- 22 يوليو 2008
- 16,039
- 146
- 63
- الجنس
- أنثى
- علم البلد
-
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ولد في قرطبة سنة 520 هـ 1126م وتوفي سنة 595هـ 1168م،
وينتمي إلى أسرة من أكثر الأسر العربية شهرة في بلاد الأندلس وترجع شهرتها باشتغالها بالعلم والقضاء في مدينة قرطبة جيلاً بعد جيل. ومما يدل على مكانة هذه الأسرة العلمية أن وظيفة القضاء في قرطبة - عاصمة الأندلس - كانت وقفاً على الجد والابن والحفيد وهو أبو الوليد ابن رشد الفيلسوف، وكانت طبيعة تربية ابن رشد الحفيد هي التي وجهته إلى الطريق الذي سار فيه أسلافه فتبحّر في علوم الكلام ودرس الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك، وروى الحديث
عن أبيه ثم درس الطب وأخذه عن أبي جعفر هارون كما أخذ عنه كثيراً من علوم الحكمة والفلسفة، وكانت له
مكانة في دولة الموحدين وتمكن من أن يتصل بثقافة عصره وأن يهضم الفلسفة اليونانية حتى عدُّوه
الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو، وكان من أسباب حفظها من الاندثار.
صلته بعلماء عصره:
تأثر ابن رشد بالفيلسوف المشهور (أبي بكر بن طفيل) وأخذ منه اتجاهه إلى بيان أن الدين الإسلامي
دين فطري موافق للعقل وأن ما يقرره الوحي موافق لما يهتدي إليه العقل، وألف في ذلك كتاباً عنوانه: "فصل
المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" وكتاب: "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة".
يقول الأستاذ محمود قاسم من خلال حديثه عن ابن رشد:
يقال إن الحسن ابن الصباح رئيس طائفة الإسماعيلية كان أستاذ الماسونية الأكبر في بلاد المسلمين
(ومن الجدير بالذكر أن الإسماعيلية والنصيرية فرقتان باطنيتان خارجتان عن عقائد المسلمين وحكم
عليهما العلماء بالكفر والضلال) وأن الماسونية التي انتشرت في أوروبا تدين له بالولاء بكثير من الآراء
التي يقف في مظهرها موقف التسامح مع الديانات الثلاث وإن كانت مبادؤها تتلخص في هدم المذهب الكاثوليكي
ومحو آثار التحالف بين البابوات والملوك، وأن أفكاره هذه انتقلت من المدارس السرية في الشرق
أيام الحروب الصليبية إلى فرسان المعبد ثم إلى أوروبا.
وكان ابن رشد واعياً لهذه الحركات وحريصاً على أن يظهر أصالة العقيدة الإسلامية وتفوقها وتميزها
عن العقائد المنحرفة والضلالات التي وقعت فيها الديانات الأخرى وكان له منهج في هذا الطريق وهو
التوفيق بين الدين والعقل.
وهنا نلاحظ أنه ناقش أدلة المتكلمين على وجود الله ووحدانيته وبرهن برهنة تفصيلية على فساد مناهج
علماء الكلام، وأن الأقرب إلى روح الدين هو منهج القرآن الكريم في دلائل التوحيد لا منهج علماء الكلام.
وذكر ابن رشد دليلين عظيمين للقرآن الكريم هما: دليل العناية الإلهية والرعاية، ودليل الخلق، وبيّن ذلك
من خلال الآيات التي استشهد بها كقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً . وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً}
[النبأ: 6-8] ومن خلال دلائل الخلق في السماوات والأرض وتسخيرها لخدمة الإنسان وقضاء حاجاته
وتمكينه من الاستخلاف في الأرض، وأفاض في هذه الأدلة أنها الأدلة التي تخاطب العقول والقلوب معاً
وتدل على وجود الله ووحدانيته.
وقد ناقش ابن رشد أدلة المتكلمين وبيّن بُعدها عن مخاطبة العقول والقلوب وغرقها في مناهج الفلاسفة
بالاستدلال وأنه قلّ من يفهمها، ومن هذه الأدلة التي انتقدها ابن رشد دليل "الجوهر الفرد"، ودليل "الممكن والواجب".
دليل الجوهر الفرد:
يتلخص هذا الدليل في أن الأجسام الموجودة في العالم تتكون من أجزاء وهذه الأجزاء يمكن قسمتها إلى أجزاء
وهكذا، لكن هذا التقسيم لا يستمر إلى ما لا نهاية له بل يجب الوقوف عند جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي
لا يتجزأ هو الجوهر الفرد، وكل الجواهر الفردة تعرض لها حالات مختلفة وهذه الأحوال هي التي يطلقون عليها
اسم "الأعراب" وهي حادثة لأنها متغيرة، وما دامت الجواهر لا تنفصل عن الأعراض إذاً لا بد أن تكون
حادثة مثلها؛ لأن (ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث) حسب مبدأ مشهور لديهم، ولما كانت الجواهر
حادثة فالأجسام حادثة ثم العالم حادث ولا بد له من محدث وهو الله.
ويناقشهم ابن رشد في هذا الدليل فيبين أنهم يعتمدون على نظرية إغريقية قديمة وهي نظرية الذرة، ثم يبين
أن هذه الطريقة الجدلية تنتهي بالشبهات ولا يستقر العقل والقلب إلا مع الطريقة الشرعية السهلة الواضحة
التي جاءت في القرآن الكريم وهي التي تخاطب القلوب والعقول من خلال آيات الله في الكون، وأما طريقة
الفلاسفة هذه فهي عويصة وتأتي بالجدل ولا يفهمها إلا أهل صناعة الجدل والجمهور عنها بعيد.
دليل الممكن والواجب:
وقد لجأ المتكلمون إلى دليل آخر سمّوه دليل "الممكن والواجب" وملخصه: "كل ما يوجد في العالم يمكن
أن يوجد على نحو مخالف لما هو عليه". وقد استدلوا على فكرتهم هذه بأنه من الممكن أن يصعد الحجر
إلى أعلى بدلاً من أن يسقط إلى أسفل وأن يهبط الذهب إلى أسفل بدلاً من أن يصعد إلى أعلى وهكذا.
لكن ابن رشد لا يعترف بهذا الدليل ويرى أنه ليس عقليّاً ولا شرعيّاً؛ أما أنه ليس عقليّاً فذلك لأنه يخالف
البداهة الحسية كما أنه يتنافى مع روح العلم، فنحن نجد أن الواقع يكذبهم لأننا نرى أن لكل نوع من
الكائنات خلقته الخاصة ونعلم أن هناك أسباباً وقوانين أودعها الله في الكون، فهم يريدون إذاً إنكار
وجود الأسباب الطبيعية التي خلقها الله.
وقد أحسن الأستاذ محمود قاسم في تلخيص أدلة ابن رشد في نقد هذا المذهب ثم عرض الدليلين اللذين يرتضيهما ابن رشد – وقد ذكرناهما آنفاً – وهما دليل العناية ودليل الاختراع والخلق.
ومن المسائل التي أثارها ابن رشد مسألة الصفات والذات التي أخذت جدلاً كبيراً بين الأشاعرة والمعتزلة؛
فالمعتزلة يقولون: "إن صفات الله عين ذاته". والأشاعرة يقولون: "إن الصفات غير الذات وزائدة عليها".
ويحكم ابن رشد على الطائفتين بأنهما ابتدعتا في الدين وفتحتا باب الفتنة من غير
موجب يدعو إلى هذا الشر كله.
ومن قبل قال الإمام الغزالي: "إذا كنا لا نعرف حقيقة الذات الإلهية فكيف ندّعي معرفة حقيقة الصفات الإلهية"؟
ومن بعده قال ابن رشد: "قول من قال إن علم الله وصفاته لا تُكَيَّف ولا تُقاس بصفات المخلوقين
حتى يقال إنها الذات أو زائدة على الذات هو قول المحققين من الفلاسفة والمحققين
من غيرهم من أهل العلم والله الموفق".
وإذا كان هذا هكذا فالذي ينبغي أن يعلمه الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرّح به الشرع
فقط وهو الاعتراف بوجودها دون تفصيل الأمر فيها هذا التفصيل؛ لأننا نؤمن بما ذكره القرآن.
وهكذا نجد أن هؤلاء العلماء المحققين عملوا على إبعاد جمهور المسلمين عن الضياع الفكري
والجدل العقيم في أمور لا يملكون فيها الحقيقة؛ فالله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار
وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
أحببت أن أبيّن أثر هذا الفيلسوف الكبير في شرح أدلة التوحيد والبعد عن الجدل العقيم
الذي يضيع جهود المسلمين وجهود العلماء. ونسأل الله التوفيق.
بقلم: الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني / رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم
أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ولد في قرطبة سنة 520 هـ 1126م وتوفي سنة 595هـ 1168م،
وينتمي إلى أسرة من أكثر الأسر العربية شهرة في بلاد الأندلس وترجع شهرتها باشتغالها بالعلم والقضاء في مدينة قرطبة جيلاً بعد جيل. ومما يدل على مكانة هذه الأسرة العلمية أن وظيفة القضاء في قرطبة - عاصمة الأندلس - كانت وقفاً على الجد والابن والحفيد وهو أبو الوليد ابن رشد الفيلسوف، وكانت طبيعة تربية ابن رشد الحفيد هي التي وجهته إلى الطريق الذي سار فيه أسلافه فتبحّر في علوم الكلام ودرس الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك، وروى الحديث
عن أبيه ثم درس الطب وأخذه عن أبي جعفر هارون كما أخذ عنه كثيراً من علوم الحكمة والفلسفة، وكانت له
مكانة في دولة الموحدين وتمكن من أن يتصل بثقافة عصره وأن يهضم الفلسفة اليونانية حتى عدُّوه
الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو، وكان من أسباب حفظها من الاندثار.
صلته بعلماء عصره:
تأثر ابن رشد بالفيلسوف المشهور (أبي بكر بن طفيل) وأخذ منه اتجاهه إلى بيان أن الدين الإسلامي
دين فطري موافق للعقل وأن ما يقرره الوحي موافق لما يهتدي إليه العقل، وألف في ذلك كتاباً عنوانه: "فصل
المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" وكتاب: "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة".
يقول الأستاذ محمود قاسم من خلال حديثه عن ابن رشد:
يقال إن الحسن ابن الصباح رئيس طائفة الإسماعيلية كان أستاذ الماسونية الأكبر في بلاد المسلمين
(ومن الجدير بالذكر أن الإسماعيلية والنصيرية فرقتان باطنيتان خارجتان عن عقائد المسلمين وحكم
عليهما العلماء بالكفر والضلال) وأن الماسونية التي انتشرت في أوروبا تدين له بالولاء بكثير من الآراء
التي يقف في مظهرها موقف التسامح مع الديانات الثلاث وإن كانت مبادؤها تتلخص في هدم المذهب الكاثوليكي
ومحو آثار التحالف بين البابوات والملوك، وأن أفكاره هذه انتقلت من المدارس السرية في الشرق
أيام الحروب الصليبية إلى فرسان المعبد ثم إلى أوروبا.
وكان ابن رشد واعياً لهذه الحركات وحريصاً على أن يظهر أصالة العقيدة الإسلامية وتفوقها وتميزها
عن العقائد المنحرفة والضلالات التي وقعت فيها الديانات الأخرى وكان له منهج في هذا الطريق وهو
التوفيق بين الدين والعقل.
وهنا نلاحظ أنه ناقش أدلة المتكلمين على وجود الله ووحدانيته وبرهن برهنة تفصيلية على فساد مناهج
علماء الكلام، وأن الأقرب إلى روح الدين هو منهج القرآن الكريم في دلائل التوحيد لا منهج علماء الكلام.
وذكر ابن رشد دليلين عظيمين للقرآن الكريم هما: دليل العناية الإلهية والرعاية، ودليل الخلق، وبيّن ذلك
من خلال الآيات التي استشهد بها كقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً . وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً}
[النبأ: 6-8] ومن خلال دلائل الخلق في السماوات والأرض وتسخيرها لخدمة الإنسان وقضاء حاجاته
وتمكينه من الاستخلاف في الأرض، وأفاض في هذه الأدلة أنها الأدلة التي تخاطب العقول والقلوب معاً
وتدل على وجود الله ووحدانيته.
وقد ناقش ابن رشد أدلة المتكلمين وبيّن بُعدها عن مخاطبة العقول والقلوب وغرقها في مناهج الفلاسفة
بالاستدلال وأنه قلّ من يفهمها، ومن هذه الأدلة التي انتقدها ابن رشد دليل "الجوهر الفرد"، ودليل "الممكن والواجب".
دليل الجوهر الفرد:
يتلخص هذا الدليل في أن الأجسام الموجودة في العالم تتكون من أجزاء وهذه الأجزاء يمكن قسمتها إلى أجزاء
وهكذا، لكن هذا التقسيم لا يستمر إلى ما لا نهاية له بل يجب الوقوف عند جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي
لا يتجزأ هو الجوهر الفرد، وكل الجواهر الفردة تعرض لها حالات مختلفة وهذه الأحوال هي التي يطلقون عليها
اسم "الأعراب" وهي حادثة لأنها متغيرة، وما دامت الجواهر لا تنفصل عن الأعراض إذاً لا بد أن تكون
حادثة مثلها؛ لأن (ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث) حسب مبدأ مشهور لديهم، ولما كانت الجواهر
حادثة فالأجسام حادثة ثم العالم حادث ولا بد له من محدث وهو الله.
ويناقشهم ابن رشد في هذا الدليل فيبين أنهم يعتمدون على نظرية إغريقية قديمة وهي نظرية الذرة، ثم يبين
أن هذه الطريقة الجدلية تنتهي بالشبهات ولا يستقر العقل والقلب إلا مع الطريقة الشرعية السهلة الواضحة
التي جاءت في القرآن الكريم وهي التي تخاطب القلوب والعقول من خلال آيات الله في الكون، وأما طريقة
الفلاسفة هذه فهي عويصة وتأتي بالجدل ولا يفهمها إلا أهل صناعة الجدل والجمهور عنها بعيد.
دليل الممكن والواجب:
وقد لجأ المتكلمون إلى دليل آخر سمّوه دليل "الممكن والواجب" وملخصه: "كل ما يوجد في العالم يمكن
أن يوجد على نحو مخالف لما هو عليه". وقد استدلوا على فكرتهم هذه بأنه من الممكن أن يصعد الحجر
إلى أعلى بدلاً من أن يسقط إلى أسفل وأن يهبط الذهب إلى أسفل بدلاً من أن يصعد إلى أعلى وهكذا.
لكن ابن رشد لا يعترف بهذا الدليل ويرى أنه ليس عقليّاً ولا شرعيّاً؛ أما أنه ليس عقليّاً فذلك لأنه يخالف
البداهة الحسية كما أنه يتنافى مع روح العلم، فنحن نجد أن الواقع يكذبهم لأننا نرى أن لكل نوع من
الكائنات خلقته الخاصة ونعلم أن هناك أسباباً وقوانين أودعها الله في الكون، فهم يريدون إذاً إنكار
وجود الأسباب الطبيعية التي خلقها الله.
وقد أحسن الأستاذ محمود قاسم في تلخيص أدلة ابن رشد في نقد هذا المذهب ثم عرض الدليلين اللذين يرتضيهما ابن رشد – وقد ذكرناهما آنفاً – وهما دليل العناية ودليل الاختراع والخلق.
ومن المسائل التي أثارها ابن رشد مسألة الصفات والذات التي أخذت جدلاً كبيراً بين الأشاعرة والمعتزلة؛
فالمعتزلة يقولون: "إن صفات الله عين ذاته". والأشاعرة يقولون: "إن الصفات غير الذات وزائدة عليها".
ويحكم ابن رشد على الطائفتين بأنهما ابتدعتا في الدين وفتحتا باب الفتنة من غير
موجب يدعو إلى هذا الشر كله.
ومن قبل قال الإمام الغزالي: "إذا كنا لا نعرف حقيقة الذات الإلهية فكيف ندّعي معرفة حقيقة الصفات الإلهية"؟
ومن بعده قال ابن رشد: "قول من قال إن علم الله وصفاته لا تُكَيَّف ولا تُقاس بصفات المخلوقين
حتى يقال إنها الذات أو زائدة على الذات هو قول المحققين من الفلاسفة والمحققين
من غيرهم من أهل العلم والله الموفق".
وإذا كان هذا هكذا فالذي ينبغي أن يعلمه الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرّح به الشرع
فقط وهو الاعتراف بوجودها دون تفصيل الأمر فيها هذا التفصيل؛ لأننا نؤمن بما ذكره القرآن.
وهكذا نجد أن هؤلاء العلماء المحققين عملوا على إبعاد جمهور المسلمين عن الضياع الفكري
والجدل العقيم في أمور لا يملكون فيها الحقيقة؛ فالله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار
وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
أحببت أن أبيّن أثر هذا الفيلسوف الكبير في شرح أدلة التوحيد والبعد عن الجدل العقيم
الذي يضيع جهود المسلمين وجهود العلماء. ونسأل الله التوفيق.
بقلم: الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني / رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم
