- 26 يونيو 2015
- 111
- 164
- 43
- الجنس
- أنثى
- القارئ المفضل
- محمود خليل الحصري
- علم البلد
-
هدأة اللّيل تنصت إلى أنفاس المكان ولجين البدر يتقاطر على الأكام كما الوهاد ، السنديان و الصفصاف و أشجار التّين مسحة النسيم تهدهد أوراقها و الأفنان ، ساحة الدّار فسحة تلألأ عليها الحصى و صراصير الأرض تغنّي للدّيجور في أعتاب صيف نثر القشّ عطاء فوق الثّرى .
"فورار " صدّع رأس الحبيبة زينب :
- أمّي ، متى تنتهين من خيّاطة محفظتي ؟
- مهلا يا قطعة من قلب أمّك ، ما تبقّى إلاّ الزّر سأثبّته في الحال .
و تحت نور القنديل الخافت مضت اللّحظات و فورار يستعجل زينب و زينب تعارك الإبرة و الخيط لا يهمّها الوخز و لا عبئت بأوصال تفتّتت نهارا ... المهمّ أن تكمل محفظة الذي غدا سيحجّ إلى مدرسة الضّيعة في تلّة اللّوز .
فورار " ذلك اللّحوح لا يسكت و من هناك من تحت اللّحاف صاح "عمّي ميلود " وقد زُلزل في جفونه عرش الكرى :
- لماذا لا تسكت يا ولد ، غدا أول يوم و لايهم إن أخذت المحفظة أم لا .
سيل الكلمات توقّف دفقه أدخل " فورار " رأسه بحضن أمّه التي هامسته قائلة " محفظة ابني جاهزة ، غدا ستحملها معك ".
خفق قلب الصّبي فتسلّلت من بين جفونه المغمضات عبرات ترسم على الوجنتين الأثر أمّا الشّهقة والزفرات فقد كتمها خوفا من والده .
نفخت زينب بالقنديل فانطفأ و عمّت الظّلمة فنام ثلاثة رابعهم حلم أسعد الفتى في المنام ...
جاء الصّباح و عانقت الشّمس قمم الجبال ّو تجلى الأوراس تحفة استأثرت بها تلك الأرض ، جبين السّماء الأزرق و عناقيد الشّجر في السّفوح الممتدة شطآنٌ لحقول مالت بها سنابل حزيران .
فورار صاحب القشّابية و الطّاقيّة غسل الوجه و الكفّين و حمل محفظته التي خاطتها له أمّه زينب من بقايا سترة قديمة لوالده ، يمشي في صحن الدّار مختالا يحدّث نفسه حينا و حينا يصيح " أمي متى يأتي أبي ليوصلني إلى المدرسة ؟ متى يأتي مللت الانتظار ... سأذهب وحدي .
و من هناك من مطبخها المتنفس دخانّا و المتلحّف بحمم النّار تنتفض زينب غضبا : لا ...أياك أن تذهب وحدك ، والدك وحده يعلم كيف و متى يأخذك .
- إيه ..متى يأتي ميلودك هذا ؟
- أراك نسيت عنزاتك ، أما اشتقت إليهن ؟
- بلى و لكن أريد رؤية هذه المدرسة التي يحدّثني عنها " مسعود " كلّ يوم جمعة.
أنّ الباب أنّة ... ها هو عمي ميلود جاء بعد أن أوصل عنزاته السبع لأحد الجيران ليرعاها ، ف " سي فورار " سيقصد المدرسة منذ نهار اليوم . قفز فورار فرحا و كاد قلبه يشقّ صدره وضع يده في يد والده وقال : هيا ميلود لنسرع . ضحك عمي ميلود و قال : هيا يا سي فورار سنرى ما أنت فاعل بالمدرسة ؟
و سار فورار الولد الذي يعانق محفظة ما تحوي جلالتها غير لوحة و قطعة طباشير ، مشى الولد لا تغادر عيناه المدى ، قدماه تتعثّران بالحجارة و تبعثران حبّات الثّرى و تحطّمان في قسوة قواقع الحلازين الخاويّة ، والده من حين لحين يفلته فيتأخّر خلفه و ينسى نفسه بينما يرسم خيالَه تلميذا في المدرسة، أوه سمع عنها الكثير تلك القلعة العجيبة ... " أسرع يا ولد " صيحة من عمّي ميلود فكّت قيود الفتى و حرّرته من أحلامه في صحو لا منام ... فاختصر المسافة و اقترب من والده لاهثا يده المتعرّقة لا تغادر محفظته المقدّسة ، و فجأة سمعا من خلفهما زئير سيارة " السّي عيسى " جاءت من بعيد غيمة غبار تلاحقها أو ربما هي من كانت تلاحق غيمة الغبار ، بوقها الفضيع المرعب تبتعد له البهائم كما البشر ... لازالت المدرسة بعيدة بعض الشيء لوّح عمي ميلود لصاحب السيارة عساه يمنّ عليه فيتوقّف ... و كان له ما أراد و فرمل السي عيسى فرملة ذكّرت فورار بفزّاعة الحقل فأحسّ بنعيق الغربان يصمّ آذانه و يدكّ رأسه ، ركب عمّي ميلود و أركب الفتى فورار تلك الكومة المتحرّكة من القصدير و الذي ما إن أدخل رأسه حتّى غمرته رائحة الزّريبة تذكّره بعنزاته " الأوانس العوانس " و انطلقت السيارة من جديد و إذ بالسّي عيسى يصيح بالولد اوثق ربط حبل الباب و إلاّ عدت إلى أمّك مسخ إنسان ، بين الخوف و الإمتثال حاول فورار أن يُحكم غلق الباب لكنّه لم يستطع فتسلّلت غيمة الغبار التي على فكرة كانت تتبع السيارة إلى الدّاخل لتجعل من فورار "الفتى الأشهب" ، تدخّل عمّي ميلود و أوثق غلق الباب و كومة الخردة التي تأبى أن تموت تتابع طريقها تخلّد آثارها بين الحقول فهي السيارة الوحيدة هناك ... و أخيرا شعر فورار بزلزال عنيف يرميه إلى الخلف ثم يقذف به إلى الأمام ليرتطم بأنفه على حافة المقعد الأمامي و كادت أنفه تطير منه ، لقد فرمل السي عيسى و نزل فورار و بقيّ مسمّرا في مكانه إنّه في تلّة اللّوز إنّه أمام المدرسة و ها هو فناؤها عرش للأطفال ، لم يسمع فورار قصديرة السي عيسى تغادر و لا سمع والده يأمره بالاقتراب .... حتى جاءه هذا الأخيرة وساقه أمامه و هذه اللّحظة بالذّات دق جرس الدّخول فتسارع التلاميذ إلى البوابة العملاقة و من هناك جاء معلّم بارز الكرش تخين لا يكاد يقدر على الحراك حاملا بيده عصا غليظة أقلّ غلظة قليلا من عصا شيخ الكتّاب و ما إن اقترب حتى تلاشى اندفاع التلاميذ و دخلوا بهدوء ، اقترب عمي ميلود من المعلّم البدين فأومأ إليه الأخير " أعلم أعلم اتركه و اذهب "
ترك السّي ميلود سفيره في المدرسة و عاد أدراجه .
لم يدر فورار ما يفعل قادوه إلى فصل من الفصول أدخلوه مثل كلّ اترابه المنكمشين في مقاعدهم ينظرون و لا ينظرون . و لحظات و دخلت الحجرة آنسة محجّبة وجه
ها كالبدر الفتان صفاء و نورا لا هي بالطويلة المضحكة و لا القصيرة التي تثير الشفقة ، لا هي بالبدينة ولا النّحيفة ... دخلت و أغلقت باب الحجرة و ذهبت إلى مكتبها و وضعت عليه اشياءها ثم بدأت بكل اللّطف تتحدّث إلى الأطفال و تسألهم واحدا واحدا عن أسمائهم ثم عرّفتهم باسمها "الآنسة نادية " ، بقيت عيون فورار مشدودة إلى التي تتكلّم و نسي محفظته المبجّلة التي سقطت منه عند قدميه و بين الكلمات و الابتسامات اقتربت منه الآنسة نادية فاحمرّت وجنتاه و سخنت رأسه و ارتعشت فرائصه ، اقتربت منه ربّتت على كتفه ثم انحنت و حملت محفظته قائلة :
- ام ؟ ..محفظة جميلة من صنعها لك ؟
لم يستطع فورار أن يجيب فرّت منه الكلمات ، و عاودت الآنسة طرح السؤال فاستجمع الطفل قواه و قال : أمّي . و لم بزد عليها كلمة فاقتربت منه الآنسة نادية أكثر و سألته : طيب ما اسمك ؟
و لم يخف هذه المرّة و قال " فورار " فعلّقت الآنسة اسم جميل هل تعرف معناه ؟ فتوقّفت دواليب الطفل تماما لأنّه لم يفهم ماذا تريد و مرّت السّاعات مع الآنسة نادية و بسرعة بدأ حبّ المكان و ألفة المكان تتسلّلان إلى قلب الصغير ... أوه لقد دقّ الجرس غدا سيعود فورار بأدواته التي طلبتها آنسته و غدا دوام ليوم كامل ....خرج الفتى و غادر المدرسة و انساب بين الحقول مع بعض ممن تعرّف عليهم من الأطفال و ساروا كوكبة واحدة يغادرها بعضهم عند صخرة و آخر عند النّبع و أخران عند دكّان الضّيعة ليبقى فورار لوحده سائرا إلى بيته في السفح ينتظر لحظات تجمعه بأمّه ليحكي لها عن فسحة من الزمن دافئة عاشها في تلّة اللّوز و ليروي لها عن آنسته نادية نعم عاد مشتاقا إلى أوانسه العوانس حتى يتلو عليهن تاريخ ذلك اليوم التاسع من سبتمبر....سارالعائد من المدرسة فاتحا صدره للحياة ، متيّما بتلّة اللّوز و عرشها المتحوف بالملائكة عدا صاحب العصا و العصا ، في الدّروب الضّيقة تلاشى الفتى لينهمر قطرة نور أمام الحبيبة زينب و التي ما إن رأته حتى أمطرته أسئلة و هو يردّ و ينسى و تتوه كلماته التي أرادهها ، دخلت به إلى الدّار ... إلى مطبخها أين بدأت أسراب الشمس تميد بعيدا مع اقتراب المساء .
النّار بين الأثافي تأكل عيدانها و إبريق أسود تلثمه ألسنة اللّهب و الجمرات ... عبق القهوة سبى الولد كما ملأ الدّنيا نشوة و جمالا معلنا عن شيح ٍ بريّ يغازل حبّات
قرنفل ، جلس فورار وضع محفظته و الكلمات لا تريد السكوت " لو رأيت أمّي ... لو رأيت الفصول و الطّاولات ... وليتك ترين الآنسة نادية ... ليتك ترينها ؟
و صمت الولد و كلّ شيء فيه ينطق بالسّعادة ، تسلّمت أمّه إبريق القهوة و سكبت له منها و قدّمت إليه كسرة من شعير و قالت " إياك أن تخذلني أريد أن يتحدّث عنك جميع أهل القرية ، لا بدّ أن تكون فطنا ... لا أريد أن تكون مثلي لا أعرف شيء ... حتى الصلاة أخجل من أن أصلّيها إذا زرت أقاربنا في المدينة ..." و خرجت زينب لبعض حاجاتها و هي تواصل لعن الزّمن الذي تركها لا تعرف من الحروف غير ألف عوجاء ... و في هذه الثتاء سمع فورار بمأمآت أوانسه فأسرع إلى الخارج و قد تركهنّ الرّاعي ، أدخلهنّ فرار إلى صحن الدّار و هو يداعب هذه العنزة و يحنو على هذا الجدي و أخذ يروي لهنّ عن يومه الكنز الذي لا يغادره و أعلنها صراحة و قد حمل غصنا من هناك " هيا اعتدلن في صف واحد كفى حديثا ...مدّ الذراع ...هيا هيا " ثمّ أفلت عصاه و غرق في نوبة ضحك بينما العنزات لا يعبأن بكلماته ... هذه تلعق جديها و تلك تنطح أخرى ... وأخرى تلتطق ما بقي من تبن ملقى ...
دخل فورا ر غرفة أمّه و تمدّد على حصير الحلفاء و نام بعد نهار من التّعب و الصّخب و الجمال و الحب .
هوت الشّمس وراء الجبال العاليّة و تدفّق اللّيل و انسكب ، سحب كثيفة تحجب القمر و النّجوم ، تلبّيها ريح آتيّة من الشّرق تراقص الصفصاف و الصنوبر و الأغصان
قدر السّيدة زينب يغلي تعدّ كسكسا للعشاء أي نعم ليس باللحم و لكن ببصل و حليب العنزات .
عاد عمّي ميلود أشهبا متثاقل الخطى فعمل البنّاء شاق مضن يدقّ العظام و يفكّك الأوصال ، سأل زوجته زينب " أين فورار " فردّت لقد نام من التّعب سأوقظه ليتعشّى "
- نعم نعم أيقظيه ، أحضرت له ما سيجعله يطير فرحا "
- فاركا عينيه قال فورارمتثائبا ... و ماذا أحضرت يا والدي "
- انتظر حتى تفتح عينيك على الأقل ، كنت أظنّك غاطّا في نوم عميق .
وقف فورار عند رأس والده : " أرجوك يا أبي ماذا أحضرت ؟
فطلب عمّي ميلود من زوجته أن تقرّب القنديل ليرى
و أفرغ "عمّي ميلود " محتوى جرابه الذي يحمله ، فتلألأت عينا فورار و زادت المكان ضياءً غطّى على بعض النّور الذي كان قنديل الغاز يرسله منّةً على المكان .
خارجا التفّت الأشجار بأغصانها تشدّها إليها و الرّيح الهوجاء تحاول عبثا افتكاك الجذور من أرضها ... زخّات المطر الدّافق تبعثر الحصى و تجرف القشّ ، ترسم السّواقي من السّفح تتدفّق غدرانا إلى الوديان .... اللّيل البهيم لا تعنيه الفصول يسبّح الرّب نائما لا عين ترى و لا أذن تسمع .
- جثا فورار على ركبتيه مستفسرا : و لكن أبي لم أخبرك بما يجب أن تشتريه لي ، حتّى أنّي خشيت أن أحمل غدا أيضا فقط قطعة الطّباشير و اللّوحة " لم ينتظر عاشق المدرسة جوابا، و ترك نظره يسري بهجة إذ يري أقلام تلوين و دفتر و قلم رصاص و قريصات و خشيبات .
زينب تسترق من الزّمن تلك اللّحظات التي ترى فيها - برغم الدّمع يغطّي المشاهد و الصّوّر - ابنها فورار سعيدا حتى أنّ السّعادة توشك أن تخرق شِماله ... مدّت يدها أزاحت دمعها لكّنها العبرات زينب ، عبرات الحبّ الأكبر لا يمكنك افتكاك خدّيك منها و لا الوجنات .
استلم فورار أدواته و أخذ يشمّها متغزّلا كابن الملوّح بعطرها و ذهبت به أخيلته إلى حيث وجْدُه لا يتوه عن الطريق و لا تبعثره الدّروب ... ينظر إلى جدران الفصل و إلى بدر يشرق عليهم نهارا و الشّمس تخطّ دربها في السّماء .
عمّي ميلود هو الآخر تزلزل متنه و تلاشت أشرعته اعوجّ فمه لكنه أمسكهنّ ... أمسك دمعات ما ذاق ملحها إلاّ يوم ودّع بين القبور أمّه .
في تلك الحفنة من الدّمع و النّشوة قال " عمّي ميلود " : أين العشاء زينب ؟ و من لحظتها و عيونها لازالت مرقدا للنّازلات أخذت تفرك حبّات الكسكس وضعت منه في صحن من فخّار و أضافت إليه الحليب السّاخن ثمّ قدّمته لرَجُليْها زوجها و الحبيب فورار .
قال فورار : أنا شبعان لا أريد أن آكل "
فأسرعت إليه زينب تستحلفه بكلّ غال أن يتذوّق ثم إذا شاء عاد إلى النّوم دون عشاء .
أخذ الولد بعض الملاعق بسرعة إلى فيه ثم انتبذ من والديه مكانا قصيّا حيث ينام مع أمّه و ضع محفظته المحمّلة بكنوز الدّنيا بين أحضانه و راح يتململ تململ صبّ أذابه الهوى ... و تواصل صراخ الرّياح يراقصه عواء الذّئاب و أسدل فورار جفنه يحلم بغده هناك في تلّة اللّوز ...
تتالت ساعات الدّيجور الغاضب و تساقطت خيوطه الغدافيّة واحدة بعد أخرى حتى أفناها الفجر هادئا ، غاب الودق و صَمتَ العويل ، تثاءب المشرق باعثا فاتنة النّور ترسل أولى أنفاسها فضّة فاضت في السّماء .
زينب عند كانونها ... عند إبريقها السّحري و قهواها المستبدّة لا يفلت من عِشقِها كائنا ما كان ... حليب العنزات في إناء من نيكل تدفّق زبدا يهشّم النّار و ينفض الدّخان غيمات ...غيمات ... فراح الرّماد يحتج بزفرة أيقظت فورار و أعادته إلى الكون عائدا من جنّة الرؤى و الأحلام .
تمطّى الولد ثمّ انفجر سائلا : أين محفظتي يا زينب " فردّت عليه زينب و قلب زينب و روح زينب : عند الوسادة ، ألا تراها ؟... ثم أين صباح الخير يا قاصدا تلّة اللّوز .
تفقّد فورار محفظته المقدّسة ثم تلا تحيّة على مسامع أمّه ... بعدها استدرك : أين أبي يوصلني إلى المدرسة و أين قدح الحليب ؟
- والدك غادر باكرا ، ستذهب لوحدك كما عدت بالأمس ، أمّا الحليب فهاهو فنجانك و هذه بعض الكسرة .
شرب فورار الحليب سريعا ينفخ و يتأوّه و زينب تشير عليه بالتّأنّي و لكن لا و كلاّ فشوق الولد للمدرسة لا يتركه و شأنه أبدا .
حمل الصّبي محفظته و انتعل حذاءه ذا الثّغور تكشف أصابع القدم و انفجر إلى الخارج مسرعا و زينب تناديه : انتظر انتظر هاك بعض الكسرة و حبّتي بيض مسلوق ... انتظر هذا غداؤك .
استدار فورار غاضبا : سأتأخّر يا زينب سأتأخّر ... هاتي ..هاتي اسرعي .
هرول الولد تارة و تارة مشى الهوّينة ، الوحل عقّد من مهمّة الفتى و أشقاه في معراجه إلى مكان عشقه قبل الآن .
و هاهو في آخر ارتقاءاته للصّخر و الرّوابي يطلّ على فناء المدرسة و قد اكتظّت كما كلّ صباح بأطفال يلعبون تحت أشجار اللّوز ، يتسلّقون أشجار اللّوز و يحومون حول أشجار اللّوز أو يجلسون القرفصاء عند الأسوار .
اختلط فورار بالأولاد و بدأ يروي الحكايا كما يستمع إليها ، حتى ...حتى صفّر صاحب الكرش و العصا فهرع التّلاميذ إلى طابورهم و انسابو بهدوء إلى السّاحة ثم توزّعوا في نظام و صمت إلى فصولهم و كأنّ على رؤوسهم الطّير .
اعتدل فورار مع زملائه في الصّف أمام حجرة الدّرس و جاءت الآنسة نادية تزيد الصّف وجاهة و كمالا بعدها أمرتهم بالدّخول منبّهة إياهم بإلقاء التّحيّة " السّلام عليكم " .
دخل فورار ، أسرع إلى مكانه و وضع محفظته في درج الطاولة و اعتدل في مكانه ينظر إلى الأنسة نادية تخطّ كلمات على السّبورة ثمّ التفتت إليهم و بدأت تلقّنهم أوّل شيء : " تاريخ اليوم " ، بعدها أمرتهم بإخراج أدواتهم المطلوبة و راحت تدوّن على كلّ كرّاسة اسم صاحبها حتى بلغت فورار فكتبت اسمه ثم قالت : لكن أين الغلاف الأحمر كما طلبت ، فامتقع لون فورار و دون شعور منه أخذت عيناه تذرفان الدّمع ، نظرت إليه الآنسة نادية مبتسمة و قد ضمّته إلى صدرها : لا ... لا ، لم البكاء يا فورار ، لا تخف سأعطيك غلافا من عندي .
كان الأطفال ينظرون إلى فورار ضاحكين من حاله فنبّهتم الآنسة : سكوت " فسكتوا .
و كما قالت فعلا أحضرت غلافا أحمر و غلّفت به كرّاسة فورار و ربّتت على رأسه : أنا مثل أمّك لا تخف منّي أبدا فقط ابق هادئا كما أنت ، اتّفقنا " ، فهزّ صاحبنا رأسه و تراجعت الدّمعات و عادت الأنفاس كما كانت
و بدأت المعلّمة تقدّم الدّروس حروفا ، أرقاما ، ألوانا ... حوارا و قرآنا ... و تعاقبت أيّام الفصل الدّراسي الأوّل و فورار الألمع و الأهدأ و الأكثر فصاحة في نطق الحروف و الكلمات ، له من آنسته بطاقة حينا و حينا قلما و حينا مصافحة و ثناء .
فورار لم يطلّق حبّ عنزاته الأوانس العوانس بل كلّ مساء كنّ يستمعن لدروسه و كثيرا ما يؤنّبهن على عدم الإنتباه و اللّامبالاة ...لكنّهن لا يثرن على صيّاحه و لا على تأنبيه فقط كنّ ينظرن إليه ماضغات تبنا أو محدّقات مستغربات ... تحوّلت حجارة بنيان صحن الدّار إلى مخطوطات بحروف و أرقام من ألوان مختلفة و أحجام .
و في آخر أسبوع من الفصل الأوّل ... فوجيء فورار ذات صباح بصاحب العصا يخبرهم أنّ الآنسة نادية غائبة لن تحضر اليوم و ما عليهم إلّا العودة من حيث أتوا .
ذبلت سعادة الفتى و خبا بريق عينيه رغم أنّ باقي التّلاميذ قفزوا فرحا و من لحظتهم تفرّقوامغادرين تلّة اللّوز كلّ في اتجاه .
كان الجليد قد غطّى الحقول في ذلك الصّباح لم ينتبه إليه فورار حينما جاء ، أمّا عائدا فقد جمّد البرد جسده بالكامل ، يشعر بإعياء شديد و نفخ الرّيح يدفعه و الحجارة ترسم له في الدّرب العثرات
لا يدري فورار إلى أين يسير ، قدماه تقودانه و قد ألفتا الدّرب جيئة و ذهابا . شعور غريب يقتل الفتى إنّه مشتاقٌ إلى آنسته التي تأخذه إلى عوالم كثيرة فتقذف به مرّة إلى المدينة و مرّة إلى المزرعة و أخرى تشركه في جني الزّيتون و أخرى أخرى تعلّق برقبته سلّة لجمع غلال العنب ... إنّها من شرحت له اسمه " فورار اسم أمازيغي يعني شهر فيفري " و هذه الكلمات الأخيرة تلاها فورار جهارا دون أن يشعر و أخذ يردّدها حتى تفاجأ بأمّه تمسكه من يديه المتجمّدتين و تسمّي الله سائلة ضامّة حبيبها الصّغير إلى صدرها : ما بك فورار ، لماذا تكلّم نفسك ؟
رفع فورار رأسه نظر إلى أمّه ثم عاود غرسها في صدرها و أخذ يبكي كما لم يبكِ قبل اليوم . تقدّمت به أمّه إلى غرفتها أدخلته ، أجلسته قرب الكانون حيث النّار متأجّجة تقضم العيدان و الأغصان نزعت عنه محفظته و الرّعب باد على محيّاها تمشي تولول و تسأل : ما به ولدي ...؟
بسرعة أخذت تعدّ له مشروب رعي الحمام السّاخن ، أمّا هو فيبكي ثم يرتشف دمعه ثم يبكي ثمّ يسكت ... ثمّ يعاود البكاء من جديد .
قدّمت إليه زينب فنجان المشروب لكّنه أبى ، ألحّت عليه فرمى بالفنجان بعيدا و لم يفعلها من قبل أبدا .
زاد خوف زينب فأخذت تهزّه و تسأله : ما بك يا ولد ،هل ضربك أحدهم ... لا جواب بلغ مسامعها تدلّت رقبة الفتى بين ذراعيها و تسارع خفقان قلبه ، حملته أمّه و مدّدته على الفراش و غطّته ببرنس والده و هو الغائب تماما عن الدّنيا ، زينب تبكي و تضرب رأسها بيديها متضرّعة إلى الله ألاّ يخطف منها وحيدها فورار تبكي مستنجدة بما تعرف من أولياء أطلقت نذُرها و أرسلتها كلمات قاتلة تلك النّائحة في صمت .
لم تعرف زينب الهدوء إلى أين تلجأ لا جار لهم غير السّفوح البيضاء بلثم الجليد و الوديان ممالك الثّعالب و الذّئاب ، من وقت لآخر تخرج تراقب درب العودة هل عاد عمّي ميلود ثم تهرول عائدة تراقب أنفاس النّائم بدمعه الرّاكد في الجفون .
تهاوت اللحظات جبالا على كاهل زينب التي تفتّت داخلها حتى أصبح رذاذا نشرته مع الزّفرات ، نهار طويل ذلك النّهار ، حمرة المغيب أخيرا ترسل عمّي ميلود عائدا إلى بيت أسفل الجبل .
و ما كاد ينتصب طوله في الأفق حتى أسرعت إليه المعذّبة زينب تستنفره : أسرع فورار يموت ...
و ما إن سمع هذه الكلمات حتّى رمى عن كتفيه أتعاب النّهار و راح يشقّ الفضاء شقّا صائحا : ابني الحبيب .
دخل الغرفة و دنا من ابنه أيقظه برفق فاستيقظ ، و نظر إلى والده ثمّ همّ بالكلام و معاودة البكاء فقاطعه والده : أعلم أعلم الآنسة نادية لم تأتي نهار اليوم ، لقد أخبرني السّي عيسى ... فسأل فورار عاتبا : و لماذا لم تأتي ؟
فأجاب عمّي ميلود : إنّها مريضة و هي الآن في مشفى المدينة .
جلست زينب و استقرّ بها المكان بعد ما رأت و سمعت
لم تصدّق زينب أنّ كلّ الذي حدث و كان ، مردّه إلى معلّمةٍ غابت عن الفصل ، بقيَت المسكينة تجوب بنظراتها صورة ابنها الجالس ، المتحدّث ... و ما استوعبت بعد أنّ فورار بخير و هي التي كانت تظنّ أنّه الرّاحل لا جدال .
وقف فورار و أمسك والده من ذراعه و قال : هيّا أبي لنذهب إلى الآنسة نادية ما دامت في المستشفى .
فشدّه والده إليه و أجلسه : الآن لا يمكن ، لكن غدا صباحا سنذهب معا لزيارة الآنسة نادية .
جلس فورار مغرورقةً عيناه بالدّموع قائلا : هل ستموت آنستي كما ماتت " نانّا ياقوت " في المستشفى ؟
امتدّت يدا عمّي ميلود بكلّ الحنان و الرأفة تمسحان عبَرات ذُرفت قائلا : لا ... لا ، ليس كلّ من يدخل المستشفى يموت ثمّ أنّ الآنسة ناديا عِلّتها بسيطة ، ما هي إلاّ نزلة برد حادّة و ستذهب إلى حال سبيلها .
هدأ روع الفتى و سكن اضطرابه فقال عمّي ميلود لزينب : هاتي بعض الحليب السّاخن و الكسرة لابننا الغالي .
و ما هي إلاّ دقائق معدودات حتى بدأ فورار يلوك كسرة يابسة مع بعض الحليب ناظرا إلى غدٍ رآه بعيدا ... بعيدا جدّا .
خرج عمّي ميلود ثمّ عاد منبّها زوجته : حضّري بعض " الرْفيس " نأخذه للمعلّمة نادية غدا إن شاء الله .
سمعت زينب هذه الكلمات فوقفت إلى زوجها هامسة : و هل فعلا تنوي الذّهاب إلى المدينة غدا ؟
-طبعا سأذهب و لم تسألين ؟
- في هذا البرد ، و مع تلك الطّريق الطويلة ، لا أظنّ فورار يحتمل عناء سفرة كهذه .
- لن أخلف وعدي للولد ثمّ أما رأيت في أي حال هو ؟ أم تريدينه أن يموت فعلا .
- لا ... لا و لكن ...
- عندما أنظر إلى كلّ حجر و كلّ صخرة و كلّ جذع شجرة فأجد حروف و أرقام ولدي تسكنها ، تعتريني الفرحة و الغبطة فلولا أنّ الآنسة نادية ملائكيّة الرّوح لما ملكت وجدان طفل صغير إلى هذا الحد ، معلّمة بهذا الشّكل تستحقّ أن نزورها أينما كانت .
و في الحال وضعت زينب قصعتها و غربالها و على الأثافي نصبت طاجينها و راحت تُعدّ حلواها التّقليديّة التي لا تأباها نفس أبدا .
مرّت السّاعات ، كلّ شيء معدٌّ للسّفر غدا ، غار فورار في أحضان أمّه التي لم يعرف الكرى طريقا إلى أجفانها تارة تمسح على رأس ابنها و تارة تقبّله و تارة لا تدري ما تفعل لتحتويه كلّ الاحتواء .
و جاء الفجر و استيقظ الجميع ، لبس فورا أجمل ما عنده من أسمال باليّة من فوقها قشّابيّة صوفيّةشاويّة ، صوفها غزلته زينب و خيوطها حاكتها زينب و روح زينب .
أكمل عمّي ميلود صلاته و شرب فنجان قهوة ثم نادى : هيّا فورار لابدّ من الإبكار و إلاّ فاتتنا الحافلة في القرية .
لبّى الصبيّ نداء والده و همّ بالخروج خلفه فدعته أمّه : ألن تسلّم عليّ قبل الذهاب ؟ فعاد فورار باسما و أخذ يطبع القبل على خدّي حبيبته زينب ثم انفجر إلى الخارج مهرولا ... الثّلج غطّى القمم و السّفوح و حلكة اللّيل بعدها جاثمة على صفحة السّماء . أمسك عمّي ميلود ابنه من يده و راحا معا يخترقان جسد العتمة و البرد يدكّان قصور الثّلج تحت الأقدام ... تعب فورار توقّف لاهثا فقال له والده : لم يبقَ إلاّ القليل و نصل إلى طريق السّيارات و ما كاد يكمل كلماته حتى جاءت من هناك المستغيثة في دلال " قرقوجة السّي عيسى " يسبقها أزيزها و ضجيجها و أضواؤها في النّزع الأخير و فرملت عند عمّي ميلود دون أن يلوّح أو ينادي و تشرّف فورار بولوج ذلك الكون الآخر حيث العجب العجاب و العطر النفّاث سارق الألباب ، و انطلقت السّيارة الخارقة لا يصدّها ثلج و لا يردّها حجر .
فورار يستعجل الزّمن ليلقى الآنسة نادية و ليكلّم الآنسة نادية و ليقول لها كم اشتاق إليها .
بعد مسير نصف ساعة أو تزيد فرمل السّي عيسى بغتة ليُرجّ الولد في جوف كومة القصدير رجّا ، توقّفت تلك الخرق المعدنيّة المتهالكة و العجيب أنّها تصل بك حيث شئت ، عجوز هي تقاوم صدءً أبلاها لأجل شيخ وفيٍّ لها أحياها .
نزل فورار و نزل عمّي ميلود و مدّ يده ببعض الدّنانير لأسير عشق القصدير ، ثم مال إلى ولده أمسكه من يده قائلا : عجّل يا ولد إنّها الحافلة المتّجهة إلى المدينة ، هيا أسرع .
لحق المسافران بالحافلة و ركباها ، قلّة هم الذين سافروا ذلك اليوم ، ألزم الثّلجُ النّاسَ بيوتها . نظر عمّي ميلود بعمامته الصّفراء الفاقعة إلى ابنه قائلا : ها أنت ذا ، ذاهب لزيارة الآنسة نادية ما رأيك ؟
-أنا في غاية السّعادة يا والدي سأحكي لها ... وهنا امتدّت يد عمّي ميلود الخشنة بكلّ اللّطف و الحنان : لا يا حبيب والدك الآن ستنام فأمامنا ساعتان أو أكثر قبل أن نصل إلى حيث تريد .
سكت فورار و ما إن تحرّكت الحافلة حتى بدأ يتمايل ذات اليمين و ذات الشّمال و دون شعور منه أغمض الجفون و نام ... نام تاركا وراءه نور الشّمس يخترق أجنحة السّحاب ليزرع بعض النّور على جسد المكان .
و نام عمّي ميلود أيضا و لم يستيقظ إلاّ على صوت أبواق السّيارات و أزيز المحرّكات و نداء صاحب الحافلة : إنّها المحطّة الأخيرة... إنّها المحطّة الأخيرة .
أسرع عمّي ميلود و أيقظ فورار الذي انتفض فرحا : أين الآنسة نادية ؟
فضحك عمّي ميلود : لا زالت أمامنا حافلة أخرى للنّقل الحضري فالمستشفى بعيدة عن قلب المدينة . نزل عمّي ميلود بعد أن دفع أجرة الحافلة و قد استقبلتهم المدينة بشمسها بعد أن انقشعت السّحب و تلاشى الضّباب .
فورار يُحكم مسك يد والده ، أخافته تلك البقعة بضجيجها و زحامها ، سار مع والده متعثّرا في أقدامه و كم زاد رعبه حين قطعا الطّريق فصرخت السّيارات و احتجّت الحافلات و علت الأصوات لكن عمّي ميلود لا يشغله إلاّ امتطاء باص ينقله و فورار حيث الآنسة نادية .
وصلا إلى محطّة النّقل الحضري و هناك سأل عمّي ميلود عن الباصات التي توصل إلى المستشفى فأشارو عليه بالإنتظار قليلا فموعد وصولها قريب و تحمل الرّقم " صفر صفر أربعة " فأخذ فورار يردّد لا تخف يا أبي أنا أعرف هذه الأرقام .
على مقعد بالقرب من أحد العجائز وضع عمّي ميلود قفّته و أجلس فورار و هو يحدّث نفسه : لا بدّ أن أحضر هلاليّة للولد .
نظر السّي ميلود إلى العجوز ثمّ قال لها مستأذنا : هل يمكنني أن اترك معك هذا الصبيّ لأحضر له هلاليّة من إحدى المقاهي ، فنظرت إليه : طبعا طبعا إنّه في الحفظ يا ولدي .
انحنى عمّي ميلود إلى فورار قائلا : سأعود في الحال انتظرني هنا يا بطل .
و سار عمّي ميلود يبحث عن مقهى و ما كاد يبتعد حتى خطفه انفجار عنيف هناك حيث ترك فارسَ تلّة اللّوز استدار ليجد سحابة قاتمة في كفٍّ من نار و انطلقت صيحته سبقتها دموعه : ابني فورار ...
توارى جسد الفتى و توارت معه قفّته لا أثر للجسد و الرّوح ... يد مجرمة غرست قنبلة لتقطف روحا أحبّت الآنسة نادية حُبّها لتلّة اللّوز ، تلّة اللّوز التي سكنت زينب فناءها تنتظر تدفّق فورار إلى أحضانها و لكن تزهر اللّوزات و تتجرّد من أزهارها و فورار الغائب عند كلّ مساء .
النهاية
أشكركم على المتابعة و الصّبر و إلى لقاء آخر في دنيا أخرى
"فورار " صدّع رأس الحبيبة زينب :
- أمّي ، متى تنتهين من خيّاطة محفظتي ؟
- مهلا يا قطعة من قلب أمّك ، ما تبقّى إلاّ الزّر سأثبّته في الحال .
و تحت نور القنديل الخافت مضت اللّحظات و فورار يستعجل زينب و زينب تعارك الإبرة و الخيط لا يهمّها الوخز و لا عبئت بأوصال تفتّتت نهارا ... المهمّ أن تكمل محفظة الذي غدا سيحجّ إلى مدرسة الضّيعة في تلّة اللّوز .
فورار " ذلك اللّحوح لا يسكت و من هناك من تحت اللّحاف صاح "عمّي ميلود " وقد زُلزل في جفونه عرش الكرى :
- لماذا لا تسكت يا ولد ، غدا أول يوم و لايهم إن أخذت المحفظة أم لا .
سيل الكلمات توقّف دفقه أدخل " فورار " رأسه بحضن أمّه التي هامسته قائلة " محفظة ابني جاهزة ، غدا ستحملها معك ".
خفق قلب الصّبي فتسلّلت من بين جفونه المغمضات عبرات ترسم على الوجنتين الأثر أمّا الشّهقة والزفرات فقد كتمها خوفا من والده .
نفخت زينب بالقنديل فانطفأ و عمّت الظّلمة فنام ثلاثة رابعهم حلم أسعد الفتى في المنام ...
جاء الصّباح و عانقت الشّمس قمم الجبال ّو تجلى الأوراس تحفة استأثرت بها تلك الأرض ، جبين السّماء الأزرق و عناقيد الشّجر في السّفوح الممتدة شطآنٌ لحقول مالت بها سنابل حزيران .
فورار صاحب القشّابية و الطّاقيّة غسل الوجه و الكفّين و حمل محفظته التي خاطتها له أمّه زينب من بقايا سترة قديمة لوالده ، يمشي في صحن الدّار مختالا يحدّث نفسه حينا و حينا يصيح " أمي متى يأتي أبي ليوصلني إلى المدرسة ؟ متى يأتي مللت الانتظار ... سأذهب وحدي .
و من هناك من مطبخها المتنفس دخانّا و المتلحّف بحمم النّار تنتفض زينب غضبا : لا ...أياك أن تذهب وحدك ، والدك وحده يعلم كيف و متى يأخذك .
- إيه ..متى يأتي ميلودك هذا ؟
- أراك نسيت عنزاتك ، أما اشتقت إليهن ؟
- بلى و لكن أريد رؤية هذه المدرسة التي يحدّثني عنها " مسعود " كلّ يوم جمعة.
أنّ الباب أنّة ... ها هو عمي ميلود جاء بعد أن أوصل عنزاته السبع لأحد الجيران ليرعاها ، ف " سي فورار " سيقصد المدرسة منذ نهار اليوم . قفز فورار فرحا و كاد قلبه يشقّ صدره وضع يده في يد والده وقال : هيا ميلود لنسرع . ضحك عمي ميلود و قال : هيا يا سي فورار سنرى ما أنت فاعل بالمدرسة ؟
و سار فورار الولد الذي يعانق محفظة ما تحوي جلالتها غير لوحة و قطعة طباشير ، مشى الولد لا تغادر عيناه المدى ، قدماه تتعثّران بالحجارة و تبعثران حبّات الثّرى و تحطّمان في قسوة قواقع الحلازين الخاويّة ، والده من حين لحين يفلته فيتأخّر خلفه و ينسى نفسه بينما يرسم خيالَه تلميذا في المدرسة، أوه سمع عنها الكثير تلك القلعة العجيبة ... " أسرع يا ولد " صيحة من عمّي ميلود فكّت قيود الفتى و حرّرته من أحلامه في صحو لا منام ... فاختصر المسافة و اقترب من والده لاهثا يده المتعرّقة لا تغادر محفظته المقدّسة ، و فجأة سمعا من خلفهما زئير سيارة " السّي عيسى " جاءت من بعيد غيمة غبار تلاحقها أو ربما هي من كانت تلاحق غيمة الغبار ، بوقها الفضيع المرعب تبتعد له البهائم كما البشر ... لازالت المدرسة بعيدة بعض الشيء لوّح عمي ميلود لصاحب السيارة عساه يمنّ عليه فيتوقّف ... و كان له ما أراد و فرمل السي عيسى فرملة ذكّرت فورار بفزّاعة الحقل فأحسّ بنعيق الغربان يصمّ آذانه و يدكّ رأسه ، ركب عمّي ميلود و أركب الفتى فورار تلك الكومة المتحرّكة من القصدير و الذي ما إن أدخل رأسه حتّى غمرته رائحة الزّريبة تذكّره بعنزاته " الأوانس العوانس " و انطلقت السيارة من جديد و إذ بالسّي عيسى يصيح بالولد اوثق ربط حبل الباب و إلاّ عدت إلى أمّك مسخ إنسان ، بين الخوف و الإمتثال حاول فورار أن يُحكم غلق الباب لكنّه لم يستطع فتسلّلت غيمة الغبار التي على فكرة كانت تتبع السيارة إلى الدّاخل لتجعل من فورار "الفتى الأشهب" ، تدخّل عمّي ميلود و أوثق غلق الباب و كومة الخردة التي تأبى أن تموت تتابع طريقها تخلّد آثارها بين الحقول فهي السيارة الوحيدة هناك ... و أخيرا شعر فورار بزلزال عنيف يرميه إلى الخلف ثم يقذف به إلى الأمام ليرتطم بأنفه على حافة المقعد الأمامي و كادت أنفه تطير منه ، لقد فرمل السي عيسى و نزل فورار و بقيّ مسمّرا في مكانه إنّه في تلّة اللّوز إنّه أمام المدرسة و ها هو فناؤها عرش للأطفال ، لم يسمع فورار قصديرة السي عيسى تغادر و لا سمع والده يأمره بالاقتراب .... حتى جاءه هذا الأخيرة وساقه أمامه و هذه اللّحظة بالذّات دق جرس الدّخول فتسارع التلاميذ إلى البوابة العملاقة و من هناك جاء معلّم بارز الكرش تخين لا يكاد يقدر على الحراك حاملا بيده عصا غليظة أقلّ غلظة قليلا من عصا شيخ الكتّاب و ما إن اقترب حتى تلاشى اندفاع التلاميذ و دخلوا بهدوء ، اقترب عمي ميلود من المعلّم البدين فأومأ إليه الأخير " أعلم أعلم اتركه و اذهب "
ترك السّي ميلود سفيره في المدرسة و عاد أدراجه .
لم يدر فورار ما يفعل قادوه إلى فصل من الفصول أدخلوه مثل كلّ اترابه المنكمشين في مقاعدهم ينظرون و لا ينظرون . و لحظات و دخلت الحجرة آنسة محجّبة وجه
ها كالبدر الفتان صفاء و نورا لا هي بالطويلة المضحكة و لا القصيرة التي تثير الشفقة ، لا هي بالبدينة ولا النّحيفة ... دخلت و أغلقت باب الحجرة و ذهبت إلى مكتبها و وضعت عليه اشياءها ثم بدأت بكل اللّطف تتحدّث إلى الأطفال و تسألهم واحدا واحدا عن أسمائهم ثم عرّفتهم باسمها "الآنسة نادية " ، بقيت عيون فورار مشدودة إلى التي تتكلّم و نسي محفظته المبجّلة التي سقطت منه عند قدميه و بين الكلمات و الابتسامات اقتربت منه الآنسة نادية فاحمرّت وجنتاه و سخنت رأسه و ارتعشت فرائصه ، اقتربت منه ربّتت على كتفه ثم انحنت و حملت محفظته قائلة :
- ام ؟ ..محفظة جميلة من صنعها لك ؟
لم يستطع فورار أن يجيب فرّت منه الكلمات ، و عاودت الآنسة طرح السؤال فاستجمع الطفل قواه و قال : أمّي . و لم بزد عليها كلمة فاقتربت منه الآنسة نادية أكثر و سألته : طيب ما اسمك ؟
و لم يخف هذه المرّة و قال " فورار " فعلّقت الآنسة اسم جميل هل تعرف معناه ؟ فتوقّفت دواليب الطفل تماما لأنّه لم يفهم ماذا تريد و مرّت السّاعات مع الآنسة نادية و بسرعة بدأ حبّ المكان و ألفة المكان تتسلّلان إلى قلب الصغير ... أوه لقد دقّ الجرس غدا سيعود فورار بأدواته التي طلبتها آنسته و غدا دوام ليوم كامل ....خرج الفتى و غادر المدرسة و انساب بين الحقول مع بعض ممن تعرّف عليهم من الأطفال و ساروا كوكبة واحدة يغادرها بعضهم عند صخرة و آخر عند النّبع و أخران عند دكّان الضّيعة ليبقى فورار لوحده سائرا إلى بيته في السفح ينتظر لحظات تجمعه بأمّه ليحكي لها عن فسحة من الزمن دافئة عاشها في تلّة اللّوز و ليروي لها عن آنسته نادية نعم عاد مشتاقا إلى أوانسه العوانس حتى يتلو عليهن تاريخ ذلك اليوم التاسع من سبتمبر....سارالعائد من المدرسة فاتحا صدره للحياة ، متيّما بتلّة اللّوز و عرشها المتحوف بالملائكة عدا صاحب العصا و العصا ، في الدّروب الضّيقة تلاشى الفتى لينهمر قطرة نور أمام الحبيبة زينب و التي ما إن رأته حتى أمطرته أسئلة و هو يردّ و ينسى و تتوه كلماته التي أرادهها ، دخلت به إلى الدّار ... إلى مطبخها أين بدأت أسراب الشمس تميد بعيدا مع اقتراب المساء .
النّار بين الأثافي تأكل عيدانها و إبريق أسود تلثمه ألسنة اللّهب و الجمرات ... عبق القهوة سبى الولد كما ملأ الدّنيا نشوة و جمالا معلنا عن شيح ٍ بريّ يغازل حبّات
قرنفل ، جلس فورار وضع محفظته و الكلمات لا تريد السكوت " لو رأيت أمّي ... لو رأيت الفصول و الطّاولات ... وليتك ترين الآنسة نادية ... ليتك ترينها ؟
و صمت الولد و كلّ شيء فيه ينطق بالسّعادة ، تسلّمت أمّه إبريق القهوة و سكبت له منها و قدّمت إليه كسرة من شعير و قالت " إياك أن تخذلني أريد أن يتحدّث عنك جميع أهل القرية ، لا بدّ أن تكون فطنا ... لا أريد أن تكون مثلي لا أعرف شيء ... حتى الصلاة أخجل من أن أصلّيها إذا زرت أقاربنا في المدينة ..." و خرجت زينب لبعض حاجاتها و هي تواصل لعن الزّمن الذي تركها لا تعرف من الحروف غير ألف عوجاء ... و في هذه الثتاء سمع فورار بمأمآت أوانسه فأسرع إلى الخارج و قد تركهنّ الرّاعي ، أدخلهنّ فرار إلى صحن الدّار و هو يداعب هذه العنزة و يحنو على هذا الجدي و أخذ يروي لهنّ عن يومه الكنز الذي لا يغادره و أعلنها صراحة و قد حمل غصنا من هناك " هيا اعتدلن في صف واحد كفى حديثا ...مدّ الذراع ...هيا هيا " ثمّ أفلت عصاه و غرق في نوبة ضحك بينما العنزات لا يعبأن بكلماته ... هذه تلعق جديها و تلك تنطح أخرى ... وأخرى تلتطق ما بقي من تبن ملقى ...
دخل فورا ر غرفة أمّه و تمدّد على حصير الحلفاء و نام بعد نهار من التّعب و الصّخب و الجمال و الحب .
هوت الشّمس وراء الجبال العاليّة و تدفّق اللّيل و انسكب ، سحب كثيفة تحجب القمر و النّجوم ، تلبّيها ريح آتيّة من الشّرق تراقص الصفصاف و الصنوبر و الأغصان
قدر السّيدة زينب يغلي تعدّ كسكسا للعشاء أي نعم ليس باللحم و لكن ببصل و حليب العنزات .
عاد عمّي ميلود أشهبا متثاقل الخطى فعمل البنّاء شاق مضن يدقّ العظام و يفكّك الأوصال ، سأل زوجته زينب " أين فورار " فردّت لقد نام من التّعب سأوقظه ليتعشّى "
- نعم نعم أيقظيه ، أحضرت له ما سيجعله يطير فرحا "
- فاركا عينيه قال فورارمتثائبا ... و ماذا أحضرت يا والدي "
- انتظر حتى تفتح عينيك على الأقل ، كنت أظنّك غاطّا في نوم عميق .
وقف فورار عند رأس والده : " أرجوك يا أبي ماذا أحضرت ؟
فطلب عمّي ميلود من زوجته أن تقرّب القنديل ليرى
و أفرغ "عمّي ميلود " محتوى جرابه الذي يحمله ، فتلألأت عينا فورار و زادت المكان ضياءً غطّى على بعض النّور الذي كان قنديل الغاز يرسله منّةً على المكان .
خارجا التفّت الأشجار بأغصانها تشدّها إليها و الرّيح الهوجاء تحاول عبثا افتكاك الجذور من أرضها ... زخّات المطر الدّافق تبعثر الحصى و تجرف القشّ ، ترسم السّواقي من السّفح تتدفّق غدرانا إلى الوديان .... اللّيل البهيم لا تعنيه الفصول يسبّح الرّب نائما لا عين ترى و لا أذن تسمع .
- جثا فورار على ركبتيه مستفسرا : و لكن أبي لم أخبرك بما يجب أن تشتريه لي ، حتّى أنّي خشيت أن أحمل غدا أيضا فقط قطعة الطّباشير و اللّوحة " لم ينتظر عاشق المدرسة جوابا، و ترك نظره يسري بهجة إذ يري أقلام تلوين و دفتر و قلم رصاص و قريصات و خشيبات .
زينب تسترق من الزّمن تلك اللّحظات التي ترى فيها - برغم الدّمع يغطّي المشاهد و الصّوّر - ابنها فورار سعيدا حتى أنّ السّعادة توشك أن تخرق شِماله ... مدّت يدها أزاحت دمعها لكّنها العبرات زينب ، عبرات الحبّ الأكبر لا يمكنك افتكاك خدّيك منها و لا الوجنات .
استلم فورار أدواته و أخذ يشمّها متغزّلا كابن الملوّح بعطرها و ذهبت به أخيلته إلى حيث وجْدُه لا يتوه عن الطريق و لا تبعثره الدّروب ... ينظر إلى جدران الفصل و إلى بدر يشرق عليهم نهارا و الشّمس تخطّ دربها في السّماء .
عمّي ميلود هو الآخر تزلزل متنه و تلاشت أشرعته اعوجّ فمه لكنه أمسكهنّ ... أمسك دمعات ما ذاق ملحها إلاّ يوم ودّع بين القبور أمّه .
في تلك الحفنة من الدّمع و النّشوة قال " عمّي ميلود " : أين العشاء زينب ؟ و من لحظتها و عيونها لازالت مرقدا للنّازلات أخذت تفرك حبّات الكسكس وضعت منه في صحن من فخّار و أضافت إليه الحليب السّاخن ثمّ قدّمته لرَجُليْها زوجها و الحبيب فورار .
قال فورار : أنا شبعان لا أريد أن آكل "
فأسرعت إليه زينب تستحلفه بكلّ غال أن يتذوّق ثم إذا شاء عاد إلى النّوم دون عشاء .
أخذ الولد بعض الملاعق بسرعة إلى فيه ثم انتبذ من والديه مكانا قصيّا حيث ينام مع أمّه و ضع محفظته المحمّلة بكنوز الدّنيا بين أحضانه و راح يتململ تململ صبّ أذابه الهوى ... و تواصل صراخ الرّياح يراقصه عواء الذّئاب و أسدل فورار جفنه يحلم بغده هناك في تلّة اللّوز ...
تتالت ساعات الدّيجور الغاضب و تساقطت خيوطه الغدافيّة واحدة بعد أخرى حتى أفناها الفجر هادئا ، غاب الودق و صَمتَ العويل ، تثاءب المشرق باعثا فاتنة النّور ترسل أولى أنفاسها فضّة فاضت في السّماء .
زينب عند كانونها ... عند إبريقها السّحري و قهواها المستبدّة لا يفلت من عِشقِها كائنا ما كان ... حليب العنزات في إناء من نيكل تدفّق زبدا يهشّم النّار و ينفض الدّخان غيمات ...غيمات ... فراح الرّماد يحتج بزفرة أيقظت فورار و أعادته إلى الكون عائدا من جنّة الرؤى و الأحلام .
تمطّى الولد ثمّ انفجر سائلا : أين محفظتي يا زينب " فردّت عليه زينب و قلب زينب و روح زينب : عند الوسادة ، ألا تراها ؟... ثم أين صباح الخير يا قاصدا تلّة اللّوز .
تفقّد فورار محفظته المقدّسة ثم تلا تحيّة على مسامع أمّه ... بعدها استدرك : أين أبي يوصلني إلى المدرسة و أين قدح الحليب ؟
- والدك غادر باكرا ، ستذهب لوحدك كما عدت بالأمس ، أمّا الحليب فهاهو فنجانك و هذه بعض الكسرة .
شرب فورار الحليب سريعا ينفخ و يتأوّه و زينب تشير عليه بالتّأنّي و لكن لا و كلاّ فشوق الولد للمدرسة لا يتركه و شأنه أبدا .
حمل الصّبي محفظته و انتعل حذاءه ذا الثّغور تكشف أصابع القدم و انفجر إلى الخارج مسرعا و زينب تناديه : انتظر انتظر هاك بعض الكسرة و حبّتي بيض مسلوق ... انتظر هذا غداؤك .
استدار فورار غاضبا : سأتأخّر يا زينب سأتأخّر ... هاتي ..هاتي اسرعي .
هرول الولد تارة و تارة مشى الهوّينة ، الوحل عقّد من مهمّة الفتى و أشقاه في معراجه إلى مكان عشقه قبل الآن .
و هاهو في آخر ارتقاءاته للصّخر و الرّوابي يطلّ على فناء المدرسة و قد اكتظّت كما كلّ صباح بأطفال يلعبون تحت أشجار اللّوز ، يتسلّقون أشجار اللّوز و يحومون حول أشجار اللّوز أو يجلسون القرفصاء عند الأسوار .
اختلط فورار بالأولاد و بدأ يروي الحكايا كما يستمع إليها ، حتى ...حتى صفّر صاحب الكرش و العصا فهرع التّلاميذ إلى طابورهم و انسابو بهدوء إلى السّاحة ثم توزّعوا في نظام و صمت إلى فصولهم و كأنّ على رؤوسهم الطّير .
اعتدل فورار مع زملائه في الصّف أمام حجرة الدّرس و جاءت الآنسة نادية تزيد الصّف وجاهة و كمالا بعدها أمرتهم بالدّخول منبّهة إياهم بإلقاء التّحيّة " السّلام عليكم " .
دخل فورار ، أسرع إلى مكانه و وضع محفظته في درج الطاولة و اعتدل في مكانه ينظر إلى الأنسة نادية تخطّ كلمات على السّبورة ثمّ التفتت إليهم و بدأت تلقّنهم أوّل شيء : " تاريخ اليوم " ، بعدها أمرتهم بإخراج أدواتهم المطلوبة و راحت تدوّن على كلّ كرّاسة اسم صاحبها حتى بلغت فورار فكتبت اسمه ثم قالت : لكن أين الغلاف الأحمر كما طلبت ، فامتقع لون فورار و دون شعور منه أخذت عيناه تذرفان الدّمع ، نظرت إليه الآنسة نادية مبتسمة و قد ضمّته إلى صدرها : لا ... لا ، لم البكاء يا فورار ، لا تخف سأعطيك غلافا من عندي .
كان الأطفال ينظرون إلى فورار ضاحكين من حاله فنبّهتم الآنسة : سكوت " فسكتوا .
و كما قالت فعلا أحضرت غلافا أحمر و غلّفت به كرّاسة فورار و ربّتت على رأسه : أنا مثل أمّك لا تخف منّي أبدا فقط ابق هادئا كما أنت ، اتّفقنا " ، فهزّ صاحبنا رأسه و تراجعت الدّمعات و عادت الأنفاس كما كانت
و بدأت المعلّمة تقدّم الدّروس حروفا ، أرقاما ، ألوانا ... حوارا و قرآنا ... و تعاقبت أيّام الفصل الدّراسي الأوّل و فورار الألمع و الأهدأ و الأكثر فصاحة في نطق الحروف و الكلمات ، له من آنسته بطاقة حينا و حينا قلما و حينا مصافحة و ثناء .
فورار لم يطلّق حبّ عنزاته الأوانس العوانس بل كلّ مساء كنّ يستمعن لدروسه و كثيرا ما يؤنّبهن على عدم الإنتباه و اللّامبالاة ...لكنّهن لا يثرن على صيّاحه و لا على تأنبيه فقط كنّ ينظرن إليه ماضغات تبنا أو محدّقات مستغربات ... تحوّلت حجارة بنيان صحن الدّار إلى مخطوطات بحروف و أرقام من ألوان مختلفة و أحجام .
و في آخر أسبوع من الفصل الأوّل ... فوجيء فورار ذات صباح بصاحب العصا يخبرهم أنّ الآنسة نادية غائبة لن تحضر اليوم و ما عليهم إلّا العودة من حيث أتوا .
ذبلت سعادة الفتى و خبا بريق عينيه رغم أنّ باقي التّلاميذ قفزوا فرحا و من لحظتهم تفرّقوامغادرين تلّة اللّوز كلّ في اتجاه .
كان الجليد قد غطّى الحقول في ذلك الصّباح لم ينتبه إليه فورار حينما جاء ، أمّا عائدا فقد جمّد البرد جسده بالكامل ، يشعر بإعياء شديد و نفخ الرّيح يدفعه و الحجارة ترسم له في الدّرب العثرات
لا يدري فورار إلى أين يسير ، قدماه تقودانه و قد ألفتا الدّرب جيئة و ذهابا . شعور غريب يقتل الفتى إنّه مشتاقٌ إلى آنسته التي تأخذه إلى عوالم كثيرة فتقذف به مرّة إلى المدينة و مرّة إلى المزرعة و أخرى تشركه في جني الزّيتون و أخرى أخرى تعلّق برقبته سلّة لجمع غلال العنب ... إنّها من شرحت له اسمه " فورار اسم أمازيغي يعني شهر فيفري " و هذه الكلمات الأخيرة تلاها فورار جهارا دون أن يشعر و أخذ يردّدها حتى تفاجأ بأمّه تمسكه من يديه المتجمّدتين و تسمّي الله سائلة ضامّة حبيبها الصّغير إلى صدرها : ما بك فورار ، لماذا تكلّم نفسك ؟
رفع فورار رأسه نظر إلى أمّه ثم عاود غرسها في صدرها و أخذ يبكي كما لم يبكِ قبل اليوم . تقدّمت به أمّه إلى غرفتها أدخلته ، أجلسته قرب الكانون حيث النّار متأجّجة تقضم العيدان و الأغصان نزعت عنه محفظته و الرّعب باد على محيّاها تمشي تولول و تسأل : ما به ولدي ...؟
بسرعة أخذت تعدّ له مشروب رعي الحمام السّاخن ، أمّا هو فيبكي ثم يرتشف دمعه ثم يبكي ثمّ يسكت ... ثمّ يعاود البكاء من جديد .
قدّمت إليه زينب فنجان المشروب لكّنه أبى ، ألحّت عليه فرمى بالفنجان بعيدا و لم يفعلها من قبل أبدا .
زاد خوف زينب فأخذت تهزّه و تسأله : ما بك يا ولد ،هل ضربك أحدهم ... لا جواب بلغ مسامعها تدلّت رقبة الفتى بين ذراعيها و تسارع خفقان قلبه ، حملته أمّه و مدّدته على الفراش و غطّته ببرنس والده و هو الغائب تماما عن الدّنيا ، زينب تبكي و تضرب رأسها بيديها متضرّعة إلى الله ألاّ يخطف منها وحيدها فورار تبكي مستنجدة بما تعرف من أولياء أطلقت نذُرها و أرسلتها كلمات قاتلة تلك النّائحة في صمت .
لم تعرف زينب الهدوء إلى أين تلجأ لا جار لهم غير السّفوح البيضاء بلثم الجليد و الوديان ممالك الثّعالب و الذّئاب ، من وقت لآخر تخرج تراقب درب العودة هل عاد عمّي ميلود ثم تهرول عائدة تراقب أنفاس النّائم بدمعه الرّاكد في الجفون .
تهاوت اللحظات جبالا على كاهل زينب التي تفتّت داخلها حتى أصبح رذاذا نشرته مع الزّفرات ، نهار طويل ذلك النّهار ، حمرة المغيب أخيرا ترسل عمّي ميلود عائدا إلى بيت أسفل الجبل .
و ما كاد ينتصب طوله في الأفق حتى أسرعت إليه المعذّبة زينب تستنفره : أسرع فورار يموت ...
و ما إن سمع هذه الكلمات حتّى رمى عن كتفيه أتعاب النّهار و راح يشقّ الفضاء شقّا صائحا : ابني الحبيب .
دخل الغرفة و دنا من ابنه أيقظه برفق فاستيقظ ، و نظر إلى والده ثمّ همّ بالكلام و معاودة البكاء فقاطعه والده : أعلم أعلم الآنسة نادية لم تأتي نهار اليوم ، لقد أخبرني السّي عيسى ... فسأل فورار عاتبا : و لماذا لم تأتي ؟
فأجاب عمّي ميلود : إنّها مريضة و هي الآن في مشفى المدينة .
جلست زينب و استقرّ بها المكان بعد ما رأت و سمعت
لم تصدّق زينب أنّ كلّ الذي حدث و كان ، مردّه إلى معلّمةٍ غابت عن الفصل ، بقيَت المسكينة تجوب بنظراتها صورة ابنها الجالس ، المتحدّث ... و ما استوعبت بعد أنّ فورار بخير و هي التي كانت تظنّ أنّه الرّاحل لا جدال .
وقف فورار و أمسك والده من ذراعه و قال : هيّا أبي لنذهب إلى الآنسة نادية ما دامت في المستشفى .
فشدّه والده إليه و أجلسه : الآن لا يمكن ، لكن غدا صباحا سنذهب معا لزيارة الآنسة نادية .
جلس فورار مغرورقةً عيناه بالدّموع قائلا : هل ستموت آنستي كما ماتت " نانّا ياقوت " في المستشفى ؟
امتدّت يدا عمّي ميلود بكلّ الحنان و الرأفة تمسحان عبَرات ذُرفت قائلا : لا ... لا ، ليس كلّ من يدخل المستشفى يموت ثمّ أنّ الآنسة ناديا عِلّتها بسيطة ، ما هي إلاّ نزلة برد حادّة و ستذهب إلى حال سبيلها .
هدأ روع الفتى و سكن اضطرابه فقال عمّي ميلود لزينب : هاتي بعض الحليب السّاخن و الكسرة لابننا الغالي .
و ما هي إلاّ دقائق معدودات حتى بدأ فورار يلوك كسرة يابسة مع بعض الحليب ناظرا إلى غدٍ رآه بعيدا ... بعيدا جدّا .
خرج عمّي ميلود ثمّ عاد منبّها زوجته : حضّري بعض " الرْفيس " نأخذه للمعلّمة نادية غدا إن شاء الله .
سمعت زينب هذه الكلمات فوقفت إلى زوجها هامسة : و هل فعلا تنوي الذّهاب إلى المدينة غدا ؟
-طبعا سأذهب و لم تسألين ؟
- في هذا البرد ، و مع تلك الطّريق الطويلة ، لا أظنّ فورار يحتمل عناء سفرة كهذه .
- لن أخلف وعدي للولد ثمّ أما رأيت في أي حال هو ؟ أم تريدينه أن يموت فعلا .
- لا ... لا و لكن ...
- عندما أنظر إلى كلّ حجر و كلّ صخرة و كلّ جذع شجرة فأجد حروف و أرقام ولدي تسكنها ، تعتريني الفرحة و الغبطة فلولا أنّ الآنسة نادية ملائكيّة الرّوح لما ملكت وجدان طفل صغير إلى هذا الحد ، معلّمة بهذا الشّكل تستحقّ أن نزورها أينما كانت .
و في الحال وضعت زينب قصعتها و غربالها و على الأثافي نصبت طاجينها و راحت تُعدّ حلواها التّقليديّة التي لا تأباها نفس أبدا .
مرّت السّاعات ، كلّ شيء معدٌّ للسّفر غدا ، غار فورار في أحضان أمّه التي لم يعرف الكرى طريقا إلى أجفانها تارة تمسح على رأس ابنها و تارة تقبّله و تارة لا تدري ما تفعل لتحتويه كلّ الاحتواء .
و جاء الفجر و استيقظ الجميع ، لبس فورا أجمل ما عنده من أسمال باليّة من فوقها قشّابيّة صوفيّةشاويّة ، صوفها غزلته زينب و خيوطها حاكتها زينب و روح زينب .
أكمل عمّي ميلود صلاته و شرب فنجان قهوة ثم نادى : هيّا فورار لابدّ من الإبكار و إلاّ فاتتنا الحافلة في القرية .
لبّى الصبيّ نداء والده و همّ بالخروج خلفه فدعته أمّه : ألن تسلّم عليّ قبل الذهاب ؟ فعاد فورار باسما و أخذ يطبع القبل على خدّي حبيبته زينب ثم انفجر إلى الخارج مهرولا ... الثّلج غطّى القمم و السّفوح و حلكة اللّيل بعدها جاثمة على صفحة السّماء . أمسك عمّي ميلود ابنه من يده و راحا معا يخترقان جسد العتمة و البرد يدكّان قصور الثّلج تحت الأقدام ... تعب فورار توقّف لاهثا فقال له والده : لم يبقَ إلاّ القليل و نصل إلى طريق السّيارات و ما كاد يكمل كلماته حتى جاءت من هناك المستغيثة في دلال " قرقوجة السّي عيسى " يسبقها أزيزها و ضجيجها و أضواؤها في النّزع الأخير و فرملت عند عمّي ميلود دون أن يلوّح أو ينادي و تشرّف فورار بولوج ذلك الكون الآخر حيث العجب العجاب و العطر النفّاث سارق الألباب ، و انطلقت السّيارة الخارقة لا يصدّها ثلج و لا يردّها حجر .
فورار يستعجل الزّمن ليلقى الآنسة نادية و ليكلّم الآنسة نادية و ليقول لها كم اشتاق إليها .
بعد مسير نصف ساعة أو تزيد فرمل السّي عيسى بغتة ليُرجّ الولد في جوف كومة القصدير رجّا ، توقّفت تلك الخرق المعدنيّة المتهالكة و العجيب أنّها تصل بك حيث شئت ، عجوز هي تقاوم صدءً أبلاها لأجل شيخ وفيٍّ لها أحياها .
نزل فورار و نزل عمّي ميلود و مدّ يده ببعض الدّنانير لأسير عشق القصدير ، ثم مال إلى ولده أمسكه من يده قائلا : عجّل يا ولد إنّها الحافلة المتّجهة إلى المدينة ، هيا أسرع .
لحق المسافران بالحافلة و ركباها ، قلّة هم الذين سافروا ذلك اليوم ، ألزم الثّلجُ النّاسَ بيوتها . نظر عمّي ميلود بعمامته الصّفراء الفاقعة إلى ابنه قائلا : ها أنت ذا ، ذاهب لزيارة الآنسة نادية ما رأيك ؟
-أنا في غاية السّعادة يا والدي سأحكي لها ... وهنا امتدّت يد عمّي ميلود الخشنة بكلّ اللّطف و الحنان : لا يا حبيب والدك الآن ستنام فأمامنا ساعتان أو أكثر قبل أن نصل إلى حيث تريد .
سكت فورار و ما إن تحرّكت الحافلة حتى بدأ يتمايل ذات اليمين و ذات الشّمال و دون شعور منه أغمض الجفون و نام ... نام تاركا وراءه نور الشّمس يخترق أجنحة السّحاب ليزرع بعض النّور على جسد المكان .
و نام عمّي ميلود أيضا و لم يستيقظ إلاّ على صوت أبواق السّيارات و أزيز المحرّكات و نداء صاحب الحافلة : إنّها المحطّة الأخيرة... إنّها المحطّة الأخيرة .
أسرع عمّي ميلود و أيقظ فورار الذي انتفض فرحا : أين الآنسة نادية ؟
فضحك عمّي ميلود : لا زالت أمامنا حافلة أخرى للنّقل الحضري فالمستشفى بعيدة عن قلب المدينة . نزل عمّي ميلود بعد أن دفع أجرة الحافلة و قد استقبلتهم المدينة بشمسها بعد أن انقشعت السّحب و تلاشى الضّباب .
فورار يُحكم مسك يد والده ، أخافته تلك البقعة بضجيجها و زحامها ، سار مع والده متعثّرا في أقدامه و كم زاد رعبه حين قطعا الطّريق فصرخت السّيارات و احتجّت الحافلات و علت الأصوات لكن عمّي ميلود لا يشغله إلاّ امتطاء باص ينقله و فورار حيث الآنسة نادية .
وصلا إلى محطّة النّقل الحضري و هناك سأل عمّي ميلود عن الباصات التي توصل إلى المستشفى فأشارو عليه بالإنتظار قليلا فموعد وصولها قريب و تحمل الرّقم " صفر صفر أربعة " فأخذ فورار يردّد لا تخف يا أبي أنا أعرف هذه الأرقام .
على مقعد بالقرب من أحد العجائز وضع عمّي ميلود قفّته و أجلس فورار و هو يحدّث نفسه : لا بدّ أن أحضر هلاليّة للولد .
نظر السّي ميلود إلى العجوز ثمّ قال لها مستأذنا : هل يمكنني أن اترك معك هذا الصبيّ لأحضر له هلاليّة من إحدى المقاهي ، فنظرت إليه : طبعا طبعا إنّه في الحفظ يا ولدي .
انحنى عمّي ميلود إلى فورار قائلا : سأعود في الحال انتظرني هنا يا بطل .
و سار عمّي ميلود يبحث عن مقهى و ما كاد يبتعد حتى خطفه انفجار عنيف هناك حيث ترك فارسَ تلّة اللّوز استدار ليجد سحابة قاتمة في كفٍّ من نار و انطلقت صيحته سبقتها دموعه : ابني فورار ...
توارى جسد الفتى و توارت معه قفّته لا أثر للجسد و الرّوح ... يد مجرمة غرست قنبلة لتقطف روحا أحبّت الآنسة نادية حُبّها لتلّة اللّوز ، تلّة اللّوز التي سكنت زينب فناءها تنتظر تدفّق فورار إلى أحضانها و لكن تزهر اللّوزات و تتجرّد من أزهارها و فورار الغائب عند كلّ مساء .
النهاية
أشكركم على المتابعة و الصّبر و إلى لقاء آخر في دنيا أخرى