- 5 يناير 2010
- 8,498
- 406
- 83
- الجنس
- أنثى
- علم البلد
-
![325.jpg](/vb/proxy.php?image=http%3A%2F%2Fwww.eqtibas.com%2Fimages%2Fauthors%2F325.jpg&hash=bac980d332054d034e9016b98f908ed9)
![13.gif](/vb/proxy.php?image=http%3A%2F%2Fwww.al-wed.com%2Fpic-vb%2F13.gif&hash=ad507a8c1063d0a8dbf67468ae688d67)
((كيف يضلّ قوم فيهم مثل الحسن البصريّ ؟!)) … مَسْلَمَةُ بنُ عبدِ الملِكِ
جاء البشير يُبشِّر زوج النبي ((أمّ سلمة)) بأنّ مولاتها ((خَيْرَةَ)) قد وضعت حملها وولدت غُلاماً .
فغمرت الفرحة فؤاد أمُّ المؤمنين رضوان الله عليها ، وطَفَحَ البِشرُ(أي: فاض السُّرور) على مُحيَّاها النّبيل الوقور .(محيّاها: وجهها) .
وبادرت فأرسلت رسولاً ليَحمل إليها الوالدة ومولودها ، لِتقضي فترة النِّفاس في بيتها .
فقد كانت خَيْرَةَ أثيرة(أثيرة: عزيزة مكرمة) لدى أمّ سلمة ، حبيبة إلى قلبها … وكان بها لهفة وتشوّق ؛ لرؤية وليدها البكر …
وما هو إلا قليل حتّى جاءت خيرة تحمل طفلها على يديها … فلمّا وقعت عَينَا أمّ سلمة على الطفل امتلأت نفسها أُنساً به ، وارتياحاً له … فقد كان الوليد الصّغير قسيماً وسيماً (أي: جميلاً حسن الوجه) ، بهِيّ الطَّلعة ، تامَّ الخلقة ؛ يملأ عين مُجتليه(أي: يسرّ الناظر إليه) ، ويأسر فؤاد رائيه .
ثمّ التفتت أمّ سلمة إلى مولاتها وقالت :
أسمّيت غلامك يا خيرة ؟ …
فقالت : كلا يا أمَّاه … لقد تركت ذلك لكِ ؛ لتختاري له من الأسماء ما تشائين .
فقالت : نُسمّيه – على بركة الله – الحَسَنَ .
ثمَّ رفعت يديها ودعت له بصالح الدُّعاء .
لكن الفرحة بالحسن لم تقتصر على بيت أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضوان الله عليها ، وإنّما شاركها فيها بيت آخر من بيوت المدينة .
هو بيت الصّحابيّ الجليل زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذلك أنّ ((يَسَاراً)) والد الصّبي كان مولىً له أيضاً … وكان من آثر الناس عنده (أي: من أعزّ الناس وأكرمهم عنده) ، وأحبهم إليه .
نشأ الحسن بن يسار (الذي عرف فيما بعد بالحسن البصري) في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم … ورُبِّيَ في حِجْرِ زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هي (((هِنْدُ بِنْتُ سُهَيْلٍ ))) المعروفة بأمّ سلمة.
وأمّ سلمة ـ إن كنت لا تعلم ـ كانت من أكمل نساء العرب عقلاً ، وأوفرهنَّ فضلاً ، وأشدِّهنَّ حزماً .
كما كانت من أوسع زوجات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عِلماً ، وأكثرهنَّ رواية عنه … حيث روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وسبعة وثمانين حديثاً … وكانت إلى ذلك كلّه من النساء القليلات النّادرات اللّواتي يكتبن في الجاهليّة … ولم تقف صِلة الصّبي المحظوظ بأمّ المؤمنين أم سلمة عند هذا الحدِّ … وإنّما امتدّت إلى أبعد من ذلك …
فكثيراً ما كانت خيرة أمّ الحسن تخرج من البيت لقضاء بعض حاجات أم المؤمنين ، فكان الطّفل الرّضيع يبكي من جوعه ، ويشتدّ بُكاؤه فتأخذه أم سلمة إلى حِجرها ، وتُلقِمُهُ ثدييها ؛ لِتُصبَّره به وتشغله عن غياب أمّه … فكانت لشدّة حُبِّها إيّاه يدرُّ ثديُها لبناً سائغاً في فمه فيَرضَعَه الصّبي ويسكت عليه .
وبذلك غدت أم سلمة أمّاً للحسن من جهتين :
فهي أمّه بوصفه أحد المؤمنين …
وهي أمّه من الرَّضاع أيضاً …
وقد أتاحت الصّلات الوثيقة بين أمّهات المؤمنين ، وقرب بيوت بعضهنَّ من بعض للغُلام السّعيد أن يتردّد على هذه البيوت كلّها … وأن يتخلَّق بأخلاق ربَّاتها جميعاً … وأن يهتدي بهديهنَّ …
وقد كان ـ كما يُحدِّث عن نفسه ـ يملأ هذه البيوت بحركته الدَّائبة ، ويُترعها بلعبه النّشيط … حتّى إنّه كان ينال سقوف بيوت أمّهات المؤمنين بيديه وهو يقفز فيها قفزاً .
ظلَّ الحسن يتقلّب في هذه الأجواء العطِرة بطيوب النّبوّة ، المتألّقة بسناها … وينهل من تلك الموارد العذبة التي حفلت بها بيوت أمّهات المؤمنين … ويتتلمذ على أيدي كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم …
حيث روى عن عثمان بن عفّان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي موسى الأشعريِّ ، وعبد الله بن عمر … وعبد الله بن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وغيرهم وغيرهم …
لكنّه أُولِعَ أكثر ما أولع بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
فقد راعَه منه صلابته في دينه ، وإحسانه لعبادته ، وزَهَادَته بزينة الدّنيا وزُخرُفِها … وخَلَبَهُ منه بيانُهُ المشرق (خَلَبَهُ: سحره وفتنه) ، وحكمته البالغة ، وأقواله الجامعة ، وعظاته التي تهزّ القلوب هزّاً .
فتخلّق بأخلاقه في التُّقى والعبادة … ونسج على منواله في البيان والفصاحة … ولمّا بلغ الحسن أربعة عشر ربيعاً من عمره ، ودخل في مداخل الرجال ؛ انتقل مع أبويه إلى البصرة واستقرَّ فيها مع أسرته .
ومن هنا نُسِبَ الحسن إلى البصرة … وعُرفَ بين الناس بالحسن البصري .
كانت البصرة يوم أمَّهَا الحسن ؛ قلعة من أكبر قلاع العلم في دولة الإسلام …
وكان مسجدها العظيم ؛ يموج بمن ارتحل إليها من كبار الصّحابة ، وجلّة التّابعين …
وكانت حلقات العلم على اختلاف ألوانها ؛ تعمُرُ باحات المسجد ومصلاه .
وقد لزم الحسن المسجد ، وانقطع إلى حلقة عبد الله بن عبّاس حَبْرِ أمّة محمد صلى الله عليه وسلم(حَبْرِ أمّة: عالم الأمّة) ، وأخذ عنه التفسيروالحديث والقراءات.
كما أخذ عنه وعن غيره الفقه ، واللّغة والأدب ، وغيرها وغيرها … حتّى غدا عالماً جامعاً فقيهاً ثقة .
فأقبل الناس عليه ينهلون من علمه الغزير … والتفّوا حوله يُنصتون إلى مواعظه التي تستلين القلوب القاسية ، وتستدرّ الدّموع العاصية .
ويحفظون حكمته الّتي تَخْلِبُ الألباب … ويتأسّون بسيرته الّتي كانت أطيب من ريح المسك …
ولقد انتشر أمر الحسن البصري في البلاد وفشا ذكره بين العباد …
فجعل الخلفاء والأمراء يتساءلون عنه ويتتبّعون أخباره …
حدّث خالد بن صفوان قال :
لقيتُ مَسلمة بن عبد الملك في (( الحِيرَة )) فقال لي :
أخبرني يا خالد عن حسن البصرة فإنّي أظنُّ أنّك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك .
فقلت : أصلحَ الله الأمير …أنا خيرُ من يُخبِرك عنه بِعِلم … فأنا جاره في بيته ، وجليسه في مجلسه ، وأعلم أهل البصرة به .
فقال مَسلَمة : هاتِ ما عندك .
فقلت : إنّه امرؤٌ سريرتُهُ كعلانيَتِهِ …
وقوله كفِعله …
إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به …
وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له …
ولقد رأيته مُستغنياً عن الناس ؛ زاهداً بما في أيديهم …
ورأيت الناس محتاجين إليه ؛ طالبين ما عنده …
فقال مَسلَمة : حسبُكَ يا خالد حَسبُكَ !! .
كيف يضلُّ قوم فيهم مثلُ هذا ؟! .
ولمّا وَلِيَ الحجَّاج بن يوسف الثقفيّ ((العراق)) ، وطغى في ولايته وتجبَّرَ …
كان الحسن البصري أحد الرجال القلائل الذين تصدّوا لِطُغيانِه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله ، وجهروا بكلمة الحق في وجهه .
من ذلك أنّ الحجّاج بنى لنفسه بناء في ((واسِط)) .(واسِط: مدينة متوسّطة بين البصرة والكوفة) .
فلمّا فرغ منه ، نادى في الناس أن يخرجوا للفُرجة عليه والدُّعاء له بالبركة .
فلم يشأ الحسن أن يفوّت على نفسه فرصة اجتماع الناس هذه …
فخرج إليهم ليعظهم ويذكّرهم ، ويُزَهِّدهم بِعَرَضِ الدُّنيا ، ويرغِّبهم بما عند الله عزَّ وجلَّ …
ولمّا بلغ المكان ، ونظر إلى جموع الناس وهي تطوف بالقصر المُنيف مأخوذة بروعة بِنائه ، مدهوشة بسعة أرجائه ، مشدودة إلى براعة زخارفه … وقف فيهم خطيباً ، وكان في جُملة ما قاله :
لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين ؛ فوجدنا أنّ ((فرعون)) شيَّد أعظم ممّا شيّد ، وبنى أعلى ممّا بنى …
ثمّ أهلك الله فرعون ، ودمّر ما بنى وشيّد …
ليت الحجّاج يعلم أنّ أهل السّماء قد مقتوه ، وأنّ أهل الأرض قد غرُّوه …(غرُّوه: خدعوه ، ونافقوه حتّى امتلأ غروراً ) .
ومضى يتدفّق على هذا المنوال حتّى أشفق عليه أحد السّامعين من نقمة الحجّاج ، فقال له :
حسبُكَ يا أبا سعيد … حَسبُكَ .
فقال له الحسن :
لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليُبيِّنُنّه للناس ولا يكتمونه …
وفي اليوم التالي دخل الحجّاج إلى مجلِسه وهو يتميّز من الغيظ وقال لِجُلاسه :
تبَّاً لكم وسُحقاً … يقوم عبد من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول ، ثمَّ لا يجد فيكم من يردُّه أو يُنكر عليه !! …
والله لأسقينّكم من دمه يا معشر الجُبناء .
ثمّ أمر بالسّيف والنَّطعِ …فأُحضِرا … (النّطع: بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بقطع الرأس )
ودعا بالجّلاد ؛ فمثل واقفاً بين يديه .
ثمّ وَجَّه إلى الحسن بعض شُرَطِهِ … وأمرهم أن يأتوه به …
وما هو إلا قليل حتّى جاء الحسن ، فشخصت نحوه الأبصار … ووجفت عليه القلوب .
فلمّا رأى الحسن السّيف والنّطع والجلاد ، حرَّك شفتيه …
ثمَّ أقبل على الحجّاج وعليه جلال المؤمن ، وعِزَّةُ المُسلم ، ووقار الدّاعية إلى الله .
فلمّا رآه الحجّاج على حاله هذه ؛ هابه أشدَّ الهيبة وقال له :
ها هنا يا أبا سعيد … ها هنا …
ثمَّ ما زال يوسّع له ويقول :
ها هنا … والنّاس ينظرون إليه في دهشة واستغراب حتى أجلسه على فراشه .
ولمّا أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجّاج ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدّين ، والحسن يجيبه عن كل مسألة بحنان ثابت وبيان ساحر وعلم واسع .
فقال له الحجّاج :
أنت سيّد العلماء يا أبا سعيد .
ثمّ دعا بغالية(غالية: أنواع من الطّيب تُمزج ويُتطيّب بها) ، وطيَّبَ له بها لِحيَتَه وودَّعه .
ولمّا خرج الحسن من عنده ، تبعه حاجب الحجّاج وقال له :
يا أبا سعيد ، لقد دعاك الحجّاج لغير ما فعل بك ، وإنّي رأيتك عندما أقبلت ورأيت السّيف والنّطع ؛ قد حرّكت شفتيك ، فماذا قلت ؟! .
فقال الحسن : لقد قلت :
يا وليَّ نِعمَتي ومَلاذِي عند كُربَتي ؛ اجعَل نِقمَتَهُ بَردَاً وَسَلاماً عَلَيَّ كَمَا جَعلتَ النَّار بَرداً وسَلاماً على إبراهيم .
ولقد كثرت مواقف الحسن البصري هذه مع الولاة والأمراء ، فكان يخرج من كل منها عظيماً في أعين ذوي السّلطان ، عزيزاً بالله ، محفوظاً بحفظه …
من ذلك أنّه بعد أن انتقل الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز إلى جوار ربّه وآلت الخلافة إلى يزيد بن عبد الملك ، ولّى على ((العراق)) عمر بن هبيرة الفزاريّ …
ثمَّ زاده بسطة في السّلطان فأضاف إليه ((خُراسان)) أيضاً .
وسار يزيد في الناس سيرة غير سيرة سَلَفِهِ العظيم …
فكان يُرسل إلى عمر بن هبيرة بالكتاب تِلو الكتاب ، ويأمره بإنفاذ ما فيها ولو كان مجافياً للحقِّ أحياناً …فدعا عمر بن هُبيرة كُلاً من الحسن البصري ، وعامر بن شراحبيل المعروف ((بالشَّعبيّ)) وقال لهما :
إنّ أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك قد استخلفه الله على عباده ، وأوجب طاعته على الناس .
وقد ولاني ما ترون من أمر ((العراق)) ثمّ زادني فولاني ((فارس)) .
وهو يرسل إليّ أحياناً كُتباً يأمرني فيها بإنفاذ ما لا أطمئنُّ إلى عدالته .
فهل تَجِدانِ لِي في متابعتي إيَّاه وإنفاذ أوامره مخرجاً في الدّين ؟ .
فأجاب الشّعبيّ جواباً فيه مُلاطفة للخليفة ، ومُسايرة للوالي … والحسن ساكتٌ …
فالتفت عمر بن هبيرة إلى الحسن وقال :
وما تقول أنت يا أبا سعيد ؟! .
فقال : يا بن هبيرة خَفِ الله في يزيد ؛ ولا تخف يزيد في الله …
واعلم أن الله عزَّ وجلَّ يمنعكَ من يزيد ، وأنّ يزيد لا يمنعك من الله …
يا بن هبيرة إنّه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره ، فيُزيلك عن سريرك هذا ، وينقلك من سِعة قصرك إلى ضِيق قبرك …
حيث لا تجد هناك يزيد ، وإنّما تجد عملك الذي خالفت فيه ربّ يزيد …
يا بن هبيرة إنّك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته ؛ يكفِكَ بائقة يزيد بن عبد الملك في الدنيا والآخرة …(يكفك بائقة يزيد: يمنع عنك أذى يزيد)
وإن تك مع يزيد في معصية الله تعالى ، فإنّ الله يَكِلُكَ إلى يزيد …
واعلم يا بن هبيرة أنّه لا طاعة لِمخلوق كائناًَ من كان في معصية الخالق عزَّ وجلَّ .
فبكى عمر بن هبيرة حتى بلَّلت دموعه لِحيته …
ومال عن الشعبيِّ إلى الحسن …
وبالغ في إعظامه وإكرامه …
فلمّا خرجا من عنده توجَّها إلى المسجد ، فاجتمع عليهما الناس ، وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع أمير ((العِراقين)) (العراقين: الكوفة والبصرة) .
فالتفت الشعبيّ إليهم وقال :
أيّها الناس من استطاع منكم أن يُؤثر(أي: يُفضِّل) الله عزَّ وجلَّ على خلقِه في كل مقام فليفعل …
فوالَّذي نفسي بيده ما قال الحسن لِعمر بن هبيرة قولاً أجهلُهُ …
ولكنِّي أردت فيما قلته وجه ابن هُبيرة ، وأراد فيما قاله وجه اللهِ …
فأقصاني الله منِ ابنِ هبيرة وأدناه منه وحبَّبه إليه .
وقد عاش الحسن البصري نحواً من ثمانين عاماً ملأ الدنيا خلالها عِلماً وحِكمةً وفِقهاً .
وكان من أجَلِّ ما ورَّثهُ للأجيال رَقائِقُهُ(الرقائق: المواعظ والوصايا ، سمّيت كذلك لرقّتها أو لأنها ترقّق القلوب) التي ظلَّت على الأيام ربيعاً للقلوب …ومواعظه التي هزَّت وما تزال تهزّ الأفئدة ، وتستدرُّ الشُّئُون(الشّئون: العروق التي تجري منها الدموع) ، وتدلُّ التّائهين على الله ، وتنبّه الغارّين الغافلين إلى حقيقة الدنيا ، وحال الناس معها .
من ذلك قوله لِسائل سأله عن الدنيا وحالها :
تِسألُني عن الدنيا والآخرة !! …
إنَّ مَثَلَ الدنيا والآخرة كَمَثَلِ المشرِق والمغرِب … متى ازددت من أحدِهما قُرباً ؛ ازددت من الآخر بُعداً .
وتقول لي صِف لي هذه الدَّار !! …
فماذا أصِف لكَ من دارٍ أوّلها عناء وآخرها فناء …
وفي حلالها حِساب ، وفي حرامها عقاب …
منِ استغنى فيها فُتِنَ ، ومنِ افتقرَ فيها حَزِنَ .
ومن ذلك أيضاً قوله لآخر سأله عن حاله وحال الناس :
وَيْحَنَا ماذا فعلنا بأنفُسنا؟!! …
لقد أهزلنا دِيننا ، وسَمَّنَّا دُنيانا …
وأخلقنا أخلاقنا(أي: أبلينا أخلاقنا) ، وجدَّدنا فُرُشُنا وثيابنا …
يتَّكِئُ أحدنا على شِمالِه ، ويأكل من مالٍ غير مالِهِ …
طعامُهُ غصبٌ …
وخِدمَتُهُ سُخرةٌ …(السُّخرة: العمل قهراً وبلا أجرة)
يدعو بحُلوٍ بعدَ حامِضٍ …
وبِحارٍّّ بعد باردٍ …
وبِرطبٍ بعد يابِسٍ …
حتّى إذا أخذته الكظَّةُ(الكظَّة: ما يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام من الضّيق والألم) تجَشَّأَ من البَشَمِ(البشم: التُّخمة) ثمَّ قال :
يا غُلام …
هاتِ هاضوماً يهضِم الطَّعام …
يا أُحَيْمِقُ ـ واللهِ ـ لن تهضِمَ إلا دينَكَ …
أين جارُكَ المحتاج ؟!! .
أين يتيم قومك الجائع ؟!! .
أين مسكينك الذي ينظر إليك ؟!! .
أين ما وصَّاكَ به الله عزَّ وجلَّ ؟!! .
ليتَكَ تعلم أنّكَ عددٌ … وأنَّه كلّما غابت عنك شمس يوم نقص شيء من عدَدِكَ … ومضَى بعضُكَ مَعَهُ .
وفي ليلة الجُمعة من غُرَّةِ رجبٍ(أي: أوّل رجب) سنة مائة وعشرٍ ، لبَّى الحسن البصري نِداء ربّه …
فلمَّا أصبح الناس وشاع فيهم نَعيُهُ ؛ ارتجَّت البَصرة لموته رجَّاً …
فغُسِّلَ وكفِّن وصُلِّيَ عليه بعد الجمعة في الجامع الذي قضى في رحابه جُلَّ حياته عالماً ومُعلِّماً ، وداعياً إلى الله .
ثمَّ تبِعَ الناس جميعاً جنازته …
فلم تُقم صلاة العصرِ في ذلك اليوم في جامع البصرة… لأنّه لم يبق أحد يُقيم الصّلاة …
ولا يعلم الناس أنَّ الصّلاة عُطِّلت في جامع البَصرَة منذُ ابتناه المُسلمون إلا في ذلك اليوم …
يوم انتقال الحسن البصري إلى جوار ربِّهِ .
المصدر
كتاب صور من حياة التابعين للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله