- 16 يونيو 2006
- 2,500
- 16
- 0
- الجنس
- ذكر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
من المعلوم أن هناك عددا من الضوابط المختلفة التي تحكم وتضبط أداء المؤذن حال رفع الأذان، منها ضوابط شرعية، ومنها ضوابط حسية ذوقية، ومنها ضوابط محلية عرفية، وفيما يلي نسلط الضوء على كل صنف من هذه الضوابط:
1- الضوابط الشرعية:
فأما الصنف الأول المتعلق بالضوابط الشرعية فهو معلوم مسطور في بطون كتب الفقه وشروح الحديث فيما يسمى بـ"كتاب الأذان"، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الأحكام من هذا الباب بما يحويه من مسائل عامة وخاصة تتناول كل ما يتعلق بهذه العبادة؛ بدءا من المواقيت والألفاظ وانتهاء بأذان الأعمى والألفاظ المدرجة حال الاستثناء ... إلى غير ذلك من دقيق المسائل المتعلقة، ولا شك أنه ينبغي لكل مؤذن أن يطالع هذه البحوث ويلتزم بما ورد فيها، فيلزم الواجب منها، ويسعى إلى المندوب، وينقطع عن المبتدع والمحدث، على أن المقام هنا ليس مقام التفصيل الشرعي وإنما قصدنا جهة أخرى.
2- الضوابط الحسية الذوقية:
وأما الضوابط الحسية الذوقية فمتعلقة - كما يبدو- بالحس والذوق العام للمؤذن والمستمع، وهي أعم من المحلية العرفية، وهي غالبا تكون مستندة إلى دوافع فطرية إنسانية عامة، ولها نصيب جزئي في الضوابط الشرعية، ولم أعلم من أفرد التصنيف فيها أو خصص لها في مصنف، ولكنها معلومة لدى المثقفين بهذه الثقافة الاجتماعية والمهتمين بشئون الحضارة والجمال الإنساني، وتشمل هذه الضوابط فرعا ثابتا وفرعا متغيرا؛ فمن أمثلة الثابت: حسن صوت المؤذن- وله ارتباط بالجانب الشرعي حيث ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن زيد رضي الله عنه-، ومنها أداؤه الجيد المناسب للمقام والحال، ومنها أهليته الشخصية وقدرته على ضبط الأمر وعدم الإخلال؛ كأن يتأخر أو يبكر، وأن يحسن تقدير وقت الإقامة ...، ومن أمثلة العارض المتغير: أن يراعي المؤذن بصفة عامة ملابسات مقام الأذان؛ ومن ذلك حدر الأذان في وقت العجلة كالحرب والسفر، ورفع الصوت حال الصخب، وترخيمه حال الهدوء، وإطالة الأذان في أوقات النوم والغفلة، والتبكير بالإقامة حال ضيق الوقت... إلى غير ذلك من الأحوال الجديرة بالاعتبار، ولا يترتب على هذا الصنف والذي بعده ثواب أو عقاب من جهة الشارع، وإنما حسن تصرف وتقدير.
3- الضوابط المحلية العرفية:
ونعني بها ما فرضته الثقافة المحلية والعرف الداخلي للمجتمع الذي تقطنه أطراف الأذان من مؤذنين ومستمعين، وهذا الصنف يختلف بطبيعة الحال باختلاف المجتمع، وهو تابع في هذا للثقافة العامة للمجتمعات وما أثر فيها من مؤثرات قديمة وحديثة، وتختلف نظرة أهل كل عرف إلى عرف غيرهم قبولا ورفضا واستمراء وتعجبا.
وإذا نزلنا هذا على شعيرة الأذان لوجدنا أن طريقة رفعه تختلف من مجتمع إلى آخر؛ فمثلا مؤذنو حرم مكة يلتزمون بحزمة متوارثة محددة من القواعد التي يعتمدون عليها في رفعهم الأذان، وكذلك أهل المدينة، وغيرهم من أهل مصر والعراق والمغرب والشام والأتراك ...، كل مجتمع أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره، فلو أنك سمعت مؤذنا يؤذن أذانا بطريقة معينة ومن مقام نغمي معين وبعرب صوتية معينة لعلمت- إن كنت من أهل التمييز- انتماءه على الفور.
وقد تتنوع المميزات التي تميز أذان كل ثقافة، فتارة يكون المقام النغمي هو المميز كما هو الحال عند أهل حرم مكة؛ فهم لا يرفعون إلا من مقام "يماني حجاز" كمقام أساسي ومعه مقام "الحسيني"، والعكس عند أهل حرم المدينة، ولا يتعدون هذه المقامات إلى غيرها في الحرمين الشريفين تبعا لهذا الموروث العريق، وتارة يكون طول الأذان وقصره هو المميز؛ فمثلا أهل مصر يتميزون بالأذان الطويل الملحن بعرب صوتية خاصة ولا يلتزمون بمقام ثابت فهم يؤدون بالحجاز وبالبياتي وبالسيكا؛ على أن الغالب عليهم الأذان من مقام الرصد، وتارة يكون المميز نبرة الصوت ومخارج الحروف كحال الأذان عند أهل العراق وأهل تركيا مع توسعهم في استخدام المقامات النغمية، وتارة يكون المميز "وقوف" وخلوه من التنغيم والتبحر والاقتصار على مد الصوت بالكلام كما هو الحال عند أهل نجد ... إلى غير ذلك من المميزات التي تميز كل ثقافة.
وإذا أمعنّا النظر في أذان كل ثقافة نجد أنه برغم المميزات التي تفرق كل منها عن نظائرها إلا أنها تجتمع في سمة بعينها، وهي المتعلقة بتأثير الأذان في نفوس المستمعين وبث الهمة والنشاط في قلوبهم وبعثهم إلى الصلاة مهما كان الشاغل، فهي سمة تتوافق والمطلب الذي شرع الأذان من أجله، وفرقٌ بين أثر القرآن وأثر الأذان، فالأثر المنوط بالمؤذن إحداثه متعلق بدفع الناس إلى الصلاة بنشاط وحماس؛ لذا ندب له رفع الصوت بمقام مناسب لذلك، والأثر المنوط بالقارئ إحداثه متعلق بإدخال المصلي في حال من الخشوع والتدبر لآيات الله؛ لذا شرعت له قراءة التحزين والتشويق كما أثر عن السلف الصالح- رحمهم الله-، لذلك لا تجد مؤذنا يخلط بين المقامات التي تشحذ الهمم وبين المقامات التي تورث الخشوع والتدبر، وبخاصة إن كان متمكنا من عمله عارفا بأسرار هذه الشعيرة الجليلة.
محمد مغربي - القاهرة - عاشوراء 1434هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
من المعلوم أن هناك عددا من الضوابط المختلفة التي تحكم وتضبط أداء المؤذن حال رفع الأذان، منها ضوابط شرعية، ومنها ضوابط حسية ذوقية، ومنها ضوابط محلية عرفية، وفيما يلي نسلط الضوء على كل صنف من هذه الضوابط:
1- الضوابط الشرعية:
فأما الصنف الأول المتعلق بالضوابط الشرعية فهو معلوم مسطور في بطون كتب الفقه وشروح الحديث فيما يسمى بـ"كتاب الأذان"، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الأحكام من هذا الباب بما يحويه من مسائل عامة وخاصة تتناول كل ما يتعلق بهذه العبادة؛ بدءا من المواقيت والألفاظ وانتهاء بأذان الأعمى والألفاظ المدرجة حال الاستثناء ... إلى غير ذلك من دقيق المسائل المتعلقة، ولا شك أنه ينبغي لكل مؤذن أن يطالع هذه البحوث ويلتزم بما ورد فيها، فيلزم الواجب منها، ويسعى إلى المندوب، وينقطع عن المبتدع والمحدث، على أن المقام هنا ليس مقام التفصيل الشرعي وإنما قصدنا جهة أخرى.
2- الضوابط الحسية الذوقية:
وأما الضوابط الحسية الذوقية فمتعلقة - كما يبدو- بالحس والذوق العام للمؤذن والمستمع، وهي أعم من المحلية العرفية، وهي غالبا تكون مستندة إلى دوافع فطرية إنسانية عامة، ولها نصيب جزئي في الضوابط الشرعية، ولم أعلم من أفرد التصنيف فيها أو خصص لها في مصنف، ولكنها معلومة لدى المثقفين بهذه الثقافة الاجتماعية والمهتمين بشئون الحضارة والجمال الإنساني، وتشمل هذه الضوابط فرعا ثابتا وفرعا متغيرا؛ فمن أمثلة الثابت: حسن صوت المؤذن- وله ارتباط بالجانب الشرعي حيث ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن زيد رضي الله عنه-، ومنها أداؤه الجيد المناسب للمقام والحال، ومنها أهليته الشخصية وقدرته على ضبط الأمر وعدم الإخلال؛ كأن يتأخر أو يبكر، وأن يحسن تقدير وقت الإقامة ...، ومن أمثلة العارض المتغير: أن يراعي المؤذن بصفة عامة ملابسات مقام الأذان؛ ومن ذلك حدر الأذان في وقت العجلة كالحرب والسفر، ورفع الصوت حال الصخب، وترخيمه حال الهدوء، وإطالة الأذان في أوقات النوم والغفلة، والتبكير بالإقامة حال ضيق الوقت... إلى غير ذلك من الأحوال الجديرة بالاعتبار، ولا يترتب على هذا الصنف والذي بعده ثواب أو عقاب من جهة الشارع، وإنما حسن تصرف وتقدير.
3- الضوابط المحلية العرفية:
ونعني بها ما فرضته الثقافة المحلية والعرف الداخلي للمجتمع الذي تقطنه أطراف الأذان من مؤذنين ومستمعين، وهذا الصنف يختلف بطبيعة الحال باختلاف المجتمع، وهو تابع في هذا للثقافة العامة للمجتمعات وما أثر فيها من مؤثرات قديمة وحديثة، وتختلف نظرة أهل كل عرف إلى عرف غيرهم قبولا ورفضا واستمراء وتعجبا.
وإذا نزلنا هذا على شعيرة الأذان لوجدنا أن طريقة رفعه تختلف من مجتمع إلى آخر؛ فمثلا مؤذنو حرم مكة يلتزمون بحزمة متوارثة محددة من القواعد التي يعتمدون عليها في رفعهم الأذان، وكذلك أهل المدينة، وغيرهم من أهل مصر والعراق والمغرب والشام والأتراك ...، كل مجتمع أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره، فلو أنك سمعت مؤذنا يؤذن أذانا بطريقة معينة ومن مقام نغمي معين وبعرب صوتية معينة لعلمت- إن كنت من أهل التمييز- انتماءه على الفور.
وقد تتنوع المميزات التي تميز أذان كل ثقافة، فتارة يكون المقام النغمي هو المميز كما هو الحال عند أهل حرم مكة؛ فهم لا يرفعون إلا من مقام "يماني حجاز" كمقام أساسي ومعه مقام "الحسيني"، والعكس عند أهل حرم المدينة، ولا يتعدون هذه المقامات إلى غيرها في الحرمين الشريفين تبعا لهذا الموروث العريق، وتارة يكون طول الأذان وقصره هو المميز؛ فمثلا أهل مصر يتميزون بالأذان الطويل الملحن بعرب صوتية خاصة ولا يلتزمون بمقام ثابت فهم يؤدون بالحجاز وبالبياتي وبالسيكا؛ على أن الغالب عليهم الأذان من مقام الرصد، وتارة يكون المميز نبرة الصوت ومخارج الحروف كحال الأذان عند أهل العراق وأهل تركيا مع توسعهم في استخدام المقامات النغمية، وتارة يكون المميز "وقوف" وخلوه من التنغيم والتبحر والاقتصار على مد الصوت بالكلام كما هو الحال عند أهل نجد ... إلى غير ذلك من المميزات التي تميز كل ثقافة.
وإذا أمعنّا النظر في أذان كل ثقافة نجد أنه برغم المميزات التي تفرق كل منها عن نظائرها إلا أنها تجتمع في سمة بعينها، وهي المتعلقة بتأثير الأذان في نفوس المستمعين وبث الهمة والنشاط في قلوبهم وبعثهم إلى الصلاة مهما كان الشاغل، فهي سمة تتوافق والمطلب الذي شرع الأذان من أجله، وفرقٌ بين أثر القرآن وأثر الأذان، فالأثر المنوط بالمؤذن إحداثه متعلق بدفع الناس إلى الصلاة بنشاط وحماس؛ لذا ندب له رفع الصوت بمقام مناسب لذلك، والأثر المنوط بالقارئ إحداثه متعلق بإدخال المصلي في حال من الخشوع والتدبر لآيات الله؛ لذا شرعت له قراءة التحزين والتشويق كما أثر عن السلف الصالح- رحمهم الله-، لذلك لا تجد مؤذنا يخلط بين المقامات التي تشحذ الهمم وبين المقامات التي تورث الخشوع والتدبر، وبخاصة إن كان متمكنا من عمله عارفا بأسرار هذه الشعيرة الجليلة.
محمد مغربي - القاهرة - عاشوراء 1434هـ