- 27 فبراير 2006
- 4,050
- 12
- 0
- الجنس
- ذكر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين.
و بعد
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى:
كل أعمال الناس تابعة لهدى الله إياهم كما قال سبحانه : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) الأعلى: ١ - ٣ و قال موسى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه: ٥٠ و قال تعالى : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) البلد: ١٠ وقال: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّببِِلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان: ٣ .
و لهذا قيل : الهدى أربعة أقسام :
* (أحدها) :
الهداية إلى مصالح الدنيا، فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم وبين المؤمن والكافر.
* (الثاني) :
الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ما ينفعهم وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب، فهذا أيضا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا أو كفروا كما قال تعالى : (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) فصلت: ١٧، وقال تعالى : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) الرعد: ٧ ، و ٣٦ وقال تعالى : (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) الشورى: ٥٢، فهذا مع قوله : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص: ٥٦، يبين أن الهدى الذي أثبته هو البيان والدعاء والأمر والنهي والتعليم وما يتبع ذلك، ليس هو الهدى الذي نفاه، وهو القسم الثلث الذي لا يقدر علي إلا الله.
* و (القسم الثالث) :
الهدى الذي هو جعل الهدى في القلوب.
وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام والإرشاد.
وهذا هو الذي تنكر القدرية أن يكون الله هو الفاعل له، ويزعمون أن العبد هو الذي يهدي نفسه.وهذا الحديث وأمثاله حجة عليهم حيث قال : (( كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))، فأمر العباد بأن يسألوه الهداية كما أمرهم بذلك في أم الكتاب في قوله : (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) الفاتحة: ٦ ، وعند القدرية أن الله لا يقدر من الهدى إلا على ما فعله من إرسال الرسل ونصب الأدلة وإزاحة العلة، ولا مزية عندهم للمؤمن على الكافر في هداية الله تعالى، ولا نعمة له على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر في باب الهدى.
وقد بين الاختصاص في هذه بعد عموم ((الدعوة)) في قوله: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يونس: ٢٥ ، فالهدي يكون بمعنى البيان والدعوة، وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر. كقوله تعالى : (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) فصلت: ١٧ .
ويكون بمعنى جعله مهتديا، وهذا يختص بالمؤمنين، وهو المطلوب بقوله: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) الفاتحة: ٦ ، وبقوله : (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) البقرة: ٢ ، وذلك أن (هدى) بمعنى دل وأرشد قد يكون بالقوة، فهذا مشترك، وقد يكون بالفعل، فهذا مختص، كما تقول : علمته فتعلم، وعلمته فما تعلم. وكذلك: هديته فاهتدى، وهديته فما اهتدى. فالأول مختص بالمؤمنين، والثاني مشترك.
و ليس تعليمه وهداه كتعليم البشر بعضهم بعضا، فإن المعلم يقول والمتعلم يتعلم بأسباب لا يقدر عليها المعلم، والله تعالى هو الذي يجعل العلم في قلوب من علمه. و لهذا يطلب منه ذلك فيقال: ( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) ولا يقال ذلك للبشر فإنهم لا يقدرون عليه. و يطلب العبد من الله أن يفهمه ويعلمه ويشرح صدره وأن يحبب إليه الإيمان والعمل الصالح، ولا يطلب هذا من غير الله.
قال تعالى : (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الزمر: ٢٢،
وقال : (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَ مَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) الأنعام: ١٢٥،
وقال : (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) الأنبياء: ٧٩، فخص سليمان بالتفهيم مع أنهما كانا حاكمين، لم يخص أحدهما بعلم ظاهر، وقال تعالى: (وَ نَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) الشمس: ٧- ٨ ،
وكانت أكثر يمين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «لا ومقلب القلوب» .
* و (القسم الرابع) :
الهدى في الآخرة، كما قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) الحج: ٢٤- ٢٣ ،
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يونس:٩ ، فقوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) ، كقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور: ٢١ ، على أحد قولين في الآية .
وهذا الهدى ثواب الاهتداء في الدنيا،كما أن ضلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا، وكما أن قصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) الصافات: ٢٢ - ٢٣ ، وقال : (وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)الإسراء:٩٧ الآية ، فأخبر أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عميا وبكما وصما.
فإن الجزاء أبدا من جنس العمل كما قال (صلى الله علي وسلم): «الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» ، وقال : «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا ولآخرة،ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .
ولهذا أيضا يجزى الرجل في الدنيا على ما فعله من خير الهدى بما يفتح عليه من هدى آخر، ولهذا قيل : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». وقد قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الحديد: ٢٨ .
ومن هذا الباب قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) محمد: ١٧ ، وقوله : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) الكهف: ١٣، ومنه قوله : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) الفتح: ١ – ٣ .
وبإزاء ذلك أن الضلال والمعاصي تكون بسبب الذنوب المتقدمة كما قال الله : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) الصف: ٥. وقال: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) النساء: ١٥٥، وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) المائدة: ١٣، وهذا باب واسع.
ولهذا قال من قال من السلف: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها».
فصل :
لفظ «الهدى» إذا أطلق تناول العلم الذي بعث الله به رسوله (صلى الله عليه وسلم) والعمل به جميعا فيدخل فيه كل ما أمر الله به كما في قوله : ( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) الفاتحة:٦، والمراد طلب العلم بالحق والعمل به جميعا. وكذلك قوله : (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) البقرة: ٢، والمراد به أنهم يعلمون ما فيه ويعملون به ، ولهذا صاروا مفلحين، وكذلك قول أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا) الأعراف: ٤٣، وإنما هداهم بأ ن ألهمهم العلم النافع والعمل الصالح.
ثم قد يقرن الهدى إما بالإجتباء كما في قوله : (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) الأنعام: ٨٧ و كما في قوله: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ) النحل: ١٢١، (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) الشورى: ١٣، وكذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) الصف: ٩، والهدى هنا هو الإيمان ودين الحق هو الإسلام، وإذا أطلق الهدى كان كالإيمان المطلق يدخل فيه هذا وهذا.
إنتهى.
منقول من شبكة سحاب السلفيّة
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين.
و بعد
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى:
كل أعمال الناس تابعة لهدى الله إياهم كما قال سبحانه : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) الأعلى: ١ - ٣ و قال موسى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه: ٥٠ و قال تعالى : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) البلد: ١٠ وقال: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّببِِلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان: ٣ .
و لهذا قيل : الهدى أربعة أقسام :
* (أحدها) :
الهداية إلى مصالح الدنيا، فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم وبين المؤمن والكافر.
* (الثاني) :
الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ما ينفعهم وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب، فهذا أيضا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا أو كفروا كما قال تعالى : (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) فصلت: ١٧، وقال تعالى : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) الرعد: ٧ ، و ٣٦ وقال تعالى : (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) الشورى: ٥٢، فهذا مع قوله : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص: ٥٦، يبين أن الهدى الذي أثبته هو البيان والدعاء والأمر والنهي والتعليم وما يتبع ذلك، ليس هو الهدى الذي نفاه، وهو القسم الثلث الذي لا يقدر علي إلا الله.
* و (القسم الثالث) :
الهدى الذي هو جعل الهدى في القلوب.
وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام والإرشاد.
وهذا هو الذي تنكر القدرية أن يكون الله هو الفاعل له، ويزعمون أن العبد هو الذي يهدي نفسه.وهذا الحديث وأمثاله حجة عليهم حيث قال : (( كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))، فأمر العباد بأن يسألوه الهداية كما أمرهم بذلك في أم الكتاب في قوله : (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) الفاتحة: ٦ ، وعند القدرية أن الله لا يقدر من الهدى إلا على ما فعله من إرسال الرسل ونصب الأدلة وإزاحة العلة، ولا مزية عندهم للمؤمن على الكافر في هداية الله تعالى، ولا نعمة له على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر في باب الهدى.
وقد بين الاختصاص في هذه بعد عموم ((الدعوة)) في قوله: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يونس: ٢٥ ، فالهدي يكون بمعنى البيان والدعوة، وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر. كقوله تعالى : (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) فصلت: ١٧ .
ويكون بمعنى جعله مهتديا، وهذا يختص بالمؤمنين، وهو المطلوب بقوله: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) الفاتحة: ٦ ، وبقوله : (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) البقرة: ٢ ، وذلك أن (هدى) بمعنى دل وأرشد قد يكون بالقوة، فهذا مشترك، وقد يكون بالفعل، فهذا مختص، كما تقول : علمته فتعلم، وعلمته فما تعلم. وكذلك: هديته فاهتدى، وهديته فما اهتدى. فالأول مختص بالمؤمنين، والثاني مشترك.
و ليس تعليمه وهداه كتعليم البشر بعضهم بعضا، فإن المعلم يقول والمتعلم يتعلم بأسباب لا يقدر عليها المعلم، والله تعالى هو الذي يجعل العلم في قلوب من علمه. و لهذا يطلب منه ذلك فيقال: ( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) ولا يقال ذلك للبشر فإنهم لا يقدرون عليه. و يطلب العبد من الله أن يفهمه ويعلمه ويشرح صدره وأن يحبب إليه الإيمان والعمل الصالح، ولا يطلب هذا من غير الله.
قال تعالى : (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الزمر: ٢٢،
وقال : (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَ مَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) الأنعام: ١٢٥،
وقال : (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) الأنبياء: ٧٩، فخص سليمان بالتفهيم مع أنهما كانا حاكمين، لم يخص أحدهما بعلم ظاهر، وقال تعالى: (وَ نَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) الشمس: ٧- ٨ ،
وكانت أكثر يمين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «لا ومقلب القلوب» .
* و (القسم الرابع) :
الهدى في الآخرة، كما قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) الحج: ٢٤- ٢٣ ،
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يونس:٩ ، فقوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) ، كقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور: ٢١ ، على أحد قولين في الآية .
وهذا الهدى ثواب الاهتداء في الدنيا،كما أن ضلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا، وكما أن قصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) الصافات: ٢٢ - ٢٣ ، وقال : (وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)الإسراء:٩٧ الآية ، فأخبر أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عميا وبكما وصما.
فإن الجزاء أبدا من جنس العمل كما قال (صلى الله علي وسلم): «الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» ، وقال : «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا ولآخرة،ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .
ولهذا أيضا يجزى الرجل في الدنيا على ما فعله من خير الهدى بما يفتح عليه من هدى آخر، ولهذا قيل : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». وقد قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الحديد: ٢٨ .
ومن هذا الباب قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) محمد: ١٧ ، وقوله : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) الكهف: ١٣، ومنه قوله : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) الفتح: ١ – ٣ .
وبإزاء ذلك أن الضلال والمعاصي تكون بسبب الذنوب المتقدمة كما قال الله : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) الصف: ٥. وقال: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) النساء: ١٥٥، وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) المائدة: ١٣، وهذا باب واسع.
ولهذا قال من قال من السلف: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها».
فصل :
لفظ «الهدى» إذا أطلق تناول العلم الذي بعث الله به رسوله (صلى الله عليه وسلم) والعمل به جميعا فيدخل فيه كل ما أمر الله به كما في قوله : ( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) الفاتحة:٦، والمراد طلب العلم بالحق والعمل به جميعا. وكذلك قوله : (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) البقرة: ٢، والمراد به أنهم يعلمون ما فيه ويعملون به ، ولهذا صاروا مفلحين، وكذلك قول أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا) الأعراف: ٤٣، وإنما هداهم بأ ن ألهمهم العلم النافع والعمل الصالح.
ثم قد يقرن الهدى إما بالإجتباء كما في قوله : (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) الأنعام: ٨٧ و كما في قوله: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ) النحل: ١٢١، (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) الشورى: ١٣، وكذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) الصف: ٩، والهدى هنا هو الإيمان ودين الحق هو الإسلام، وإذا أطلق الهدى كان كالإيمان المطلق يدخل فيه هذا وهذا.
إنتهى.
منقول من شبكة سحاب السلفيّة
أموت و يبقى كل ما كتبته *** فياليت من يقرأ كتابي دعا ليا
لعل إلهي أن يمن بلطفه *** و يرحم تقصيري و سوء فعاليا
لعل إلهي أن يمن بلطفه *** و يرحم تقصيري و سوء فعاليا