إعلانات المنتدى


{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

محمد أبو يوسف

عضو شرف
عضو شرف
28 نوفمبر 2005
2,415
11
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
مصطفى إسماعيل


الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد، وعلى آله و صحبه البررة المتقين، وعلى من كان على دربهم، إلى يوم البعث و الدين ، ثم أما بعد :


يقول رب العزة سبحانه :
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

هنا يخبر الله تعالى عن ذكر عبده الصابر أيوب عليه السلام، وما كان من دعائه في مقام الذل والفقر و العبودية لربه بارىء النفوس والأنام، وهنا نقف على عبر وعظات لكل عبد خاضع لحكم سيده، يرجو لقياه عند الممات، ولعل نجوم الليل تتضح، و صدور اليأس تنشرح، و قلوب الغفلة تصطبح فتنتصح .

فقوله عليه السلام، أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، وصف لحالِ نفسه بتذلل و افتقار إلى ربه الرحيم سبحانه، مع تضمنه لوصف ربه بالرحمة على وجه الرجاء و الطلب، فكان واصفا لنفسه بمساس الضر، واصفا لربه بالرحمة طلبا لكشف ذاك الضر، فهي صيغة خبر شملت السؤال، و هذا من باب حسن الأدب في الطلب والدعاء لتحصيل المبتغى والمنال، قصد طلب العون وتفريج الكرب من العزيز ذي العزة والكمال .

يقول الإمام العلم العلامة ابن القيم الجوزية عليه رحمة رب البرية : ( جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في المتملق له والإقرار له بصفة الرحمة وإنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته وهو فقره ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره ) الفوائد (1/201)

وقال الزمخشري رحمه الله في كشافه :
( ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة, ولم يصرح بالمطلوب )
و زاد شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله فقال : ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال وهو أبلغ من جهة العلم والبيان !
و تبعه
تلميذه البار فقال : ولم يقل فعافني واشفني )

ولذا قال بعض الأدباء : و لم يقل ارحمني لأنه حفظ أدب الخطاب

وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : لبث أيوب عليه السلام على المزبلة سبع سنين، وما على الأرض يومئذ خلقٌ أكرم على الله منه، فما سأل الله العافية إلا تعريضا في قوله : ( إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) .

قلت : و هذا غاية الأدب و التلطف مع من ترجوه وترغب فيما عنده من الرحمة والغفران، وكشف ما تعانيه من كرب و بلاء .
و هنا بيان بديع بليغ لكل عاقل فطن، أن الأدب يسبق الطلب و يغلب على الطالب لنيل رضا المطلوب و ما عنده ، وقد يفعلُها أحدهم مع بعض من يقدر على قهرهم بتنفيد مطلبه، و ما بال الحال وأنت تطلبها من القوي ذي القوة المتين !

وهنا نقف على إشارة جليلة، نبعت من إمام عظيم وشيخ من شيوخ الإسلام بحق، ابن تيمية الحراني عليه رحمة رب البرية ،قال رحمه الله : ( وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك فإنها تقال على وجه الأمر إما لما في ذلك من حاجة الطالب وإما لما فيه من نفع المطلوب فأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال ) لله درك يا إمام !

انظروا رحمني الله وإياكم كيف أدرك هذا الإمام حقيقة مرضية، تزيدك من حلاوة الإيمان ، و تشعرك بأنك ذا عزة وفخر حيث كنت عبدا ذليلا فقيرا خاضعا لربه المنان، فأنت ترجوه وتدعوه وأنت تعلم أنه الغني الكريم ذي الملكوت وصاحب العزة والسلطان !

ثم إن قيل ، لما هذه الشكوى ، وأين هو الصبر على البلوى !؟
نقول بأن هذه شكوى إليه سبحانه، وليست لغيره من الضعفاء المخلوقين، وهي لا تنافي صبره وجلده عليه السلام على ما أصابه من بلاء عظيم ، وإلا فقد وصفه ربه سبحانه بقوله : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )

وقد قال بعض العلماء : فإن يعقوب عليه السلام قد وعد بالصبر الجميل، والنبي إذا وعد لا يخلف أبدا ، ثم بعد ذلك قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله )

وهذا دليل على أن صبره على البلاء ، لا ينافي الشكوى إليه سبحانه برفعه، ثم هنا أمر آخر وجب التفطن إليه مليا، فقد قال الإمام بن عيينة رحمه الله : ( وكذلك من شكا إلى الناس، وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعا، ألم تسمع { قول النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أجدني مغموما وأجدني مكروبا } (1) وقوله { بل أنا وارأساه } (2)
1) حديث ( أجدني مغموما ) فيه القاسم بن عبد الله وهو كذاب كما قال الإمام أحمد رحمه الله وصرح بوضعه العلامة الألباني رحمه الله كما في الضعيفة 5384
2) حديث ( بل أنا وارأساه ) فهو عند البخاري رحمه الله في صحيحه


وإنما قاله صلى الله عليه وآله وسلم من شدة الألم والوجع عند مرض موته ، بأبي هو وأمي سيد البشر جمعاء ، ولذا فإن الأمر فيه تفصيل وتأصيل، فإن ذكر أحدهم مصابه وهو راض بقضاء الله وقدره، فالأمر وهذه الحال لا شيء فيه أبدا، وأما إن ذكره من باب التسخط وعدم الرضا بقضاء الله سبحانه، فهذا هو الخطب الجلل، والقول الخطل، و نعوذ بالله من الزلل .

قال الإمام الماوردي رحمه الله في النكث والعيون ما نصه :
وفي مخرج قوله : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } أربعة أوجه :
أحدها : أنه خارج مخرج الاستفهام، وتقديره أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين.
الثاني : أنت أرحم بي أن يمسني الضر.
الثالث : أنه قال ( ذلك) استقالة من ذنبه ورغبة إلى ربه.
الرابع : أنه شكا ضعفه وضره استعطافاً لرحمته، فكشف بلاءه فقيل له :
{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ }
فركض برجله فنبعت عين، فاغتسل منها وشرب فذهب باطن دائه وعاد إليه شبابه وجماله، وقام صحيحاً، وضاعف الله له ما كان من أهل ومال وولده .

قال رب العزة سبحانه :
( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ )

نعم إخوتي الإيمان
فهذا ما كان من الطالب الراغب ببلاغة في السؤال مع التلطف والرجاء، وما كان من المطلوب منه رحمة وكشف ضر وزيادة خيرٍ قد أجيب بالدعاء،ولذا فإن الله مع الصابرين من عباده، ينصرهم بعد بلائه، ليمحص الصادقين من الكاذبين، ويعلم المؤمنين المخلصين، وإن كان من تملق حينها وطلب للنصر فهو من الله تعالى مع تحقيق أسبابه، وبعدها شكا إليه فاستراح، واستغاث به فجاء السراح ومعه النجاح .

وهنا إشارة يجدر ذكرها، والإرشاد لمدلولها العظيم النافع، وهي أن المؤمن الصادق المخلص لربه، يبتليه الله عز وجل على قدر إيمانه وإخلاصه و قربه منه سبحانه، فما يزيد ذلك المؤمن الصادق إلا إيمانا وثباتا وقوة وجلدا وصبرا على قضاء الله و قدره، و حينها يكون أمره كله خير، كما أخبر بذلك نبينا الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو يقول : ( عجبًا لأمرِ المؤمنِ . إن أمرَه كلَّه خيرٌ . وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ . إن أصابته سراءُ شكرَ . فكان خيرًا له . وإن أصابته ضراءُ صبر . فكان خيرًا له ) صحيح مسلم وفي رواية ( وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ )
السلسلة الصحيحة - 147

و بهذا يعلم أن ما كان في ظاهره شرا نحسبه، قد يكون على الحقيقة خيرا عظيما نجهله، فما قد يظن في رؤيته خذلانا، هو في حقيقته نصرة ورفعة ومنزلة وشانا، وأكبر برهان على ذلك، أن أشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الأخيار من الصالحين، ثم الأمثل فالأمثل، أو الأقرب فالأقرب، فكلما زاد إيمان المرء و قوي دينه، كان البلاء والامتحان على قدر ذلك، حتى ما يبرحه إلا و يتركه طاهرا من كل ذنوبه و معاصيه، وفي هذا المعنى الحميد، يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثلفالأمثل ، يبتلى الناس على قدر دينهم ، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ، و من ضعف دينه ضعف بلاؤه ، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة ) صحيح الجامع : 993
و في رواية ( إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة التى يحويها ،و إن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ) السلسلة الصحيحة : 144

لطيفة : التلطف في السؤال سبب لتحصيل النوال
وقالت الحكماء : لطف الاستماح سبب النجاح
قال العتابي رحمه الله : ( إذا طلبت حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه، وإياك والإلحاح عليه، فإن اللحاحة تكلم عرضك، وتريق ماء وجهك، فلا تأخذ عوضاً مما أخذ منك ولعل الإلحاح يجمع عليك أخلاق الوقاح ، وحرمان النجاح )

فقلت : يا سبحان الله ، كيف كان الإلحاح على ذي السلطان الزائل، يجلب لك الحرمان، بل أنت ذا أخلاق الوقاح، و كيف كان الإلحاح على ذي السلطان العظيم رب الملكوت سبحانه، يجلب لك الفرج والستر والسماح مع النجاح، وهذا لتعلموا أن ربكم حيي حليم رحيم، يحب العبد الملحاح .

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين







 

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد
رد: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

جزاك الله خير الجزاء
بارك الله فيكم، و نفع بكم و بعلمكم.
 

*ريتاج*

مزمار ألماسي
9 نوفمبر 2009
1,243
25
0
رد: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

جزاكم الله خيرا و نفع بكم
 

الوهراني

مزمار داوُدي
26 أبريل 2008
3,836
27
48
الجنس
ذكر
رد: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

ما شاء الله

شرح واف و ممتع

جزاك الله عنا خيرا أخي محمد و نفع بك

مما أذكره - و عهدي به قديم - عن قول سيدنا أيوب " مسني الضر " .. لاحظ أنه قال " مسٌني " و لم يقل تضررت .. و إنما مسني فقط .. و قد كان مرضه خطيرا و ألمه شديدا جدا .. فسبحان الله العظيم

بارك الله فيك أخي محمد على هذه الدرر .. زادك الله فضلا و علما
 

محمد أبو يوسف

عضو شرف
عضو شرف
28 نوفمبر 2005
2,415
11
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
مصطفى إسماعيل
رد: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

جزاك الله خير الجزاء
بارك الله فيكم، و نفع بكم و بعلمكم.

و إياك أختي الفاضلة و زيادة ....
 

محمد أبو يوسف

عضو شرف
عضو شرف
28 نوفمبر 2005
2,415
11
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
مصطفى إسماعيل
رد: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

جزاكم الله خيرا و نفع بكم
و إياك أختي الفاضلة و زيادة ....
 

محمد أبو يوسف

عضو شرف
عضو شرف
28 نوفمبر 2005
2,415
11
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
مصطفى إسماعيل
رد: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

ما شاء الله
شرح واف و ممتع

جزاك الله عنا خيرا أخي محمد و نفع بك

مما أذكره - و عهدي به قديم - عن قول سيدنا أيوب " مسني الضر " .. لاحظ أنه قال " مسٌني " و لم يقل تضررت .. و إنما مسني فقط .. و قد كان مرضه خطيرا و ألمه شديدا جدا .. فسبحان الله العظيم

بارك الله فيك أخي محمد على هذه الدرر .. زادك الله فضلا و علما

و إياك أخي الكريم الوهراني و زيادة ......
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع