- 5 نوفمبر 2009
- 464
- 4
- 0
- الجنس
- ذكر
ثمّة إشكاليّة ضخمة عند العلماء في التاريخ الإسلامي ، يحسب البعض أنّه لم يتوفر لها حلّ متفق عليه بينهم ، ولا جواب شاف عندهم ، اللهم إلاّ مهدّئات ومسكّنات ؛ حاصل هذه الإشكاليّة ما ثبت عن بعض الأئمّة السابقين من الجزم بعدم شرعيّة قرائة الإمام حمزة وأنّها بدعة ، حتّى أنّ بعضهم قد نهى عنها بإصرار لا رجعة فيه ، وبعضهم كرهها إلى درجة أنّه لا يقرأ بها لا في الصلاة ولا في غير الصلاة ، على أنّ بعضهم لا يرى محذوراً بضرب القارىء بها وإيجاعه لو كان عنده سلطان ..
والخطير -فيما يتمخّض عن هذا الأمر- هو القول بكفر منكر القرآن على ما أجمع عليه أهل القبلة ؛ للقطع بأنّ القرآن متواتر عن النبي عن جبرائيل عليهما السلام ؛ فإذا قيل بأنّ قرائة حمزة متواترة عن النبيّ عليه الصلاة والسلام ؛ فإنكارها يساوق إنكار المتواتر ، وهو يوجب الكفر !!!
قال ابن تيمية على سبيل المثال (في رسالة الاستغاثة : 9) : من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع ، فهو كافر بعد قيام الحجّة .
أقول -أنا القاصر- : لم يتفرّد الشيخ ابن تيمية بهذا الحكم في المتواترات والإجماعات القطعيّة ، بل عليه عامّة أهل القبلة وقاطبة أهل الشهادتين ، لكن هل جريان هذا الكلام فيما نحن فيه دقيق ، والالتزام به حقيق ؟!!!. قبل الإجابة عن هذا التساؤل الخطير ، نعرض لكلمات الأئمّة القادحة في قرائة الإمام حمزة رحمهم الله جميعاً ؛ فأقول مستعينا بالله :
قال الإمامان المزي (في تهذيب الكمال 7 : 317) وابن حجر (في تهذيب التهذيب 3 : 42 ) :
قال أبو عبيد الآجري : سمعت أبا داود يقول : سمعت أحمد بن سنان يقول : كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهية شديدة . وقال أيضاَ : قال : وسمعت أحمد بن سنان يقول : سمعت عبد الرحمان بن مهدي يقول : لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره وبطنه .
وقال الساجي أيضا : سمعت سلمة بن شبيب يقول : كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة.
وقال أبو بكر بن عياش : قراءة حمزة عندنا بدعة .
وقال الساجي : حمزة صدوق سئ الحفظ ليس بمتقن في الحديث ، وقد ذمه جماعة من أهل الحديث في القراءة ، وأبطل بعضهم الصلاة باختياره من القراءة .
وقال الساجي أيضا والازدي : يتكلمون في قرائة حمزة وينسبونه إلى حالة مذمومة فيه ، وهو في الحديث صدوق سئ الحفط ليس بمتقن في الحديث .
وقال الساجي سمعت سلمة بن شبيب يقول كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة وقال أبو بكر بن عياش قراءة حمزة عندنا بدعة.
وقال ابن دريد : إني لاشتهي أن يخرج من الكوفة قراءة حمزة . انتهى كلامهما .
أقول –أنا القاصر- : بيّنا أنّ الالتزام بتواتر قرائة الإمام حمزة يساوق كفر منكرها أو الطاعن فيها إذا كان عالماً بالتواتر ؛ فهل أنّ هؤلاء الأئمّة المنكرين رحمهم الله تعالى لم يلتفتوا إلى ذلك ؟!. حاشى ثمّ حاشى ؛ لكن إذا كان الأمر كذلك فما تفسير الحمل عليها وإنكارها ؟!!!..
الجواب أوّلاً : ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان بأنّه لا ملازمة بين إنكار القرآن الذي يوجب الكفر وبين إنكار القراءة ؛ والأئمّة المنكرون إنّما أنكروا كيفيّة القراءة لا نفس القراءة حتّى لو قلنا بتواترها . وثانيا : ما احتمله بعض الأئمّة من احتمال أنّهم أنكروا ما اعتقدوه ليس متواتراً من أصل قرائة حمزة المتواترة ...، فالمحتمل في شأنهم أنّهم أنكروا (=كرهوا) السكت والإمالة والتكلّف في المدّ وغير ذلك ممّا هو أداء للقرآن وليس قرآناً ؛ يوضّح ذلك بعض أقوال أهل العلم الكبار ..
قال الإمام الزركشي (في البرهان 1 : 319 ) : استثنى الشيخ أبو عمرو بن الحاجب قولنا : إنّ القراءات متواترة ما ليس من قبيل الأداء كالمدّ والإمالة وتخفيف الهمز فإنّها ليست متواترة .
وقد عقّب الإمام الزركشي على هذا فقال : أصل المدّ متواتر ، لكن الاختلاف والطرق في كيفيّة التلفظ به . انتهى . وهكذا قال في الإمالة والهمز ، وعبارته واضحة في أنّ طرق كيفية التلفظ بهذه الأمور غير متواترة ، فالمتواتر -فيما يظهر من عبارته- واقع في أصل الإمالة والمدّ والهمز فقط ، لا في كلّ كيفياتها عن كلّ القرّاء .
وقال الزرقاني (في مناهل العرفان 1 : 302) في هذا الخصوص : قال البناني على جمع الجوامع في شرح قول ابن الحاجب : وكأن وجه ذلك أنّ ما كان من قبيل الأداء ، بأن كان هيئة للفظ يتحقق اللفظ بدونها كزيادة المد على أصله وما بعده من الأمثلة ، وما كان من هذا القبيل لا يضبطه السماع عادة ؛ لأنّه يقبل الزيادة والنقصان ، بل هو أمر اجتهادي ، وقد شرطوا في التواتر ألا يكون في الأصل عن اجتهاد . انتهى
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي (في المغني ج 1 ص 534) :
ونقل عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق اسماعيل بن جعفر ، فان لم يكن ، فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عياش ، وأثنى على قراءة أبي عمر ، ولم يكره قراءة أحد من العشرة الاّ قراءة حمزة والكسائي ؛ لما فيها من الكسر والادغام والتكلف وزيادة المد...؛ ولأنّها تتضمن الادغام الفاحش ، وفيه اذهاب حروف كثيرة من كتاب الله تعالى ، ينقص بادغام كل حرف عشر حسنات ، ورويت كراهتها والتشديد فيها عن جماعة من السلف منهم الثوري وابن مهدي ويزيد بن هارون وسفيان بن عيينة فروي عنه أنه قال لو صليت خلف انسان يقرأ قراءة حمزة لاعدت صلاتي ، وقال أبو بكر بن عياش قراءة حمزة بدعة ، وقال ابن ادريس ما استخير أن أقول يقرأ بقراءة حمزة انه صاحب سنة ، قال بشر بن الحارث : يعيد إذا صلى خلف إمام يقرأ بها . وروي عن أحمد التسهيل في ذلك ، قال الاثرم : قلت لأبي عبد الله إمام يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه ؟ قال لا تبلغ بهذا كله ولكنها لا تعجبني . انتهى .
وقال الامام الذهبي في (سير أعلام النبلاء ج 8 ص 473 ) : كره طائفة من العلماء قراءة حمزة لما فيها من السكت ، وفرط المد ، واتباع الرسم والاضجاع (=الامالة ) ، وأشياء ، ثم استقر اليوم الاتفاق على قبولها ، وبعض كان حمزة لا يراه . انتهى .
وقال الإمام الذهبي (في ميزان الاعتدال ج 1 ص 606) :
وحكى زكريا الساجي أن أبا بكر بن عياش قال : قراءة حمزة بدعة . يريد ما فيها من المد المفرط والسكت وتغيير الهمز في الوقف والإمالة وغير ذلك . وكذا جاء عن عبدالله بن إدريس الأودي وغيره ، التبرم بقراءة حمزة .
أقول –أنا القاصر- : فهذا دليل صريح على أنّ المد المفرط والسكت وتغيير الهمز في الوقف والإمالة وغير ذلك من محسنات الأداء ، هو بدعة عند ابن عيّاش ؛ بمعنى عدم تواترها عن النبي ؛ إذ لو كانت متواترة عنده لما صحّ منه الجزم ببدعيتها ، بل قد يقال على الظاهر : إنّ هذه المحسنات -عند ابن عيّاش وغيره- لم تثبت عن النبي حتى من طريق الآحاد وإلاّ لما صحّ من مثله من كبار الأئمّة أن يقول فيها إنّها بدعة .
يشهد لذلك أيضاً قول الإمام الذهبي (في سير أعلام النبلاء ج 8 ص 473) حيث ذكر جازماً : قال ابن داود في كتاب الشريعة : حدثنا عبدالله بن محمد بن النعمان ، حدثنا ابن أبي بزة ، سمعت سفيان بن عيينة يقول : لو صليت خلف من يقرأ بقراءة حمزة ، لأعدت . وثبت مثل هذا عن ابن مهدي ، وعن حماد بن زيد نحوه . وقال محمد بن عبدالله الحويطبي : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : قراءة حمزة بدعة . انتهى .
وقد علّق الإمام الذهبي في المصدر الآنف على هذا قائلاً : قلت : مرادهم بذلك ما كان من قبيل الاداء ، كالسكت ، والاضجاع في نحو شاء وجاء ، وتغيير الهمز ، لا ما في قراءته من الحروف . هذا الذي يظهر لي ؛ فإن الرجل حجة ثقة فيما ينقل .
أقول : ولازم قول الإمام الذهبي أنّ محسنات الأداء عندهم غير متواترة عن النبي كما هو واضح ؛ وإلاّ لذكر ذلك ؛ وقد يشير إليه أنّه (=الذهبي) لم يذكر في كلّ كتبه أنّ كيفيات (=محسنات أداء) قرائة حمزة كالسكت والاضجاع وغيرها ، متواترة . ويشهد لما قلناه أيضاً ما ذكره (في ميزان الاعتدال ج 1 ص 606) قائلاً : قلت : يكفى حمزة شهادة مثل الإمام سفيان الثوري له ، فإنّه قال : ما قرأ حمزة حرفاً إلاّ بأثر ، وقال ابن أبى خيثمة ، عن سليمان بن أبى شيخ : كان يزيد بن هارون أرسل إلى أبي الشعثاء لا تقرئ في مسجدنا قراءة حمزة .
ففيه دلالة ربما هي واضحة على أنّ الكلام كل الكلام والنقض والإبرام إنّما هو في الكيفيات ومحسنات الأداء ، وقول سفيان الثوري : ما قرأ حرفاً إلا بأثر ، ناظر إلى فرش الحروف أو هذا هو المتيقن من كلامه كما لا ينبغي أن يخفى .
وقال الإمام ابن الجزري (في غاية النهاية 1 : 115) في ذلك : وإمّا ما ذكر عن عبد الله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة ؛ فإنّ ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلاً عن حمزة ، وما آفة الأخبار إلا رواتها ؛ قال بن مجاهد قال محمد بن الهيثم : والسبب في ذلك أنّ رجلا ممّن قرأ على سليم حضر مجلس ابن إدريس فقرأ فسمع ابن إدريس ألفاظاً فيها أفراط في المد والهمز وغير ذلك من التكلف ، فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه ، قال محمد بن الهيثم : وقد كان حمزة يكره هذا وينهي عنه .
وأخيراً وليس آخراً قال الإمام الذهبي (في ميزان الاعتدال الذهبي ج 1 ص 605) :
قلت : قد انعقد الاجماع بأخرة على تلقى قراءة حمزة بالقبول والانكار على من تكلم فيها ، فقد كان من بعض السلف في الصدر الاوّل فيها مقال . وكان يزيد بن هارون ينهى عن قراءة حمزة ، رواه سليمان بن أبي شيخ وغيره عنه . وقال أحمد بن سنان القطان : كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهية شديدة .
أقول –أنا القاصر- : ففي كلام الإمام الذهبي ما يميط اللثام عن كلمة الشيخ ابن تيمية من أنّ منكر المتواتر والمجمع عليه كافر ؛ فقرائة حمزة –باعتبار محسنات الأداء وليس الحروف- لم تجتمع عليها الأمّة إلاّ بأخرة ، فإنكارها قبل حصول الإجماع لا يوجب الكفر ؛ لوضوح أنّ منكرها من جهة محسنات الأداء من بعد الإجماع المتأخر لا يوجب الكفر عند مشهور العلماء ؛ ولا أقل من اختلاف العلماء في حجيّة الإجماعات المتأخرّة عن عهد الصحابة والتابعين ، على أنّنا قد بينّا ألاّ تلازم بين إنكار القران وإنكار كيفية القراءة به ؛ فالثاني لا يوجب الكفر والردّ عند المحققين على ما ذكر الإمام الزرقاني في مناهل القران .
لكن قد بقي أهمّ سؤال في البين : فهل أنّ تواتر القراءات السبع مثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ، أصولاً (كيفيات = محسنات الأداء) وحروفاً (فرش حروف) ؟! وهل هناك من العلماء من ادّعى عدم تواتر بعضها ، ولو من جهة محسّنات الأداء ؟!!!.
قلت –أنا القاصر- : نعم ؛ فالإمام أبو شامة (في كتابه المحرر الوجيز : 392) جزم بذلك قائلاً :
فالحاصل : إنّنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القرّاء ، بل القراءات كلّها منقسمة إلى متواتر وإلى غير متواتر ، وذلك بيّن لمن أنصف وعرف وتصفّح القراءات وطرقها . وغاية ما يبديه مدّعي تواتر المشهور منها ؛ كإدغام أبي عمرو ، ونقل الحركة لورش ، وصلة ميم الجمع وهاء الكناية لابن كثير ، أنّه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه ، بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة ، إلاّ أنّه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي في كل فرد فرد من ذلك ، وهنالك تسكب العبرات ؛ فإنّها لم تنقل إلاّ آحاداً إلاّ في اليسير منها . انتهى .
نتيجة البحث عدة احتمالات :
1- أن نحتمل أنّ قرائة حمزة متواترة أصولاً وفروعاً ، لكن لم يطّلع الإمام أحمد بن حنبل أو يزيد بن هارون أو ابن المهدي أو ابن عيّاش أو غيرهم من الكارهين لقراءة حمزة على طرق الرواية إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، والظاهر أنّ لهذا الاحتمال وجه حتّى مع استبعاده ؛ فقد يقال بأنّ بعض الأئمّة لم يقفوا على هذه الطرق لانشغالهم بغيرها وإن استبعد في حقّهم ذلك ؛ ووجه الاستبعاد هو عسر التصديق بأنّ مثل ابن المهدي وابن حنبل وابن هارون وغيرهم من جهابذة الحديث النبوي وعمالقة الأثر غابت عنهم طرق القراءة القرآنية .
2- أن نحتمل أنّ قراءة حمزة متواترة أصولا وفروعاً عن النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وقد أنكرها هؤلاء الأئمّة وكرهوها مع علمهم بتواترها ، وهذا لا يقول به عاقل ذي مسكة ، وحاشا الأئمّة من مثل ابن حنبل هذا ؛ فابن حنبل لا يدع حتّى الحديث الضعيف (=المعتبر) خشية أن يكون صادراً عن النبي فكيف بالمتواتر لو ثبت عنده .
3- أن نحتمل أنّ قرائة حمزة متواترة حروفاً (فرش حروف) عند هؤلاء الأئمّة الكارهين لها كما ربما تشير إليه عبائر الإمام الذهبي وغيره الآنفة ، لكنّها غير متواترة أصولاً من مدّ وسكت وإمالة وغير ذلك كما ذكر الإمام أبو شامة ، والأئمّة إنّما أنكروا ما ليس متواتراً في ظنّهم فليس عليهم شيء من ذلك ولا مؤاخذة ، وهذا الاحتمال ألصق الاحتمالات بالحق وأقربها للصدق قياساً بالاحتمالين السابقين لتصريح الأئمّة كأبي شامة بذلك ، وبه نستطيع الذود عن كبار الأئمّة المنكرين الكارهين لها كالإمام احمد بن حنبل ؛ يدلّ على ذلك أنّ الأمّة لم تجتمع عليها إلاّ بأخرة ؛ فتأمّل جيّداً .
4- أن نحتمل أنّ الأئمّة المنكرين لها الحاكمين ببدعيّتها ، إنّما أنكروا تجريدها ؛ أي الاقتصار عليها بما يلازم إلغاء ما عداها من القراءات السبعة ، وهذا الاقتصار بدعة باتفاق أمّة محمّد . ولا نستبعد وقوع هذا ؛ فالمتمذهبون كثيرون في كل زمن ، ولا ننسى أنّ هناك ظروفاً ساعدت على انتشارها بشكل ساحق ؛ فخشي الأئمّة من التوابع وهو إلغاء أو تناسي بقيّة القراءات فحكموا ببدعيّة ما لازمه الالغاء لا بدعيّة الملزوم وهو نفس القراءة .
5- أن نحتمل ما احتمله الإمام ابن الجزري وهو أنّ الإنكار انصبّ على من اجتهد في قرائة حمزة من التالين لها ، بأن تكلف الهمز والمدّ بما لا يرتضيه نفس الإمام حمزة ، ويؤيّد هذا أنّ الإمام حمزة كان يبالغ في محسنات الأداء أثناء التعليم لهذا الغرض ، من دون أن يكون أصلا عنده ولا مذهبا له ، كما هو شأن كل استاذ ، فلربما ظنّ بعض التلامذة أنّ هذا في أصل القراءة فتمسك به وتبجّح بتلاوته جهلاً بالمقصود .
أقول –أن القاصر- : فهذه احتمالات خمس ، ومعها فلا يجوز لأحد أيّاً كان ، أن يدّعي أنّ الأئمّة أنكروا قرائة حمزة مطلقاً ، ونهوا عنها بتاتا ، وحكموا ببدعيتها قولاً عامّاً ، والأمر هو الأمر في ما ورد من الطعن في القراءات الأخرى ؛ فمع هذه الاحتمالات أو أحدها أنّى لنا الجزم بأنّ الإمام أحمد كره قرائة حمزة مع علمه بتواترها ؛ فلعلّه كره ما تناقله بعض تلاميذ حمزة الذين لم يرتضهم حمزة وهكذا .
ملاحظة مهمّة : أقصد بما سطّرت أعلاه بحثاً نظريّاً لا غير ، لا ألتزم منه بشيء ؛ وإلاّ فالكلام القادح في القراءات السبع لا يلتفت إليه مسلم صحيح الاعتقاد ؛ والسبب هو حصول إجماع أهل القبلة سنّة وشيعة وزيدية وخوارج على رجحان التعبّد بهذه القراءات ؛ ومثل هذا الإجماع –كما قال مشايخي- أقوى من مثل ما ذكره الإمام الذهبي آنفاً ؛ لأنّه متأيّد بكلّ أهل الشهادتين حتّى مع انحراف بعضهم ..
فعلى سبيل المثال لا الحصر قال الشيخ الطوسي ، وهو شيخ مشايخ الشيعة وعمدة مذهبهم (في بحث القراءات السبع من تفسيره التبيان 1 : 69) : أجمع أصحابنا على جواز القراءة بما يتداوله القراء (=السبعة) ، وأنّ الإنسان مخيّر بأيّ قرائة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قرائة بعينها . انتهى . ومقصوده بالتجريد ، ما قلناه آنفا من التزام قرائة من القراءات السبع أو العشر بإلغاء ما عداها .
النتيجة : فالتعبّد بالقراءات العشر دين ، لا يجوز للمسلم أن يحيد عنه أيّاً كان مذهبه ؛ إذ حتّى لو تناسينا تواترها وقلنا بأنّ أصولها (=كيفياتها) غير متواترة عن النبي –وفي هذا ما فيه- ؛ لكن من يجرؤ أن يخالف مثل الإجماعات الآنفة التي أطبقت عليه المذاهب الإسلامية الكبرى من دون نكير ..
أرجو من المشايخ ملاحظة ذلك بعناية .
والخطير -فيما يتمخّض عن هذا الأمر- هو القول بكفر منكر القرآن على ما أجمع عليه أهل القبلة ؛ للقطع بأنّ القرآن متواتر عن النبي عن جبرائيل عليهما السلام ؛ فإذا قيل بأنّ قرائة حمزة متواترة عن النبيّ عليه الصلاة والسلام ؛ فإنكارها يساوق إنكار المتواتر ، وهو يوجب الكفر !!!
قال ابن تيمية على سبيل المثال (في رسالة الاستغاثة : 9) : من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع ، فهو كافر بعد قيام الحجّة .
أقول -أنا القاصر- : لم يتفرّد الشيخ ابن تيمية بهذا الحكم في المتواترات والإجماعات القطعيّة ، بل عليه عامّة أهل القبلة وقاطبة أهل الشهادتين ، لكن هل جريان هذا الكلام فيما نحن فيه دقيق ، والالتزام به حقيق ؟!!!. قبل الإجابة عن هذا التساؤل الخطير ، نعرض لكلمات الأئمّة القادحة في قرائة الإمام حمزة رحمهم الله جميعاً ؛ فأقول مستعينا بالله :
قال الإمامان المزي (في تهذيب الكمال 7 : 317) وابن حجر (في تهذيب التهذيب 3 : 42 ) :
قال أبو عبيد الآجري : سمعت أبا داود يقول : سمعت أحمد بن سنان يقول : كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهية شديدة . وقال أيضاَ : قال : وسمعت أحمد بن سنان يقول : سمعت عبد الرحمان بن مهدي يقول : لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره وبطنه .
وقال الساجي أيضا : سمعت سلمة بن شبيب يقول : كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة.
وقال أبو بكر بن عياش : قراءة حمزة عندنا بدعة .
وقال الساجي : حمزة صدوق سئ الحفظ ليس بمتقن في الحديث ، وقد ذمه جماعة من أهل الحديث في القراءة ، وأبطل بعضهم الصلاة باختياره من القراءة .
وقال الساجي أيضا والازدي : يتكلمون في قرائة حمزة وينسبونه إلى حالة مذمومة فيه ، وهو في الحديث صدوق سئ الحفط ليس بمتقن في الحديث .
وقال الساجي سمعت سلمة بن شبيب يقول كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة وقال أبو بكر بن عياش قراءة حمزة عندنا بدعة.
وقال ابن دريد : إني لاشتهي أن يخرج من الكوفة قراءة حمزة . انتهى كلامهما .
أقول –أنا القاصر- : بيّنا أنّ الالتزام بتواتر قرائة الإمام حمزة يساوق كفر منكرها أو الطاعن فيها إذا كان عالماً بالتواتر ؛ فهل أنّ هؤلاء الأئمّة المنكرين رحمهم الله تعالى لم يلتفتوا إلى ذلك ؟!. حاشى ثمّ حاشى ؛ لكن إذا كان الأمر كذلك فما تفسير الحمل عليها وإنكارها ؟!!!..
الجواب أوّلاً : ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان بأنّه لا ملازمة بين إنكار القرآن الذي يوجب الكفر وبين إنكار القراءة ؛ والأئمّة المنكرون إنّما أنكروا كيفيّة القراءة لا نفس القراءة حتّى لو قلنا بتواترها . وثانيا : ما احتمله بعض الأئمّة من احتمال أنّهم أنكروا ما اعتقدوه ليس متواتراً من أصل قرائة حمزة المتواترة ...، فالمحتمل في شأنهم أنّهم أنكروا (=كرهوا) السكت والإمالة والتكلّف في المدّ وغير ذلك ممّا هو أداء للقرآن وليس قرآناً ؛ يوضّح ذلك بعض أقوال أهل العلم الكبار ..
قال الإمام الزركشي (في البرهان 1 : 319 ) : استثنى الشيخ أبو عمرو بن الحاجب قولنا : إنّ القراءات متواترة ما ليس من قبيل الأداء كالمدّ والإمالة وتخفيف الهمز فإنّها ليست متواترة .
وقد عقّب الإمام الزركشي على هذا فقال : أصل المدّ متواتر ، لكن الاختلاف والطرق في كيفيّة التلفظ به . انتهى . وهكذا قال في الإمالة والهمز ، وعبارته واضحة في أنّ طرق كيفية التلفظ بهذه الأمور غير متواترة ، فالمتواتر -فيما يظهر من عبارته- واقع في أصل الإمالة والمدّ والهمز فقط ، لا في كلّ كيفياتها عن كلّ القرّاء .
وقال الزرقاني (في مناهل العرفان 1 : 302) في هذا الخصوص : قال البناني على جمع الجوامع في شرح قول ابن الحاجب : وكأن وجه ذلك أنّ ما كان من قبيل الأداء ، بأن كان هيئة للفظ يتحقق اللفظ بدونها كزيادة المد على أصله وما بعده من الأمثلة ، وما كان من هذا القبيل لا يضبطه السماع عادة ؛ لأنّه يقبل الزيادة والنقصان ، بل هو أمر اجتهادي ، وقد شرطوا في التواتر ألا يكون في الأصل عن اجتهاد . انتهى
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي (في المغني ج 1 ص 534) :
ونقل عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق اسماعيل بن جعفر ، فان لم يكن ، فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عياش ، وأثنى على قراءة أبي عمر ، ولم يكره قراءة أحد من العشرة الاّ قراءة حمزة والكسائي ؛ لما فيها من الكسر والادغام والتكلف وزيادة المد...؛ ولأنّها تتضمن الادغام الفاحش ، وفيه اذهاب حروف كثيرة من كتاب الله تعالى ، ينقص بادغام كل حرف عشر حسنات ، ورويت كراهتها والتشديد فيها عن جماعة من السلف منهم الثوري وابن مهدي ويزيد بن هارون وسفيان بن عيينة فروي عنه أنه قال لو صليت خلف انسان يقرأ قراءة حمزة لاعدت صلاتي ، وقال أبو بكر بن عياش قراءة حمزة بدعة ، وقال ابن ادريس ما استخير أن أقول يقرأ بقراءة حمزة انه صاحب سنة ، قال بشر بن الحارث : يعيد إذا صلى خلف إمام يقرأ بها . وروي عن أحمد التسهيل في ذلك ، قال الاثرم : قلت لأبي عبد الله إمام يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه ؟ قال لا تبلغ بهذا كله ولكنها لا تعجبني . انتهى .
وقال الامام الذهبي في (سير أعلام النبلاء ج 8 ص 473 ) : كره طائفة من العلماء قراءة حمزة لما فيها من السكت ، وفرط المد ، واتباع الرسم والاضجاع (=الامالة ) ، وأشياء ، ثم استقر اليوم الاتفاق على قبولها ، وبعض كان حمزة لا يراه . انتهى .
وقال الإمام الذهبي (في ميزان الاعتدال ج 1 ص 606) :
وحكى زكريا الساجي أن أبا بكر بن عياش قال : قراءة حمزة بدعة . يريد ما فيها من المد المفرط والسكت وتغيير الهمز في الوقف والإمالة وغير ذلك . وكذا جاء عن عبدالله بن إدريس الأودي وغيره ، التبرم بقراءة حمزة .
أقول –أنا القاصر- : فهذا دليل صريح على أنّ المد المفرط والسكت وتغيير الهمز في الوقف والإمالة وغير ذلك من محسنات الأداء ، هو بدعة عند ابن عيّاش ؛ بمعنى عدم تواترها عن النبي ؛ إذ لو كانت متواترة عنده لما صحّ منه الجزم ببدعيتها ، بل قد يقال على الظاهر : إنّ هذه المحسنات -عند ابن عيّاش وغيره- لم تثبت عن النبي حتى من طريق الآحاد وإلاّ لما صحّ من مثله من كبار الأئمّة أن يقول فيها إنّها بدعة .
يشهد لذلك أيضاً قول الإمام الذهبي (في سير أعلام النبلاء ج 8 ص 473) حيث ذكر جازماً : قال ابن داود في كتاب الشريعة : حدثنا عبدالله بن محمد بن النعمان ، حدثنا ابن أبي بزة ، سمعت سفيان بن عيينة يقول : لو صليت خلف من يقرأ بقراءة حمزة ، لأعدت . وثبت مثل هذا عن ابن مهدي ، وعن حماد بن زيد نحوه . وقال محمد بن عبدالله الحويطبي : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : قراءة حمزة بدعة . انتهى .
وقد علّق الإمام الذهبي في المصدر الآنف على هذا قائلاً : قلت : مرادهم بذلك ما كان من قبيل الاداء ، كالسكت ، والاضجاع في نحو شاء وجاء ، وتغيير الهمز ، لا ما في قراءته من الحروف . هذا الذي يظهر لي ؛ فإن الرجل حجة ثقة فيما ينقل .
أقول : ولازم قول الإمام الذهبي أنّ محسنات الأداء عندهم غير متواترة عن النبي كما هو واضح ؛ وإلاّ لذكر ذلك ؛ وقد يشير إليه أنّه (=الذهبي) لم يذكر في كلّ كتبه أنّ كيفيات (=محسنات أداء) قرائة حمزة كالسكت والاضجاع وغيرها ، متواترة . ويشهد لما قلناه أيضاً ما ذكره (في ميزان الاعتدال ج 1 ص 606) قائلاً : قلت : يكفى حمزة شهادة مثل الإمام سفيان الثوري له ، فإنّه قال : ما قرأ حمزة حرفاً إلاّ بأثر ، وقال ابن أبى خيثمة ، عن سليمان بن أبى شيخ : كان يزيد بن هارون أرسل إلى أبي الشعثاء لا تقرئ في مسجدنا قراءة حمزة .
ففيه دلالة ربما هي واضحة على أنّ الكلام كل الكلام والنقض والإبرام إنّما هو في الكيفيات ومحسنات الأداء ، وقول سفيان الثوري : ما قرأ حرفاً إلا بأثر ، ناظر إلى فرش الحروف أو هذا هو المتيقن من كلامه كما لا ينبغي أن يخفى .
وقال الإمام ابن الجزري (في غاية النهاية 1 : 115) في ذلك : وإمّا ما ذكر عن عبد الله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة ؛ فإنّ ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلاً عن حمزة ، وما آفة الأخبار إلا رواتها ؛ قال بن مجاهد قال محمد بن الهيثم : والسبب في ذلك أنّ رجلا ممّن قرأ على سليم حضر مجلس ابن إدريس فقرأ فسمع ابن إدريس ألفاظاً فيها أفراط في المد والهمز وغير ذلك من التكلف ، فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه ، قال محمد بن الهيثم : وقد كان حمزة يكره هذا وينهي عنه .
وأخيراً وليس آخراً قال الإمام الذهبي (في ميزان الاعتدال الذهبي ج 1 ص 605) :
قلت : قد انعقد الاجماع بأخرة على تلقى قراءة حمزة بالقبول والانكار على من تكلم فيها ، فقد كان من بعض السلف في الصدر الاوّل فيها مقال . وكان يزيد بن هارون ينهى عن قراءة حمزة ، رواه سليمان بن أبي شيخ وغيره عنه . وقال أحمد بن سنان القطان : كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهية شديدة .
أقول –أنا القاصر- : ففي كلام الإمام الذهبي ما يميط اللثام عن كلمة الشيخ ابن تيمية من أنّ منكر المتواتر والمجمع عليه كافر ؛ فقرائة حمزة –باعتبار محسنات الأداء وليس الحروف- لم تجتمع عليها الأمّة إلاّ بأخرة ، فإنكارها قبل حصول الإجماع لا يوجب الكفر ؛ لوضوح أنّ منكرها من جهة محسنات الأداء من بعد الإجماع المتأخر لا يوجب الكفر عند مشهور العلماء ؛ ولا أقل من اختلاف العلماء في حجيّة الإجماعات المتأخرّة عن عهد الصحابة والتابعين ، على أنّنا قد بينّا ألاّ تلازم بين إنكار القران وإنكار كيفية القراءة به ؛ فالثاني لا يوجب الكفر والردّ عند المحققين على ما ذكر الإمام الزرقاني في مناهل القران .
لكن قد بقي أهمّ سؤال في البين : فهل أنّ تواتر القراءات السبع مثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ، أصولاً (كيفيات = محسنات الأداء) وحروفاً (فرش حروف) ؟! وهل هناك من العلماء من ادّعى عدم تواتر بعضها ، ولو من جهة محسّنات الأداء ؟!!!.
قلت –أنا القاصر- : نعم ؛ فالإمام أبو شامة (في كتابه المحرر الوجيز : 392) جزم بذلك قائلاً :
فالحاصل : إنّنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القرّاء ، بل القراءات كلّها منقسمة إلى متواتر وإلى غير متواتر ، وذلك بيّن لمن أنصف وعرف وتصفّح القراءات وطرقها . وغاية ما يبديه مدّعي تواتر المشهور منها ؛ كإدغام أبي عمرو ، ونقل الحركة لورش ، وصلة ميم الجمع وهاء الكناية لابن كثير ، أنّه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه ، بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة ، إلاّ أنّه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي في كل فرد فرد من ذلك ، وهنالك تسكب العبرات ؛ فإنّها لم تنقل إلاّ آحاداً إلاّ في اليسير منها . انتهى .
نتيجة البحث عدة احتمالات :
1- أن نحتمل أنّ قرائة حمزة متواترة أصولاً وفروعاً ، لكن لم يطّلع الإمام أحمد بن حنبل أو يزيد بن هارون أو ابن المهدي أو ابن عيّاش أو غيرهم من الكارهين لقراءة حمزة على طرق الرواية إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، والظاهر أنّ لهذا الاحتمال وجه حتّى مع استبعاده ؛ فقد يقال بأنّ بعض الأئمّة لم يقفوا على هذه الطرق لانشغالهم بغيرها وإن استبعد في حقّهم ذلك ؛ ووجه الاستبعاد هو عسر التصديق بأنّ مثل ابن المهدي وابن حنبل وابن هارون وغيرهم من جهابذة الحديث النبوي وعمالقة الأثر غابت عنهم طرق القراءة القرآنية .
2- أن نحتمل أنّ قراءة حمزة متواترة أصولا وفروعاً عن النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وقد أنكرها هؤلاء الأئمّة وكرهوها مع علمهم بتواترها ، وهذا لا يقول به عاقل ذي مسكة ، وحاشا الأئمّة من مثل ابن حنبل هذا ؛ فابن حنبل لا يدع حتّى الحديث الضعيف (=المعتبر) خشية أن يكون صادراً عن النبي فكيف بالمتواتر لو ثبت عنده .
3- أن نحتمل أنّ قرائة حمزة متواترة حروفاً (فرش حروف) عند هؤلاء الأئمّة الكارهين لها كما ربما تشير إليه عبائر الإمام الذهبي وغيره الآنفة ، لكنّها غير متواترة أصولاً من مدّ وسكت وإمالة وغير ذلك كما ذكر الإمام أبو شامة ، والأئمّة إنّما أنكروا ما ليس متواتراً في ظنّهم فليس عليهم شيء من ذلك ولا مؤاخذة ، وهذا الاحتمال ألصق الاحتمالات بالحق وأقربها للصدق قياساً بالاحتمالين السابقين لتصريح الأئمّة كأبي شامة بذلك ، وبه نستطيع الذود عن كبار الأئمّة المنكرين الكارهين لها كالإمام احمد بن حنبل ؛ يدلّ على ذلك أنّ الأمّة لم تجتمع عليها إلاّ بأخرة ؛ فتأمّل جيّداً .
4- أن نحتمل أنّ الأئمّة المنكرين لها الحاكمين ببدعيّتها ، إنّما أنكروا تجريدها ؛ أي الاقتصار عليها بما يلازم إلغاء ما عداها من القراءات السبعة ، وهذا الاقتصار بدعة باتفاق أمّة محمّد . ولا نستبعد وقوع هذا ؛ فالمتمذهبون كثيرون في كل زمن ، ولا ننسى أنّ هناك ظروفاً ساعدت على انتشارها بشكل ساحق ؛ فخشي الأئمّة من التوابع وهو إلغاء أو تناسي بقيّة القراءات فحكموا ببدعيّة ما لازمه الالغاء لا بدعيّة الملزوم وهو نفس القراءة .
5- أن نحتمل ما احتمله الإمام ابن الجزري وهو أنّ الإنكار انصبّ على من اجتهد في قرائة حمزة من التالين لها ، بأن تكلف الهمز والمدّ بما لا يرتضيه نفس الإمام حمزة ، ويؤيّد هذا أنّ الإمام حمزة كان يبالغ في محسنات الأداء أثناء التعليم لهذا الغرض ، من دون أن يكون أصلا عنده ولا مذهبا له ، كما هو شأن كل استاذ ، فلربما ظنّ بعض التلامذة أنّ هذا في أصل القراءة فتمسك به وتبجّح بتلاوته جهلاً بالمقصود .
أقول –أن القاصر- : فهذه احتمالات خمس ، ومعها فلا يجوز لأحد أيّاً كان ، أن يدّعي أنّ الأئمّة أنكروا قرائة حمزة مطلقاً ، ونهوا عنها بتاتا ، وحكموا ببدعيتها قولاً عامّاً ، والأمر هو الأمر في ما ورد من الطعن في القراءات الأخرى ؛ فمع هذه الاحتمالات أو أحدها أنّى لنا الجزم بأنّ الإمام أحمد كره قرائة حمزة مع علمه بتواترها ؛ فلعلّه كره ما تناقله بعض تلاميذ حمزة الذين لم يرتضهم حمزة وهكذا .
ملاحظة مهمّة : أقصد بما سطّرت أعلاه بحثاً نظريّاً لا غير ، لا ألتزم منه بشيء ؛ وإلاّ فالكلام القادح في القراءات السبع لا يلتفت إليه مسلم صحيح الاعتقاد ؛ والسبب هو حصول إجماع أهل القبلة سنّة وشيعة وزيدية وخوارج على رجحان التعبّد بهذه القراءات ؛ ومثل هذا الإجماع –كما قال مشايخي- أقوى من مثل ما ذكره الإمام الذهبي آنفاً ؛ لأنّه متأيّد بكلّ أهل الشهادتين حتّى مع انحراف بعضهم ..
فعلى سبيل المثال لا الحصر قال الشيخ الطوسي ، وهو شيخ مشايخ الشيعة وعمدة مذهبهم (في بحث القراءات السبع من تفسيره التبيان 1 : 69) : أجمع أصحابنا على جواز القراءة بما يتداوله القراء (=السبعة) ، وأنّ الإنسان مخيّر بأيّ قرائة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قرائة بعينها . انتهى . ومقصوده بالتجريد ، ما قلناه آنفا من التزام قرائة من القراءات السبع أو العشر بإلغاء ما عداها .
النتيجة : فالتعبّد بالقراءات العشر دين ، لا يجوز للمسلم أن يحيد عنه أيّاً كان مذهبه ؛ إذ حتّى لو تناسينا تواترها وقلنا بأنّ أصولها (=كيفياتها) غير متواترة عن النبي –وفي هذا ما فيه- ؛ لكن من يجرؤ أن يخالف مثل الإجماعات الآنفة التي أطبقت عليه المذاهب الإسلامية الكبرى من دون نكير ..
أرجو من المشايخ ملاحظة ذلك بعناية .