رد: أوراق من حياة المتنبي للشيخ عايض القرني - حلقات مسلسلة
الأسطورة
د. عائض القرني
لابد لعشّاق البيان، وهواة جمال الكلمة، ونصاعة القول، من ذائقة فنية، وحاسة سادسة للتمتع بطعم التأثير المشرق لسحر الكلام، وإلا فلا فائدة من عَرْض تُحَفِ البيان على عُمْي البصائر، وإبراز مخدرات الحسن على كل أكمه وأعشى، وما أعجبنا في المتنبئ غلوه في مدح نفسه، ولا ثناؤه على إنجازاته الخيالية، إنما أعجبنا هذا الوهج الفني، والبريق الذي يكاد يذهب بالأبصار، ثم سماء عبقريته، فهو بلا شك صاحب قدح معلَّى في صياغة الكلمة، ونسج الجملة، حتى يلتفت لها القلب، ونحن معذورون إعجابنا بشعره فقد سبقنا أساطين البيان، ودهاقنة الفصاحة، وأساتذة البديع، وكلهم معترفون بفصاحة هذا الشاعر، وتألقه وإنفراده، فيا أخي اركب معنا في زورق الإبداع وربّانه أبو الطيب المتنبئ الذي يقول:
أَنا السابِقُ الهادي إِلى ما أَقولُهُ
إِذِ القَولُ قَبلَ القائِلينَ مَقولُ
وسوف نسوق جُمَلاً ندية بسحره، مخضلة بطلاوته، عبقة بمسك فنه؛ لتكون كالشاهد على غيرها، والدليل على سواها، وكفاك غرة الفرس، وثغرة المحب، ونون العين:
له عين أصابت كل عين
وعين قد أصابتها العيون
وسوف نقتصر على نون العين من نتاج هذا الشاعر الثائر الطموح والباقعة المتألق:
قالوا خُذِ العينَ من كُلّ فقلتُ لهم
في العينِ فضلٌ ولكن ناظِرُ العين
يقول أبو الطيب:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ
فانظر كم اهتدى إلى معنى ثمين رائد، ثم أخذه فغَسَلَهُ وكواه، ووضعه وطبعه، وفصله بلفظ ساطع، وتركيب متناسق خلاب، فهل سبقه شاعر إلى اختراع هذا المعنى؟! إنه يقول لك: إن أشرف موضع يقعد فيه كل ماجد نبيل هو ظهر الفرس، حيث يقاتل العدو، ويحمي الحوزة، ويذود عن العرض، ويدافع عن الكرامة، ويبني المجد، وإن أفضل المجالس للمرء كتاب؛ حفظاً للعهد، واستثماراً للوقت، وبعداً عن الأذى، ومراعاة لحق الجليس، وإمداداً للعقل، ولكن أعد النظر في رصفه للكلمات الحرة الراقية، وبنائه للبيت بلا نشاز ولا التواء، إن من الشعراء من قد يجود بهذا المعنى؛ لكنه يضعه في قالب فج بكثرة حروف الجر والضمائر، والتقدير، والتأخير، والإسفاف، والحشو