- 12 سبتمبر 2007
- 1,826
- 14
- 0
- الجنس
- ذكر
إنّ للجَنّةِ في الأندَلُسِ .. مُجتَلى حُسنٍ وَرَيّا نَفَسِ
فسَنا صُبحَتِها مِن شَنبٍ .. وَدُجَى لَيلَتِها مِن لَعَسِ
وإذا مَا هَبّتِ الرّيحُ صَبَا .. صِحْتُ وَاشَوقِي إلى الأندَلُسِ
وَبعدُ أيّها النّدِيمُ الصّادقُ
هَبْ أنّكـَ رأيتَ فِي منَامِكَ حُلُماً جَمِيْلاً ، دَرَجْتَ فيهِ وسطَ جَنّةٍ غَنّاءَ ، ذاتَ بسَاتِينَ وأنهارٍ ، وجَبالٍ وسُهُولٍ ، وفَاكِهَةٍ وأعنابٍ ، رَائِحَةُ الزّهورِ والوُرودِ والرّياحِين تَعبِقُ مِن حَولِكـَ ، وإلى سَمعِكَ تُزَفّ أنشُودَةٌ ساحِرَةٌ تَعزِفُها البلابِلُ والعَصافِيرُ ، والشّمسُ تحتَجِبُ خَلفَ سَحابٍ تَألّفَ حَتّى أصبَحَ رُكَاماً ، فَجَرى الوَدقُ مِن خِلالِهِ ، وَبعثَ نَسيماً بَارِداً رقرَاقاً يَهُبّ كُلّ فَينَةٍ ليُصَافِحَ قَسَماتِ وَجهِكَ بإحسَاسِ الحُبُورِ والنّعيمِ ، وأنتَ وسطَ هَذهِ الرّوعَةِ الصّادِحَةِ بالجَمَالِ تَتَلَذّذُ وتَتَأملُ ، وَترفُلُ نَاعِماً مُبتَهِجاً ، ثُمّ فَجأةً ينقَطِعُ حلمكَ ، وتَصحُو مِن نَومِكـَ ، لتُغَادِرَ ذلكَ الجَمَالَ الحَالِمَ ، ويُفارِقَكَ ذلكَ الحُلُمُ الجَميلُ .
لَقَد فَطرَ اللهُ عَزّ وجلّ البَشَر عَلى حُبّ الجَمَالِ وَتَذوّقِهِ فِي كُلّ شيءٍ ، فِيمَا يَرَونَ ، ويَسمَعُونَ ، ويأكُلُونَ ، وَيَشُمّونَ ، وَيلبَسُونَ ، بَل حَتّى فِي أحلامِ مَنَامِهِم ويَقظَتِهِم ، وَمَاضِيهِم ومُستَقبَلِهِم ، تَرى أحَدَهُم يستَلِذُّ بتَذكّرِ رؤيَا جمِيلةٍ رآهَا ، وَيُعِيدُ عَلى قَلبِهِ كُلّ مَا يتَذكّرُ مِن تَفَاصِيلِها ، وأحيَاناً يسرَحُ مَعَ أحلامِ مُستَقبَلِهِ فيَمتَلئُ بِشراً ، ويرقُصُ طَرباً ، ولمّا يُحَقّق شَيئاً مِنها .
إنّها ذَائِقَةُ الجَمَالِ الّتي يَختَلِفُ فيهَا النّاسُ فتختَلفُ أذوَاقُهُم ، فَيذهَبُونَ فِي ذلك مذَاهِبَ شَتّى ، ويتَطَرّقونَ طَرَائِقَ قِدَداً .
عَفواً أيّهَا القارِئُ المِفضَالُ ، فهَذِهِ مُقَدّمَةُ حَديثٍ استَطرَدَ فيهَا القَلَمُ ، وَسلكَ مَالَم آمرهُ بِهِ ، وَسَبقَ إلى مَالَم أُجَرّدهُ لأجلِهِ ، وكَانّهُ يَأبَى - كَعَادَتِهِ - إلاّ أن يكتُبَ مَايُريدُ لا مَا أرِيدُ ، وأن يُمليْ عَليّ لأكتُبَ لا العَكس ، وإنّي إنْ خَاشَنتُهُ وقَبَضتُ لِجَامَهُ أحجَمَ ونَكَصَ ، ثُمّ ازدَادَ عِنادُهُ فأقسَمَ عَلى مُعاقبتي بالصّمتِ والجَفوَةِ فَلَم يَكتُب لِي حَرفاً ، فأنَا لَم أزلْ مَعَهُ فِي مُدَارَاةٍ ومُسَايَرةٍ وَسيَاسَةٍ ، عَسَى أن يَسمَحَ بإصدَارِ حَديثِ نَفسي ، وطِبَاعَةِ مَعَانيَ رُوحِي .
عَوداً عَلَى بَدءٍ ، إلَى ذلكَ الحُلُمِ الجَمِيلِ الذي فَقَدتَهُ ، ولمّا تَزلْ تلتَذُ بِهِ ، أتعلَمُ يَا صَاحِبي أنّ ثَمّةَ حُلُمٍ أجمَلُ مِن حُلُمِكَ الّذي رأيتَ ؟
حُلُمٍ رأيناهُ ولم نَعِشهُ ، كَلاّ بَل هُوَ رُؤيا صِدقٍ بيضَاءَ ناصِعَةٍ ، امتدّتْ مِئَات السّنينِ ، زَاخِرةً بالإمتَاعِ ، رافِلةً في الجَمَالِ ، مُنذُ أن أسرَجَ مُوسى بنُ نُصَيرٍ خيلَهُ عَلى ضِفافِ مَضيقِ جَبلِ طارقٍ ، حَتّى سَلّمَ أبُو عَبدِ اللهِ الصّغيرِ مَفاتِيحَ غِرنَاطَةَ لفرديناند ملكِ الأفرنجِ .
لَقَد كانَ بينَ هذينِ التّاريخَينِ عَهداً جَمِيلاً لا يشبِهُهُ عَهدٌ ، وَلَوحةً مَاتِعةً مِن أجمَلِ لَوحاتِ العِلمِ والأدبِ والبيَانِ ، ارتَسمَت مَلامِحُهَا عَلى صَحَائِفِ الدّهرِ حيناً ، وأشرَقت عَلى وِهادِ الأندَلُسِ وَسُهُولِهَا وأنهَارِهَا وَوِديَانِها ، بطَابِعٍ إسلاميٍّ خالِصٍ ، وَفنٍّ عَربيٍّ أصيلٍ ، لاَ يكَادُ مَن تَأمّل مَحَاسِنَهُ ، وَقلّبَ النّظرَ فِي أطرَافِهِ إلا أن يُرَدّدَ :
إنّي تَذكّرتُ والذّكرَى مُؤرّقَةٌ .. ( حُلماً جَميلاً ) بأيدينَا أضعنَاهُ
إنّ الأندَلُسَ بِتَاريخِهَا وفتُوحَاتِهَا ومُدُنِهَا وَجَنّاتِهَا وأنهَارِهَا وَعُلَمَائِهَا وأدَبَائِهَا وشُعَرَائِها بَل وَحتّى اسمِهَا العَسَْجديّ الفَاتِنِ تَحكِي ذلكَ الحُلُمَ الجَميلَ ، الّذي استَفقنَا عَلى فَقدِهِ ، وَلَم يبقَ لَنا إلا تَذكّرُ أحداثِهِ ، والوُقوفُ عَلى أطلاَلِهِ ، نَتَذَوّقُ جَمَالَهُ ، ونستَلِذّ بِهِ ، كَمَا تَذوّقهُ الشّاعِرُ الأندَلُسيُ حِينَ يَقُولُ :
فِي أرضِ أندَلُسٍ تَلتَذّ نَعمَاءُ .. ولا يُفارِقُ فِيهَا القَلبَ سَرّاءُ
وَليسَ فِي غَيرِهَا بِالعَيشِ مُنتَفَعٌ .. وَلا تَقومُ بحقّ الأُنسِ صَهباءُ
وأينَ يُعدَلُ عَن أرضٍ تَحُضّ بِها .. عَلى المُدَامَةِ أموَاهٌ وأفيَاءُ
وَكَيفَ لاَ يُبهِجُ الأبصَارَ رؤيَتَها .. وَكُلّ رَوضٍ بِها في الوَشيِ صَنعَاءُ
أنهَارُها فِضّةٌ ، والمِسكُ تربَتُها .. والخَزّ رَوضتُهَا ، والدّرّ حَصبَاءُ
ولِلهَواءِ بِها لُطفٌ يرقّ بهِ .. مَن لا يرقُ ، وتَبدُو مِنهُ أهوَاءُ
لَيسَ النّسيمُ الّذي يهفُو بِها سَحَراً .. ولا انتثارُ لآلي الطّلّ أندَاءُ
وإنّمَا أرَجُ النّدِّ استَثَارَ بِهَا .. فِي ماءِ وَردٍ فطَابَتْ مِنهُ أرجاءُ
وَأينَ يبلُغُ مِنهَا مَا أصَنّفُهُ .. وَكيفَ يَحوِي الّذي حَازَتهُ إحصَاءُ
دَارَت عليها نِطاقاً أبحُرٌ خَفقَت .. وجداً بها إذ تَبدّت وهْيَ حَسنَاءُ
لِذاكَ يبسُمُ فيهَا الزّهرُ مِن طَرَبٍ .. والطّيرُ يشدُو وللأغصانِ إصغَاءُ
فِيهَا خَلَعتُ عِذَاري مَا بِها عِوَضٌ .. فهيَ الرّياضُ ، وكُلّ الأرضِ صَحراءُ
وَهذِهِ أيّها الكِرامُ صَفحَةٌ جَامِعَةٌ ، بَلْ ذِكرَى حُلمٍ جَميلٍ غَابرٍ ، تَتَسَامَرُ فيهِ الأقلامُ كَمَا كانَت تَتَسامَرُ أمَامَ جَامِعِ قُرطُبَةَ ، أو فوقَ قَنطَرتِهَا ، وتُتَبَادَلُ الأخبَارُ والأشعَارُ مِثلَما كَانت تُتَبَادَلُ عَلى ضِفَافِ نَهر اشبيلية ، أو تَحتَ قَلعَةِ المَرية .
وأربُعِ أحبَابٍ إذا مَا ذَكرتُهَا .. بكيتُ ، وقَد يُبْكيكَ ما أنتَ ذاكِرُ
بِطَاحٌ وأدوَاحٌ يرُوقُكَ حُسنُهَا .. بكُلّ خَليجٍ نمنمتهُ الأزاهِرُ
فَمَاهوَ إلا فِضّةٌ فِي َزبَرجَدٍ .. تَسَاقَطَ فيهِ اللؤلؤُ المُتنَاثِرُ
بِحيثُ الصّبَا والتّربُ والمَاءُ والهَوى .. عبيرٌ وكَافُورٌ ورَاحٌ وعاطِرُ
وَما جَنّةُ الدنيَا سِوى مَا وَصفتُهُ .. وَمَا ضَمّ مِنْهُ الحُسنَ نَجدٌ وَحاجِرُ
بِلادي الّتي أهلِي بِها وأحِبّتي .. وَرُوحي وقَلبي والمُنى والخَوَاطِرُ
تُذَكّرُني أنجَادُهَا وَوِهَادُهَا .. عُهوداً مَضتْ لي وهْيَ خُضرٌ نَوَاضِرُ
إذِ العَيشُ صافٍ والزمَانُ مُسَاعِدٌ .. فلا العَيشُ مَملولٌ ولا الدّهرُ جَائِرُ
بِحَيثُ لَيَالينَا كَغَضّ شَبَابِنَا .. وأيّامُنَا سِلكٌ ونحنُ جَواهِرُ
لَيَاليَ كَانت للشّبِيبَة دَولةٌ .. بِهَا مَلكُ اللذاتِ ناهٍ وآمِرُ
سَلامٌ عَلى تِلكَ العُهُودِ فإنّهَا .. مَوَارِدُ أفرَاحٍ تَلتهَا مَصَادِرُ
هُنَا أمسِكُ العِنانَ ، وَللحَدِيثِ اتّصالٌ بإذنِ اللهِ فِي سِلسِلَةِ " لَيَالٍ أندَلسيّةٍ " ، نُسَافِرُ فِيهَا إلى فِردَوسِنَا الجَمِيلِ المَفقودِ ، نَرفُلُ وسطَ جَنّاتِهِ وأنهَارِهِ ودَوحِهِ ، ونتَضَوّعُ عبيرَ نَرجَسِهِ الفَوّاحِ ، وشَذَى أقحُوانِهِ العَابِقِ .
دُمتُمْ على خَيرٍ وتُقى
فسَنا صُبحَتِها مِن شَنبٍ .. وَدُجَى لَيلَتِها مِن لَعَسِ
وإذا مَا هَبّتِ الرّيحُ صَبَا .. صِحْتُ وَاشَوقِي إلى الأندَلُسِ
وَبعدُ أيّها النّدِيمُ الصّادقُ
هَبْ أنّكـَ رأيتَ فِي منَامِكَ حُلُماً جَمِيْلاً ، دَرَجْتَ فيهِ وسطَ جَنّةٍ غَنّاءَ ، ذاتَ بسَاتِينَ وأنهارٍ ، وجَبالٍ وسُهُولٍ ، وفَاكِهَةٍ وأعنابٍ ، رَائِحَةُ الزّهورِ والوُرودِ والرّياحِين تَعبِقُ مِن حَولِكـَ ، وإلى سَمعِكَ تُزَفّ أنشُودَةٌ ساحِرَةٌ تَعزِفُها البلابِلُ والعَصافِيرُ ، والشّمسُ تحتَجِبُ خَلفَ سَحابٍ تَألّفَ حَتّى أصبَحَ رُكَاماً ، فَجَرى الوَدقُ مِن خِلالِهِ ، وَبعثَ نَسيماً بَارِداً رقرَاقاً يَهُبّ كُلّ فَينَةٍ ليُصَافِحَ قَسَماتِ وَجهِكَ بإحسَاسِ الحُبُورِ والنّعيمِ ، وأنتَ وسطَ هَذهِ الرّوعَةِ الصّادِحَةِ بالجَمَالِ تَتَلَذّذُ وتَتَأملُ ، وَترفُلُ نَاعِماً مُبتَهِجاً ، ثُمّ فَجأةً ينقَطِعُ حلمكَ ، وتَصحُو مِن نَومِكـَ ، لتُغَادِرَ ذلكَ الجَمَالَ الحَالِمَ ، ويُفارِقَكَ ذلكَ الحُلُمُ الجَميلُ .
لَقَد فَطرَ اللهُ عَزّ وجلّ البَشَر عَلى حُبّ الجَمَالِ وَتَذوّقِهِ فِي كُلّ شيءٍ ، فِيمَا يَرَونَ ، ويَسمَعُونَ ، ويأكُلُونَ ، وَيَشُمّونَ ، وَيلبَسُونَ ، بَل حَتّى فِي أحلامِ مَنَامِهِم ويَقظَتِهِم ، وَمَاضِيهِم ومُستَقبَلِهِم ، تَرى أحَدَهُم يستَلِذُّ بتَذكّرِ رؤيَا جمِيلةٍ رآهَا ، وَيُعِيدُ عَلى قَلبِهِ كُلّ مَا يتَذكّرُ مِن تَفَاصِيلِها ، وأحيَاناً يسرَحُ مَعَ أحلامِ مُستَقبَلِهِ فيَمتَلئُ بِشراً ، ويرقُصُ طَرباً ، ولمّا يُحَقّق شَيئاً مِنها .
إنّها ذَائِقَةُ الجَمَالِ الّتي يَختَلِفُ فيهَا النّاسُ فتختَلفُ أذوَاقُهُم ، فَيذهَبُونَ فِي ذلك مذَاهِبَ شَتّى ، ويتَطَرّقونَ طَرَائِقَ قِدَداً .
عَفواً أيّهَا القارِئُ المِفضَالُ ، فهَذِهِ مُقَدّمَةُ حَديثٍ استَطرَدَ فيهَا القَلَمُ ، وَسلكَ مَالَم آمرهُ بِهِ ، وَسَبقَ إلى مَالَم أُجَرّدهُ لأجلِهِ ، وكَانّهُ يَأبَى - كَعَادَتِهِ - إلاّ أن يكتُبَ مَايُريدُ لا مَا أرِيدُ ، وأن يُمليْ عَليّ لأكتُبَ لا العَكس ، وإنّي إنْ خَاشَنتُهُ وقَبَضتُ لِجَامَهُ أحجَمَ ونَكَصَ ، ثُمّ ازدَادَ عِنادُهُ فأقسَمَ عَلى مُعاقبتي بالصّمتِ والجَفوَةِ فَلَم يَكتُب لِي حَرفاً ، فأنَا لَم أزلْ مَعَهُ فِي مُدَارَاةٍ ومُسَايَرةٍ وَسيَاسَةٍ ، عَسَى أن يَسمَحَ بإصدَارِ حَديثِ نَفسي ، وطِبَاعَةِ مَعَانيَ رُوحِي .
عَوداً عَلَى بَدءٍ ، إلَى ذلكَ الحُلُمِ الجَمِيلِ الذي فَقَدتَهُ ، ولمّا تَزلْ تلتَذُ بِهِ ، أتعلَمُ يَا صَاحِبي أنّ ثَمّةَ حُلُمٍ أجمَلُ مِن حُلُمِكَ الّذي رأيتَ ؟
حُلُمٍ رأيناهُ ولم نَعِشهُ ، كَلاّ بَل هُوَ رُؤيا صِدقٍ بيضَاءَ ناصِعَةٍ ، امتدّتْ مِئَات السّنينِ ، زَاخِرةً بالإمتَاعِ ، رافِلةً في الجَمَالِ ، مُنذُ أن أسرَجَ مُوسى بنُ نُصَيرٍ خيلَهُ عَلى ضِفافِ مَضيقِ جَبلِ طارقٍ ، حَتّى سَلّمَ أبُو عَبدِ اللهِ الصّغيرِ مَفاتِيحَ غِرنَاطَةَ لفرديناند ملكِ الأفرنجِ .
لَقَد كانَ بينَ هذينِ التّاريخَينِ عَهداً جَمِيلاً لا يشبِهُهُ عَهدٌ ، وَلَوحةً مَاتِعةً مِن أجمَلِ لَوحاتِ العِلمِ والأدبِ والبيَانِ ، ارتَسمَت مَلامِحُهَا عَلى صَحَائِفِ الدّهرِ حيناً ، وأشرَقت عَلى وِهادِ الأندَلُسِ وَسُهُولِهَا وأنهَارِهَا وَوِديَانِها ، بطَابِعٍ إسلاميٍّ خالِصٍ ، وَفنٍّ عَربيٍّ أصيلٍ ، لاَ يكَادُ مَن تَأمّل مَحَاسِنَهُ ، وَقلّبَ النّظرَ فِي أطرَافِهِ إلا أن يُرَدّدَ :
إنّي تَذكّرتُ والذّكرَى مُؤرّقَةٌ .. ( حُلماً جَميلاً ) بأيدينَا أضعنَاهُ
إنّ الأندَلُسَ بِتَاريخِهَا وفتُوحَاتِهَا ومُدُنِهَا وَجَنّاتِهَا وأنهَارِهَا وَعُلَمَائِهَا وأدَبَائِهَا وشُعَرَائِها بَل وَحتّى اسمِهَا العَسَْجديّ الفَاتِنِ تَحكِي ذلكَ الحُلُمَ الجَميلَ ، الّذي استَفقنَا عَلى فَقدِهِ ، وَلَم يبقَ لَنا إلا تَذكّرُ أحداثِهِ ، والوُقوفُ عَلى أطلاَلِهِ ، نَتَذَوّقُ جَمَالَهُ ، ونستَلِذّ بِهِ ، كَمَا تَذوّقهُ الشّاعِرُ الأندَلُسيُ حِينَ يَقُولُ :
فِي أرضِ أندَلُسٍ تَلتَذّ نَعمَاءُ .. ولا يُفارِقُ فِيهَا القَلبَ سَرّاءُ
وَليسَ فِي غَيرِهَا بِالعَيشِ مُنتَفَعٌ .. وَلا تَقومُ بحقّ الأُنسِ صَهباءُ
وأينَ يُعدَلُ عَن أرضٍ تَحُضّ بِها .. عَلى المُدَامَةِ أموَاهٌ وأفيَاءُ
وَكَيفَ لاَ يُبهِجُ الأبصَارَ رؤيَتَها .. وَكُلّ رَوضٍ بِها في الوَشيِ صَنعَاءُ
أنهَارُها فِضّةٌ ، والمِسكُ تربَتُها .. والخَزّ رَوضتُهَا ، والدّرّ حَصبَاءُ
ولِلهَواءِ بِها لُطفٌ يرقّ بهِ .. مَن لا يرقُ ، وتَبدُو مِنهُ أهوَاءُ
لَيسَ النّسيمُ الّذي يهفُو بِها سَحَراً .. ولا انتثارُ لآلي الطّلّ أندَاءُ
وإنّمَا أرَجُ النّدِّ استَثَارَ بِهَا .. فِي ماءِ وَردٍ فطَابَتْ مِنهُ أرجاءُ
وَأينَ يبلُغُ مِنهَا مَا أصَنّفُهُ .. وَكيفَ يَحوِي الّذي حَازَتهُ إحصَاءُ
دَارَت عليها نِطاقاً أبحُرٌ خَفقَت .. وجداً بها إذ تَبدّت وهْيَ حَسنَاءُ
لِذاكَ يبسُمُ فيهَا الزّهرُ مِن طَرَبٍ .. والطّيرُ يشدُو وللأغصانِ إصغَاءُ
فِيهَا خَلَعتُ عِذَاري مَا بِها عِوَضٌ .. فهيَ الرّياضُ ، وكُلّ الأرضِ صَحراءُ
وَهذِهِ أيّها الكِرامُ صَفحَةٌ جَامِعَةٌ ، بَلْ ذِكرَى حُلمٍ جَميلٍ غَابرٍ ، تَتَسَامَرُ فيهِ الأقلامُ كَمَا كانَت تَتَسامَرُ أمَامَ جَامِعِ قُرطُبَةَ ، أو فوقَ قَنطَرتِهَا ، وتُتَبَادَلُ الأخبَارُ والأشعَارُ مِثلَما كَانت تُتَبَادَلُ عَلى ضِفَافِ نَهر اشبيلية ، أو تَحتَ قَلعَةِ المَرية .
وأربُعِ أحبَابٍ إذا مَا ذَكرتُهَا .. بكيتُ ، وقَد يُبْكيكَ ما أنتَ ذاكِرُ
بِطَاحٌ وأدوَاحٌ يرُوقُكَ حُسنُهَا .. بكُلّ خَليجٍ نمنمتهُ الأزاهِرُ
فَمَاهوَ إلا فِضّةٌ فِي َزبَرجَدٍ .. تَسَاقَطَ فيهِ اللؤلؤُ المُتنَاثِرُ
بِحيثُ الصّبَا والتّربُ والمَاءُ والهَوى .. عبيرٌ وكَافُورٌ ورَاحٌ وعاطِرُ
وَما جَنّةُ الدنيَا سِوى مَا وَصفتُهُ .. وَمَا ضَمّ مِنْهُ الحُسنَ نَجدٌ وَحاجِرُ
بِلادي الّتي أهلِي بِها وأحِبّتي .. وَرُوحي وقَلبي والمُنى والخَوَاطِرُ
تُذَكّرُني أنجَادُهَا وَوِهَادُهَا .. عُهوداً مَضتْ لي وهْيَ خُضرٌ نَوَاضِرُ
إذِ العَيشُ صافٍ والزمَانُ مُسَاعِدٌ .. فلا العَيشُ مَملولٌ ولا الدّهرُ جَائِرُ
بِحَيثُ لَيَالينَا كَغَضّ شَبَابِنَا .. وأيّامُنَا سِلكٌ ونحنُ جَواهِرُ
لَيَاليَ كَانت للشّبِيبَة دَولةٌ .. بِهَا مَلكُ اللذاتِ ناهٍ وآمِرُ
سَلامٌ عَلى تِلكَ العُهُودِ فإنّهَا .. مَوَارِدُ أفرَاحٍ تَلتهَا مَصَادِرُ
هُنَا أمسِكُ العِنانَ ، وَللحَدِيثِ اتّصالٌ بإذنِ اللهِ فِي سِلسِلَةِ " لَيَالٍ أندَلسيّةٍ " ، نُسَافِرُ فِيهَا إلى فِردَوسِنَا الجَمِيلِ المَفقودِ ، نَرفُلُ وسطَ جَنّاتِهِ وأنهَارِهِ ودَوحِهِ ، ونتَضَوّعُ عبيرَ نَرجَسِهِ الفَوّاحِ ، وشَذَى أقحُوانِهِ العَابِقِ .
دُمتُمْ على خَيرٍ وتُقى