- 21 مارس 2009
- 192
- 1
- 0
- الجنس
- ذكر
بسم الله الرحمن الرحيم
إعجاز القرآن الكريم من جميع جوانبه لا سيما الجانب البياني و اللغوي فيه من البديهيات التي لا يتمارى فيها اثنان هكذا يقول العقل السليم و المنطق
الا ان التاريخ قد أشار الى أن هناك بعض المسلمين _ و لشد ما لاقى الإسلام من جهل اتباعه - من قال بغير ذلك و كان من هؤلاء شيخ المعتزلة و امام المتكلمين النظام و الاعجاز القرآني في نظر النظام مرجعه ليس الى اعجاز القرآن الذاتي في اختيار الالفاظ و انتقاء الاساليب و مراعاة مقتضى الحال و انما مرجعه ان الله تعالى بقدرته قد سلب من العرب قدرتهم على الاتيان بمثله و لولا ذلك لاستطاع العرب على الاتيان بمثل القرآن لو خلي بينهم و بين ذلك
ثم جاء عالم آخر من علماء الشيعة و هو الشريف المرتضى و رأى ان العرب في قدرتهم على الاتيان بمثل القرآن لكن عجزهم ان الله تعالى منعهم العلوم التي يستطيعون من خلالها محاكاة كتابه
وأياً كان الأمر في مفهوم الصرفة عند أصحاب القول بها، فقد تصدى العلماء لهذه الشبهة، واقتلعوها من جذورها، وبلغوا من ذلك مبلغاً لا مزيد عليه.
ومن أهم هؤلاء العلماء: الخطابي ( ت سنة 388 ) في كتابه: بيان إعجاز القرآن، والرماني ( ت سنة 386 ) في كتابه: النكت في القرآن. والباقلاني ( ت سنة 403 ) في كتابه: إعجاز القرآن... وعبد القاهر الجرجاني ( ت سنة 471 ) في كتابه: الرسالة الشافية في إعجاز القرآن.
استدل العلماء على بطلان القول بالصرفة بأدلة/ منها:
أولاً:لو كان الأمر على ما ذهبوا إليه، وكان الإعجاز بالصرفة حقاً، فإنه يلزم من ذلك أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان، وفي جودة النظم وشرف المعنى، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون، وأن تكون أشعارهم وخطبهم التي قاموا بها بعد أن سمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدوا إلى المعارضة قاصرة عما سمع منهم من قبل القصور الشديد.
وإذا كان الأمر كذلك، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة كانوا عليها، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، ولو عرفوه لجاء عنهم ذكره، ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به، ولكنك سحرتنا، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك: أن يتذاكروه فيما بينهم، ويشكو البعض إلى بعض، وإذا كان ذلك لك لم يرد، ولم يذكر أن كان منهم قول في هذا المعنى لا ما قال ولا ما كثر، فهذا دليل على أنه قول فاسد، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل. فإن قالوا: إنه نقصان حدث في فصاحتهم من غير أن يشعروا به، قيل لهم: إذا كانوا لم يشعروا بما حدث لهم من نقص ما فلا يتصور أن تقوم لهم حجة بالعجز عنه مثل القرآن.
ثانياً:لو سلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل القرآن في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم.
فلما لم يوجد في كلام من قبلهم مثله، علم أن ما دعاه القائل بالصرفة ظاهره البطلان.
ثالثاً: إن في سياق آية التحدي ما يدل على فساد هذا القول، وذلك أنه لا يقال عن الشيء يمنعه الإنسان بعد أن كان قادراً عليه ـ لا يقال في هذه الحالة: إني قد جئتكم بما لا تقدرون على مثله ولو احتشدتهم له، وإنما يقال: إني أعطيت أن أحول بينكم وبين كلام كنتم تستطيعونه وأمنعكم إياه وما شاكل ذلك. كما يقال مثلاً للأشداء، إن الآية أن تعجزوا عن رفع ما كان يسهل عليكم رفعه، فقد بان إذن ـ أنه لا مساغ لحمل الآية على ما ذهبوا إليه.
رابعاً: الأخبار التي جاءت عن العرب في شأن تعظيم القرآن، وفي وصفه به، من نحو أن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة.... الخ.
فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه، وهم يرون فيما قاله الأولون ما يوازيه.
وهكذا ساق العلماء الدليل تلو الدليل على بطلان القول بالصرفة، وتأكيد أن بلاغة القرآن تعود إلى أمر ذاتي فيه، جعله معجزاً للبشر.
هذا عن شبهة القول بالصرفة، أما عن شبهة أن القرآن الكريم قد تضمن ألفاظاً وأساليب ليست مما تقتضيه البلاغة، فقد فند العلماء أيضاً هذه الشبهة بردود مفحمة، من ذلك مثلاً ما ذكره الخطابي في رده على بعض ما أثاروه من شبهات.
فقد قال المشككون في قوله تعالى: (قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف].
قالوا: إنما يستعمل في فعل السباع خصوصاً ( الافتراس ) يقال: افترسه السبع، هذا هو المختار الفصيح في منعاه، فأما ( فأكله ) فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان.
ويرد الخطابي قائلاً. فإما قوله تعالى فأكله الذئب فإن الافتراس معناه في فعل السبع والقتل. فحسب، وأصل الفرس ـ دق العنق، والقوم إنما ادعوا على الذئب أنه أكله أكلاً، وأتى على جميع أجزائه. وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم لهم بأثر باق منه، يشهد بصحة ما قالوه، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى. وبهذا يكون اللفظ القرآني قد وقع مطابقاً للمعنى المراد.
وإليكم نموذجاً آخر.
قال تعالى: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم )[سورة ص] قال المشككون: المشي ـ في هذا ليس بأبلغ الكلام، ولو قيل بدل ذلك: امضوا وانطلقوا ـ لكان أبلغ وأحسن.
ويرد الخطابي:أن المشي ـ في هذا المحل أولى وأشبه بالمعنى، وذلك لأنه إنما قصد الاستمرار على العادة الجارية، في غير انزعاج منهم، ولا انتقال عن الأمر الأول، وذلك أشبه بالثبات والصبر على الأمر المأمور به في قوله واصبروا والمعنى: كأنهم قالوا: امشوا على هيأتكم، ولا تبالوا بقوله.
ولو قيل: امضوا وانطلقوا... لكان فيه زيادة انزعاج ليس في قوله ( امشوا ) والقوم لم يقصدوا ذلك ولم يريدوه.
فالخطابي هنا يربط بين المقام واختيار اللفظ الملائم له دون غيره، فلما كان الملأ من قريش يريدون أن يشعروا أتباعهم بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يستحق الاهتمام به، ولا الاكتراث له، لأنه ظاهر البطلان في زعمهم، فالواجب تجاهله تمام، كأن شيئاً لم يحدث، وأن أفضل ما نواجهه به نمضي في حياتنا، ونتناسى الأمر كله، وهذا المقام استدعى التعبير ـ امشوا ـ لأنه هو الملائم لما يريدون أيهما إتباعهم به.
أما امضوا وانطلقوا ـ فلا تناسب المقام كما توحي به من الانزعاج وتغيير العادة الرتيبة التي اعتادوها، والأمر ليس كذلك ـ في زعمهم ـ بالنسبة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أقل من أن يأبهوا له.
وذلك منهم في تضليل أتباعهم وطمس معالم الحقيقة عنهم.
وهكذا يمضي الخطابي وغيره من علماء تلك الفترة يوردون الشبهات ويفندونها بما كشف عن وجده الحق في البلاغة القرآنية.
ننتقل الآن إلى ما أنجزه علماء هذه المرحلة، من بحوث علمية دقيقة، تبرز السمات الموضوعية التي اتسم بها الأسلوب القرآني، وتصل ببلاغته إلى حد الإعجاز.
نبدأ أولاً:بما أبرزه علماء هذه المرحلة، من تعدد وجه الإعجاز القرآني، وأنهم قسموا وجوه الإعجاز قسمين، الأول الوجه المعجز الذي وقع به التحدي، وهو الإعجاز البلاغي وحده، لأنه الوجه المطرد في كل سورة من سور القرآن الكريم، وقد كان التحدي بأن يأتوا بسورة من سوره، والوجه الذي يعتبر القاسم المشترك في كل السور إنما هو الإعجاز البلاغي.
القسم الثاني:وجود معجزة في ذاتها لكن لم يقع بها التحدي، كالإخبار بالغيب، وما تضمنه القرآن من علوم ومعارف لا يتهيأ لبشر الإحاطة بها... إلى غير ذلك من الوجوه المعجزة للبشر التي سنتعرض لبعضها.
وبهذا كان القرآن الكريم معجزاً للعالم كله، فطبيعة الرسالة الإسلامية هي التي تستوجب هذا التعدد في الجوانب المعجزة بالقرآن الكريم، فهي ـ كما سبق أن أوضحنا ـ خاتمة الرسالات، كما أنها موجهة إلى الجنس البشري كله، وهذه الخصائص التي انفردت بها دون سائر الرسالات اقتضت أن تكون معجزتها أمراً معجزاً في هذا الإطار الممتد عبر الزمن إلى يوم الدين، وعبر العالم كله بما يضم من أجناس وشعوب وثقافات ومذاهب.
ومن هنا قسم العلماء البشر في إدراك الإعجاز القرآني في ثلاثة أقسام:
أول الأقسام:من تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقه ومذاهبه ـ كالعرب الذين نزل فيهم القرآن، ومن أتى بعدهم ممن راض نفسه بالعلم واكتملت لديه آلة التمييز بين الأساليب وخصائصها، وهذا القسم يدرك الإعجاز القرآني إدراكاً ضرورياً لا يحتاج معه إلى بحث أو تدقيق. ويكفيه في ذلك التأمل والتصور.
القسم الثاني:وهو المقابل للقسم الأول، ويضم هذا القسم من ليسوا من أصحاب اللسان العربي، على ثقافتهم وحضاراتهم، وهؤلاء يمكنهم إدراك الإعجاز القرآني عن طريق الاستدلال العقلي، بأن يعلموا عجز العرب ـ وهم أهل اللسان الذي نزل به أذن أشد عجزاً منهم.
كما يمكنهم إدراك الإعجاز القرآني من خلال معرفتهم بالوجوه الأخرى التي اقتضتها حكمة الله ورحمته، فغير العربي يجد في هذه الوجوه الأخرى إعجازاً يلزمه بالتصديق بأن هذا الكتاب من عند الله، وأن ما تضمنه هو شرع الله الواجب الإتباع.
وهذه الوجوه في تعددها واختلاف طبيعتها وافية تماماً بالإلزام على مدى التاريخ، ولكل الأجناس والشعوب، وستظل كذلك ـ إن شاء الله ـ ما بقيت الحياة.
والعجيب في الأمر: أن إدراك الإعجاز في الوجوه التي تضمنها القرآن الكريم التي لم يتحد بها العرب الأوائل أمر ميسور لا يتطلب سوى صدق التوجه والاستعداد لقبول الحق.
لأن هذه الوجوه تعود إلى ضوابط موضوعية ملزمة لكل عاقل، وهل يجادل أحد في أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يستطيع كبشر أن يخترق حجب الغيب ويخبر عما كان وما سيكون منها، إذاً لا بد أنه يستمد ذلك من قوة أعلى من البشر، وهل يجادل أحد في أنه عليه السلام، لا يستطيع ـ كبشر ـ أن يأتي من العلوم الكونية والإنسانية ما لا يدرك البشر بعضه إلا بعد مرور قرون متطاولة.
وقل مثل هذا في جميع الوجوه المعجزة التي تضمنها القرآن الكريم، ولم يتحد بها العرب الأوائل.
القسم الثالث:من كان من أهل اللسان العربي، إلا أنه لم يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة وجوه تصرف اللغة، وطرق الأساليب. وهؤلاء عليهم أن يأخذوا أنفسهم بدراسة الأساليب وحدود البلاغة ـ ومواقع البيان، إلى غير ذلك مما يؤهلهم لإدراك ما في القرآن الكريم من بلاغة معجزة، وإلا فليكتفوا بالاستدلال العقلي وبالوجوه الأخرى الدالة على الإعجاز، كما هو الشأن فيمن ليسوا من أهل العربية.
منقول ببعض التصرف
إعجاز القرآن الكريم من جميع جوانبه لا سيما الجانب البياني و اللغوي فيه من البديهيات التي لا يتمارى فيها اثنان هكذا يقول العقل السليم و المنطق
الا ان التاريخ قد أشار الى أن هناك بعض المسلمين _ و لشد ما لاقى الإسلام من جهل اتباعه - من قال بغير ذلك و كان من هؤلاء شيخ المعتزلة و امام المتكلمين النظام و الاعجاز القرآني في نظر النظام مرجعه ليس الى اعجاز القرآن الذاتي في اختيار الالفاظ و انتقاء الاساليب و مراعاة مقتضى الحال و انما مرجعه ان الله تعالى بقدرته قد سلب من العرب قدرتهم على الاتيان بمثله و لولا ذلك لاستطاع العرب على الاتيان بمثل القرآن لو خلي بينهم و بين ذلك
ثم جاء عالم آخر من علماء الشيعة و هو الشريف المرتضى و رأى ان العرب في قدرتهم على الاتيان بمثل القرآن لكن عجزهم ان الله تعالى منعهم العلوم التي يستطيعون من خلالها محاكاة كتابه
وأياً كان الأمر في مفهوم الصرفة عند أصحاب القول بها، فقد تصدى العلماء لهذه الشبهة، واقتلعوها من جذورها، وبلغوا من ذلك مبلغاً لا مزيد عليه.
ومن أهم هؤلاء العلماء: الخطابي ( ت سنة 388 ) في كتابه: بيان إعجاز القرآن، والرماني ( ت سنة 386 ) في كتابه: النكت في القرآن. والباقلاني ( ت سنة 403 ) في كتابه: إعجاز القرآن... وعبد القاهر الجرجاني ( ت سنة 471 ) في كتابه: الرسالة الشافية في إعجاز القرآن.
استدل العلماء على بطلان القول بالصرفة بأدلة/ منها:
أولاً:لو كان الأمر على ما ذهبوا إليه، وكان الإعجاز بالصرفة حقاً، فإنه يلزم من ذلك أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان، وفي جودة النظم وشرف المعنى، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون، وأن تكون أشعارهم وخطبهم التي قاموا بها بعد أن سمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدوا إلى المعارضة قاصرة عما سمع منهم من قبل القصور الشديد.
وإذا كان الأمر كذلك، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة كانوا عليها، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، ولو عرفوه لجاء عنهم ذكره، ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به، ولكنك سحرتنا، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك: أن يتذاكروه فيما بينهم، ويشكو البعض إلى بعض، وإذا كان ذلك لك لم يرد، ولم يذكر أن كان منهم قول في هذا المعنى لا ما قال ولا ما كثر، فهذا دليل على أنه قول فاسد، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل. فإن قالوا: إنه نقصان حدث في فصاحتهم من غير أن يشعروا به، قيل لهم: إذا كانوا لم يشعروا بما حدث لهم من نقص ما فلا يتصور أن تقوم لهم حجة بالعجز عنه مثل القرآن.
ثانياً:لو سلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل القرآن في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم.
فلما لم يوجد في كلام من قبلهم مثله، علم أن ما دعاه القائل بالصرفة ظاهره البطلان.
ثالثاً: إن في سياق آية التحدي ما يدل على فساد هذا القول، وذلك أنه لا يقال عن الشيء يمنعه الإنسان بعد أن كان قادراً عليه ـ لا يقال في هذه الحالة: إني قد جئتكم بما لا تقدرون على مثله ولو احتشدتهم له، وإنما يقال: إني أعطيت أن أحول بينكم وبين كلام كنتم تستطيعونه وأمنعكم إياه وما شاكل ذلك. كما يقال مثلاً للأشداء، إن الآية أن تعجزوا عن رفع ما كان يسهل عليكم رفعه، فقد بان إذن ـ أنه لا مساغ لحمل الآية على ما ذهبوا إليه.
رابعاً: الأخبار التي جاءت عن العرب في شأن تعظيم القرآن، وفي وصفه به، من نحو أن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة.... الخ.
فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه، وهم يرون فيما قاله الأولون ما يوازيه.
وهكذا ساق العلماء الدليل تلو الدليل على بطلان القول بالصرفة، وتأكيد أن بلاغة القرآن تعود إلى أمر ذاتي فيه، جعله معجزاً للبشر.
هذا عن شبهة القول بالصرفة، أما عن شبهة أن القرآن الكريم قد تضمن ألفاظاً وأساليب ليست مما تقتضيه البلاغة، فقد فند العلماء أيضاً هذه الشبهة بردود مفحمة، من ذلك مثلاً ما ذكره الخطابي في رده على بعض ما أثاروه من شبهات.
فقد قال المشككون في قوله تعالى: (قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف].
قالوا: إنما يستعمل في فعل السباع خصوصاً ( الافتراس ) يقال: افترسه السبع، هذا هو المختار الفصيح في منعاه، فأما ( فأكله ) فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان.
ويرد الخطابي قائلاً. فإما قوله تعالى فأكله الذئب فإن الافتراس معناه في فعل السبع والقتل. فحسب، وأصل الفرس ـ دق العنق، والقوم إنما ادعوا على الذئب أنه أكله أكلاً، وأتى على جميع أجزائه. وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم لهم بأثر باق منه، يشهد بصحة ما قالوه، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى. وبهذا يكون اللفظ القرآني قد وقع مطابقاً للمعنى المراد.
وإليكم نموذجاً آخر.
قال تعالى: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم )[سورة ص] قال المشككون: المشي ـ في هذا ليس بأبلغ الكلام، ولو قيل بدل ذلك: امضوا وانطلقوا ـ لكان أبلغ وأحسن.
ويرد الخطابي:أن المشي ـ في هذا المحل أولى وأشبه بالمعنى، وذلك لأنه إنما قصد الاستمرار على العادة الجارية، في غير انزعاج منهم، ولا انتقال عن الأمر الأول، وذلك أشبه بالثبات والصبر على الأمر المأمور به في قوله واصبروا والمعنى: كأنهم قالوا: امشوا على هيأتكم، ولا تبالوا بقوله.
ولو قيل: امضوا وانطلقوا... لكان فيه زيادة انزعاج ليس في قوله ( امشوا ) والقوم لم يقصدوا ذلك ولم يريدوه.
فالخطابي هنا يربط بين المقام واختيار اللفظ الملائم له دون غيره، فلما كان الملأ من قريش يريدون أن يشعروا أتباعهم بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يستحق الاهتمام به، ولا الاكتراث له، لأنه ظاهر البطلان في زعمهم، فالواجب تجاهله تمام، كأن شيئاً لم يحدث، وأن أفضل ما نواجهه به نمضي في حياتنا، ونتناسى الأمر كله، وهذا المقام استدعى التعبير ـ امشوا ـ لأنه هو الملائم لما يريدون أيهما إتباعهم به.
أما امضوا وانطلقوا ـ فلا تناسب المقام كما توحي به من الانزعاج وتغيير العادة الرتيبة التي اعتادوها، والأمر ليس كذلك ـ في زعمهم ـ بالنسبة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أقل من أن يأبهوا له.
وذلك منهم في تضليل أتباعهم وطمس معالم الحقيقة عنهم.
وهكذا يمضي الخطابي وغيره من علماء تلك الفترة يوردون الشبهات ويفندونها بما كشف عن وجده الحق في البلاغة القرآنية.
ننتقل الآن إلى ما أنجزه علماء هذه المرحلة، من بحوث علمية دقيقة، تبرز السمات الموضوعية التي اتسم بها الأسلوب القرآني، وتصل ببلاغته إلى حد الإعجاز.
نبدأ أولاً:بما أبرزه علماء هذه المرحلة، من تعدد وجه الإعجاز القرآني، وأنهم قسموا وجوه الإعجاز قسمين، الأول الوجه المعجز الذي وقع به التحدي، وهو الإعجاز البلاغي وحده، لأنه الوجه المطرد في كل سورة من سور القرآن الكريم، وقد كان التحدي بأن يأتوا بسورة من سوره، والوجه الذي يعتبر القاسم المشترك في كل السور إنما هو الإعجاز البلاغي.
القسم الثاني:وجود معجزة في ذاتها لكن لم يقع بها التحدي، كالإخبار بالغيب، وما تضمنه القرآن من علوم ومعارف لا يتهيأ لبشر الإحاطة بها... إلى غير ذلك من الوجوه المعجزة للبشر التي سنتعرض لبعضها.
وبهذا كان القرآن الكريم معجزاً للعالم كله، فطبيعة الرسالة الإسلامية هي التي تستوجب هذا التعدد في الجوانب المعجزة بالقرآن الكريم، فهي ـ كما سبق أن أوضحنا ـ خاتمة الرسالات، كما أنها موجهة إلى الجنس البشري كله، وهذه الخصائص التي انفردت بها دون سائر الرسالات اقتضت أن تكون معجزتها أمراً معجزاً في هذا الإطار الممتد عبر الزمن إلى يوم الدين، وعبر العالم كله بما يضم من أجناس وشعوب وثقافات ومذاهب.
ومن هنا قسم العلماء البشر في إدراك الإعجاز القرآني في ثلاثة أقسام:
أول الأقسام:من تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقه ومذاهبه ـ كالعرب الذين نزل فيهم القرآن، ومن أتى بعدهم ممن راض نفسه بالعلم واكتملت لديه آلة التمييز بين الأساليب وخصائصها، وهذا القسم يدرك الإعجاز القرآني إدراكاً ضرورياً لا يحتاج معه إلى بحث أو تدقيق. ويكفيه في ذلك التأمل والتصور.
القسم الثاني:وهو المقابل للقسم الأول، ويضم هذا القسم من ليسوا من أصحاب اللسان العربي، على ثقافتهم وحضاراتهم، وهؤلاء يمكنهم إدراك الإعجاز القرآني عن طريق الاستدلال العقلي، بأن يعلموا عجز العرب ـ وهم أهل اللسان الذي نزل به أذن أشد عجزاً منهم.
كما يمكنهم إدراك الإعجاز القرآني من خلال معرفتهم بالوجوه الأخرى التي اقتضتها حكمة الله ورحمته، فغير العربي يجد في هذه الوجوه الأخرى إعجازاً يلزمه بالتصديق بأن هذا الكتاب من عند الله، وأن ما تضمنه هو شرع الله الواجب الإتباع.
وهذه الوجوه في تعددها واختلاف طبيعتها وافية تماماً بالإلزام على مدى التاريخ، ولكل الأجناس والشعوب، وستظل كذلك ـ إن شاء الله ـ ما بقيت الحياة.
والعجيب في الأمر: أن إدراك الإعجاز في الوجوه التي تضمنها القرآن الكريم التي لم يتحد بها العرب الأوائل أمر ميسور لا يتطلب سوى صدق التوجه والاستعداد لقبول الحق.
لأن هذه الوجوه تعود إلى ضوابط موضوعية ملزمة لكل عاقل، وهل يجادل أحد في أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يستطيع كبشر أن يخترق حجب الغيب ويخبر عما كان وما سيكون منها، إذاً لا بد أنه يستمد ذلك من قوة أعلى من البشر، وهل يجادل أحد في أنه عليه السلام، لا يستطيع ـ كبشر ـ أن يأتي من العلوم الكونية والإنسانية ما لا يدرك البشر بعضه إلا بعد مرور قرون متطاولة.
وقل مثل هذا في جميع الوجوه المعجزة التي تضمنها القرآن الكريم، ولم يتحد بها العرب الأوائل.
القسم الثالث:من كان من أهل اللسان العربي، إلا أنه لم يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة وجوه تصرف اللغة، وطرق الأساليب. وهؤلاء عليهم أن يأخذوا أنفسهم بدراسة الأساليب وحدود البلاغة ـ ومواقع البيان، إلى غير ذلك مما يؤهلهم لإدراك ما في القرآن الكريم من بلاغة معجزة، وإلا فليكتفوا بالاستدلال العقلي وبالوجوه الأخرى الدالة على الإعجاز، كما هو الشأن فيمن ليسوا من أهل العربية.
منقول ببعض التصرف