- 22 يوليو 2008
- 16,039
- 146
- 63
- الجنس
- أنثى
- علم البلد
-
بسم الله الرحمن الرحيم
سفينة نوح ( سفينة النجاة)
(د. عدنان علي النحوي)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الله إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ . وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:41-46].
صورة مليئة بالحركة والمشاهد، غنيّة بالألوان والجَرْس، قويّة التصوير.. إنها آيات منزلة من عند الله، تصف مشاهد من أهم ما حدث في التاريخ البشري، تصف كيف ينجي الله المؤمنين حين يُحدق الخطر بالناس من كلِّ جانب.
وأهمية هذه المشاهد في هذه الآيات الكريمة تَبْرز ونحن نرى أنها تصوّر لنا مشاهد تتكرر في تاريخ الإنسان ، في المعركة الدائرة بين الإيمان والكفر ، حتى يكاد يُمثِّل التاريخ في معظم جوانبه هذه المعركة. وبذلك تُصوِّر لنا هذه الآيات الكريمة سُنَّةً من سُنن الله الثابتة الماضية على حكمةٍ لله بالغة وقَدَرٍ غالب .
إنها سفينة النجاة التي أمر الله نبيّه ورسوله نوحاً أن يُعدَّها للنجاة بها هو ومن اتبعه من المؤمنين، {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}.. {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا...}.
وباب النجاة للمؤمنين مفتوح أبد الدهر رحمةً منه سبحانه وتعالى، وجعل الله مفتاح النجاة بيد المؤمنين أنفسهم إن هم صدقوا الله وأوفوا بعهدهم وأدَّوا الأمانة.
وسفينة نوح عليه السلام مَثَلٌ على توافر سبيل النجاة لمن أراد وصدق. وتتعدّد الأمثلة مع التاريخ، وتظلُّ سفينة نوح هي النموذج الذي يصوّر الأمثلة كلها. ويظلُّ نداء النبوّة مدوّياً أبد الدهر يدعو المؤمنين ليركبوا سفينة النجاة، ويلجوا باب النصر: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} وكيف لا تكون السفينة سفينة النجاة وهي تجري باسم الله وترسي باسم الله، والأمر كله لله، والملك كله لله، والحمد كله لله.
كلُّ مسلم يدرك اليوم أن الخطر محدق بالمسلمين ، يتهددهم رجالاً ونساءً، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، دياراً وأقطاراً. إن الخطر أوضح من أن يتجاهله إلا غافل أو لاهٍ، غاب في لهو الدنيا ولعبها، وزخرفها وزينتها .
ولكن قد يغيب عن بال بعض المسلمين اليوم أمران: الأول: أنه قد لا يدرك المسلم مدى دنوِّ الخطر منه، من شخصه وأهله الأقربين. بل يظنُّ أن الخطر بعيد منه قريب من غيره، وأنه لذلك في منجى. ويقع المسلم بذلك فيما وقع فيه ابن نوح: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ...}.. وما ارعوى ابن نوح حتى عندما ذكَّره أبوه النبيّ الرسول بحقيقة الخطر الذي لا نجاة منه إلا بسفينة النجاة التي أمر الله بإعدادها، والتي جعلها الله السبيل الوحيد للنجاة: {... قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الله إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
ولا تنحصر عظمة هذا البيان الربَّاني في ألفاظه الغنيّة وما تحمل من ظلال وجرس وإيجاز، ولكنها تمتدُّ إلى الحقِّ الذي تعرضه، والصدق الذي تصوّره، لا وهم فيه ولا أساطير. وكم يلجأ الناس إلى الأساطير ليعلو بيانهم قيمة فنيّة، أو يدَّعون له جمالاً فنيّاً مستقى من خرافة الأساطير.
وتمتدُّ عظمة البيان الرباني في هذه الآيات الكريمة إلى ما جمعته في هذه الصياغة من تصوير للخطر وعرض لوسيلة النجاة في الوقت نفسه، من خلال صياغة فنيّة عالية معجزة. ويظل وصف الخطر ووصف سبيل النجاة هو النموذج لكل حالة، ليعتبر المؤمنون وليطمئنَّ الصادقون إلى أنّه مهما ادلهمَّ الخطر وتوالت الفواجع، فإنّ باب النجاة مُيسَّر لهم، يطرقونه ويفتحونه بصدقهم ووفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة:7].
ومن هنا يتبين لنا الأمر الثاني الذي قد يغفل عنه بعض المسلمين. ذلك أنَّ من المسلمين من ينسى مسؤوليته حين يكون الخطر، ويغفل عن أنَّ الله سبحانه وتعالى يسَّر للمؤمنين باب النجاة وسبيلها مع كلِّ خطر، ولكنه جعل مفتاح الباب بيد المؤمنين أنفسهم، وولوجَه مسؤوليّتهمْ. ذلك هو محور العهد والميثاق مع الله، والله أعلم بهم.
ينسى بعض المسلمين التكاليف الربّانيّة التي وضعها الله في أعناقهم، والتي سيُحاسَبون عليها يوم القيامة بين يدي الله .ينسى بعضهم هذه التكاليف التي فصّلها المنهاج الرباني – قرآناً وسُنّة ولغة عربية – وجعلها عبادةً خُلِقوا لها، وخلافة جُعلتْ لهم، وأمانةً حملوها، وعمارةً للأرض بحضارة الإيمان أُمروا بها، من خلال ابتلاء وتمحيص كتبه الله على بني آدم. نسي كثير من المسلمين حقيقة: "المسؤولية الفردية" التي جعلها على كل مسلمٍ مكلَّفٍ في حدود وسعه الصادق لا وسعه الكاذب الموهوم .(1)
من خلال هذه الغفوة ظنَّ بعضهم أنهم ينجون لو نطقوا بالشهادتين، وادعوا بهما ادعاءً لا يصدّقه الواقع والله أعلم بما في القلوب. وظنّ آخرون أنهم ينجون لو أخذوا بالشعائر وحدها، وكأنهم فهموا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "بُني الإسلام على خمس...". (متفق عليه)، أن معنى "بُني الإسلام على خمس" أن الإسلام هو الشهادتان والشعائر ولا تكاليف بعد ذلك. فتركوا الميدان لأعداء الله يجولون فيه ويصولون ليكونوا الخطر الزاحف على المسلمين.
هذا هو الأمر المهم الثاني الذي قد يغفل عنه المسلم، حين ينسى دوره ومسؤوليته الفرديّة أمام الأحداث التي تلمُّ بالمسلمين، فيغفو على صورة من صور الغفوة أو الغفلة أو العجز والتقصير، فتضطرب مسؤوليّة الأمة كلها، ويمتدُّ الضعف والهوان .
هناك إذن مسؤوليات وتكاليف أخرى غير الشهادتين والشعائر، إلا أن الإسلام كله والتكاليف كلها تقوم على هذا الأساس المتين: الشهادات والشعائر.
إن الحديث الشريف يكشف لنا عظمة التكامل والتناسق بين جميع التكاليف وقوة الترابط بينهما، والأساس المتين الذي تقوم عليه.
وفي الوقت نفسه يؤكد هذا الحديث امتداد المسؤوليات وترابطها ليكون الوفاء بها هو الوفاء بالعهد مع الله، وليكون هذا الوفاء كله هو سبيل النجاة وبابها ومنطلقها. ولتكون المسؤولية الفردية هي الأساس الذي تقوم عليه مسؤولية الأمة.
وعندما ينطلق المؤمن نفسه والمؤمنون إلى سبيل النجاة أو إلى بابها، ويطرقونه ليفتحه الله لهم بصدقهم ووفائهم، فإنَّ الكافرين يظلّون في عماءتهم وضلالهم ، غارقين في أوحال الدنيا، فينفصل المؤمنون عنهم فكراً ونهجاً وموقفاً وممارسةً، ويحول بين الفريقين حائل يدفع كل فريق إلى مصيره: فريق المؤمنين إلى النجاة، وفريق الكافرين إلى الغرق: {... وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
{حَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} ! صورة فنيّة معجزة لتبيّن انقطاع النداء بين الأب النبيّ الرسول وابنه المصرّ على الكفر، وانقطاع الرجاء في نجاة من يصرُّ على الكفر. إنها الصورة المعبّرة عن النموذج المتكرّر، حين تحين لحظة المفاصلة بين الإيمان والكفر. وإنها الصورة التي نراها في فرعون وجنوده وهم يغرقون، وفي ثمود وعاد ومدين والمؤتفكات.
وإذا لم تحدث هذه المفاصلة في لحظتها المناسبة، فلن ينفتح باب النجاة، وتُسَدُّ سبيلها، ويأخذ الله الجميع بعذاب أليم. إنّ المفاصلة بين الكفر والإيمان بعد تبليغ الدعوة والوفاء بعهد الله ومسؤولياته واستكمال جميع التكاليف الربّانيّة مع الصبر والمثابرة، وقبل نزول الخطر والعقاب، ضرورة حتى يفتح الله باب النجاة.
إن تصوير سبيل النجاة في الآيات الكريمة من سورة هود ، وارتباط ذلك بتصوير الخطر وهوله ، رحمة من الله ومغفرة ونعمة سابغة . ولذلك أشرقت هذه الرحمة مع نور الآيات الكريمة : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
إن عقاب الله للمجرمين المفسدين في الأرض حقٌّ، واقع لا محالة في ذلك مهما طال الأمر. وإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه.
ولا ينزل العقاب بقوم مجرمين دون قوم، ولكن الله يأخذ كل إنسان بذنبه، كل قوم بعملهم، فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء، يعذّب من أبى النصيحة وأصرّ على الفتنة والكفر، وتمادى في ضلاله حتى حَقَّت عليه كلمة الله؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه". (رواه الشيخان والترمذي). (2)
وقوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ولا يقبل الله من المؤمن أو المؤمنين أن يسألوا الله النجاة لأحد من الكافرين حين ينزل عذاب الله وعقابه. فما قَبِلَ الله من نوح عليه السلام أن يسأله نجاة ولده، ولا من إبراهيم عليه السلام أن يسأله المغفرة لوالده، الذي ظلَّ على شركه.
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
وكذلك من إبراهيم عليه السلام واستغفاره لأبيه الذي أصرَّ على الشرك عدواً لله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
وأصبح النهي عامّاً بعد ذلك؛ ينهى الله المؤمنين أن يطلبوا المغفرة من الله للمشركين ولو كانوا آباءهم وأبناءهم إذا أَصرُّوا على الشرك وماتوا عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
إن إصرار الكافر على كفره والمشرك على شركه لا يقف ضرورة عند حدود التصوّر والكلمة العابرة. إن هذا الإصرار يمتدُّ في نتيجته إلى الموقف العمليّ في الحياة والجهد المبذول لنشر الفتنة والفساد في الأرض، والاعتداء الظالم المستمرّ على المؤمنين.
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ . اشْتَرَوْا بِآياتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:8-10].
إن الكافرين والمشركين يعملون ليل نهار، يُنفقون أموالهم، ويشغلون أوقاتهم بنشر الفتنة والفساد في الأرض، وبالظلم والعدوان والجرائم المروِّعة المستمرّة، لا تأخذهم رحمة ولا يرقبون عهداً، حتى ينتشر الفساد ويظهر في الأرض، ما دام المؤمنون غافلين عن مسؤولياتهم.
إن نتيجة هذا التخلّي عن التكاليف الربانية أن لا يجد الناس سفينة نوح لينقذهم الله بها، ولا يجدوا مفتاحَ النجاة يعمل وقد عطَّلوه أو تخلّوا عنه، ولا يجدوا أبواب النجاة مفتّحة بل مغلقة. وربما تفتّح لهم عندئذ أبواب العذاب ولا يجدون لهم محيصاً عنها. عندئذ لن يجد الناس سبيلاً إلى النجاة إلا التوبة الصادقة لله رب العالمين، والعودة الصادقة لمنهاج الله عودة منهجية تجمع المؤمنين في الأرض صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، أمة مسلمة واحدة، لتكون خير أمة أخرجت للناس. وسفينة نوح عليه السلام كانت تحمل الصف المؤمن الواحد الذي صدق التوبة لله فصبر وجاهد .
سفينة نوح ( سفينة النجاة)
(د. عدنان علي النحوي)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الله إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ . وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:41-46].
صورة مليئة بالحركة والمشاهد، غنيّة بالألوان والجَرْس، قويّة التصوير.. إنها آيات منزلة من عند الله، تصف مشاهد من أهم ما حدث في التاريخ البشري، تصف كيف ينجي الله المؤمنين حين يُحدق الخطر بالناس من كلِّ جانب.
وأهمية هذه المشاهد في هذه الآيات الكريمة تَبْرز ونحن نرى أنها تصوّر لنا مشاهد تتكرر في تاريخ الإنسان ، في المعركة الدائرة بين الإيمان والكفر ، حتى يكاد يُمثِّل التاريخ في معظم جوانبه هذه المعركة. وبذلك تُصوِّر لنا هذه الآيات الكريمة سُنَّةً من سُنن الله الثابتة الماضية على حكمةٍ لله بالغة وقَدَرٍ غالب .
إنها سفينة النجاة التي أمر الله نبيّه ورسوله نوحاً أن يُعدَّها للنجاة بها هو ومن اتبعه من المؤمنين، {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}.. {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا...}.
وباب النجاة للمؤمنين مفتوح أبد الدهر رحمةً منه سبحانه وتعالى، وجعل الله مفتاح النجاة بيد المؤمنين أنفسهم إن هم صدقوا الله وأوفوا بعهدهم وأدَّوا الأمانة.
وسفينة نوح عليه السلام مَثَلٌ على توافر سبيل النجاة لمن أراد وصدق. وتتعدّد الأمثلة مع التاريخ، وتظلُّ سفينة نوح هي النموذج الذي يصوّر الأمثلة كلها. ويظلُّ نداء النبوّة مدوّياً أبد الدهر يدعو المؤمنين ليركبوا سفينة النجاة، ويلجوا باب النصر: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} وكيف لا تكون السفينة سفينة النجاة وهي تجري باسم الله وترسي باسم الله، والأمر كله لله، والملك كله لله، والحمد كله لله.
كلُّ مسلم يدرك اليوم أن الخطر محدق بالمسلمين ، يتهددهم رجالاً ونساءً، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، دياراً وأقطاراً. إن الخطر أوضح من أن يتجاهله إلا غافل أو لاهٍ، غاب في لهو الدنيا ولعبها، وزخرفها وزينتها .
ولكن قد يغيب عن بال بعض المسلمين اليوم أمران: الأول: أنه قد لا يدرك المسلم مدى دنوِّ الخطر منه، من شخصه وأهله الأقربين. بل يظنُّ أن الخطر بعيد منه قريب من غيره، وأنه لذلك في منجى. ويقع المسلم بذلك فيما وقع فيه ابن نوح: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ...}.. وما ارعوى ابن نوح حتى عندما ذكَّره أبوه النبيّ الرسول بحقيقة الخطر الذي لا نجاة منه إلا بسفينة النجاة التي أمر الله بإعدادها، والتي جعلها الله السبيل الوحيد للنجاة: {... قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الله إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
ولا تنحصر عظمة هذا البيان الربَّاني في ألفاظه الغنيّة وما تحمل من ظلال وجرس وإيجاز، ولكنها تمتدُّ إلى الحقِّ الذي تعرضه، والصدق الذي تصوّره، لا وهم فيه ولا أساطير. وكم يلجأ الناس إلى الأساطير ليعلو بيانهم قيمة فنيّة، أو يدَّعون له جمالاً فنيّاً مستقى من خرافة الأساطير.
وتمتدُّ عظمة البيان الرباني في هذه الآيات الكريمة إلى ما جمعته في هذه الصياغة من تصوير للخطر وعرض لوسيلة النجاة في الوقت نفسه، من خلال صياغة فنيّة عالية معجزة. ويظل وصف الخطر ووصف سبيل النجاة هو النموذج لكل حالة، ليعتبر المؤمنون وليطمئنَّ الصادقون إلى أنّه مهما ادلهمَّ الخطر وتوالت الفواجع، فإنّ باب النجاة مُيسَّر لهم، يطرقونه ويفتحونه بصدقهم ووفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة:7].
ومن هنا يتبين لنا الأمر الثاني الذي قد يغفل عنه بعض المسلمين. ذلك أنَّ من المسلمين من ينسى مسؤوليته حين يكون الخطر، ويغفل عن أنَّ الله سبحانه وتعالى يسَّر للمؤمنين باب النجاة وسبيلها مع كلِّ خطر، ولكنه جعل مفتاح الباب بيد المؤمنين أنفسهم، وولوجَه مسؤوليّتهمْ. ذلك هو محور العهد والميثاق مع الله، والله أعلم بهم.
ينسى بعض المسلمين التكاليف الربّانيّة التي وضعها الله في أعناقهم، والتي سيُحاسَبون عليها يوم القيامة بين يدي الله .ينسى بعضهم هذه التكاليف التي فصّلها المنهاج الرباني – قرآناً وسُنّة ولغة عربية – وجعلها عبادةً خُلِقوا لها، وخلافة جُعلتْ لهم، وأمانةً حملوها، وعمارةً للأرض بحضارة الإيمان أُمروا بها، من خلال ابتلاء وتمحيص كتبه الله على بني آدم. نسي كثير من المسلمين حقيقة: "المسؤولية الفردية" التي جعلها على كل مسلمٍ مكلَّفٍ في حدود وسعه الصادق لا وسعه الكاذب الموهوم .(1)
من خلال هذه الغفوة ظنَّ بعضهم أنهم ينجون لو نطقوا بالشهادتين، وادعوا بهما ادعاءً لا يصدّقه الواقع والله أعلم بما في القلوب. وظنّ آخرون أنهم ينجون لو أخذوا بالشعائر وحدها، وكأنهم فهموا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "بُني الإسلام على خمس...". (متفق عليه)، أن معنى "بُني الإسلام على خمس" أن الإسلام هو الشهادتان والشعائر ولا تكاليف بعد ذلك. فتركوا الميدان لأعداء الله يجولون فيه ويصولون ليكونوا الخطر الزاحف على المسلمين.
هذا هو الأمر المهم الثاني الذي قد يغفل عنه المسلم، حين ينسى دوره ومسؤوليته الفرديّة أمام الأحداث التي تلمُّ بالمسلمين، فيغفو على صورة من صور الغفوة أو الغفلة أو العجز والتقصير، فتضطرب مسؤوليّة الأمة كلها، ويمتدُّ الضعف والهوان .
هناك إذن مسؤوليات وتكاليف أخرى غير الشهادتين والشعائر، إلا أن الإسلام كله والتكاليف كلها تقوم على هذا الأساس المتين: الشهادات والشعائر.
إن الحديث الشريف يكشف لنا عظمة التكامل والتناسق بين جميع التكاليف وقوة الترابط بينهما، والأساس المتين الذي تقوم عليه.
وفي الوقت نفسه يؤكد هذا الحديث امتداد المسؤوليات وترابطها ليكون الوفاء بها هو الوفاء بالعهد مع الله، وليكون هذا الوفاء كله هو سبيل النجاة وبابها ومنطلقها. ولتكون المسؤولية الفردية هي الأساس الذي تقوم عليه مسؤولية الأمة.
وعندما ينطلق المؤمن نفسه والمؤمنون إلى سبيل النجاة أو إلى بابها، ويطرقونه ليفتحه الله لهم بصدقهم ووفائهم، فإنَّ الكافرين يظلّون في عماءتهم وضلالهم ، غارقين في أوحال الدنيا، فينفصل المؤمنون عنهم فكراً ونهجاً وموقفاً وممارسةً، ويحول بين الفريقين حائل يدفع كل فريق إلى مصيره: فريق المؤمنين إلى النجاة، وفريق الكافرين إلى الغرق: {... وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
{حَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} ! صورة فنيّة معجزة لتبيّن انقطاع النداء بين الأب النبيّ الرسول وابنه المصرّ على الكفر، وانقطاع الرجاء في نجاة من يصرُّ على الكفر. إنها الصورة المعبّرة عن النموذج المتكرّر، حين تحين لحظة المفاصلة بين الإيمان والكفر. وإنها الصورة التي نراها في فرعون وجنوده وهم يغرقون، وفي ثمود وعاد ومدين والمؤتفكات.
وإذا لم تحدث هذه المفاصلة في لحظتها المناسبة، فلن ينفتح باب النجاة، وتُسَدُّ سبيلها، ويأخذ الله الجميع بعذاب أليم. إنّ المفاصلة بين الكفر والإيمان بعد تبليغ الدعوة والوفاء بعهد الله ومسؤولياته واستكمال جميع التكاليف الربّانيّة مع الصبر والمثابرة، وقبل نزول الخطر والعقاب، ضرورة حتى يفتح الله باب النجاة.
إن تصوير سبيل النجاة في الآيات الكريمة من سورة هود ، وارتباط ذلك بتصوير الخطر وهوله ، رحمة من الله ومغفرة ونعمة سابغة . ولذلك أشرقت هذه الرحمة مع نور الآيات الكريمة : {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
إن عقاب الله للمجرمين المفسدين في الأرض حقٌّ، واقع لا محالة في ذلك مهما طال الأمر. وإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه.
ولا ينزل العقاب بقوم مجرمين دون قوم، ولكن الله يأخذ كل إنسان بذنبه، كل قوم بعملهم، فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء، يعذّب من أبى النصيحة وأصرّ على الفتنة والكفر، وتمادى في ضلاله حتى حَقَّت عليه كلمة الله؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه". (رواه الشيخان والترمذي). (2)
وقوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ولا يقبل الله من المؤمن أو المؤمنين أن يسألوا الله النجاة لأحد من الكافرين حين ينزل عذاب الله وعقابه. فما قَبِلَ الله من نوح عليه السلام أن يسأله نجاة ولده، ولا من إبراهيم عليه السلام أن يسأله المغفرة لوالده، الذي ظلَّ على شركه.
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
وكذلك من إبراهيم عليه السلام واستغفاره لأبيه الذي أصرَّ على الشرك عدواً لله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
وأصبح النهي عامّاً بعد ذلك؛ ينهى الله المؤمنين أن يطلبوا المغفرة من الله للمشركين ولو كانوا آباءهم وأبناءهم إذا أَصرُّوا على الشرك وماتوا عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
إن إصرار الكافر على كفره والمشرك على شركه لا يقف ضرورة عند حدود التصوّر والكلمة العابرة. إن هذا الإصرار يمتدُّ في نتيجته إلى الموقف العمليّ في الحياة والجهد المبذول لنشر الفتنة والفساد في الأرض، والاعتداء الظالم المستمرّ على المؤمنين.
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ . اشْتَرَوْا بِآياتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:8-10].
إن الكافرين والمشركين يعملون ليل نهار، يُنفقون أموالهم، ويشغلون أوقاتهم بنشر الفتنة والفساد في الأرض، وبالظلم والعدوان والجرائم المروِّعة المستمرّة، لا تأخذهم رحمة ولا يرقبون عهداً، حتى ينتشر الفساد ويظهر في الأرض، ما دام المؤمنون غافلين عن مسؤولياتهم.
إن نتيجة هذا التخلّي عن التكاليف الربانية أن لا يجد الناس سفينة نوح لينقذهم الله بها، ولا يجدوا مفتاحَ النجاة يعمل وقد عطَّلوه أو تخلّوا عنه، ولا يجدوا أبواب النجاة مفتّحة بل مغلقة. وربما تفتّح لهم عندئذ أبواب العذاب ولا يجدون لهم محيصاً عنها. عندئذ لن يجد الناس سبيلاً إلى النجاة إلا التوبة الصادقة لله رب العالمين، والعودة الصادقة لمنهاج الله عودة منهجية تجمع المؤمنين في الأرض صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، أمة مسلمة واحدة، لتكون خير أمة أخرجت للناس. وسفينة نوح عليه السلام كانت تحمل الصف المؤمن الواحد الذي صدق التوبة لله فصبر وجاهد .