- 22 يوليو 2008
- 16,039
- 146
- 63
- الجنس
- أنثى
- علم البلد
-
بسم الله الرحمن الرحيم
مع سورة الإخلاص...
مع قول الله عزوجل : (الله الصمد):
هذه هي الآية الثانية من سورة الإخلاص يخبر الله فيها أنه (الصمد). والآية جملة اسمية. لفظ الجلالة (الله) مبتدأ، و(الصمد) خبر. والصمد: صفة مشبهة، على وزن (فَعَل)، ومعلوم أن الصفة المشبهة ملازمة للموصوف ولا تفارقه، وهي بمعنى اسم المفعول: (مصمود). أي : الله المصمود.
ولم ترد هذه الكلمة (الصمد) في غير هذا الموضع من القرآن. والصمد: القصد. يقال : فلان صمد: إذا كان سيداً يقصده الآخرون. ويقال : هو مصمود. أي : مقصود. ومن لغتنا الدارجة في هذا الزمان قولنا: العروس مصمودة. أي الأنظار تتوجه إليها وتقصدها، لترى جمالها.
فالله الصمد المصمود، يقصده المخلوقون جميعاً، ويتوجهون إليه، ويطلبون منه قضاء حاجاتهم، وتلبية طلباتهم، وهو سبحانه يستجيب لهم. فجميع المخلوقات فقيرة ضعيفة، محتاجة إلى الله، وهو سبحانه غني عنها، يعطيها ما يشاء، ولا ينقص ذلك شيئاً من ملكه، كما صحّ قوله في الحديث القدسي: " يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد ما سأل، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".
بين الأحد والصمد:
الأحد والصمد اسمان أطلقا على الله، ووردا في آيتين متتابعتين، يجمع بينهما أن كلاًّ منهما صفة مشبهة، على وزن " فعل" ، ومن التناسق العجيب بينهما أنهما يجمعان صفات الكمال والجلال لله، وأن كل واحد منهما يختص بمجال مهم من مجالات الثناء علىالله.
" أحد": صفة كمال الله في ذاته: بمعنى اسم الفاعل: " واحد "، فالله واحد أحد، متميز في ذاته وأسمائه وصفاته، لا يشابهه أحد في هذه الأحدية! ولذلك جاءت " أحد " نكرة، والتنكير هنا للتعظيم والتفخيم..
أما الصمد : فإنها صفة كمال الله مع غيره: وهي بمعنى اسم المفعول : المصمود. فالله صمد مصمود، لا يستغني عنه أحد من المخلوقين، فهو يقصده ويصمد إليه، ويتوجه إليه ويرجوه، ويطلب منه كل ما يحتاج إليه. والله يعطيه بدون حساب، فهو الغني المعطي المتفضل سبحانه. قال تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد". (فاطر : 15-16).
* مع قول الله عزوجل : " لم يلد ولم يولد":
بعد أن أثبت الله لنفسه الكمال في ذاته وفي صفاته في الآيتين السابقتين، نفى عن نفسه النقص في هذه الآية .. فهو سبحانه لم يلد أحداً، لا ولداً ولا بنتاً، ولم يلده أحد، وليس له والد ولا والدة.
وهذا ردّ على الكفار الذين ينسبون له أولاداً أو بنات، وتكذيب لهم. وعلى هذا قوله تعالى : " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون. أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون. ألا إنهم من إفكهم ليقولون. ولد الله وإنهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين. ما لكم كيف تحكمون" (الصافات : 149-154).
كان المشركون يقولون : ولد الله البنات، وهنّ الملائكة، فتكذبهم الآية في نفي النقص عن الله بقولها : "لم يلد"، كما كذبهم الله في قوله تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم، ستكتب شهادتهم ويسألون" (الزخرف : 19).
وكذّب الله اليهود والنصارى الذين نسبوا له الولد، سواء كان عُزيراً أو المسيح أو غيرهما. قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل " (التوبة : 30).
ويناقش القرآن نسبة الولد لله مناقشة عقلية، فإن الولد لا يأتي إلا من صاحبة أوزوجة، فمن أين لله الولد وهو ليس له صاحبة؟ قال تعالى : " بديع السموات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم" (الأنعام : 101).
ومن باب استكمال نفي النقص عن الله، فقد نفت عنه الآية أن يكون مولوداً من قبل غيره : " ولم يولد "، فليس له والد ولا والدة. وهذا ردّ على الذين يؤلهون البشر المخلوقين كالنصارى الذين ألهّوا عيسى عليه السلام، فكيف يكون إلهاً وأمه هي التي ولدته؟ والإله لا يولد. قال تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم .." (المائدة : 72).
من لطائف الآية الثالثة:
تتكون الآية من جملتين فعليتين ، عطفت فيها الجملة الثانية على الجملة الأولى : " لم يلد ولم يولد " و يمكن الإشارة إلى اللطائف التالية فيها :
1- ترتيب الآية خاص، ليس على الترتيب البشري للولادة، فالإنسان يولد أولاً، وبعدما يكبر ويتزوج يلد الولد. ولو كان ترتيبها على هذا الأساس لقالت : لم يولد ولم يلد.
ولعل حكمة مخالفة الترتيب البشري التأكيد على تفرد الله وأحديته، وعدم مشابهته لخلقه، حتى في نفي النقص عنه، ولذلك قدمت الآية نفي ولادته لغيره – وهي المرحلة الثانية في الترتيب البشري – على نفي ولادة غيره له سبحانه وهي المرحلة الأولى في الترتيب البشري!
2- الفعل المضارع " يلد " متعدّ، ينصب المفعول به، تقول : ولد الرجل ولداً. ولكن هذا المفعول محذوف في الجملة الأولى : "لم يلد". وحكمة حذف المفعول به تنزيه الله عن النقص، فلو قالت الآية : لم يلد الله أحداً، لما كان مناسباً، ولذلك حذف المفعول به لأن السورة كلها في سياق تفرد الله وأحديته!.
3-أُدخل حرف الجزم " لم " على كل جملة ، وعُطف الحرف الثاني على الحرف الأول: " لم يلد ولم يولد ". وحكمة تكرار حرف الجزم " لم " إعطاء الجملة الثانية نفياً مستقلاًّ، تأكيداً لنفي النقص عن الله، وفرق بين جملة " لم يلد ويولد "، وبين قوله : " لم يلد ولم يولد ".
4-كرر الفعل المضارع في الآية مرتين، ولكنه لم يكن فيهما على صورة واحدة: كان في الجملة الأولى مبنيًّا للمعلوم : " لم يلد".. وكان في الجملة الثانية مبنيًّا للمجهول : " ولم يولد ". أي أن لفظ الجلالة " الله " كان في الجملة الأولى فاعلاً. وكان في الجملة الثانية نائب فاعل. وعند بناء الجملتين للمعلوم يكون لفظ الجلالة " الله " في الجملة الأولى فاعلاً، ويكون في الجملة الثانية مفعولاً به. والتقدير : لم يلد اللهُ أحداً، ولم يلد أحدٌ اللهَ.
5-كان الضمير في الجملتين مستتراً، ولو ذكر لقال : لم يلد هو، ولم يولد هو. واستتار الضمير في الجملتين المتتابعين لطيف.
* مع قول الله : " ولم يكن له كفواً أحد":
تنفي الآية وجود أحد، يكافئ الله ويماثله ويشابهه، وذلك بعد نفي ولادته لغيره، وولادته من غيره، والجديد الذي أضافته الآية هو عدم وجود كفء له، وهذا يؤكد تفرده بالألوهية والربوبية والأحدية والصمدية. و " كُفُواً " اسم على وزن " فُعُل "، وهو بمعنى المكافئ والمماثل والمشابه والمساوي.
وأصل الكلمة بالهمزة، تقول : كفأ ، يكفؤ، كفئاً . وهو كفؤ. أي : هو مثيل ومشابه ومساوٍ. وقلبت الهمزة واواً للتسهيل والتخفيف، فصارت : " كفواً ". وفي هذه الكلمة " " كفواً " ، ثلاث قراءات عشرية صحيحة:
الأولى : قراءة حفص عن عاصم : " كُفُواً " بضم الفاء والواو. على وزن " فُعُل ". وقلبت الهمزة واواً للتخفيف، وضم ما قبل الواو للتخفيف أيضاً .
الثانية : قراءة حمزة ويعقوب وخلف : " كُفْؤاً " بالهمزة وإسكان الفاء على الأصل، لأن أصل الكلمة بالهمزة.
الثالثة : قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو والكسائي وأبي جعفر: " كُفُُؤاً " بضم الفاء والهمزة.
والقراءات الثالث متقاربة في المعنى.
و " يكن " في الآية تحتاج إلى اسم وخبر. اسمها هو " أحد " المؤخر، وخبرها هو : " كفواً" المقدم. وشبه الجملة " له " متعلقة بالخبر و "كفواً " مقدمة عليه. والتقدير : ولم يكن أحد كفواً له.
وصياغة الآية عجيبة، ففيها كلمتان مقدمتان:
الأولى : شبه الجملة " له "، مع أن الأصل أن تكون آخر كلمة في الآية: ولم يكن أحد كفواً له. وحكمة تقديم شبه الجملة أنها هي الأهم، لأن فيها ضميراً يعود على الله، وهو المقصود من السورة كلها.
الثانية : " كفواً"، التي هي خبر " يكن " ، وتقديمه على الاسم لنفي المماثلة والمشابهة والتكافؤ.
وتأخير " أحد " الذي هو اسم " يكن "، ليتوافق مع فاصلة السورة في آياتها الأربع، التي هي الدال الساكنة المقلقلة قلقلة كبرى " أحد"، الصمد، يولد ، أحد ".
لطائف أخرى في السورة:
في هذه السورة القصيرة ذات الآيات الأربع لطائف أخرى، إضافة إلى اللطائف التي أشرنا لها من قبل، منها:
1-كلمة " أحد " مذكورة في السورة مرتين: مرة في الآية الأولى : " قل هو الله أحد " ومرة في الآية الأخيرة: " ولم يكن له كفواً أحد ".
ولم يكن ذكرها في الآيتين من باب التكرار، وإنما هي في كل آية بمعنى خاص: " أحد " في الآية الأولى : خبر المبتدأ ، " الله أحد" .. و " أحد " في الآية الثانية اسم " يكن " ، أي أنها مبتدأ في الأصل. فنقلت من كونها خبراً في الآية الأولى لتكون مبتدأ في الآية الثانية. وهذا " نقل " مقصود!
- " أحد " في الآية الأولى خبر عن الله، بهدف إثبات تفرده وأحديته. وهي في الآية الثانية أطلقت على غير الله، بهدف بيان أن هذا لا يكافئ الله!
- " أحد " : في الآية الأولى في جملة خبرية مثبتة إيجابية : " هو الله أحد " .. وهي في الآية الثانية في جملة خبرية منفية سلبية: "لم يكن له كفواً أحد ". ومجيء " أحد ". مثبتة، ثم مجيئها منفية، جمال تعبيري في القرآن.
2- لفظ الجلالة " الله " مذكور في السورة مرتين:
وهو في المرتين مبتدأ مرفوع، لكن الذي اختلف في المرتين هو الخبر. فهو في المرة الأولى نكرة : " الله أحد "، وهو في المرة الثانية معرفة " الله الصمد".
ولفظ " الله " في الآية الأولى في سياق الإخبار عن كمال الله في ذاته. وهو في الآية الثانية في سياق الإخبار عن كمال الله بالنسبة لغيره، فهو الصمد الذي يقصده كل المخلوقين.
3- حرف الجزم " لم " مذكور في السورة ثلاث مرات : وهو في كل مرة داخل على جملة تنفي النقص عن الله.
" لم " الأولى : تنفي عن الله نقص ولادته لغيره : " لم يلد ".
و " لم " الثانية: تنفي عن الله نقص ولادة غيره له.
و " لم " الثالثة : تنفي عن الله نقص مماثلة غيره له.
فهو في كل مرة أضاف معنى جديداً ، وليس من باب التكرار المنزه عنه القرآن.
4- اختصت السورة بكلمتين:
مما تميزت سورة الإخلاص به اختصاصها بكلمتين، لم تذكرا في غيرها من سور القرآن:
الأولى : " الصمد ": فلم يذكر من مادة " صمد " إلا هذه الكلمة في القرآن. وهي صفة مشبهة بمعنى اسم المفعول : الله المصمود.
الثانية : " كفواً " : فلم يذكر من مادة " كفء " إلا هذه الكلمة في القرآن. وهي اسم بمعنى اسم الفاعل : مكافئ.
واللطيف أن الكلمة الأولى أطلقت علىالله : " الله الصمد " فلا يراد بها غيره، وأن الكلمة الثانية أطلقت على غير الله : " ولم يكن له كفواً أحد ".
5- التنصيف في سورة الإخلاص :
اللافت للنظر أن في سورة الإخلاص ظاهرة يمكن تسميتها بظاهرة " التنصيف "، التي تقوم على القسمة النصفية:
السورة مكونة من أربع آيات ، متناصفة فيما بينها:
أ-الآيتان الأوليان : تتحدثان عن الله بأسلوب الإثبات : " الله أحد . الله الصمد ". والآيتان الأخريان : تتحدثان عن الله بأسلوب النفي : " لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد".
ب- الآيتان الأوليان اسميتان : الله أحد ، الله الصمد ". والآيتان الأخريان فعليتان: " لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد".
ج- الآيتان الأوليان : إخبار عن كمال الله وجلاله. والآيتان الأخريان: إخبار عن نفي النقص عن الله.
وهذا التنصيف بمظاهره الثلاثة دليل على التعبير المقصود الحكيم المعجز في القرآن.
هذه وقفات تحليلية سريعة مع آيات وكلمات هذه السورة القصيرة، التي لا تزيد على سطر واحد، وتحوي هذه اللطائف والحقائق والدلالات، وترتقي بها لتكون ثلث القرآن، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم!
(د. صلاح عبدالفتاح الخالدي )
مع سورة الإخلاص...
مع قول الله عزوجل : (الله الصمد):
هذه هي الآية الثانية من سورة الإخلاص يخبر الله فيها أنه (الصمد). والآية جملة اسمية. لفظ الجلالة (الله) مبتدأ، و(الصمد) خبر. والصمد: صفة مشبهة، على وزن (فَعَل)، ومعلوم أن الصفة المشبهة ملازمة للموصوف ولا تفارقه، وهي بمعنى اسم المفعول: (مصمود). أي : الله المصمود.
ولم ترد هذه الكلمة (الصمد) في غير هذا الموضع من القرآن. والصمد: القصد. يقال : فلان صمد: إذا كان سيداً يقصده الآخرون. ويقال : هو مصمود. أي : مقصود. ومن لغتنا الدارجة في هذا الزمان قولنا: العروس مصمودة. أي الأنظار تتوجه إليها وتقصدها، لترى جمالها.
فالله الصمد المصمود، يقصده المخلوقون جميعاً، ويتوجهون إليه، ويطلبون منه قضاء حاجاتهم، وتلبية طلباتهم، وهو سبحانه يستجيب لهم. فجميع المخلوقات فقيرة ضعيفة، محتاجة إلى الله، وهو سبحانه غني عنها، يعطيها ما يشاء، ولا ينقص ذلك شيئاً من ملكه، كما صحّ قوله في الحديث القدسي: " يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد ما سأل، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".
بين الأحد والصمد:
الأحد والصمد اسمان أطلقا على الله، ووردا في آيتين متتابعتين، يجمع بينهما أن كلاًّ منهما صفة مشبهة، على وزن " فعل" ، ومن التناسق العجيب بينهما أنهما يجمعان صفات الكمال والجلال لله، وأن كل واحد منهما يختص بمجال مهم من مجالات الثناء علىالله.
" أحد": صفة كمال الله في ذاته: بمعنى اسم الفاعل: " واحد "، فالله واحد أحد، متميز في ذاته وأسمائه وصفاته، لا يشابهه أحد في هذه الأحدية! ولذلك جاءت " أحد " نكرة، والتنكير هنا للتعظيم والتفخيم..
أما الصمد : فإنها صفة كمال الله مع غيره: وهي بمعنى اسم المفعول : المصمود. فالله صمد مصمود، لا يستغني عنه أحد من المخلوقين، فهو يقصده ويصمد إليه، ويتوجه إليه ويرجوه، ويطلب منه كل ما يحتاج إليه. والله يعطيه بدون حساب، فهو الغني المعطي المتفضل سبحانه. قال تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد". (فاطر : 15-16).
* مع قول الله عزوجل : " لم يلد ولم يولد":
بعد أن أثبت الله لنفسه الكمال في ذاته وفي صفاته في الآيتين السابقتين، نفى عن نفسه النقص في هذه الآية .. فهو سبحانه لم يلد أحداً، لا ولداً ولا بنتاً، ولم يلده أحد، وليس له والد ولا والدة.
وهذا ردّ على الكفار الذين ينسبون له أولاداً أو بنات، وتكذيب لهم. وعلى هذا قوله تعالى : " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون. أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون. ألا إنهم من إفكهم ليقولون. ولد الله وإنهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين. ما لكم كيف تحكمون" (الصافات : 149-154).
كان المشركون يقولون : ولد الله البنات، وهنّ الملائكة، فتكذبهم الآية في نفي النقص عن الله بقولها : "لم يلد"، كما كذبهم الله في قوله تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم، ستكتب شهادتهم ويسألون" (الزخرف : 19).
وكذّب الله اليهود والنصارى الذين نسبوا له الولد، سواء كان عُزيراً أو المسيح أو غيرهما. قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل " (التوبة : 30).
ويناقش القرآن نسبة الولد لله مناقشة عقلية، فإن الولد لا يأتي إلا من صاحبة أوزوجة، فمن أين لله الولد وهو ليس له صاحبة؟ قال تعالى : " بديع السموات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم" (الأنعام : 101).
ومن باب استكمال نفي النقص عن الله، فقد نفت عنه الآية أن يكون مولوداً من قبل غيره : " ولم يولد "، فليس له والد ولا والدة. وهذا ردّ على الذين يؤلهون البشر المخلوقين كالنصارى الذين ألهّوا عيسى عليه السلام، فكيف يكون إلهاً وأمه هي التي ولدته؟ والإله لا يولد. قال تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم .." (المائدة : 72).
من لطائف الآية الثالثة:
تتكون الآية من جملتين فعليتين ، عطفت فيها الجملة الثانية على الجملة الأولى : " لم يلد ولم يولد " و يمكن الإشارة إلى اللطائف التالية فيها :
1- ترتيب الآية خاص، ليس على الترتيب البشري للولادة، فالإنسان يولد أولاً، وبعدما يكبر ويتزوج يلد الولد. ولو كان ترتيبها على هذا الأساس لقالت : لم يولد ولم يلد.
ولعل حكمة مخالفة الترتيب البشري التأكيد على تفرد الله وأحديته، وعدم مشابهته لخلقه، حتى في نفي النقص عنه، ولذلك قدمت الآية نفي ولادته لغيره – وهي المرحلة الثانية في الترتيب البشري – على نفي ولادة غيره له سبحانه وهي المرحلة الأولى في الترتيب البشري!
2- الفعل المضارع " يلد " متعدّ، ينصب المفعول به، تقول : ولد الرجل ولداً. ولكن هذا المفعول محذوف في الجملة الأولى : "لم يلد". وحكمة حذف المفعول به تنزيه الله عن النقص، فلو قالت الآية : لم يلد الله أحداً، لما كان مناسباً، ولذلك حذف المفعول به لأن السورة كلها في سياق تفرد الله وأحديته!.
3-أُدخل حرف الجزم " لم " على كل جملة ، وعُطف الحرف الثاني على الحرف الأول: " لم يلد ولم يولد ". وحكمة تكرار حرف الجزم " لم " إعطاء الجملة الثانية نفياً مستقلاًّ، تأكيداً لنفي النقص عن الله، وفرق بين جملة " لم يلد ويولد "، وبين قوله : " لم يلد ولم يولد ".
4-كرر الفعل المضارع في الآية مرتين، ولكنه لم يكن فيهما على صورة واحدة: كان في الجملة الأولى مبنيًّا للمعلوم : " لم يلد".. وكان في الجملة الثانية مبنيًّا للمجهول : " ولم يولد ". أي أن لفظ الجلالة " الله " كان في الجملة الأولى فاعلاً. وكان في الجملة الثانية نائب فاعل. وعند بناء الجملتين للمعلوم يكون لفظ الجلالة " الله " في الجملة الأولى فاعلاً، ويكون في الجملة الثانية مفعولاً به. والتقدير : لم يلد اللهُ أحداً، ولم يلد أحدٌ اللهَ.
5-كان الضمير في الجملتين مستتراً، ولو ذكر لقال : لم يلد هو، ولم يولد هو. واستتار الضمير في الجملتين المتتابعين لطيف.
* مع قول الله : " ولم يكن له كفواً أحد":
تنفي الآية وجود أحد، يكافئ الله ويماثله ويشابهه، وذلك بعد نفي ولادته لغيره، وولادته من غيره، والجديد الذي أضافته الآية هو عدم وجود كفء له، وهذا يؤكد تفرده بالألوهية والربوبية والأحدية والصمدية. و " كُفُواً " اسم على وزن " فُعُل "، وهو بمعنى المكافئ والمماثل والمشابه والمساوي.
وأصل الكلمة بالهمزة، تقول : كفأ ، يكفؤ، كفئاً . وهو كفؤ. أي : هو مثيل ومشابه ومساوٍ. وقلبت الهمزة واواً للتسهيل والتخفيف، فصارت : " كفواً ". وفي هذه الكلمة " " كفواً " ، ثلاث قراءات عشرية صحيحة:
الأولى : قراءة حفص عن عاصم : " كُفُواً " بضم الفاء والواو. على وزن " فُعُل ". وقلبت الهمزة واواً للتخفيف، وضم ما قبل الواو للتخفيف أيضاً .
الثانية : قراءة حمزة ويعقوب وخلف : " كُفْؤاً " بالهمزة وإسكان الفاء على الأصل، لأن أصل الكلمة بالهمزة.
الثالثة : قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو والكسائي وأبي جعفر: " كُفُُؤاً " بضم الفاء والهمزة.
والقراءات الثالث متقاربة في المعنى.
و " يكن " في الآية تحتاج إلى اسم وخبر. اسمها هو " أحد " المؤخر، وخبرها هو : " كفواً" المقدم. وشبه الجملة " له " متعلقة بالخبر و "كفواً " مقدمة عليه. والتقدير : ولم يكن أحد كفواً له.
وصياغة الآية عجيبة، ففيها كلمتان مقدمتان:
الأولى : شبه الجملة " له "، مع أن الأصل أن تكون آخر كلمة في الآية: ولم يكن أحد كفواً له. وحكمة تقديم شبه الجملة أنها هي الأهم، لأن فيها ضميراً يعود على الله، وهو المقصود من السورة كلها.
الثانية : " كفواً"، التي هي خبر " يكن " ، وتقديمه على الاسم لنفي المماثلة والمشابهة والتكافؤ.
وتأخير " أحد " الذي هو اسم " يكن "، ليتوافق مع فاصلة السورة في آياتها الأربع، التي هي الدال الساكنة المقلقلة قلقلة كبرى " أحد"، الصمد، يولد ، أحد ".
لطائف أخرى في السورة:
في هذه السورة القصيرة ذات الآيات الأربع لطائف أخرى، إضافة إلى اللطائف التي أشرنا لها من قبل، منها:
1-كلمة " أحد " مذكورة في السورة مرتين: مرة في الآية الأولى : " قل هو الله أحد " ومرة في الآية الأخيرة: " ولم يكن له كفواً أحد ".
ولم يكن ذكرها في الآيتين من باب التكرار، وإنما هي في كل آية بمعنى خاص: " أحد " في الآية الأولى : خبر المبتدأ ، " الله أحد" .. و " أحد " في الآية الثانية اسم " يكن " ، أي أنها مبتدأ في الأصل. فنقلت من كونها خبراً في الآية الأولى لتكون مبتدأ في الآية الثانية. وهذا " نقل " مقصود!
- " أحد " في الآية الأولى خبر عن الله، بهدف إثبات تفرده وأحديته. وهي في الآية الثانية أطلقت على غير الله، بهدف بيان أن هذا لا يكافئ الله!
- " أحد " : في الآية الأولى في جملة خبرية مثبتة إيجابية : " هو الله أحد " .. وهي في الآية الثانية في جملة خبرية منفية سلبية: "لم يكن له كفواً أحد ". ومجيء " أحد ". مثبتة، ثم مجيئها منفية، جمال تعبيري في القرآن.
2- لفظ الجلالة " الله " مذكور في السورة مرتين:
وهو في المرتين مبتدأ مرفوع، لكن الذي اختلف في المرتين هو الخبر. فهو في المرة الأولى نكرة : " الله أحد "، وهو في المرة الثانية معرفة " الله الصمد".
ولفظ " الله " في الآية الأولى في سياق الإخبار عن كمال الله في ذاته. وهو في الآية الثانية في سياق الإخبار عن كمال الله بالنسبة لغيره، فهو الصمد الذي يقصده كل المخلوقين.
3- حرف الجزم " لم " مذكور في السورة ثلاث مرات : وهو في كل مرة داخل على جملة تنفي النقص عن الله.
" لم " الأولى : تنفي عن الله نقص ولادته لغيره : " لم يلد ".
و " لم " الثانية: تنفي عن الله نقص ولادة غيره له.
و " لم " الثالثة : تنفي عن الله نقص مماثلة غيره له.
فهو في كل مرة أضاف معنى جديداً ، وليس من باب التكرار المنزه عنه القرآن.
4- اختصت السورة بكلمتين:
مما تميزت سورة الإخلاص به اختصاصها بكلمتين، لم تذكرا في غيرها من سور القرآن:
الأولى : " الصمد ": فلم يذكر من مادة " صمد " إلا هذه الكلمة في القرآن. وهي صفة مشبهة بمعنى اسم المفعول : الله المصمود.
الثانية : " كفواً " : فلم يذكر من مادة " كفء " إلا هذه الكلمة في القرآن. وهي اسم بمعنى اسم الفاعل : مكافئ.
واللطيف أن الكلمة الأولى أطلقت علىالله : " الله الصمد " فلا يراد بها غيره، وأن الكلمة الثانية أطلقت على غير الله : " ولم يكن له كفواً أحد ".
5- التنصيف في سورة الإخلاص :
اللافت للنظر أن في سورة الإخلاص ظاهرة يمكن تسميتها بظاهرة " التنصيف "، التي تقوم على القسمة النصفية:
السورة مكونة من أربع آيات ، متناصفة فيما بينها:
أ-الآيتان الأوليان : تتحدثان عن الله بأسلوب الإثبات : " الله أحد . الله الصمد ". والآيتان الأخريان : تتحدثان عن الله بأسلوب النفي : " لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد".
ب- الآيتان الأوليان اسميتان : الله أحد ، الله الصمد ". والآيتان الأخريان فعليتان: " لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد".
ج- الآيتان الأوليان : إخبار عن كمال الله وجلاله. والآيتان الأخريان: إخبار عن نفي النقص عن الله.
وهذا التنصيف بمظاهره الثلاثة دليل على التعبير المقصود الحكيم المعجز في القرآن.
هذه وقفات تحليلية سريعة مع آيات وكلمات هذه السورة القصيرة، التي لا تزيد على سطر واحد، وتحوي هذه اللطائف والحقائق والدلالات، وترتقي بها لتكون ثلث القرآن، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم!
(د. صلاح عبدالفتاح الخالدي )