض إلى البعض ، ويقولوا : ما لنا نقصنا في قرائحنا ..؟ وإذا كان ذلك لم يرد ، ولم يذكر إن كان منهم قول في هذا المعنى ، لا ما قل ولا ما كثر ، فهذا دليل على أنه قول فاسد ، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل.)[65]



6) لو عرض للعرب صارف منعهم من معارضة القرآن كما يدعيه القائلون بالصرفة لنقل وأثِر عنهم ذلك لوجود الدواعي فقد كانوا يجهدون أنفسهم ويبالغون في البحث عن شيء يعللون به رفضهم لدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان حتى , وما أيسر وأسهل أن يقولوا إننا قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن ولكن طرأ لنا كذا أو منعنا كذا أو أنّ سحر محمد حرمنا من بياننا وبلاغتنا ولكن كلّ ذلك لم ينقل لا لشيء إلاّ لأنه لم يقع أصلا والله أعلم ...يقول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز ( إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها،لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأنْ يُميزوا بين أوقات المنع والتخلية. ولو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. ولو تذاكروه، لظهر وانتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دّلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة) وإلى مثل هذا أشار علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز

7) فإن قيل وقعت الصرفة دون أن يشعروا بها لزم من هذا القول أنّ حجة الله تعالى الواقعة بتحديهم لا تصحّ في حقهم بل لا بدّ من وقوع التحدي وأن يعلم المتحدي به ويتأكد من عجزه وجهة عجزه كذلك وإلاّ بطل الإعجاز أصلا

8) القول بالصرفة يقتضي أنّ الإعجاز فيها وفي قدرة الله الخارقة لا في القرآن الكريم الذي يفقد بذلك كلّ فضيلة وتميز على غيره من الكلام وهذا مخالف لنصوص الكتاب والسنة التي تثني على القرآن الكريم وتؤكد على خصوصيته وتميزه عن سائر الكلام بما في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي الشريف ....وإلى هذا أشار الباقلاني في إعجاز القرآن بقوله : (إنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره.)[66]

9) تعظيم العرب لبلاغة القرآن وإجلالهم وإكبارهم له رغم معارضته وكره أحكامه وحدوده وما جاء به ...والقصص في سيرته العطرة التي تثبت ذلك كثيرة فمنها ما رواه الامام محمد بن اسحق في كتاب السيرة ( أن -عتبة بن ربيعة- كان سيدا في قومه ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ..ويكف عنا..؟فقالوا: بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إليه ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث علمت من السطة(أي : الشرف ) في العشيرة ، والكمال في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أ مورا ، فتنظر فيها لعلك تقبل مني بعضها . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا : جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد شرفا : سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا: ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالناحتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستمع إليه قال : أفرغت يا أبا الوليد ..؟ قال : نعم ، قال: فاسمع مني ، قال : أفعل ، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : [ بسم الله الرحمن الرحيم . حم. تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ] [67] ثم مضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه السورة وعتبة ينصت إليه ، وهو ملق يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، حتى انتهى الرسول إلى السجدة ، ثم قال : ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ) ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس اليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ..؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : قد سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .)[68] وقصة إسلام عمر والطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنهما وتأثر خالد وعمرو بن العاص بالقرآن الكريم كلّ ذلك معروف مشهور في كتب السيرة يقول يحيى بن حمزة العلوي (749هـ) : (لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة - كما زعموه - ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته ، وحسن فصاحته - كما أثر عن الوليد بن المغيرة - حيث قال : إن أعلاه لمورق ، وإن أسفله لمعذق ، وإن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، فإن من المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه ، فإنه يدهش عقله ، ويحير لبه ، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف ، وحسن مواقع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان ما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه ، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دل على فساد هذه المقالة .)[69] وبمثل هذا استدلّ عبد القاهر الجرجاني على بطلان القول بالصرفة حيث يقول : (فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه ، ويستكينوا له ، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون مايوازيه ، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم ، لأنهم لا يستطيعون مثله ، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة ، والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلا عليه ، بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا : - إن كنا لا يتهيأ لنا أن نقول في معاني ما جئت به ما يشبهه ، إنما نأتيك في غيره من المعاني بما شئت ، وكيف شئت ، بما لا يقصر عنه )[70]

10) لكلّ نبيّ معجزة تتوافق وطبيعة قومه وقدراتهم فموسى عليه السلام بعث في قوم كثر فيهم السحر وبعث كلّ من هود وصالح في قوم فتنوا بالتفاخر والتعالي في البنيان وبعث عيسى عليه السلام في قوم يحسنون الطب ويشتغلون به ــ وقيل غير ذلك ــ وبعث نبينا عليه الصلاة والسلام في قوم صناعتهم الكلام يقول ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ما نصه : ( وإنما يعرف فضل القرآن من كثُر نظره واتّسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتّساع المجال ما أوتيته العرب خِصيصَا [خِصيصَ] من الله لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب فجعله عَلَمَهُ , كما جعل عَلَمَ كلّ نبيّ من المرسلين مِن أشبهِ الأمور بما في زمانهم المبعوث فيه : فكان لموسى فلق البحر واليد والعصا وتفجّر الحجر في التيه بالماء الروّاء على سائر أعلامه زمن السحر وكان لعيسى إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وغبراء الأكمه والأبرص إلى سائر أعلامه زمن الطبّ وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي لو اجتمع الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثله لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا إلى سائر أعلامه زمن البيان ...)[71] ويقول الجاحظ في حجج النبوة : ( بعث الله محمدا- صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدة ، فدعا اقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة ، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا ، وقتل من أعلامهم ، وعليائهم ، وأعمامهم ، وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحديا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خافيا .. إلى أن يقول : إن القرآن إذ تحداهم بالحجة ، ولم يقدروا على الإتيان بمثله عجزا منهم ووهنا ، لا تهاونا وتغافلا ، لأن الاتيان بمثل أصغر سورة منه كان كفيلا بأن يكفيهم قتل الأنفس والأولاد ، وأن التقريع بالعجز أشد على نفوس العرب ، والبدو خاصة ، لما فيهم من الأنفة والعزة ، فكيف والقرآن يتحداهم في أخص خصائصهم وهو البيان ، وهم قد عرفوا فيه بالبراعة والبلاغة ..؟ )[72]

11) صرف الناس وحملهم قهرا على شيء معين من خصائص الله سبحانه وتعالى ولا يتحدى به إلاّ من ادّعى شيئا منها كما فعل إبراهيم عليه السلام مع النمرود في مسألة إحياء الموتى وشروق الشمس وغروبها أما العرب فهم مقرون بقدرة الله على الإحياء والإماتة والخلق والرزق ... وعلى الصرفة فلا يجوز أن يتحدون بما يقرون به أصلا ...

12) جميع المعجزات السابقة استمدت إعجازها من ذاتها كالعصا وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فما بال أعظم المعجزات لخلودها وعمومها ... تستثنى من هذا الأصل الذي يقدح فيها ينقص من قيمتها أمام باقي المعجزات بل أمام غير المعجزات حتى ... (الكلام البشري العادي)

13) إنّ إعجاز القرآن سببه إحاطة صاحبه بالعلم كلّه وعجز العرب عن الإتيان بمثله لأنّ علمهم محدود يقول ابن عطية (546هـ) ( ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل ، والنسيان ، والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا النظر يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن ، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه .

والصحيح : أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة ، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لايزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر بعده ، فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال فيها بعد ذلك مواضع للنظر والبدل ، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد .)[73]

14) من الأدلة على أنّ القرآن الكريم في مقدور البشر أن يأتوا بمثله أنّه متكون من الكلمات والجمل وقالوا أنّ القول بعدم القدرة على مثل كلماته تمحل ومكابرة وأنّ القدرة على الجزء تقضي القدرة على الكل لأنّ ما هو إلاّ مجموعة من الأجزاء .... وممّا قاله أبو القاسم الخوئي مفندا هذه المقولة : ( قالوا إن العارف باللغة العربية ، قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن ، وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد . الجواب : إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر ، فإن القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن ، بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته ، لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، فإن القدرة على المادة ، لا تستلزم القدرة على التركيب ، ولهذا لا يصح لنا أن نقول : إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة ، لأنه قادر على وضع آجرة في البناء ، أو نقول : إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب والقصائد ، لأنه قادر على أن يتكلم بكل كلمة من كلماتها ومفرداتها، وكأن هذه الشبهة هي التي دعت(النظام) وأصحابه ، إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة ، وهذا القول في غاية الضعف...)[74]

.... إلخ ...
الهوامش :
[53] الخطابي : بيان إعجاز القرآن ص 22

[54] السيوطي : الإتقان 1\ 6 ـ 7 ...

[55] الباقلاني : إعجاز القرآن ص 42

[56] انظر على سبيل المثال لا الحصر البقرة 23... هود 13 ... الطور 33... إلخ...

[57] القرطبي : الجامع لأحكام القرآن 1\75

[58] السيوطي : الإتقان 4\ 6 ـ 7

[59] 8\249

[60] 1\27 ـ 33

[61] نفسه

[62] الدكتور سامي عطا حسن نقلا عن علوم القرآن عند المفسرين 2\542 ـ 543 وتفسير البيان 1\ 51 ـ 114

[63] علي بن محمد الشريف الجرجاني : شرح المواقف (للإيجي) 8\249

[64] الطراز المتضمن لأسرار البلاغة والإعجاز , 3\ 391 ...395

[65] عبد القاهر الجرجاني : الرسالة الشافية ص 146 ...

[66] الباقلاني : إعجاز القرآن ص 42

[67] - سورة فصلت / 1-4.

[68] ابن هشام : السيرة 1\234 ـ 235

[69] انظر الطراز المتضمن لأسرار البلاغة ومعاني الإعجاز 3\391 وما بعدها ...

[70] عبد القاهر الجرجاني : الرسالة الشافية 146 ـ 154

[71] مقرر مقياس التفسير اللغوي للقرآن

[72] الجاحظ : حجج النبوة , ضمن رسائل الجاحظ 149

[73] القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب المعروف بابن عطية : المحرر الوجيز 1\71 ـ 73

[74] علوم القرآن عند المفسرين 2\542 ... نقلا عن تفسير البيان 1\114 ...

يتبع إن شاء الله ... فتحي بودفلة
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع