إعلانات المنتدى


القرآن إيجاز كله

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

ابواحمدالغالى

مزمار داوُدي
20 مايو 2008
9,458
16
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
القرآن إيجاز كله
القرآن إيجاز كله
القرآن إيجاز كله، سواء مواضع إجماله ومواضع تفصيله:
قلنا: إن القرآن الكريم يستثمر دائمًا برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني. أجل؛ تلك ظاهرة بارزة فيه كله؛ يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب. ولذلك نسميه إيجازًا كله1؛ لأننا نراه في كلام المقامين لا يجوز سبيل القصد، ولا يميل إلى الإسراف ميلًا ما، ونرى أن مراميه في كلام المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر
__________
1 لما كان هذا اصطلاحًا جديدًا نخالف به مصطلح القوم لم نرَ بدًّا من إيضاح سبب المخالفة:
قسم علماء البلاغة الكلام إلى "مساو" و"موجز" و"مطنب". وعرفوا المساواة بأنها أداء المعنى بلفظ على قدره، والإيجاز بأنه أداء المعنى بلفظ ناقص عنه واف به، والإطناب بأنه أداء المعنى بلفظ زائد عنه لفائدة. وجعلوا المقياس الذي يضبط به هذا التقسيم أمرًا عرفيًّا أو وضعيًّا: فاعتبر السكاكي المقدار الذي يتكلم به أوساط الناس في محاوراتهم ومتعارف خطابهم، هو ضابط المساواة، وهو القدر الذي لا يحمد منهم، ولا يذم في باب البلاغة، فما نقص عنه مع الوفاء به فهو الإيجاز، وما زاد عنه مع الإفادة فهو الإطناب. والكلام البليغ إنما يقع في هذين الطرفين. هذا محصول كلام السكاكي. وقد وافقه الذين جاءوا من بعده على هذا التقسيم، إلا أن بعضهم رأى أن البناء على العرف فيه رد إلى الجهالة، فجعل حد المساواة هو المقدار الذي يؤدي المعاني الأولية بالوضع من غير رعاية للمناسبات الزائدة على أصل المعنى.
وقد فهمنا من وضعهم التقسيم على هذا الأساس، واعتبارهم المساواة بأحد هذين المقياسين المتحدين في المآل، أنهم ظنوا أن العبارة التي تؤدى بها المعاني الأولية في لسان العوام تقع دائمًا بين الإطالة والاختصار. وهذا ما لا دليل عليه في العرف ولا في الوضع، أما الأول فإن العوام يتكلمون في المعنى الواحد باللفظ المطول تارة وبالمختصر تارة آخرى، وإن لم يتحروا إصابة المحز في كل منها، وأما الثاني فلأن اللفظ الذي وضع في اللغة لتأدية المعنى الأول مختلف، فمنه ما يؤديه بوجه مجمل، ومنه ما يؤديه بلفظ مفصل، وكل من الإجمال والتفصيل يتفاوت في نفسه تفاوتًا كثيرًا، فلا ينضبط منهما قدر يرجع إليه في معرفة الإيجاز والإطناب؛ إذ ما من كلام وجيز إلا ويمكن تأدية معناه الإجمالي بأقل من لفظه أو بما يساويه وإن لم يغنِ غناءه ولم يوفِ وفاءه، حتى المثل الذي عدوه علمًا في الإيجاز وهو قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الآية 179 من سورة البقرة] يمكن تأدية أصل معناه بقولك "انتقم تسلم" أو "اقتص تحيا" أو بالاكتفاء بكلمتين منه "القصاص حياة"، بل فاتحة الكتاب الكريم التي جمعت مقاصد القرآن كلها في سبع آيات يمكن أداء معانيها الأصلية في خمس كلمات: "نحمدك اللهم ونعبدك، ونستعينك ونستهديك" وإن شئت ففي أقل من ذلك.=
والحلى بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها. فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة،
__________
=وكذلك يقال: ما من كلام مطنب إلا ويمكن تأدية معناه الوضعي مفصلًا في لفظ أطول منه، فقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [الآية 194 من سورة البقرة] إيجاز، وقد جاء بسطه في قوله: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الآية 45 من المائدة] وهذا الكلام على طوله يعد موجزًا إذا قيس إذا قولك في مثل معناه: "من قتل نفسًا قتل بها، ومن فقأ عينًا فقئت عينه، ومن جدع أنفًا جدع أنفه، ومن جدع أذنًا جدعت أذنه، ومن كسر سنًّا كسرت سنه ... وإن شئت زدت: واليد باليد، والأصبع بالأصبع، والآمة بالآمة والموضحة بالموضحة وهلم جرا. وقوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [الآية 59 من سورة المائدة] جاء معناه مبسوطًا في قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [الآية 136 من سورة البقرة] وهذا المعنى يؤدى عادة بقولك: آمنا بالله وبالقرآن الذي أنزله الله إلينا، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى، وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وبالزبور الذي آتاه الله لداود، وبالصحف التي آتاها الله لإبراهيم ولو شئت عددت الأسباط سبطًا سبطًا، وذكرت سائر من قص الله علينا من النبيين في غير هذا الموضع بل لو شاء الله لقص علينا من أنباء سائر الرسل ما لم يقصه علينا.
والقوم معترفون ضمنًا بوجود هاتين المرتبتين في كلام العوام، إذ قالوا: إن مرتبتي الاختصار المخل والتطويل الممل ليستا من البلاغة في شيء فإذا لم تكونا من كلام البلغاء كانتا البتة من كلام غير البلغاء وإلا فكلام من تكونان؟! وإذًا فلا تصلح المعاني الأولية ولا العبارات العامية مقياسًا منضبطًا للوسط المفروض.
هذا وقد نشأ من قياسهم التوسط بالمقدار الذي تؤدى به المعاني الأولية في لسان العوام -بعد تسليم كونه وسطًا- أن جعلوا الفضيلة البيانية في هذا الباب ماثلة أبدًا طرف النقص أو طرف الزيادة. وذلك عكس ما بنيت عليه قاعدة الفضائل من تبوئها مكانًا وسطًا بين الأطراف "ولقد تعجب إذا رأيتهم يرجعون فيدخلون المساواة في كلام الرجل البليغ إذا دعاه إليها داع، كأن يكون كلامه مع العامة ثم تزداد عجبًا إذا رأيتهم يدخلونها في القرآن نفسه، وهو ما علمت خطاب للعامة وللخاصة على السواء، ويمثلونها بقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [الآية 43 من سورة فاطر] على أن في هذه الكلمة إيجازًا بالحذف على اصطلاحهم نفسه، إذ المعنى لا يحيق ضرر المكر وعاقبته".
لهذا كله رأينا أن نضع التقسيم وضعًا آخر نرد فيه الفضيلة إلى نصابها من الحد الوسط، ونرجع فيه الذم إلى الطرفين، وذلك يجعل المقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى بأكمله، بأصله وحليته على حسب ما يدعو إليه المقام من إجمال أو تفصيل؛ بغير إجحاف ولا إسراف. هذا القدر الذي من نقص عنه أو زاد عده البلغاء حائدًا عن الجادة بقدر ما نقص أو زاد، هو الميزان الصحيح الذي لك أن تسمي طرفيه بحق تقصيرًا أو تطويلًا، وأن تسميه هو بالمساواة أو القصد أو التوسط أو التقدير أو ما شئت فسمه. ونحن قد سميناه أيضًا باسم "الإيجاز" مطمئنين إلى صحة هذه التسمية، إذ رأينا حد الإيجاز ينطبق عليه، فما الإيجاز إلا السرعة والتخفيف في بلوغ الحاجة بالقدر الممكن، فالذي يسرع فوق الطاقة لا يبلغك حاجتك فيكون مجحفًا مخلًّا، والذي يبطئ حيث تمكن السرعة لا يكون إلا مسرفًا مملًّا. ورأينا الناس ما زالوا يتواصدون بهذه الوجازة في البيان ويجعلون خير الكلام ما قبل ودل،=
وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى.
1- ليس في القرآن كلمة مقحمة ولا حرف زائد زيادة معنوية:
دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها "مقحَمة" وفي بعض حروفه إنها "زائدة" زيادة معنوية. ودع عنك قول الذي يستخف كلمة "التأكيد" فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا
__________
= حتى روي عن سيد البلغاء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف" هكذا أحفظه، ولا يحضرني الآن تخرنجه، وما سمعنا أحدًا يوصي بهذا الإطناب الذي عده المؤلفون فضيلة ثانية تقابل الإيجاز، وإنما هو إحدى شعبتيه: الاختصار المفهم أو الإطناب المفحم. ولو سميناه فضيلة ثانية تقابله لخشينا أن تكون هذه المقابلة وحدها رخصة في التحليل من قيوده وتسامحًا في الإكثار الذي جاء ذمه بكل لسان، حتى قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "...وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة أساوئكم أخلاقا الترثارون المتشدقون المتفيقهون" رواه أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي ثعلبة. فلا وربك إنما هي فضيلة واحدة تطلب من المتكلم في كل مقام، ويؤخذ بها في سعة التفصيل كما يؤخذ بها في ضيق الإجمال، بل لعلها في مقام التفصيل أكد طلبًا وأصعب منالًا. فالكلام الطويل إن حوى كل جزء منه فائدة تمس إليها الحاجة في المواضع ولا يسهل أداء تلك القاعدة بأقل منه كان هو عين الإيجاز المطلوب، وإن أمكن أداء الأغراض فيه كاملة بحذف شء منه أو بإبداله بعبارة أخصر منه كان هو حشوًا أو تطويلًا معيبًا. والكلام القصير إن وفى بالمقاصد الأصلية والتكميلية المناسبة في الحال كان هو التوسط المطلوب، وإلا كان بترًا أو تقصيرًا معيبًا.
وليس الإيجاز قاصرًا على جانب الإجمال كما زعموا حتى بنوا عليه ما بنوا، وحتى أخرجوا منه مثل قوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [الآية 164 من سورة البقرة]، وجعلوها من باب الإطناب بحجة أنه يمكن إيجازها بهذه العبارة: "إن في ترجيح وقوع أي ممكن كان لا على وقوعه لآيات للعقلاء - مفتاح العلوم" وأنت فهل عهدت عربيًّا قط بليغًا أو غير بليغ تكلم بهذا التعبير الفلسفي الجاف القلق الذي افترضه السكاكي مقياسًا للمساواة في معنى الآية، كلا، إنك لو رجعت إلى ما تكلم به الناس في آيات الله الكونية تفصيلًا أو إجمالًا لرأيت كلامًا عربيًّا صحيحًا أطول من هذا أو أقصر، ولرأيت الآية الكريمة هي أوجز كلامًا وأحكم نظامًا في بابها من التفصيل، كما أن قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الآية 101 من سورة يونس] هو أوجز كلامًا في بابه من الإجمال.
قلنا: إن فضيلة الإيجاز بمعناه الصحيح هو الوسط المعتدل، وهو الفضيلة الوحيدة التي تواصى بها البلغاء في كل مقام بحسبه، غير أنه ليس للإنسان ما تمنى، فالمثل الكامل وإن تطاولت إليه أعناق الناس وتفاوتوا في طلبه قربًا وبعدًا، لا يستطيع أحد منهم أن يأتي على غايته، وإنما أتى عليها القرآن الحكيم، فهو المثل الأعلى في حسن الإيجاز، كيف لا وهو حد الإعجاز.
التأكيد أو لا حاجة له به.
أجل، دع عنك هذا وذاك، فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل -مستورًا أو مكشوفًا- بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن.
وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح. فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون؛ ولكن قل قولًا سديدًا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف. قل: "الله أعلم بأسرار كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه". ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلًا: أين أنا من فلان وفلان؟ .. كلا، فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل. ألا ترى إلى قصة ابن عمر في الأحجية المشهورة1؟ فجِدَّ في الطلب وقل: رب زدني علمًا، فعسى الله أن يفتح لك بابًا من الفهم تكشف به شيئًا مما عمي على غيرك. والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور. ولنضرب لك مثلًا، قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2.
سر زيادة الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} :
"أكثر" أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة، فرارًا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه؛ إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية الشبيه عن مثل الله، فتكون تسليمًا بثبوت المثل
__________
1 قرأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [الآية 24 من سورة إبراهيم] وقال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم. فحدثوني ما هي؟" فخفي على القوم علمها وجعلوا يذكرون أنواعًا من شجر البادية، وفهم ابن عمر أنها النخلة، وكان عاشر عشرة هو أحدثهم سنًّا، وفيهم أبو بكر وعمر، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هي النخلة" . الحديث رواه الشيخان. وفي القرآن {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الآية 79 من سورة الأنبياء]. البخاري عن ابن عمر، ك العلم، ب/ قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا "59".
2 الآية 11 من سورة الشورى: 42.
له سبحانه، أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه؛ لأن السالبة -كما يقول علماء المنطق- تصدق بعدم الموضوع. أو1 لأن النفي -كما يقول علماء النحو- قد يوجه إلى المقيد وقيده جميعًا. تقول: "ليس لفلان ولدٌ يعاونه" إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد ولا يعاونه. وتقول: "ليس محمدٌ أخًا لعلي" إذا كان أخًا لغير علي أو لم يكن أخًا لأحد.
"وقليل منهم" من ذهب إلى أنه لا باس ببقائها على أصلها؛ إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصًّا ولا احتمالًا؛ لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضًا.
وذلك أنه لو كان هناك مثل الله لكان لهذا المثل مثل قطعًا وهو الإله الحق نفسه، فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلًا لصاحبه، وإذًا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب.
وقصارى هذا التوجيه -لو تأملته- أنه مصحح لا مرجح، أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف، ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه؛ ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء، وأنه إن كان قد ازداد به شيئًا فإنما ازداد شيئًا من التكلف والدوران وضربًا من التعمية والتعقيد. وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول: "هذا فلان" فقال: "هذا ابن أخت خالة فلان"؟ فمآله إذًا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد، ذلك الاسم الذي لا تعرف له مسمى ها هنا؛ فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودًا البتة، وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان.
ولو رجعت إلى نفسك قليلًا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظًا بقوة دلالته، قائمًا
__________
1 هذا الترديد مبني على اختبار مضمون الجملة أو منطوقها؛ فعلى الأول يقع المثل موضوعًا؛ لأنها في قوة قولنا: "مثل ليس له مثل". وعلى الثاني يبقى في المحمول؛ لأنه واقع في خبر ليس.
بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته، وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى، أو لتهدم ركن من أركانه، ونحن نبين لك هذا من طريقين، أحدهما أدق مسلكًا من الآخر:
"الطريق الأول" -وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور: أنه لو قيل: "ليس مثله شيء" لكان نفيًا للمثل المكافئ، وهو المثل التام المماثلة فحسب؛ إذ إن هذا المعنى الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه. وإذًا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام: أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها، وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء، أو للكواكب وقوى الطبيعة، أو للجن والأوثان والكهان، فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه، وشرك ما في خلقه أو أمره .. فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاءً للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها، كأنه قيل: ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلًا لله، فضلًا عن أن يكون مثلًا له على الحقيقة. وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى، على حد قوله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} 1 نهيًا عن يسير الأذى صريحًا، وعما فوق اليسير بطريق الأحرى.
"الطريق الثاني" -وهو أدقهما مسلكًا: أن المقصود الأولي من هذه الجملة وهو نفي الشبيه، وإن كان يكفي لأدائه أن يقال: "ليس كالله شيء" أو "ليس مثله شيء" لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة، بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلي.
ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت: "فلان لا يكذب ولا يبخل" أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها. فإذا زدت فيه
__________
1 الآية 23 من سورة الإسراء.
كلمة فقلت: "مثل فلان لا يكذب ولا يبخل" لم تكن بذلك مشيرًا إلى شخص آخر يماثله مبرأً من تلك النقائص، بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي، وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم.
على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة: "مثله تعالى لا يكون له مثل". تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه. فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنًا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانًا. فالتشبيه المدلول عليه "بالكاف" لمّا تصوب إليه النفي تأدَّى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ "المثل" المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.
واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع، لا نعلم أحدًا من علماء الكلام حام حوله؛ فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية. حسبما أرشد إليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1.
__________
1 "الآية 22 من سورة الأنبياء"، ونحن نلخص لك هنا وجوه استدلالهم في نسق واحد، لتتبين أنها كلها قائمة على أساس المعنى المستنبط من هذه الآية، وهو أن تعدد الآلهة المستجمعة لشرائط الإلهية يقتضي "إما" عدم وجود شيء من المخلوقات، وذلك هو فسادها في آن الإيجاد "وإما" وجودها على وجه التفاوت والاختلاف المؤدي إلى فسادها غب الإيجاد.
ذلك أنه "لو" توجهت إرادة الإلهين إلى شيء واحد لتعذر عليهما إحداثه، لاستحالة صدور أثر واحد عن مؤثرين. والقول بصدوره عن قدرة أحدهما مع استوائهما في القدرة وفي توجه القصد ترجيح بلا مرجح. و"لو" توجهت إرادة أحدهما إلى شيء وإرادة الآخر إلى نقيضه لم يمكن إحداثهما، وإلا لاجتمع النقيضان. وإحداث أحدهما دون الآخر يلزمه الرجحان المذكور. و"لو" توجهت إرادة أحدهما إلى بعض الخلق والآخر إلى بعضه، إذًا لذهب كل إله بما خلق، ولكان هنا عالمان مختلفا النظام، فلا يلبث أن يطغى بعضها على بعض حتى يتماحقا. وكل أولئك=
أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار. فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي في الناقص، أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية، فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنيْنيَّة؛ لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدمًا على كل شيء وإنشاءً لكل شيء: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وحققت سلطانًا على كل شيء وعلوًّا فوق كل شيء: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضتَ؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقًا مسبوقًا، ومنشئًا منشأً. ومستعليًا مستعلًى عليه. أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقًا ولا مستعليًا. فأنى يكون كل منهما إلهًا، وللإله المثل الأعلى؟!
أرأيت كم أفدنا من هذه "الكاف" وجوهًا من المعاني كلها شاف كاف؟
فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفًا حرفًا.

((وللأمانة منقول ))
 

ابوهريره888

عضو موقوف
5 سبتمبر 2007
3,372
11
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: القرآن إيجاز كله

75.gif



يعجز اللسان ان يشكر امثالك :shokran:
75.gif
 

ابواحمدالغالى

مزمار داوُدي
20 مايو 2008
9,458
16
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: القرآن إيجاز كله

وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته
جزانا واياكم أخى أبوهريرة
يسعدنى هالمرور الطيب
 

ابواحمدالغالى

مزمار داوُدي
20 مايو 2008
9,458
16
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: القرآن إيجاز كله

مقال ماتع .. يحتاج إلى وقت لتتمته

و لكن لمن هو ؟ وفقك الله

جزاك الله خيرا أخي أبا أحمد و نفع بك
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزانا وأياكم أخى الوهراني وزادكم اللع من علمه...

لقد ذكرت انة منقول أخى الكريم من أحدى المنتديات المتخصصه فى علوم القرآن .

وأجد من وفى سؤالك شيئ !!!
أرجو التوضيح ؟
 

الوهراني

مزمار داوُدي
26 أبريل 2008
3,836
27
48
الجنس
ذكر
رد: القرآن إيجاز كله

جزيت خيرا

و القصد أن الكلام في القرآن ليس لأي أحد من الناس .. فكيف بمجهول الحال ! و لهذا طلبت المصدر .. زيادة على أن هذا أحد مهامي كمشرف :yes:

و أنا أعتذر إن بدا في سؤالي غير الذي قصدت .. و الله الموفق لكل خير

وفقك الله أخي .. و دمت طيبا
 

ابواحمدالغالى

مزمار داوُدي
20 مايو 2008
9,458
16
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: القرآن إيجاز كله

شكراً أخى الحبيب الوهراني على التوضيح الطيب والمرور العطر
 

مرشد الحيالي

عضو شرف ومشرف سابق
عضو شرف
11 أبريل 2008
3,981
153
63
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: القرآن إيجاز كله

اخي احمد الغالي مشكور على نقلك للبحث والدال على الخير كفاعله والوهراني معروف بجهوده المميزة في خدمة علوم القران ومن بركة العلم ان ينسب الى مصدره فلو ذكرت المصدر مستقبلا لكان افضل فيس كل من يكتب يوثق به خاصة في مجال علوم القران والامر الاخر ليتك تكمل المعروف فتفصل الهوامش عن الاصل المتن وجزاك الله كل الخير .
 

ابواحمدالغالى

مزمار داوُدي
20 مايو 2008
9,458
16
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: القرآن إيجاز كله

السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ...
على توجيهاتكم الطيبه أخى المرشدى
والحمدلله على معرفتى بكم الاخ الوهرانى وأنتم
فأنتم أفضل منى بكثير فى هذة الأمور ونحسبكم كذالك عند ربنا
فمنكم نتعلم وبكم
فجزاكم الله خيرا على مروركم الطيب المبارك
فأنتم خير الناصحين

تفضـــــــــــل أخى المصدر
 

ابواحمدالغالى

مزمار داوُدي
20 مايو 2008
9,458
16
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: القرآن إيجاز كله

اسم الكتاب : إيجاز البيان عن معاني القرآن / موافق للمطبوع
اسم المؤلف : محمود بن أبى الحسن النيسابورى الغزنوى
رابط التحميل :
paper.gif
إيجاز البيان عن معاني القرآن / موافق للمطبوع

نبذة عن الكتاب :
هذا كتاب أودع فيه العلامة "محمود بن أبي الحسن النيسابوري" خلاصة ما صنف في التفسير ومعاني القرآن، حيث ضمنه أكثر من عشرة آلاف فائدة: من تفسير وتأويل، ودليل ونظائر وإعراب وأسباب نزول، وأحكام فقه، ونوادر لغات، وغرائب أحاديث. واستهله بمقدمة موجزة، بيّن فيها الباعث على تأليفه هذا الكتاب، وذكر جملة من مصنفاته في معاني القرآن ومشكلاته،
وذكر -أيضاً- أهم ما ضمنه كتابه هذا، وأشار إلى أنه توخى الاختصار والإيجاز ليسهل على طالب العلم حفظ ما فيه من فوائد.
بعد ذلك شرع في تفسير سورة الفاتحة، ثم سورة البقرة حتى نهاية القرآن، متبعاً منهجاً محدوداً يمكننا حصره فيما يأتي:
أولاً: اعتماده على القرآن في التفسير، وهو يفعل ذلك! فالبيان لفظة مبهمة ورد تفسيرها في موضوع آخر. ثانياً: اعتماده على الحديث والأثر في تفسير القرآن، ويلاحظ كثرة ورود الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة، وأغلب الأحاديث التي يوردها في غريب الحديث، حيث يربط بين اللفظة القرآنية الغريبة ويفسرها بما ورد في الحديث لبيان وتفسير تلك اللفظة.
ثالثاً: يعتني بذكر أوجه القرآن القرآنية.
رابعاً: يهتم بذكر أسباب النزول، وهو في ذلك يعتمد على الصحيح الوارد في هذا الشأن.
خامساً، يهتم بالجانب اللغوي والنحوي في تفسير القرآن، حيث يعتني عناية كبيرة بشرح الألفاظ الغريبة، وبيان اشتقاقها، مستعيناً في ذلك بنظائرها في القرآن الكريم وبالحديث والأثر، وبلغة العرب.
الناشر : دار الغرب الإسلامى
مكان الطبع : بيروت
سنة الطبع : 1415 ق
المحقق : الدكتور / حنيف بن حسن القاسمى
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع