إعلانات المنتدى


العلامة الدكتور محمد راتب النابلسي

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


"الفرقان" تستعرض عوامل النجاح والتميز في حياة الدعاة إلى الله
وتُسلِّط الضوء على ما لا يعرفه الكثيرون عن الحياة الخاصة للنابلسي

النابلسي:
• نشأت يتيماً وربَّتني أمي مع إخوتي في أوضاع كانت غاية في الصعوبة
• حمدت الله كثيراً حين صرفني عن كلية التربية ودفعني إلى كلية الآداب لأهميتها في الدعوة
• أمارس الرياضة يومياً، وأعتني بنوعية غذائي؛ لاعتقادي بأن الإسلام دين لإصلاح الحياة كلها
• أُكنُّ لجمعيتكم كلَّ احترام وتقدير، وأتحدَّث عنها في مجالسي وأضرب بها الأمثلة
حاوره في سوريا: المحامي الشرعي نضال العبادي
عضو مجلس إدارة جمعية المحافظة على القرآن الكريم

بطاقة تعريف
الدكتور "محمد راتب" عبد الله النابلسي ولد في دمشق عام (1938م)، ونشأ في أسرة معروفة بالعلم الشرعي؛ فوالده كان من علماء دمشق وترك مكتبة كبيرة تضم بعض المخطوطات، وجدُّه السابع العالم المعروف عبد الغني النابلسي المتوفى (1143هـ-1731م)، وللدكتور ولدان وثلاث بنات، وكنيته أبووسيم.
تلقى الدكتور النابلسي تعليمه المدرسي بدمشق، ثم التحق بمعهد إعداد المعلمين، وتخرَّج منه عام (1956م)، ثم حصل على ليسانس في آداب اللغة العربية وعلومها من جامعة دمشق عام (1964م)، ودبلوم التأهيل التربوي من نفس الجامعة عام (1966م) بتفوُّق، ثم التحق بجامعة (ليون) فرع لبنان وحصل على درجة الماجستير في الآداب، وفي عام (1999م) حصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة (دوبلن) في إيرلندا في موضوع (تربية الأولاد في الإسلام).
طلب العلم الشرعي في وقت مبكر من حياته، ونال إجازة في رواية الحديث الشريف من أستاذه الدكتور صبحي الصالح - أستاذ علوم القرآن والحديث وفقه اللغة في جامعة دمشق.
عمل الدكتور النابلسي مدرساً للمرحلة الثانوية، ثم محاضراً في كلية التربية بجامعة دمشق من عام (1969م) وحتى عام (1999م)، ثم أستاذاً لمواد الإعجاز العلمي في القرآن والسنة والعقيدة وأصول الدين في عدد من الجامعات.
وله جملة من الدروس والخُطب والندوات والحواريات في عدد من الإذاعات العربية، وفي مجال البث التلفزيوني يقدم الدكتور النابلسي دروساً وبرامج تبثها محطات عديدة.
ومن أبرز مؤلفاته: "موسوعة الأسماء الحسنى"، و"موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة/ آيات الله في الآفاق، آيات الله في الإنسان"، و"نظرات في الإسلام"، و"تأملات في الإسلام"، وكلها تُرجمت إلى اللغة الإنكليزية، و"ومضات في الإسلام"، و"كلمات مضيئة ولقاءات مثمرة مع الشعراوي"، و"الإسراء والمعراج"، و"الهجرة"، و"الله أكبر"، و"مقومات التكليف"، و"الرد على البابا".
موقع الدكتور النابلسي على الإنترنت: (www.nabulsi.com)، ويُعدُّ من أوائل المواقع الإسلامية من حيث عدد زواره.
الفرقان: في البداية نشكر لكم في جمعية المحافظة على القرآن الكريم تفضلكم بتلبية دعوتنا للمشاركة في حفلنا (واشوقاه رسول الله) الذي أقمناه في أكبر صالة أردنية نهاية شهر آذار الماضي بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، ونقول: جزاك الله عنا خير الجزاء على ما قدَّمت وأفدت وأجدت، ويسعدنا أن تكون ضيفنا على صفحات (الفرقان).
د. النابلسي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
جزاكم الله خيراً، وأكرمكم وأعلى قدركم وشأنكم، وأنا لا أملك إلا أن أقول لكم: "إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك؛ فانظر فيما استعملك وأقامك". وسأستشهد بأفضل الكلام وهو كلام الله تعالى، فعندما أقرأ قوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}؛ لا أرى إنساناً أعظم ولا أكثر فلاحاً ونجاحاً وتفوقاً وتألقاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وأهنئ كل إنسان أذن الله له بأن يكون داعية إليه؛ فهذا المقام هو أعلى المقامات عند الله، ولا تنس أخي بأن الإنسان حينما يتعرف إلى الله ويُقبل عليه بسبب دعوتك له؛ فإنه هو وكل من يتبعه من أهل وذرية.. سيكونون في صحيفة أعمالك، بل إن كل من دللته على الخير لك منه نصيب؛ فالدال على الخير كفاعله، وهذا من مقتضيات قوله تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}، وأنتم في هذه الجمعية المباركة أسأل الله تعالى أن يكتب لكم هذا الفضل العظيم.
الفرقان: نود لو تُطلع قراء (الفرقان) على جانب مما لم ينشر من سيرتكم الذاتية.
د. النابلسي: لقد نشأت يتيماً؛ إذ توفي والدي رحمه الله قبل أن أعرفه، وقامت أمي بتربيتي أنا وإخوتي، وكنا أسرة مكونة من أربعة أفراد، وكانت أوضاعنا كلها في غاية الصعوبة، ثم دخلت كلية التربية بالجامعة، وكنت حينها حاصلاً على ما يسمى بـ(أهلية التعليم الابتدائي)، والتي تمكنني من الدخول إلى كلية التربية، لكنني لم أتابع هذا الاختصاص لأسباب عديدة، ونظراً لكوني لم أكن حاصلاً على شهادة الثانوية العامة فقد صِرت خارج الجامعة..
وهذا شكَّل لي دافعاً جديداً لنيل الشهادة الثانوية التي أهلتني لدخول كلية اللغة العربية، ومن ثم حمدت الله وشكرته كثيراً وزدت حبّاً له حين صرفني عن كلية التربية، ودفعني إلى كلية الآداب؛ لأن هذا الفرع له الأهمية الكبيرة في نجاح الدعوة، وبذلك منَّ الله عليَّ بقدرة على توصيل مرادي وانتشار دروسي ومحاضراتي؛ بحيث تكون في متناول الجميع، وضمن استيعابهم وطاقتهم العقلية بحيث يفهمها العالم والعامي.
الفرقان: الكثيرون من محبيك لا يعرفون أنك من مواليد (1938م)، ويظنون أنك في الخمسينات من العمر، فما هو سر هذه الحيوية والنشاط؟!
د. النابلسي: أنا لي برنامج صباحي شبه يومي أمارس فيه الرياضة لمدة ساعة تقريباً يتخللها السباحة و(الساونا)، وأعتني بنوعية غذائي كثيراً؛ ليكون معيناً على أداء مهمتي في الدعوة، ولي أيضاً دروس في الصحة والتغذية والرياضة؛ لاعتقادي أن الإسلام دين لإصلاح الحياة كلها، وكم تمنيت أن تتضمن دروس العلماء تثقيفاً رياضيّاً وصحيّاً، وقد صدق من قال: قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت.
الله تعالى صمم الكون والجسم على قوانين لا يخرقها إلا للأنبياء؛ حتى يتحدّوا بها الناس، وهذه حالة خاصة استثنائية لا يقاس عليها، وبناء عليه فأنا لا أجرؤ أن أسأل الله الصحة وأنا أخالف قواعدها، وما لم أطبق منهج الله عز وجل في جسمي وطعامي وشرابي وحركتي فلن أنتظر من الله أن يخرق لي القوانين، وأرى أنه من تمام الأدب مع الله أن تخضع لكلام الطبيب لأنه يُمثّل منهج الله في صحتك؛ فالخضوع للطبيب شيء من العبادة لله عز وجل، والباقي من شفاء وصحة فَبِيَدِ الله وحده، أنا اعترف بأننا دول نامية وفقيرة، ولكن بسبب نقص الوعي ندفع الملايين والمليارات على صحتنا.
فمثلاً مرض (التلاسيميا) يصيب الدم فيجعل المصاب به بحاجة إلى تغيير دمه مرة كل أسبوعين، فلو كان في بلدنا (2000) مريض فنحن بحاجة إلى (160) مليار ليرة كلفة هؤلاء المرضى، مع أن هذا المرض يتلاشى في البلاد الواعية، فإيطاليا فيها (72) مليون نسمة وليس بها إلا (4) حالات، وفي المقابل هناك بلاد إسلامية قد يكون تعدادها (20) مليون نسمة فيهم (30) ألف مصاب! وهذا أمر مخيف، وكذلك مرض السكري يوجد (550) ألف مريض سكر في عاصمة إسلامية واحدة، (42%) من هذه الحالات تؤدي إلى مضاعفات كالشلل وفقد البصر والفشل الكلوي بسبب قلة الوعي، بينما في ألمانيا (4% ) فقط من المصابين أدى مرضهم إلى شلل أو فقد بصر أو فشل كلوي.
الفرقان: الكثيرون يظنون بأنك طبيب؛ حتى إن الدكتور طارق سويدان حينما قدّمك قدّمك كطبيب، فما هي الحقيقة؟!
د. النابلسي: دُعينا إلى مؤتمر حول (الحرية) في الكويت، وكان الدكتور طارق موجوداً، وفتح الله عليَّ فتكلمت عن الإعجاز العلمي وعن المشيمة وعن أدق دقائق جسم الإنسان، وهذا جعل الدكتور طارق يقدمني كطبيب حيث غلب على ظنه بأني طبيب! فأخبرته فوراً بأنني لست طبيباً وبأن اختصاصي الأصلي في الأدب العربي ثم التربية، وأنني أحمل درجة (الدكتوراه) من كلية التربية!
الفرقان: تفاجأت وأنا أقرأ سيرتك الذاتية بأنك نلت درجة (الدكتوراه) عام (1999م) وكان عمرك المبارك وقتها (61) عاماً، وهذا يدل على طموح وأمل كبيرين، فهل مِن كلمة لكبار السن خاصة وأن عندنا في الجمعية طلبة على مقاعد الدراسة من الجنسين ممن تجاوزوا الستين والسبعين وبعضهم حفظ القرآن الكريم كاملاً.
د. النابلسي: سأروي لكم قصة اهتزت لها مشاعري من الأعماق، أخبرني بها أحد أكبر علماء دمشق وهو الشيخ محمد سكر، وخلاصتها أن رجلاً أميّاً من صعيد مصر -يُلقَّب بـ(الأنصاري)- أرسل ابنه إلى الأزهر، وعاد الابن بعد (5) سنوات خطيباً في جامع القرية، وفي أول خطبة له بكى الأب بكاء مُرّاً.. توهم الحاضرون أنه يبكي فرحاً بابنه، ثم علموا بعد ذلك أنه يبكي أسفاً على نفسه وكيف أمضى حياته جاهلاً، وفي اليوم التالي ركب دابته وتوجه من الصعيد إلى القاهرة مسيرة شهر، وعند وصوله إلى القاهرة سأل: أين (الأزعر)؟! -يقصد الأزهر- فقيل له: يا رجل أي أزعر؟! هناك الجامع الأزهر! المهم أنه بدأ يقرأ ويكتب وهو ابن خمسة وخمسين عاماً، وتابع دراسته وتعلم القرآن ولم يمت إلا وهو شيخ الأزهر، وكان ابن ستة وتسعين عاماً.
هذه القصة تعطيني حافزاً أن أتعلم ما دمت حيّاً، ولعلك تعجب حين أقول لك بأنه يدرس على يدي سنويّاً طلبة أجانب غير عرب في الثمانين من العمر أدرسهم بعض المواد الإسلامية؛ فالعلم ليس له سن إطلاقاً، وقد صدق من قال: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، واعلم أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كُلَّك، أما إذا أعطيته بعضك فلن يعطيك شيئاً".
الفرقان: علمتُ بأنك على الرغم من هذا العمر الجليل تبدأ عملك وتحضيرك يوميّاً من الساعة (3.30) صباحاً، وأنك تُحضِّر قبل إلقائك لدروسك حتى وإن كانت مكررة، فهلا حدثتنا عن ذلك؟
د. النابلسي: الحمد لله هذا صحيح، فدرسي اليومي على قناة الرسالة يُسجَّل يوميّاً بعد صلاة الفجر مباشرة، وأحياناً أقضي وقتاً طويلاً لتحضير الدرس أتابعه كلمة كلمة ومعنى معنى وحركة حركة.. لأن الداعية يجب أن يحترم من يستمع إليه، وأنا استمتع بالتحضير استمتاعاً يفوق الخيال، وأعتبره أمانة، وبما أن درسي يُبثُّ على مستوى القارات الخمس، وتشاهده أطياف متعددة؛ فأحاول أن لا أدع لأحد مأخذاً يأخذه عليَّ.
الفرقان: يتساءل طلبة العلم عن مصادرك والكتب الرئيسة التي ساهمت في بناء ثقافتك.
د. النابلسي: في تفسير القرآن مثلاً وجدت كل تفسير يُعبِّر عن صاحبه، وقد تأثرت بتفسير القاسمي "محاسن التأويل" لأنه تفسير منضبط، كما تأثرت بتفسير القرطبي في الأحكام، وبتفسير الشعراوي، وفي علم أصول الفقه مرجعي الأول هو كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي الذي أعتبره أُمّاً لكتب الأصول، وكلها عالة عليه، وفي الفقه أحب كتاب "فقه السنة" للسيد سابق، وأراه كتاباً بسيطاً معتمداً على الدليل، وليس فيه تعصب لمذهب من المذاهب، ويمكن للمسلم أن يتعلم الفقه من كتبه التي تحوي الأدلة، أما كتب الفقه الخالية من الأدلة فلا تعلمنا إلا أحكاماً سريعة النسيان، وفي السيرة النبوية تأثرت كثيراً بكتاب "صور من حياة الرسول " لأمين دويدار، وفي سير الصحابة رضوان الله عليهم كتاب "صور من حياة الصحابة" للدكتور عبد الرحمن الباشا، وقد امتاز بأسلوبه الأدبي الرائع، وفي كتب التزكية تأثرت بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، وأراه أول كتاب تصوف منضبط بالنصوص الصحيحة وأقوال السلف الصالح ثم أقوال العلماء الربانيين.
أما طلبة العلم فليسوا سواء، ومن هنا كان لا بد لكل طالب من عالم مربٍّ يرشده إلى ما يناسبه من المراجع علماً وتربية.
الفرقان: عرفك محبوك مرحاً وصاحب دعابة، ويسعد من يجلس معك وخاصة من الشباب صغار السن، فهل في ذلك مخالفة شرعية أم أن له علاقة بالدعوة والنجاح فيها؟
د. النابلسي: إن الداعية الكهنوتي الذي يحيط نفسه بهالة من القداسة والعبوس لا يحبه الناس، ومن ثم لا يستمعون له ولا يقتدون به.. أنا لا أحب هذا النوع من الدعاة، ولا أحب أن أكون مثلهم؛ فأنا أحب البساطة ولا أطيق التصنع، يوجد شيء اسمه المرح الهادف، والداعية أحياناً بطُرْفة واحدة يستغني عن مئات الكلمات الموضحة؛ كالصورة المعبرة تستغني بها عن مئات الكلمات، وهذا يُلطِّف الأجواء ويُقرِّب القلوب ويروِّحها.
الفرقان: قلة مِن الناس مَن يصل حديثهم إلى العقول والقلوب والأرواح معاً ومباشرة، ونحن نحسبك من هؤلاء، بل إن بعضنا يحب أن يلقبك بشيخ القلوب والعقول والأرواح، خاصة وأن دروسك كلها تجمع بين العلم والتربية ، في ظل كثرة المعلمين وقلة المربين.
د. النابلسي: والله أنا عبد فقير، ولست محترفاً، واسمّي نفسي داعية هاوياً، والنجاح في الحياة رزق من الله تعالى وفضل منه سبحانه، وقد أوضحت في كتابي "نظرات في الإسلام" أن المنهج الأمثل للدعوة إلى الله هو المنهج المستنبط من الكتاب والسنة، وذكرت من ملامح هذا المنهج: (التعريف بالأمر قبل الأمر، والأصول قبل الفروع، والقدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، والترغيب قبل الترهيب، والتيسير لا التعسير، والتفهيم لا التلقين، والتربية لا التعرية، والتدرج لا الطفرة، والمتفق عليه لا المختلف عليه، ومخاطبة العقل والعاطفة معاً، واعتماد الدليل والتعليل، والتركيز على المبادئ لا الأشخاص، والمضامين لا العناوين، والتأكيد على الكلية المعرفية في الدين والكلية السلوكية والكلية الجمالية). وقد التزمت بهذا المنهج ولله الحمد والمنة.
كما أخذت ببعض الأسباب للنجاح والتي منها أنني أبعدت الدعوة إلى الله عن المكاسب الدنيوية، حيث إنني أمارس عملاً تجاريّاً ناجحاً جداً أرعاه وأشرف عليه بمعية شريك فاضل معنيٍّ بالأمور التفصيلية، لدينا بفضل الله وكالات تجارية لشركات عالمية نستورد بذور النباتات والمواد الزراعية كالأسمدة وأدوات الزراعة وبذور الحدائق والملاعب..
أنا أرفض أن تكون الدعوة إلى الله طريقاً إلى التكسب، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والدعاة المصلحون على مدار التاريخ كان شعارهم: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}. ووالله ما دخل جيبي قرش واحد من كل الإصدارات الدعوية كالكتب والأشرطة والأقراص الممغنطة، ووجدت في التاريخ والواقع أن الدعاة الناجحين الموفقين كانت لهم أعمال وتجارات يتكسبون رزقهم منها، ونحّوا الدعوة عن المطامع والمطامح البشرية والدنيوية، وابتعدوا عن منافسة أهل الدنيا على دنياهم وعن الدخول في الخصومات وأخلصوا لله تعالى، بل كان بعضهم ينفق من ماله على تلاميذه وعلى دعوته.
واسمح لي من هنا أن أقول: ما من شيء يتذبذب بين أن يكون أعظم عمل على الإطلاق يرقى إلى صنعة الأنبياء، وبين أن يكون أتفه عمل على الإطلاق لا يستأهل صاحبه إلا ابتسامة ساخرة، كالدعوة إلى الله، التي تكون أعظم عمل إذا بذلنا من أجلها النفس والنفيس، وتكون أتفه عمل إذا ارتزقنا بها. وما أروع هذه المقولة للإمام الشافعي رحمه الله: "لأََن أرتزق بالرقص أهون عليَّ من أن أرتزق بالدين".
وأريد أن أضيف درساً تعلمته من هذه الحياة أنصح به الدعاة إلى الله: حينما يُعجب العالم بمحاضرته وفصاحته وبيانه وقوة أدلته؛ فإن هذا من العُجب ومن شهوة العالم، وليس من البطولة في شيء، أما حينما يُعجب بإخوانه الذين التزموا بدينهم؛ فإن هذا من إخلاصه، وهنا تكمن البطولة.. حينما أنظر إلى الدعوة كعطاء للآخرين، وليست وسيلة للأخذ والتكسب، خاصة وأن الدعوة حاليّاً قد ترافقها دنيا وشهرة وعز واستعلاء وسيطرة وهدايا وحب ظهور قد يقسم الظهور..
الفرقان: مَن يتابعك يجدك في الحقيقة معلماً ومربيّاً مع أن عالَمنا العربي والإسلامي كثر فيه المعلمون وقل فيه المربون، فما هي نصيحتك في ذلك؟
د. النابلسي: أنا أومن بالتربية، ولي في ذلك رأي دقيق؛ فهي ثمرة التعليم، ولا خير في علم لا يقود إلى عمل، ولا قيمة للعلم إذا لم يغرس التربية، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء للتزكية وللتعليم معاً، أنا أعتقد بأن قيامي بزرع عشر شجرات وتعاهدها بالرعاية والعناية أفضل ألف مرة من أن أزرع مئة ألف شجرة ثم أهملها، وهنا يكمن الفرق بين المعلم والمربي؛ فالمعلم يزرع لكنه قد لا يتابع، أما المربي يزرع ويتابع.
وأنا شخصيّاً جعلت بفضل الله نمط علاقتي مع إخواني نمط تربية، وحددت هدفي وهمي بأن أبني شخصياتهم فأهتم بعلاقاتهم كلها -الاجتماعية وغيرها- كأنهم أبنائي؛ أتابع أخبارهم وأفرح لفرحهم وأحزن لحزنهم وأخفف عنهم وأشاركهم حتى في همومهم وأساعدهم في الخروج منها بسلامة.
قد يكون من السهل جداً أن تلقي درساً كأستاذ محاضر، ولا يعنيك من أمر التلاميذ شيئاً، لكن ليس من السهل أبداً أن تتفقد إخوانك، وهذا هو ما تستخلصه من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأضيف فأقول: إن تأليف الكتب أطول أمداً وأقل أثراً، لكن تأليف القلوب أعمق أثراً وأقصر أمداً، مع أن الأكمل أن نجمع بين التأليفين.
الفرقان: لكنا نجد الشباب -في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن- قد يسهل عليهم التعلم ويصعب عليهم التربي، فهل من نصيحة للشباب؟
د. النابلسي: أقول لهؤلاء الشباب وللعلماء -أيضاً-: لا تصدقوا بأن تنجح دعوة أو فكرة أو حركة إصلاحية بالتعليم وحده، وهذا لم يحصل في التاريخ كله، فالنجاح لا بد له من تربية ومتابعة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مربياً ومعلماً، وقد حدد مهمته بذلك حين قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
الفرقان: أنتم تتقنون أسلوب القصة في حديثكم، هل توظيفكم للقصة يعتبر من أسباب نجاحكم في الدعوة وحب الناس؟
د. النابلسي: أنا أحب استخدام أسلوب القصة والمثل، والقرآن الكريم استخدم القصة كثيراً، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنني أعتقد بأن القصة المختصرة الهادفة وخاصة إذا كانت حقيقية وواقعية تؤثر في الذاكرة والنفس أيما تأثير، وتوصل المعلومة وتغرسها بأقصر طريق، وتقنعك بأشياء قد يعجز عنها الأسلوب المباشر، فبالمثال تتضح الأفكار، أيُّ قضية أيديولوجية يمكن تبسيطها بالمثال، فنقول مثلاً: (لا صغيرة مع الإصرار). ونشبه الصغيرة بحرف المقود عن استقامته (1سم) يميناً أو يساراً في طريق عرضه (60م) في جوانبه واديان سحيقان، لو ثبَّت المقود في انحرافه البسيط شيئاً فشيئاً فستهوي في قعر الوادي، أما الكبيرة فنشبهها بحرف المقود (90) درجة مرة واحدة، فلو أعدناه فوراً لم تعد الكبيرة كبيرة.
ذات يوم اتصل بي رجل من لوس أنجلوس بأمريكا كان يعمل عملاً من أقبح الأعمال وأكثرها فجوراً؛ فهو منتج للأفلام الإباحية الفاجرة، وأخبرني بأنه سمع شريطاً صوتيّاً لي (50) مرة فكان سبب توبته ولله الحمد، وذكر لي أن سبب هدايته قصة معاصرة ذكرتها في الشريط عن رجل كان يملأ عينيه من الحرام فأصيب بارتخاء الجفون.. لذلك أعتبر بأن القصص المعاصرة لها ميزة فهي بمثابة الشاهد على العصر، خاصة إذا كانت القصة تتحدث عن إنسان ينتصر على نفسه مهما كانت الضغوط والإغراءات والصوارف والعقبات.
الفرقان: ذكرت مرة أن من أسباب نجاحك الدعوي وجود فريق عمل إلى جانبك يعينك ويساعدك، ما أهمية ذلك، ألا يمكن لعالم مثلك أن يستغني عن فريق العمل وخدمة نفسه بنفسه ، أو يستعين بفريق عمل تطوعي؟
د. النابلسي: بفضل الله.. لي رأي أتمنى على كل داعية الاستفادة منه وهو: إن أي عمل يمكن أن يقوم به أحد غيرك؛ فينبغي أن لا تقوم به أنت. وأنا ولله الحمد ألتزم بهذه القاعدة حتى أوفر وقتي للتحضير والتأليف والإبداع، أنا مؤمن بالعمل المؤسسي والانتماء للمجموع، وأنهما أصل من أصول ديننا الحنيف، وأعتقد أن أحد أهم أسباب قوة الغرب هو إيمانه بالعمل الجماعي.
ولذلك هيأ الله لي فريق عمل أثق به كثيراً في عدة تخصصات؛ منهم من هو مختص بالموقع الإلكتروني والشبكة المعلوماتية، ومنهم المختص بإنتاج الأقراص الممغنطة، ومنهم المختص بالتأليف أهيئ له النص وهو يقوم بمراجعة الآيات والأحاديث، ومنهم فريق للعمل الخيري، وفريق للثانوية الشرعية التي أديرها، وفريق لمعهد تحفيظ القرآن، وفريق للمكتبات، وفريق لرحلات الطلاب.
العمل التطوعي عمل طيب ومطلوب، لكنني لم أعد أقبل فكرة التطوع؛ فالمتطوع سيعطي الدعوة من فضول وقته، فكيف سأحاسبه إن قصَّر، أما العامل المأجور فأنا أحاسبه كموظف في مؤسسة، له دوام محدد ومهمات محددة ورواتب ومكافآت ويتم تقييمه دوريّاً حتى إن كان عمله في المسجد، وأنا أتمنى على كل المؤسسات الإسلامية إذا أرادت النجاح والتقدم أن ترفض العمل التطوعي لأنه عمليّاً غير مجدٍ، فعندما لا يكون هناك انتظام والتزام وعمل جاد نفقد الجودة والإتقان.
الفرقان: القرآن الكريم هو عمدتك في دروسك كلها، والذي يستمع لدروسك يرى الاستشهاد الكثير والجميل بالآيات الكريمة، نريد منك أن توضح لنا علاقتك التاريخية واليومية مع القرآن حفظاً وتلاوة.
د. النابلسي: لقد اخترت من بداية حياتي سلك التعليم لأنني أحبه.. فقد كنت معلماً، وعُيِّنتُ أول ثماني سنوات في قرى عديدة؛ شكَّلت بالنسبة لي خلوة تامَّة تفرغت فيها تفرغاً تامّاً لطلب العلم.
وبالنسبة للقرآن الكريم فكما أن ألفاظه لا تؤخذ إلا من حفاظه؛ فإن معانيه لا تؤخذ إلا ممن يعانيه، فإذا كان القارئ للقرآن صاحب تجربة مع الله في آية من كتابه فهو سيذوب خشوعاً عند مروره بتلك الآية، وأُمثِّل على ذلك بامرأة عاقر قرأت قصة امرأة عاقر؛ فهي ستبكي مئات المرات أثناء القراءة؛ لأن كاتب القصة وضع يده على جراح المرأة العاقر، أما المرأة الولود التي رزقها الله عدة أولاد فلن تهطل منها دمعة واحدة حتى لو قرأت الكتاب نفسه مئات المرات!
وكوني نشأت يتيماً فإن أكثر سورة تؤثِّر في نفسي وتهزُّ وجداني هي سورة الضحى، وكوني أحب الدعوة إلى الله فإن أكثر آيات أحب قراءتها وتكرارها في تطوعي وقيامي قوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين...} الآيات.
وأما أكثر الآيات وقعاً على نفسي فهي قوله تعالى: {واصطنعتك لنفسي}؛ فأنا أوثرها، وثانيها: {إنا وجدناه صابراً}؛ لأنني عانيت مشكلات كثيرة في حياتي، وثالثها: {وإبراهيم الذي وفَّى}؛ وفَّى بكل ما عاهد الله عليه؛ لأن الوفاء والصبر يهزاني هزّاً، ومن الوفاء أن تكون لله.. بوقتك، بمالك، بأولادك، بصحتك، بذكائك، بطلاقة لسانك.. بكل ما تملك. وهنا أقول: إن الوقت كله لله فليس عند المؤمن أن هذه للآخرة وهذه للدنيا؛ فوقته كله لله..
الفرقان: أنت مختصٌّ بشرح أسماء الله الحسنى ولك موسوعة فيها من ثلاثة مجلدات، نريد أن نستذكر معك شرحك لاسمين من أسماء الله وهما اسم: (الأول) واسم (الوتر)، حيث ذكرت أن تخلُّق المسلم بهذين الاسمين يتطلب منه أن يكون إنساناً متميزاً ومتفوقاً ساعياً للدرجة الأولى في الإتقان، ونحن نجد فيك تخلُّقاً واضحاً بهذين الاسمين العظيمين.
د. النابلسي: من خلال تجربتي المتواضعة أقول: إن الإخوة الكرام الذين حولنا معظمهم بحاجة إلى أن نحملهم، لكن قلة منهم هم من يحملون معنا، والفرق كبير جدّاً بين من تحمله وبين من يحمل معك، فالذين يحملون معك هم النخبة، وهم الذين يمكِّنهم الله في الأرض.. لقد سمعت الشيخ الشعراوي رحمه الله عندما سئل مثل هذا السؤال أجاب بقوله: "لأنني محسوب على الله".
عندما أديت مناسك الحج لأول مرة عام (1993م) ألهمني الله دعاء -والله لم أُعِدّه مسبقاً- وقلت مناجياً الله: يا رب، أنا أحقر عبادك، شرَّفتني بمعرفتك والدعوة إليك؛ فإن علمت صدق نيتي فاحفظني بها واحفظها لي، وإن علمت خلاف ذلك فعالجني قبل أن أموت، ولا تُمتني حتى ترضى عني.
وأقول لك حقيقة: إنني أحب أن آتي من أسفل؛ فالأسفل ليس فيه تنافس ولا تزاحم، هناك من يحب أن يأتي من أعلى فيُنادى عليه بصاحب الفضيلة والسماحة والدكتور والعلامة.. أما أنا فأرى أن أقصر طريق تصل بك إلى الله أن تفتقر إليه وأن تمرّغ جبهتك على أعتابه وأن تتذلل له.
وأنا والله أربأ بكل داعية أن يُحسب على جهة أرضية كائنة ما كانت؛ فهو أكبر من ذلك، وقد عاهدت نفسي أن ابتعد عن كل انتماء أرضي مهما كان؛ لأنني أردت أن أكون محسوباً على الله، ونحن كأفراد عبيد لا ندّعي العصمة، ومن يدّعيها فقد وقع في شر كبير؛ فالعصمة ليست لأحد من هذه الأمة بمفرده إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معصوم بمفرده ولا ينطق عن الهوى، أما الأمة فمعصومة بمجموعها.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة المثبتة ينبغي على الدعاة إلى الله أن يتَّبعوا لا أن يبتدعوا، وأن يتعاونوا لا أن يتنافسوا، وأن يعترف كلٌّ منهم لأخيه بالفضل لا أن ينكر عليه؛ فالدعاة إلى الله يُكمِّل بعضهم بعضاً، وينصح بعضهم بعضاً، ويغطي كل منهم شريحة من شرائح المجتمع، ولا تثريب عليهم إن اتفقوا في الأصول أن تتعدد وجهات نظرهم في الأساليب والفروع، فيتعاونوا فيما اتفقوا، ويعذر وينصح بعضهم بعضاً فيما اختلفوا.
بل إنني أرى أن كل داعية مكّنه الله في فرع من فروع الدين تفوّق فيه، وغيره ممكّن في فرع آخر، وأي داعية يتوهم أن فرعه هو الأصل فهو واهم، وحينما يفهم العلماء مفهوم التكامل فيما بينهم ويتعاونون يتفوقون ويرتفع مقامهم عند الله وعند الناس، وحينما يتنافسون ويدَّعي كلٌّ منهم أن اختصاصه هو الأول يكونون عندئذ قد وقعوا في خطأ كبير وسقطوا من عين الله وعين الناس.
وإنني شخصياً -ومنذ خمسة وثلاثين عاماً- أرفع في بلاد الشام لواء الوحدة والتكامل والتعاون والحب بين العلماء والدعاة؛ لأنني أرى أن كل داعية قد مكَّنه الله من مضمون وطريقة تناسب شريحة من عباد الله، والله الخبير بعباده والمحب لهم هيأ لكل شريحة منهم صنفاً من الدعاة يناسبونهم.
الفرقان: الحديث عن الإعجاز العلمي حديث ممتع وقد أسهم في إسلام الكثيرين، ما رأيكم في هذا النوع من الإعجاز كوسيلة من وسائل الدعوة؟
د. النابلسي: من خلال تدريسي للإعجاز العلمي في القرآن الكريم في الجامعات وغيرها أعتقد أن تأثيره الآن هو التأثير الأول؛ لأنه يؤكد للجميع بأن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن وهذا هو مختصر الإعجاز، وأنا أراه المادة الأولى ولا أرى مادة إسلامية لها تأثير يفوق تأثير السحر عند غير المسلمين كالإعجاز، والغرب من خلال تجربتي لا ينبطح إلا للعلم، فعندما كنت ألقي محاضرة وأمامي آلاف مؤلفة من مسلمين وغير مسلمين ومن أطياف منوعة كالعلمانيين وغيرهم وأتكلم عن المجرات وخلق الإنسان لم أجد أحداً منهم ينبس ببنت شفة، ومن ثم أربط ذلك بالقرآن وما ورد فيه فيستسلمون للدليل المقنع.
مؤخراً نقل لي أحد الإخوة عن قريب له ملحد لا يؤمن بدين، ويرى بأن الدين أفيون الشعوب، وحاول معه جاهداً على مدار اثني عشر عاماً أن يقنعه بالاستماع لخطبة واحدة أو شريط ديني دون جدوى، إلى أن جاء يوم ركب فيه هو وقريبه الملحد في سيارة أجرة، وكان السائق يستمع درساً لي من إذاعة القدس، أتحدث فيه عن الكون بمجراته وعجائب خلق الله لساعة كاملة، والملحد منصت.. وعندما انتهى الدرس قال: أنا الآن آمنت بالله وسأبدأ بالصلاة. وطلب منه إبلاغي بذلك وأخبره بأنه كان يقول في البداية: ما شأن الشيخ النابلسي بالمجرات؟! ثم قال في النهاية: لقد كانت المجرات وعجائب خلق الله هي الشفاء لي!! فقد رأى عظمة الخالق وكيف أن أحدث النظريات الفلكية تتطابق تماماً مع الآيات القرآنية؛ فخضع للحق من خلال الإعجاز.
والقرآن معجزة خالدة، ولكل عصر من العصور ما يتناسب معه من وجوه الإعجاز، وعصرنا هذا هو عصر العلم، وما دام كذلك فلا بد أن نخاطب أهل عصرنا بما يتقنونه، وهذا يعطيني أملاً كبيراً في دخول الناس في دين الله أفواجاً، ومن هنا فأنا متفائل بعزة هذا الدين وانتصار القرآن في معركته.
الفرقان: حديثك هذا يدفعني لسؤالك عن السبيل الحقيقي لبثِّ الأمل في قلوب المسلمين في ظل الضربات والنكسات التي يتعرضون لها؛ مما جعل الكثيرين منهم يصلون حد اليأس.
د. النابلسي: إن إله الصحابة هو إلهنا، وإن زوال الكون أهون على الله من أن لا يحقق وعوده للمؤمنين، والكرة في ملعبنا.. إن أي دولة قوية في الأرض أرادت أن تبني مجدها على أنقاض الشعوب، وحياتها على موتهم، وأمنها على خوفهم، وغناها على إفقارهم؛ لن تنجح خططها على المدى البعيد؛ لأن هذا يتناقض مع وجود الله، فالله لن يسمح لأي طاغية في الأرض أن يكون طاغية إلا ويوظّف طغيانه لخدمة دينه والمؤمنين من دون أن يشعر أو يرضى أو يريد وبلا أجر أو ثواب.. والسنة الكونية في ذلك واضحة؛ فقد وصف الله سبحانه علوَّ الطاغية فرعون في آيات كثيرة منها: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً...} الآية، ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة: {ونريد أن نَمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}.
يا رب ما أعظمك! فعلى الرغم من هذه الحرب العالمية الثالثة المعلنة على الدين إلا أن الدين ينمو في كل البلاد.. تذكرون أنه في الخمسينات في مصر وفي الستينات في الأردن لم يكن هناك فتاة محجبة بالحجاب الشرعي الكامل، أما الآن فنسبة المحجبات ربما تصل إلى (90%) من النساء، وفي زيارتي الأخيرة للأردن ومحاضرتي في قاعة (الأرينا) رأيت آلاف الفتيات ليس بينهن متبرجة واحدة، وهذا رأيته في الجزائر وتركيا.. فيا رب: في الظاهر هناك حرب عالمية معلنة وطاحنة، ولكن في الباطن هناك حكمة بالغة من لدنك بدعم هؤلاء وتقوية إيمانهم وسوقهم إلى رحابك ولو بالسلاسل.. وإنني ألخص مصير البشرية وعلاقتها بالله في كلمة واحدة: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. فسنحمد الله جميعاً على ظهور الحق وزهوق الباطل.
الفرقان: ما هي انطباعاتك عن الأردن وشعبه وجمعية المحافظة على القرآن الكريم ورئيسها وجمهورها بعد زياراتك للأردن في شهري آذار ونيسان وحضورك حفل المولد النبوي الشريف في أكبر قاعة أردنية والذي حضره الآلاف ولم يتمكن الآلاف من إيجاد مقاعد لهم؟
د. النابلسي: أكرر ما قلته لك قبل قليل عندما سألتني عن اليأس والأمل، وكان انطباعي الأول الفرح بالتزام الإخوة والأخوات وانتشار الحجاب الشرعي؛ مما يبشر بصحوة راشدة ونصر قادم، أما انطباعي الثاني فشعرت كأني في بلدي وبين أهلي، وهذا الشعور يراودني عندما ألتقي -في البلدان التي أزورها- بالإخوة الكرام في ظلال الحب والأخوة في الله؛ فالقواسم المشتركة كثيرة جدّاً، وأعتقد أنه من المستحيل أن يكون الحب من طرف واحد، وعندما ألقيت محاضرة عندكم في أحد المخيمات شعرت بشعور يفوق حد الخيال؛ وهو أن هؤلاء أهلي وإخوتي فنحن أمة مسلمة واحدة، والحب يجب أن يكون أساس علاقتنا ببعضنا.
وبالنسبة لجمعيتكم المباركة فأكنُّ لها كل احترام وتقدير، وصرت أتحدث عنها في مجالسي وأضرب بها الأمثلة، وأنا كلما سافرت شعرت بأنني أصغُر أمام مؤسسات وإخوة كرام لهم إنجازات ضخمة جدّاً في العمل الدعوي والخيري والتعليمي.. وقد شعرت نفسي صغيراً جدّاً أمام هذه الجمعية العظيمة.
أما رئيس الجمعية الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني حفظه الله فقد كنت أتابع أحاديثه الإذاعية اليومية، ومنها تعرَّفتُ عليه حتى أصبحتْ له في قلبي ونفسي مكانة كبيرة بسبب ذلك, ومنذ ذلك الوقت أيقنت أن الإذاعة من أفضل أدوات نشر الدعوة، وكنت أتمنى على الله أن يمكنني من إنشاء إذاعة في دمشق، إلى أن أكرمني ربي وتفضّل عليّ بأن أتاح لي إذاعة القدس التي تبثُّ لي يوميّاً (4) ساعات؛ حيث تركت أثراً كبيراً بفضل الله.
والله لقد تألمت كثيراً حينما علمت أن عدداً كبيراً من الإخوة لم يُتح له الدخول إلى الصالة ليستمع إلى محاضرتي، ثم قلت في نفسي: من أنت يا مسكين ليجيء الناس من أقاصي الأماكن ليستمعوا لمحاضرتك ثم لا يتاح لهم ذلك، لعلك من المحسوبين على الله، وقد أكرمتموني غاية الإكرام، ولكن أحمد الله الذي أظهر لكم محاسني وستر عنكم معايبي، وهذا من فضل الله عليّ!
أما فريق العمل الذي كان سبباً في نجاح الحفل من إخوة وأخوات زادوا عن (150)؛ فأنا أُكبره إكباراً شديداً، ولله الحمد فقد أصبح لدى الشباب وخاصة الشابات رغبة في أن يتجاوزوا هموم سنهم وجنسهم المألوفة؛ فبعد أن كان الهمُّ الأول للشابات هو الزواج والعريس والمكياج وامتلاك سيارة فارهة صار همهن الأول نجاح العمل الدعوي وحمل الهم الإسلامي؛ مما يجعلنا نصغر أمام هممهن ونشاطهن، وكم شعرت بالفرح والغبطة عندما جاءتني رسالة من شابات أردنيات قمن بإنشاء موقع على الإنترنت للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن ينفعنا بهؤلاء الشباب ويسدد خطاهم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الفرقان: في الختام نرغب بمعرفة أكثر شيء يفرحك، وما هي طموحاتك وأمنياتك في عملك الدعوي؟
د. النابلسي: والله الذي لا إله إلا هو حينما أُحضِّر درساً متقناً وفَّقني الله فيه لإقناع الناس بعظمة الله وعظمة هذا الدين وحملهم على طاعة الله، وتَرَكَ أثراً عميقاً في نفوس من سمعه؛ فأسلم من كان كافراً وتاب من كان عاصياً وتعلَّم من كان جاهلاً.. عندها أقول: لو أني بذلت حياتي كلها من أجل درس واحد كهذا لكان بذلي قليلاً، وهذه أسعد لحظة في حياتي، وأنا والله أعيش لها، وأدعو الله أن أموت عليها.
ووالله لا أبتغي شيئاً من الدنيا؛ فقد أعطاني ربي منها الكثير، وأتمنى على الله أن يمدَّ في عمري لأكمل شرح الأسماء الحسنى، وأتم تفسير القرآن؛ فقد بقي لي سورة التوبة والأعراف والأنفال، وهذا ما أناجي به ربي في سري وجهري ودعائي وقيامي ولا أطلب شيئاً آخر.
الفرقان: ونحن ندعو لك بأربع دعوات معاً.. أن يبارك الله في عمرك، ويتمم عليك نعمة الصحة والعافية، ويصلح عملك صلاحاً فوق صلاح، ويحسن خاتمتك لنكون وإياك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً..
 

الملكة الحزينة

مشرفة سابقة
6 مارس 2009
12,753
154
63
الجنس
أنثى
رد: العلامة الدكتور محمد راتب النابلسي

باااااارك الله فيك غاليتي
وجزاك الله الجنــــــــــــه وغفر لك والوالديك
 

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد
رد: العلامة الدكتور محمد راتب النابلسي

باااااارك الله فيك غاليتي


وجزاك الله الجنــــــــــــه وغفر لك والوالديك


جزاك الله خيرا يا غالية
 

الوهراني

مزمار داوُدي
26 أبريل 2008
3,836
27
48
الجنس
ذكر
رد: العلامة الدكتور محمد راتب النابلسي

ما شاء الله العظيم
معلومات لأول مرة أعرفها عن الدكتور المميز النابلسي حفظه الله ... استمتعت كثيرا و أنا أقرأ هذا الحوار معه
و أعجبني جدا تواضعه و فكره و منهجه .. خاصة ما ذكره عن المنهج الأمثل في الدعوة إلى الله ... أعجبتني طموحاته و أهدافه

جزاك الله خيرا أختي نور مشرق على الحوار الممتع ... أحسن الله إليك
 

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد
رد: العلامة الدكتور محمد راتب النابلسي

ما شاء الله العظيم
معلومات لأول مرة أعرفها عن الدكتور المميز النابلسي حفظه الله ... استمتعت كثيرا و أنا أقرأ هذا الحوار معه
و أعجبني جدا تواضعه و فكره و منهجه .. خاصة ما ذكره عن المنهج الأمثل في الدعوة إلى الله ... أعجبتني طموحاته و أهدافه

جزاك الله خيرا أختي نور مشرق على الحوار الممتع ... أحسن الله إليك


جزاك الله خيرا اخي الوهراني
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع