- 24 ديسمبر 2007
- 1,145
- 3
- 0
- الجنس
- أنثى
(منقول من ملتقى أهل التفسير)
إن النص القرآني إذا كان سهل التناول ميسّر للذكر واضح البيان من جهة فهو بعيد الغور شديد العمق من جهة أخرى، ولهذا فإن طريق العلم بهذا النص هو التدبر وإعمال العقل وتقليب الفكر والنظر ؛ ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه : "لا يشبع منه العلماء ولا يمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه" وهذا العمق إنما هو صفة لازمة لهذا النص العظيم ؛ إذ أن العقل كلما ازداد فيه تفكراً انفتح له من الآفاق ما لم يكن منفتحا وانقدح له من العلوم -حسب أهليته وقدرته على الفهم - ما لم يكن منقدحا ؛ وإنما تتفتق المعاني وتتكشف الحقائق على قدر القرائح والفهوم؛ ولهذا كان التفسير- كما قال ابن عباس - على أربعة أوجه:
- وجه لا يعذر أحد بجهالته
- وجه تعرفه العرب من كلامها
- وجه يعلمه العلماء
- وجه لا يعلمه إلا الله
وليس ذلك فحسب بل إن للقرآن العظيم - عند تدبره- وجوها كثيرة ومعاني متعددة كما ورد عن كثير من سلف هذه الأمة وعلمائها ؛ يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : "لا تفقه كل الفقه حتى ترى القرآن وجوها" وقد روي أن عليا كرم الله وجهه قد أرسل ابن عباس لمخاصمة الخوارج ، وأمره آن لا يخاصمهم بالقرآن ؛ فقال ابن عباس : أنا أعلم بكتاب الله منهم ؛ في بيوتنا نزل ؛ فقال علي : "صدقت ، ولكنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون ، ولكن خاصمهم بالسنن ؛ فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً" ، فخرج ابن عباس إليهم فخاصمهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة ، وأخرج الدارمي أن عمر بن الخطاب قال : "إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن ؛ فخذوهم بالسنن ؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله " ولما كان الأمر على الوجه الذي ذكر - فقد وقع الاختلاف في تأويل القرآن ، وانقسم الذين اختلفوا إلى فريقين :
1- الفريق الأول وهم :الذين اعتقدوا معاني أرادوا حمل القرآن عليها ولم ينظروا إلى ما يستحقه النص من الدلالة والبيان ؛ فكان تأويلهم بذلك تحريفاً ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : "اتبعوا هذا القرآن ولا يتبعنكم القرآن ؛ فإن من تبع القرآن يهبط به في رياض الجنة ، ومن اتبعه القرآن يزخ على قفاه فيقذفه في جهنم"
2- الفريق الثاني وهم : الذين اختلفوا بحسب اختلاف طرق الاستدلال ، ومعلوم أن هذا النوع من الاختلاف قد وقع بين السلف والصحابة أنفسهم ؛ إلا أنه – كما يقول ابن تيمية – كان اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
مفهوم التأويل:-
التأويل في اللغة هو التفسير وهو المرجع والمصير ، وآل إلى كذا : صار إليه ؛ ومنه قول الأعشى :
على أنها كانت تؤول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا
أي: أن حبها كان صغيرا في قلبه ؛ فلم يزل يكبر حتى عظم أمره كهذا السقب الذي مازال يشب حتى صار كبيراً كأمه ؛ وصار له ابن يصحبه .ويقول الشوكاني "التأويل رجوع الشيء إلى مآله " وقد ورد لفظ "التأويل" في عدة مواضع من كتاب الله تعالى ؛ ومن ذلك قوله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" أي : وأحسن مرجعا ؛ يقول الإمام الطبري "وأحسن تأويلا ؛ يعني : وأحمد موئلا ومغبة وأجمل عاقبة ...... وهو من قولهم آل هذا الأمر إلى كذا أي : رجع" ، ومنه قوله تعالى: "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " أي: وأحسن عاقبة ، ومنه أيضا قوله : "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ .......... "أي يوم تبدو عواقبه ، ومنه أيضاً قوله : "بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ"أي حقيقة ما وعدوا به ، ومنه قوله : " وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " أي : تفسيرها ، ومنه أيضاَ قوله "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رؤياي مِن قَبْلُ " أي : تحقيقها ، ومنه قوله: " قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا " أي : سأخبرك بعاقبة أفعالي ، ومنه أيضاً قوله : " هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ " أي : تحريفه على ما يريدون.
ومن هنا يتبين أن معنى التأويل في القرآن : هو المرجع والعاقبة أو التحقيق أو التفسير أو التحريف ، وقد ذهب ابن كثير إلى أن التأويل يراد به في القرآن معنيان عامان :
أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء
ثانيهما :التأويل بمعنى التفسير والبيان والتعبير عن الشيء
ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن التأويل هو أحد قسمي التفسير، وهو الرجوع عن ظاهر اللفظ ؛ فالتأويل خاص والتفسير عام، وكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويل ، وذهب ابن منظور إلى أن : " المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ" ، وقال ابن رشد : " التأويل هو : إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية ؛ من غير أن يخلّ ذلك بعادة لسان العرب في التحوّز" . والملاحظ أن ابن رشد قد حصر التأويل في الجانب المجازي دون غيره ؛ إلا أن المجاز- وإن كان من أظهر الضروب التي تحتاج إلى التأويل - فهو لا يقتصر عليه دون سواه ؛ بل هناك من الأساليب التي تحتاج إلى التأويل وليس فيها من مجاز أصلاً ؛ إذ إن الأسلوب الذي يكون فيه التأويل هو الذي يحتمل أوجهاً متعددة من المعنى
أنواع التأويل:-
يتبين من خلال التأمل في الآيات السابقة - التي ورد فيها لفظ "التأويل" - أن التأويل منه: ما هو ممنوع وهو الذي يكون في المتشابهات ، ومنه : ما هو جائز وهو الذي يكون في غير ذلك ؛ أما الجائز فقد يكون صحيحاً إذا كان وفق الضوابط والأدلة ، وقد يكون باطلاً إذا كان وفق هوى المستدل ، ومن هنا يتضح أن هنالك مواضع يجوز فيها التأويل ومواضع لا يجوز ، أما المواضع التي يجوز فيها التأويل فإما أن يكون الاستدلال فيها صحيحا أو لا يكون، ويبدو من ذلك أن أغراض المؤولين تختلف ونواياهم تتباين ؛ فقد يهدف المؤول إلى إثارة الفتنة بين الناس وقد يحاول تثبيت رأيه الفاسد بأدلة الكتاب والسنة ، وفي هذين النوعين من الخطورة ما لا يخفى ، أما النوع الثالث فهو الذي ليس لصاحبه من غرض غير معرفة مراد الله . وفي هذه النصوص التي يكون فيها التأويل صحيحاً يكون فيها من الأدلة والضوابط ما يستوجب صرف المعنى عن ظاهره ، وهذه الأقسام المتنوعة للتأويل تفصيلها كالآتي :-
أ – تأويل الآيات المتشابهة :-
اختلف العلماء في المتشابه من القرآن اختلافاً كبيراً ؛ إذ قيل :إن المتشابه هو المجمل ، والمحكم هو المفصل ، وقيل : هو الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل : هو الحلال والحرام ، وقيل غير ذلك ، وذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه ؛ لقوله تعالى : "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا" وقال آخرون : القرآن كله محكم؛ لقوله تعالى : "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ" وهذه الأقوال جميعها فيها نظر ؛ وذلك للأسباب الآتية :-
1- لا يمكن أن يكون المتشابه هو المجمل ، والمحكم هو المفصل ؛ لأن المتشابه المذكور في الآية يمتنع طلب الاجتهاد فيه ، أما المجمل فمطلوب النظر والاجتهاد فيه.
2- لا يمكن أن يكون المتشابه هو الحروف المقطعة التي في أوائل السور ؛ وذلك لأن طلب المعنى فيها لا يثير الفتنة ابتداء ، ثم إن علماء الإسلام قد فسروا هذه الحروف وخرجوا بمعان معقولة ومقبولة
3- استدل من قال : إن المتشابه هو الحلال والحرام بقوله "" : " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس " ويذهب ابن حزم إلى أن ذلك : " دعوى من قائله لا برهان على صحته" وقد ساق ابن حزم أدلة على تفنيد ذلك
4- إذا كان بعض العلماء قد استدلوا على كون القرآن كله متشابه لقوله تعالى : "كِتَابًا مُّتَشَابِهًا" فالمقصود هو أنه متشابه ؛ بحيث أنه يشبه بعضه بعضاً؛ ومنه قوله تعالى : "وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً" أما من استدل بقوله تعالى : "أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ" على أنه كله محكم ؛ فالمقصود بالإحكام هنا : إحكام الرصف و النظم أو المنع من الفساد ، ولو كان هذا الأمر صحيحاً لكان المتشابه نفسه محكماً أو المحكم نفسه متشابهاً ، ولم يكن لهذا التقسيم من معنى . والاشتباه المقصود في الآية هو: الاختلاط والالتباس ؛ ومنه قوله تعالى - على لسان بني إسرائيل - : "إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا" أي: اختلط .
وقد ذهب صاحب روضة الناظر إلى أن : " الصحيح أن المتشابه : ما ورد في صفات الله سبحانه مما يجب الإيمان به ويحرم التعرض لتأويله ... فهذا اتفق السلف رحمهم الله على الإقرار به وإمراره على وجهه ... فإن قيل كيف يخاطب الله الخلق بما لا يعرفونه أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله؟ قلنا : يجوز أن يكلفهم بالإيمان بما لا يطلعون على تأويله ليختبر طاعتهم كما قال تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وكما قال : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس "
ب-التأويل الجائز :التأويل الجائز هو في مقابل التأويل الممنوع ، ويرتبط الجواز والمنع بالمواضع ؛ إذ يتعلق الممنوع بالآيات المتشابهة التي يفضي تأويلها إلى إثارة الفتنة ، أما التأويل الجائز فهو بخلاف ذلك ، وهذا النوع الأخير له قسمان أيضاً ؛ هما :
1-التأويل الصحيح :-
هذا التأويل من شأن صاحبه محاولة معرفة مراد الله تعالى دون أن يكون له هوى أو غرض آخر ؛ ولذلك فهو يهتم بالقرائن والضوابط والأدلة ؛ فإذا حتم ذلك التأويل وكان المعنى لا يستقيم بغير ذلك مال إليه ؛ وإلا فهو لا يؤول ما لا يقبل التأويل ولا يقول بالمجاز في المواضع التي لا تحتمل المجاز ، ولا يصرف المعنى عن ظاهره إذا كانت الدلائل تشير إلى أن المعنى الظاهر هو المقصود، وإذا كان المؤول يتغلغل وراء الظواهر والألفاظ مستخرجاً منها المعاني الحسان والدقائق الفريدة فهذا وجه مطلوب لا يهتدي إليه إلا من آتاه الله بصيرة ثاقبة وعقلاً لماحاً وطبعاً صحيحاً وفهماً عالياً وإدراكاً متميزاً ، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن العباس - وهو حبر الأمة- بقوله: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "
2- التأويل الباطل :-
التأويل الباطل بخلاف التأويل الصحيح ، إذ يكون فيه لي أعناق النصوص حتى توافق غرض المستدل بها ، وهنا يلوح للمستدل معنى ما كان ليلوح له لولا الغرض والهوى ، أو قد لا يكون للمستدل غرض أو هوى ، ولكنه يخطئ في إدراك المعنى لأمر توهمه ولم تنهض الأدلة أبداً لإثباته أو تعضيده ؛ ولهذا قال ابن حنبل : " أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"
والحق أن ظاهرة المجاز التي هي من أكبر الظواهر التي يدخل بها التأويل ، وهي ظاهرة أسلوبية فنية عالية يذهب بذهابها شطر الحسن من الكلام كما ذكر بعض العلماء - قد نظر علماء الإسلام إليها من وجهتين :
- كونها سمة جمالية جرى عليها كلام العرب ووقعت في القرآن والسنة ؛ يقول الشوكاني: " المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور العلماء ... ووقوعه في اللغة أشهر من نار على علم وأوضح من شمس النهار ..." ولهذا لا يمكن إدراك المعاني المقصودة دون فهمها ومراعاتها ، إذ يكون للكلام معنى ويكون لهذا المعنى معنى آخر؛ ومن هنا كان قبولها ، ولذلك لم يرفض هذه الظاهرة في هذا الإطار حتى أولئك العلماء الذين تشددوا فيها كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن حزم الظاهري كما سيأتي.
- كونها سمة لها خطورتها على مستوى اللغة والفكر والدين والعقيدة ؛ حيث يمكن أن يقول كل من شاء - استناداً عليها ـ ما شاء ؛ مستدلاً بالقرآن مؤولا ً له تأويلات بعيدة ومن هنا كان التشدد فيها.
(يتبع إن شاء الله)