- 13 ديسمبر 2007
- 4,384
- 34
- 48
- الجنس
- ذكر
سيرة صوت
صفحات
من سيرة الشيخ عبدالرزاق عبطان الدليمي
بقلم الدكتور
فؤاد طه محمد الهاشمي البغدادي
" بين يدي الحديث "
في مقهى الشابندر ذات النكهة البغدادية العبقه بالجمال والجلال وعطر الذكريات ,كانت هنالك مجموعة تتضمن الفنان والخطاط والأديب والشاعر والأديب الى الرسام والمصور والنحاس وكاتب القصه مع عشاق الانغام ومهرة التجويد ورواد المقام , وقد حفلت الندوة بالشهي من الحديث , والطلي من القول ,والقوم تحت رعاية عميد المقهى الحاج (محمد الخشالي البغدادي) راعي الفن وعاشق المقام . وضل الحديث بالقوم الى مشطلة ضياع سير ,الكثيرين من اعلام التجويد وأساتذة الاداء ,وانصراف عشاقهم وروادهم والمترددين على مجالسهم عن تدوين تلك السير بما حفلت به من سهر وجهاد وسعي للحصول على العلم الموجود سواء من حلقات الشيوخ أو من بطون الأسفار .وتساءل أحدهم :- ماذاتعرفون-مثلا –عن سيرة( الشيخ الحافظ خليل العمر ) الذي ملأ سماء بغداد تجويداً وترتيلاً وسحر الاجيال ؟-- ماذا بقي في ذاكرتنا من اخبار الشيخ (جاسم سلامة النجدي)وهو أقرب من يكون الى جيلنا ؟..ماذا درس الشيخ (محمد بهجت الاثري )على الحافظ (الملا عثمان الموصلي )من أصول التجويد والمقامات ؟..ألم يكن العلامة المفسر الامام(ابو الثناء الالوسي) من عشاق النغم والهائمين بالرخيم من الاصوات ؟.. وهل وقع أحدنا على صفحة واحدة من سيرة القاريء المشهور (رباز)؟.. ما من جيل ينطوي الا ونحن ننتظر من الجيل الذي يليه ان يشمر عن ساعد الجد ليكشف الصفحات المطويه عن سير أؤلئك الاعلام ,ولكن هاهي الاجيال تتعاقب ولا نجد امام القاريء الا السراب . واعترض احدهم على ذلك قائلاً :كان على أؤلئك الاعلام أن يدونوا سيرتهم ويكتبوا يومياتهم والا يتركوها على عهدة هذا وذاك . فالناس لكل منهم شأن يغنيه .
وأبدى ثالث ليقول : لماذا تعودون الى بغداد القرن التاسع عشر وتتطلبون تواريخ يصعب رصدها ها نحن –في يومنا هذا , نسمع أصواتاً تسحر الالباب وتستمطر الدموع من العيون ولا نعرف من تراجم اصحابها الا اليسير ,أقول هذا برغم الشهرة التي شرقت وغربت لبعضهم .. نعم من منكم يعرف صفحات لسيرة عن سيرة هذا القاريء الذي نبغ بين صفوفنا ,فصدحت بصوته المنائر والمنابر وهزجت لألحانه المحارب والمحافل ؟..... فأستوقفه أحدهم –وهو خطاط معروف -: نعني بذلك القاريء الشيخ (عبدالرزاق عبطان الدليمي )؟.. فصاح ذاك بصوت عال :- نعم .. ولا اعني غيره ... انه هو بالذات وهنا التفت عميد المقهى الحاج (محمد الخشالي )الى صاحب هذه السطور قائلاً متسالاً:-ان هذا الأخ الساكت الساكن هو اعرف القوم بسيرته ومسيرته ,ومن هذه الشريعه يغترف الماء الزلال وأمام رجاء القوم في أن أبسط لهم صفحات من حياة بلبل بغداد الصداح , وهزار دجلة والفرات و(ورشان) بساتيننا المصوت بين الايك والغصون بأرق الانغام واعذب الفنون .لم اعد املك لنفسي عذراً ,فقمت بمراجعة صحف الماضي وتقليب صفحات الذكريات ,فكان موجز ذلك كله – وهوضخم متشعب جداً – هذه السطور التي اضعها بين يدي القاريء في ارض العروبه وحوافر الاسلام وليسامحني على ما يبدر مني من قصور مرجعه إلي لا الى صاحب السيرة .
(بارق في السحر)
نزلت ضيفاً على صديق لي ذات يوم و كما هو مألوف لدي استيقظت عند السحر , في هدأة الليل,وكانت الدور المحيطه بنا قد علت سطوحها الديكه , وهي تترسل في اذانها بألحان تمتزج بنور الافق الارجواني ,قبل الغبش ,وللشجر حفيف رقيق كوسوسة الحلي ,وهمسات النسيم ,مما اضفى على المكان سحراً اسراً ,تزداد به قلوب المؤمنين سكينه وشاعرية وايماناً.
كانت الارواح هيامة في ذكر الله , حتى لكأن النسمات من حولنا ترسلها اجنحة ملائكة موكلة بذلك , وفي زوايا المساجد أكف الضراعة بالدعاء لفالق الا صباح , فالق الحب والنوى ... اللهم هذا ادبار ليلك واقبال نهارك واصوات دعائك وغمرتني دوحة شجيه من روح وريحان ,واذا بصوت يترقرق مع ألق الفجر الساجي , ومع انحسار الظلام فكأنه هو الفجر يجري مع نهر الضياء .ولا اكتم القاريء سراً, لقد نقلني هذا الصوت الساري إلي من المسجد القريب على بساط من سندس واستبرق الى ملكوت سرمدي تتوقف عنده الكلمات .
ولم يرعني الا صوت صديقي صاحب الدار –وهويردني الى نفسي :- ما بالك ؟.. ألم يسبق لك أن سمعت هذا الصوت ؟...
أجبته – وانا مسحور مبهور – واين اسمع مثل هذا الصوت ؟لقد انقطع العهد بمثل هذه الاصوات من زمن بعيد . فاعترض :- هكذا ؟.. وانت تكتب عن عالم الانغام ورجال المقام ؟.. هذا صوت المقريء الشيخ (عبدالرزاق عبطان الدليمي) !...
بعد ذلك طفقت أسأل البادي والحاضر واتطلب من يسعى بي اليه لأني اريد ان اقترب من أيكة الهزار.ثم انطوت الايام مثلما ينطوي البساط بعد ساعات السمر ,وأنا خلالها أسأل عن ذلك الصوت الذي رد ألي روح الشباب ... فأي صوت كان ذاك ؟.. لقد انصهرت في حنجرة صاحبه كهوات البلابل والعنادل وحنين اليمام,فصارت ترانيمه أرق من تطريب الكروان وشدو الورشان .وأشجى من حفيف الاشجار في الاسحار .
وتحقق المنام , وهاهي الأمنيه ماثلة بين يدي .. فلله الحمد على هذه المنه الكبرى . ولا تقل من سجل يومياتي مادونته عن ذلك اليوم ..
قبيل أذان الظهر ولجت جامع(حسين باشا السلحدار)وهو من جوامع بغداد العتيدة , ذات الألق التاريخي والبعد في ذاكرة الاجيال , فقد أنشأه أخيار العثمانيين سنة 1639م وهو اليوم يكاد أن يجثو منكفئاً على الارض بسبب ما أنزلته به عاديات الزمان وأهمال دائرة الاوقاف ولم أكن أتوقع أن التقي بالمجود المقريء الشيخ عبدالرزاق عبطان الدليمي , في جامع من جوامع الرصافه وفي محلة الحيدر خانة بالذات . ذلك أن الذين تحدثوا ألي بشأنه ذكروا أنه كثير الارتياد لجوامع الغربي من بغداد (الكرخ) فكيف عبر الى الرصافه ؟.. قال لي الشيخ خالد الغدير:- كل جنائن الله أوكار للطيور ,مادامت تستظل بأفياء الاشجار وتتناقل على ضفاف الانهار . ارتفع صوت باهر يدعو الناس الى صلاة الظهر , انه هو , نفس الصوت الذي هزني وقت السحر , هو ذا يترقرق ويتألق عند الظهيرة بهيا شجياً كالعسجد المذاب على طرحةٍ من الحرير الاخضر.
انتبهت المحلات المجاورة (العاقولية) و( حسين باشا ) و(الميدان)و(الرشيد) وتأخر الأذان في جامع مجاور برهةً من الوقت ريثما يتم (عبدالرزاق عبطان الدليمي) الأذان ,وسألت أحدهم :ويجوز ذلك ؟.. قال: نعم .. هذا هو طلب المصلين . وتساءل احدهم من جلساء (مقهى حسن عجمي) القريب من الجامع وهو من الشعراء اللامعين : هل فتحت باب الجنه فأنفلت هذا الطائر منها ليعود الى الارض فيشفي أرواح المعذبين ؟.. فرد عليه جليس الى جواره ياهذا .. ان الايام تنزل المصائب بالناس فاذا ارادت الاعتذار اليهم –مما جنت –وهبتهم مثل هذه الملكات.
وهذان المتجاوران لم يكونا من المصلين ولا عهد لهما بالمساجد والمعابد
نطق ثالث وهو الحاج (عبدالرحمن البصام ) من (بيت الريزلي): انني اعرف هذا الصوت , انه كنز من اليواقيت والالماس , ولكني لا اعرف صاحبه ,..اواه حين استمع اليه أتذكر تلك الانغام السماويه التي كنت أرهف السمع اليها – ايام زمان – وهي تتألق منسابةً على حناجر (محمدرفعت )و(الشعشاعي) و(عبدالحي حلمي) و(صالح عبدالحي). وعندنا في بغداد يوم كانت شواطىء دجلة على الجانبين , وشواطيء النهر تحت ظلال النخيل , , تهتز اعطافها على انغام (خليل رباز)و(الملا عثمان الموصلي) و(قدوري العيشه). ولكن اسمعوا, ان (الملا عثمان الموصلي) والقاريء (عبدالرزاق عبطان ) هما من عشيرة واحدة هي عشيرة ( الدليم ) العربية الزبيدية ,ذات التاريخ الباذخ والكرم الفضاح .هذا الحوار نقله ألي بأيجاز أحد الجلساء وشهد عليه الكاتب المعروف الشيخ ( صبحي الحديثي) الفقية , المؤرخ , . ولو اني ارسلت نفسي على سجيتها لأنقل كل مادار ويدور في المجالس والمقاهي والمنتديات والمكتبات لما توقفت عند حدٍ ولا أرحت القلم .
قد تجمهر جمع من المصلين , فلم أر كذلك اليوم أدباً جماً وتواضعاً وخجلاً واضحاً من ثناء الناس ومن اطرائهم وانبهارهم بالصوت وبصاحبه . ها انا ماثل بين يديه والكلمات قد هربت من حافظتي فماذا أقول له ؟.. وما ان القوم يزداد تجمعهم من حواليه , فلم يبق لي مكان من الاعراب , ولكنه اولاني رحابة صدر وسحن استقبال وود عنده , وعقدت العزم على لقياه , وسلكت تلك الدرابين العتيقه لأعود الى مقهى ( الشابندر) , لأعود الى الارض , بعد ان تمت رحلتي الى افاق السماء . ويشرب استاذي الابر (الحاج محمد الخشالي) فضحك وتساءل : ألم تنزل عليك ربة الشعر شيئاً من وحيها ؟.. قلت له :- أظن ذلك قريبأ . وكان يجلس بازائه العلامه الاستاذ الكبير(موفق احمد فهمي سالم القرغولي )الذي اطلق عليه جمهور عارفي فضله ونبوغه وادبه تسميه (كنز اللغات ) و(حافظ الموسوعات) فساجلته الحوار , فركن الى الصمت قليلاً ثم قال :- لابد لي من لقياه , والتقيا , ولهذا الموضوع حديث يطول ,ولاستاذنا العلامه (القرغولي)شهادات بحق مقرئنا سأورد شطراً منها في موضعه , واذا تقدم من خلال خبرته ودراساته بشهادةٍ ما فحسبها من شهادة لا تميزعليها . كيف لا , وهو الذي عاصر ارباب فنون الصنعات الفنية وكان له دور في التوجيه والارشاد وفي النقد الهادف البناء طيلة نصف قرن من الزمان , وهو الرجل المدرك الواعي الذي حمل الخزين من الاخبار والعلوم والتراجم والمجالس وسير القراء والمجودين والممجدين والحفاظ والكتاب والشعراء والبلغاء , اضافة الى مخزونه من العلوم العسكرية عرضاً وطولاً فهو من قادة الجيش , وأن كانت هواياته قد غطت على نهج الوظيفة بالجيش.
ولما كان للقاء هذين الصديقين النبيلين أثر بين فقد تحتم علي أن أسجله واذكره بالاحتفاء والتقدير . ويهيمن من وراء ذلك كله الاصفياء في رفد اخلائهم بالمدد الفني والتوجيه المعنوي تتم مسيرة على درب مستقيم ومسلك قويم
( بيئة القاريء)
يعتبر الشطر الغربي من الديار العراقية العربية من انقى بيئات العراق بشراً , كلهم منحدرين من عروق عربية صافية لها أمتدادها الى جزيرة العرب وما يليها من اصقاع وتخوم . ولاتزال البادية الغربية هي هي في نقاء مائها وصفاء سمائها وسعة صحراءها . وتمتد المدن فيها على ضفتي الفرات , وهو يندفع بموجه شاقاً الصحراء شاطراً الهضبة الكبرى شطرين ممتدين مع جريانه وهو حين ينحدر ويقترب من دار السلام (بغداد) يكون البعد بينه وبين (دجلة) قرابة الاربعين كيلو متراً. وتقوم المدن التاريخية العريقة على ضفافه مثل : (عانات)و(هيت)و(أبي كبيس)
كبيسة)و(الأنبار)و(الفلوجة) وغيرها من المدائن , وتتفرع من فروع تسقي البشر والشجر والطير والثمر.
أهل تلك البقاع حافظوا على عروبتهم فأستقامت ملكاتهم وصفت سلائقهم , وهم قريبو عهد بالعراوة, احتفظوا منها بخير مافيها , وأخذوا من الحضارة خير مافيها . وقد ظهر فيهم الشعراء والبلغاء ونبهاء الكتاب وصار لهم في مملكة العراق – منذ تأسيسها –أثر واضح في بناء العراق الجديد .والقوم يتسمون بالشجاعة والكرم وحب الضيف ورعاية الجوار مع استقامة وديانه وصيانة بعيدة عن أفكار الضلال والزيغان . ولهم مجالس باذخة هي المدارس الحقيقية للأجيال الأتية , بل أن الأمي فيهم يحمل تحت سنوات سنية شخصية الشاعر والمحدث والنسابة والأخباري والمذكر والقصاص,يؤدي ما لدية من تراث وأثر من حافظته , لا من مخطوط أو مطبوع . ولهم قراء ومنشدون وأصحاب القصيد والحادي لأبله وقارئ (العتابة) والخبير بشعر البادية وأحداثها وأبطالها وأشعارها خبرة المؤرخ الحافظ المتمكن من حفظه وروايته وأدائه البليغ .
على هذه البيئه أقبل الشيخ (عبدالرزاق الدليمي)وليداً , ومن انفاس اصباحها تنسم روائح الفجر العليل وأنداء أماسيها السواحر , وفيها تقلب طفلاً ولاذ في مراتع قومه في بيت يحترم الرأي ويوقر العالم ويحتفي بالضيف مع حب للعرب في سائر الأقطار والأمصار وأحتضان لكتب التفسير والحديث واللغة والبلاغة والبديع من البيان . وقد كان لنقاء البيئة وصفاء أفقها أثر في نقاء أخلاق مترجمنا وصفاء صورته وصوته , لذلك جاءت سيرته (مجوداً) مرآةً لسيرته (أنساناً) حتى لكأن نهر الفرات أنبثق نهير يجري في حنجرته لحناً شجياً وسحراً حلالاً هو حبة الله للأجيال .
(مولد حنجرة)
كان الفصل ربيعاً , وقد أخضرت فيه الأشجار وصدحت الطوائر على الغصون , وانغمر دجلة والفرات بغيضٍ من الماء يبشر ذلك بسنة خير وموسم حافل ببركات السماء على أهل (الارض) وبأن الارض تستعد لأستقبال
السنة هي 1976م والشهر هو نيسان , شهر العطاء والفيضان , وقد قيل فيه ( نيسان أغرق الكدسان ) التي هي اكداس الحبوب من حنطة وشعير وذرة وغيرها ومن اليوم الخامس منه وقفت بما فيه على سور حديقة البيت تترسل في هديلها سارحة في الافق , سابحةً مع النسمات . وانطلق صوت مؤذن الحي يدعوعباد الله الى الصلاة
:- (حي على الفلاح .. حي على الفلاح) فكأن هذا الوليد الجديد في أسرة (آل عبطان) قد أستجاب لنداء الداعي فأستقبل الدنيا بصوت أي وليد , وأستقبلته الدنيا بدعاء المؤذن وصوته الحاني الرخيم , وما هذا التدرج في تاريخ مولدة :
الشهر :هو الرابع
اليوم : هو الخامس
العام : هو السادس . بعد السبعين من القرن العشرين
وسرعان ما تلقفت أذنه اليمنى صوت الاذان وأذنه اليسرى الاقامه للصلاة و وضمته الحواضن الى تربية عربية سليلة نشأة كريمة كنشأة السابقين عليه من أشقائه الكرام . وهي النشأة التي درجت عليها العشيرة جيلاً عن جيل , منذ عهود أجدادها في جزيرة العرب , حتى يومنا هذا .
ولم تشهد طفولته ما دأب عليه أقرانه من الصخب والضجيج , بل شهدت فيه طفلاً تغلب عقله على عقول لداته من أبناء المحلة . فقد كان يرهف السمع لصوت المقرئين و– وهم كثر – وقد اقبلوا: أخوانه هذا على صلاته وذاك على تسابيحه وآخرعلى دعائه. وربما اختلطت الاصوات اختلاط العطر بالنسيم أو امتزاج النسمات بالصوت الرخيم , فكان ذلك يدعو على الاصغاء والتأمل والتمييز بين برقمات البلابل وهديل الحمام وشقشقة العصفور , وهو يختزن تلك الاصوات الناعمه ويحاول تأديتها كما سمعها وكبر الطفل , وتدرج في مراحل الحياة وكبرت معه تلك الموهبه التي أنبجس ينبوعها في سنٍ باكرةٍ لم تظهر على أمثاله ألا في النادر من مواهب الرحمن .
وكان يريد أداء الاذان – وهو صغير- ويريد إسماع القوم صوته شادياً تالياً لذكر الله , ولم يكن مقتنعاً انه مازال يافعاً وان صوته بحاجه الى الصقل والمران .ويستمكن – من صغره – على كتاب الله يستظهر أياته ويتدبر معانيه, ويسأل الذاهب والأيب عن تفسير هذه الكلمه ومعنى ذلك النص وما المقصود من هذه الأيه ومن تلك الأيه , ويربط ذلك الاداء بالاداء المجسم لها ولما أنطلق صوته مؤذناً في رحاب مساجد بغداد ألتفت أليه القوم وقد نقل لي أحد الذين استمعوا أليه – أنه حين استمع أليه لم يظن أن العمر سيمتد به حتى يسمع مثل هذا النغم الممتليء حيويةً وخشوعاً . وصاحب هذا القول هو مؤذن في جامع (الشيخ صندل) الحافظ الشيخ (أسماعيل السامرائي) وهو حي يرزق.
و وليد الربيع أكتسب من ذلك الفصل طراوة من الصوت وعذوبهةً من النغم وموسيقية لا تتفق إلا للعدد القليل ممن حباهم الله مزماراً من مزامير آل داوود . كان حافظاً لما يسمع , واعياً لما يقرأ , مع سلوك رفيع يجعله في صف الأساتيذ , لافي صف التلاميذ . وقد أكسبته شخصيته المترفقة حب واحترام اولي الامر , فما شوهد صاخباً لاغياً, ولا رآه أحدهم عابثاً لاهياً , فحمل له عارفوه الحب والاكبار والتقدير والتوقير , وسار عليه لقب (الشيخ| وهو لم يزل بعد – في أول اليفاعة وطراوة الصبا وريعان الشباب.
حتى اذا تدرج ووصل الى سن العاشرة تتلمذ على ( المكتبة الصوتية ) لكبار القراء ,وكانت تلك المكتبه كنزاً حافلاً بما انطوت عليه من اصوات نبغاء القراء والمجودين وارباب الحناجر المتألقه .
فأستقامت حواسه السمعيه وحرك خطواته نحو الاداء السليم والنهج القويم .
ولم يكن بدعاً حين وجد نفسه بين يدي الشيخ الحافظ المتقن الضرير(ياسين أبن طه أبن شكر العزاوي) وهو يؤدي التجويد ببراعة وأتقان) . ولم يتمالك الشيخ (العزاوي) أن منحه أجازة عالية بذلك .)والشيخ العزاوي من ابصرالبصراء بالعلم والتفسير واللغه ودواوين العرب , وعشق القارئ الصغير(المقامات البغدادية) فعكف على دراستها وأتقن أصولها وجمع لنفسه مكتبه ثمينة من مكاتب التسجيلات, ومن القراء أنفسهم , وهنا تهيأ لدخول دار الأذاعة العراقية , وكان ذلك أمراً صعباً ومنالاً تقف دونه العثرات والمثبطات ولكنه اقتحم بكفاءته ذلك الصرح المنيع فراح الآلاف يرهفون السمع اليه وهم ما بين معجب ومنبهر وطروب . واستمع اليه شيخ المقاريء في العراق وصاحب الطريقة البغدادية العريقة( الحافظ خليل ابن اسماعيل)
رحمه الله , واتصل حبل الوداد بين الاثنين , واذا بالتلميذ يشارك شيخه , هذه القمه السامقة , وفي اكثر من محفل وهو شرف عال لم ينله الكثيرون .
والحافظ خليل بغدادي من محلة( الست نفيسه) في جانب الكرخ تتلمذ على يد( الملا محمد ذويب) الذي كان اماما لمسجد ( عبدالله السويدي)في محلة (جامع عطا) ثم ارتقى في اخذه اصول التجويد والاداء فدرس على يد الشيخ (الملا جاسم سلامه النجدي ) وبيت التلميذ قريب من بيت استاذه , وكانت تجمعها بعض بيوت (محلة البستان) التي هي نفسها محله(الست نفيسه القشطين) وراح (الخليل) ينشر شهادته بأستاذية تلميذة (عبدالرزاق)بين الناس وفي المحافل وعلى الملأ. كما شهد له بأتقان القراءات والمقامات وضبط الأداء
ذكر لي احدهم ان نتيجته في امتحان سنة 2003م كان الرسوب بسبب الاوضاع التي وقعت في العراق فقرر اْن ينهي حياته , إذْ لا معنى لبقاء الفشل في الحياة كما قال . ولكنه وهو في تفكيره المظلم تناهى اليه صوت من احدى الاذاعات , فأقتربت من المذياع واذا هو صوت ذلك القاريء البغدادي الحنون الشيخ (عبدالرزاق الدليمي ) , فأرهفت السمع , فسكنت نفسي وعدت الى الرشاد , وأخذتني حالة من النشيج والبكاء فأستغفرت الله ربي وثابت ألي نفسي وانسكب على النار ماء زلال وخبت نار الشيطان . فأستغفرت ربي ثانية وثالثة , رحت أبحث في مكاتب التسجيلات عما لديها من اعمال هذا المقريء الرائع فهداني الاستاذ( سمير) صاحب مكتبة (أنغام التراث) الى ما لديه من تسجيلات وهو يقول لي :- احسنت الاختيار .. أحسنت الاختيار .
وهنالك مواقف كثيرة اعرضت عن ذكرها ومنها ما قد يتهم راويه بالمبالغة , واجتزأت من ذلك كله باليسير اليسير . رغم قول القائل الناصح : اكتب مثل هذه الامور وعليك بما قيل لا بمن قال .
صفحات
من سيرة الشيخ عبدالرزاق عبطان الدليمي
بقلم الدكتور
فؤاد طه محمد الهاشمي البغدادي
" بين يدي الحديث "
في مقهى الشابندر ذات النكهة البغدادية العبقه بالجمال والجلال وعطر الذكريات ,كانت هنالك مجموعة تتضمن الفنان والخطاط والأديب والشاعر والأديب الى الرسام والمصور والنحاس وكاتب القصه مع عشاق الانغام ومهرة التجويد ورواد المقام , وقد حفلت الندوة بالشهي من الحديث , والطلي من القول ,والقوم تحت رعاية عميد المقهى الحاج (محمد الخشالي البغدادي) راعي الفن وعاشق المقام . وضل الحديث بالقوم الى مشطلة ضياع سير ,الكثيرين من اعلام التجويد وأساتذة الاداء ,وانصراف عشاقهم وروادهم والمترددين على مجالسهم عن تدوين تلك السير بما حفلت به من سهر وجهاد وسعي للحصول على العلم الموجود سواء من حلقات الشيوخ أو من بطون الأسفار .وتساءل أحدهم :- ماذاتعرفون-مثلا –عن سيرة( الشيخ الحافظ خليل العمر ) الذي ملأ سماء بغداد تجويداً وترتيلاً وسحر الاجيال ؟-- ماذا بقي في ذاكرتنا من اخبار الشيخ (جاسم سلامة النجدي)وهو أقرب من يكون الى جيلنا ؟..ماذا درس الشيخ (محمد بهجت الاثري )على الحافظ (الملا عثمان الموصلي )من أصول التجويد والمقامات ؟..ألم يكن العلامة المفسر الامام(ابو الثناء الالوسي) من عشاق النغم والهائمين بالرخيم من الاصوات ؟.. وهل وقع أحدنا على صفحة واحدة من سيرة القاريء المشهور (رباز)؟.. ما من جيل ينطوي الا ونحن ننتظر من الجيل الذي يليه ان يشمر عن ساعد الجد ليكشف الصفحات المطويه عن سير أؤلئك الاعلام ,ولكن هاهي الاجيال تتعاقب ولا نجد امام القاريء الا السراب . واعترض احدهم على ذلك قائلاً :كان على أؤلئك الاعلام أن يدونوا سيرتهم ويكتبوا يومياتهم والا يتركوها على عهدة هذا وذاك . فالناس لكل منهم شأن يغنيه .
وأبدى ثالث ليقول : لماذا تعودون الى بغداد القرن التاسع عشر وتتطلبون تواريخ يصعب رصدها ها نحن –في يومنا هذا , نسمع أصواتاً تسحر الالباب وتستمطر الدموع من العيون ولا نعرف من تراجم اصحابها الا اليسير ,أقول هذا برغم الشهرة التي شرقت وغربت لبعضهم .. نعم من منكم يعرف صفحات لسيرة عن سيرة هذا القاريء الذي نبغ بين صفوفنا ,فصدحت بصوته المنائر والمنابر وهزجت لألحانه المحارب والمحافل ؟..... فأستوقفه أحدهم –وهو خطاط معروف -: نعني بذلك القاريء الشيخ (عبدالرزاق عبطان الدليمي )؟.. فصاح ذاك بصوت عال :- نعم .. ولا اعني غيره ... انه هو بالذات وهنا التفت عميد المقهى الحاج (محمد الخشالي )الى صاحب هذه السطور قائلاً متسالاً:-ان هذا الأخ الساكت الساكن هو اعرف القوم بسيرته ومسيرته ,ومن هذه الشريعه يغترف الماء الزلال وأمام رجاء القوم في أن أبسط لهم صفحات من حياة بلبل بغداد الصداح , وهزار دجلة والفرات و(ورشان) بساتيننا المصوت بين الايك والغصون بأرق الانغام واعذب الفنون .لم اعد املك لنفسي عذراً ,فقمت بمراجعة صحف الماضي وتقليب صفحات الذكريات ,فكان موجز ذلك كله – وهوضخم متشعب جداً – هذه السطور التي اضعها بين يدي القاريء في ارض العروبه وحوافر الاسلام وليسامحني على ما يبدر مني من قصور مرجعه إلي لا الى صاحب السيرة .
(بارق في السحر)
نزلت ضيفاً على صديق لي ذات يوم و كما هو مألوف لدي استيقظت عند السحر , في هدأة الليل,وكانت الدور المحيطه بنا قد علت سطوحها الديكه , وهي تترسل في اذانها بألحان تمتزج بنور الافق الارجواني ,قبل الغبش ,وللشجر حفيف رقيق كوسوسة الحلي ,وهمسات النسيم ,مما اضفى على المكان سحراً اسراً ,تزداد به قلوب المؤمنين سكينه وشاعرية وايماناً.
كانت الارواح هيامة في ذكر الله , حتى لكأن النسمات من حولنا ترسلها اجنحة ملائكة موكلة بذلك , وفي زوايا المساجد أكف الضراعة بالدعاء لفالق الا صباح , فالق الحب والنوى ... اللهم هذا ادبار ليلك واقبال نهارك واصوات دعائك وغمرتني دوحة شجيه من روح وريحان ,واذا بصوت يترقرق مع ألق الفجر الساجي , ومع انحسار الظلام فكأنه هو الفجر يجري مع نهر الضياء .ولا اكتم القاريء سراً, لقد نقلني هذا الصوت الساري إلي من المسجد القريب على بساط من سندس واستبرق الى ملكوت سرمدي تتوقف عنده الكلمات .
ولم يرعني الا صوت صديقي صاحب الدار –وهويردني الى نفسي :- ما بالك ؟.. ألم يسبق لك أن سمعت هذا الصوت ؟...
أجبته – وانا مسحور مبهور – واين اسمع مثل هذا الصوت ؟لقد انقطع العهد بمثل هذه الاصوات من زمن بعيد . فاعترض :- هكذا ؟.. وانت تكتب عن عالم الانغام ورجال المقام ؟.. هذا صوت المقريء الشيخ (عبدالرزاق عبطان الدليمي) !...
بعد ذلك طفقت أسأل البادي والحاضر واتطلب من يسعى بي اليه لأني اريد ان اقترب من أيكة الهزار.ثم انطوت الايام مثلما ينطوي البساط بعد ساعات السمر ,وأنا خلالها أسأل عن ذلك الصوت الذي رد ألي روح الشباب ... فأي صوت كان ذاك ؟.. لقد انصهرت في حنجرة صاحبه كهوات البلابل والعنادل وحنين اليمام,فصارت ترانيمه أرق من تطريب الكروان وشدو الورشان .وأشجى من حفيف الاشجار في الاسحار .
وتحقق المنام , وهاهي الأمنيه ماثلة بين يدي .. فلله الحمد على هذه المنه الكبرى . ولا تقل من سجل يومياتي مادونته عن ذلك اليوم ..
قبيل أذان الظهر ولجت جامع(حسين باشا السلحدار)وهو من جوامع بغداد العتيدة , ذات الألق التاريخي والبعد في ذاكرة الاجيال , فقد أنشأه أخيار العثمانيين سنة 1639م وهو اليوم يكاد أن يجثو منكفئاً على الارض بسبب ما أنزلته به عاديات الزمان وأهمال دائرة الاوقاف ولم أكن أتوقع أن التقي بالمجود المقريء الشيخ عبدالرزاق عبطان الدليمي , في جامع من جوامع الرصافه وفي محلة الحيدر خانة بالذات . ذلك أن الذين تحدثوا ألي بشأنه ذكروا أنه كثير الارتياد لجوامع الغربي من بغداد (الكرخ) فكيف عبر الى الرصافه ؟.. قال لي الشيخ خالد الغدير:- كل جنائن الله أوكار للطيور ,مادامت تستظل بأفياء الاشجار وتتناقل على ضفاف الانهار . ارتفع صوت باهر يدعو الناس الى صلاة الظهر , انه هو , نفس الصوت الذي هزني وقت السحر , هو ذا يترقرق ويتألق عند الظهيرة بهيا شجياً كالعسجد المذاب على طرحةٍ من الحرير الاخضر.
انتبهت المحلات المجاورة (العاقولية) و( حسين باشا ) و(الميدان)و(الرشيد) وتأخر الأذان في جامع مجاور برهةً من الوقت ريثما يتم (عبدالرزاق عبطان الدليمي) الأذان ,وسألت أحدهم :ويجوز ذلك ؟.. قال: نعم .. هذا هو طلب المصلين . وتساءل احدهم من جلساء (مقهى حسن عجمي) القريب من الجامع وهو من الشعراء اللامعين : هل فتحت باب الجنه فأنفلت هذا الطائر منها ليعود الى الارض فيشفي أرواح المعذبين ؟.. فرد عليه جليس الى جواره ياهذا .. ان الايام تنزل المصائب بالناس فاذا ارادت الاعتذار اليهم –مما جنت –وهبتهم مثل هذه الملكات.
وهذان المتجاوران لم يكونا من المصلين ولا عهد لهما بالمساجد والمعابد
نطق ثالث وهو الحاج (عبدالرحمن البصام ) من (بيت الريزلي): انني اعرف هذا الصوت , انه كنز من اليواقيت والالماس , ولكني لا اعرف صاحبه ,..اواه حين استمع اليه أتذكر تلك الانغام السماويه التي كنت أرهف السمع اليها – ايام زمان – وهي تتألق منسابةً على حناجر (محمدرفعت )و(الشعشاعي) و(عبدالحي حلمي) و(صالح عبدالحي). وعندنا في بغداد يوم كانت شواطىء دجلة على الجانبين , وشواطيء النهر تحت ظلال النخيل , , تهتز اعطافها على انغام (خليل رباز)و(الملا عثمان الموصلي) و(قدوري العيشه). ولكن اسمعوا, ان (الملا عثمان الموصلي) والقاريء (عبدالرزاق عبطان ) هما من عشيرة واحدة هي عشيرة ( الدليم ) العربية الزبيدية ,ذات التاريخ الباذخ والكرم الفضاح .هذا الحوار نقله ألي بأيجاز أحد الجلساء وشهد عليه الكاتب المعروف الشيخ ( صبحي الحديثي) الفقية , المؤرخ , . ولو اني ارسلت نفسي على سجيتها لأنقل كل مادار ويدور في المجالس والمقاهي والمنتديات والمكتبات لما توقفت عند حدٍ ولا أرحت القلم .
قد تجمهر جمع من المصلين , فلم أر كذلك اليوم أدباً جماً وتواضعاً وخجلاً واضحاً من ثناء الناس ومن اطرائهم وانبهارهم بالصوت وبصاحبه . ها انا ماثل بين يديه والكلمات قد هربت من حافظتي فماذا أقول له ؟.. وما ان القوم يزداد تجمعهم من حواليه , فلم يبق لي مكان من الاعراب , ولكنه اولاني رحابة صدر وسحن استقبال وود عنده , وعقدت العزم على لقياه , وسلكت تلك الدرابين العتيقه لأعود الى مقهى ( الشابندر) , لأعود الى الارض , بعد ان تمت رحلتي الى افاق السماء . ويشرب استاذي الابر (الحاج محمد الخشالي) فضحك وتساءل : ألم تنزل عليك ربة الشعر شيئاً من وحيها ؟.. قلت له :- أظن ذلك قريبأ . وكان يجلس بازائه العلامه الاستاذ الكبير(موفق احمد فهمي سالم القرغولي )الذي اطلق عليه جمهور عارفي فضله ونبوغه وادبه تسميه (كنز اللغات ) و(حافظ الموسوعات) فساجلته الحوار , فركن الى الصمت قليلاً ثم قال :- لابد لي من لقياه , والتقيا , ولهذا الموضوع حديث يطول ,ولاستاذنا العلامه (القرغولي)شهادات بحق مقرئنا سأورد شطراً منها في موضعه , واذا تقدم من خلال خبرته ودراساته بشهادةٍ ما فحسبها من شهادة لا تميزعليها . كيف لا , وهو الذي عاصر ارباب فنون الصنعات الفنية وكان له دور في التوجيه والارشاد وفي النقد الهادف البناء طيلة نصف قرن من الزمان , وهو الرجل المدرك الواعي الذي حمل الخزين من الاخبار والعلوم والتراجم والمجالس وسير القراء والمجودين والممجدين والحفاظ والكتاب والشعراء والبلغاء , اضافة الى مخزونه من العلوم العسكرية عرضاً وطولاً فهو من قادة الجيش , وأن كانت هواياته قد غطت على نهج الوظيفة بالجيش.
ولما كان للقاء هذين الصديقين النبيلين أثر بين فقد تحتم علي أن أسجله واذكره بالاحتفاء والتقدير . ويهيمن من وراء ذلك كله الاصفياء في رفد اخلائهم بالمدد الفني والتوجيه المعنوي تتم مسيرة على درب مستقيم ومسلك قويم
( بيئة القاريء)
يعتبر الشطر الغربي من الديار العراقية العربية من انقى بيئات العراق بشراً , كلهم منحدرين من عروق عربية صافية لها أمتدادها الى جزيرة العرب وما يليها من اصقاع وتخوم . ولاتزال البادية الغربية هي هي في نقاء مائها وصفاء سمائها وسعة صحراءها . وتمتد المدن فيها على ضفتي الفرات , وهو يندفع بموجه شاقاً الصحراء شاطراً الهضبة الكبرى شطرين ممتدين مع جريانه وهو حين ينحدر ويقترب من دار السلام (بغداد) يكون البعد بينه وبين (دجلة) قرابة الاربعين كيلو متراً. وتقوم المدن التاريخية العريقة على ضفافه مثل : (عانات)و(هيت)و(أبي كبيس)
أهل تلك البقاع حافظوا على عروبتهم فأستقامت ملكاتهم وصفت سلائقهم , وهم قريبو عهد بالعراوة, احتفظوا منها بخير مافيها , وأخذوا من الحضارة خير مافيها . وقد ظهر فيهم الشعراء والبلغاء ونبهاء الكتاب وصار لهم في مملكة العراق – منذ تأسيسها –أثر واضح في بناء العراق الجديد .والقوم يتسمون بالشجاعة والكرم وحب الضيف ورعاية الجوار مع استقامة وديانه وصيانة بعيدة عن أفكار الضلال والزيغان . ولهم مجالس باذخة هي المدارس الحقيقية للأجيال الأتية , بل أن الأمي فيهم يحمل تحت سنوات سنية شخصية الشاعر والمحدث والنسابة والأخباري والمذكر والقصاص,يؤدي ما لدية من تراث وأثر من حافظته , لا من مخطوط أو مطبوع . ولهم قراء ومنشدون وأصحاب القصيد والحادي لأبله وقارئ (العتابة) والخبير بشعر البادية وأحداثها وأبطالها وأشعارها خبرة المؤرخ الحافظ المتمكن من حفظه وروايته وأدائه البليغ .
على هذه البيئه أقبل الشيخ (عبدالرزاق الدليمي)وليداً , ومن انفاس اصباحها تنسم روائح الفجر العليل وأنداء أماسيها السواحر , وفيها تقلب طفلاً ولاذ في مراتع قومه في بيت يحترم الرأي ويوقر العالم ويحتفي بالضيف مع حب للعرب في سائر الأقطار والأمصار وأحتضان لكتب التفسير والحديث واللغة والبلاغة والبديع من البيان . وقد كان لنقاء البيئة وصفاء أفقها أثر في نقاء أخلاق مترجمنا وصفاء صورته وصوته , لذلك جاءت سيرته (مجوداً) مرآةً لسيرته (أنساناً) حتى لكأن نهر الفرات أنبثق نهير يجري في حنجرته لحناً شجياً وسحراً حلالاً هو حبة الله للأجيال .
(مولد حنجرة)
كان الفصل ربيعاً , وقد أخضرت فيه الأشجار وصدحت الطوائر على الغصون , وانغمر دجلة والفرات بغيضٍ من الماء يبشر ذلك بسنة خير وموسم حافل ببركات السماء على أهل (الارض) وبأن الارض تستعد لأستقبال
السنة هي 1976م والشهر هو نيسان , شهر العطاء والفيضان , وقد قيل فيه ( نيسان أغرق الكدسان ) التي هي اكداس الحبوب من حنطة وشعير وذرة وغيرها ومن اليوم الخامس منه وقفت بما فيه على سور حديقة البيت تترسل في هديلها سارحة في الافق , سابحةً مع النسمات . وانطلق صوت مؤذن الحي يدعوعباد الله الى الصلاة
:- (حي على الفلاح .. حي على الفلاح) فكأن هذا الوليد الجديد في أسرة (آل عبطان) قد أستجاب لنداء الداعي فأستقبل الدنيا بصوت أي وليد , وأستقبلته الدنيا بدعاء المؤذن وصوته الحاني الرخيم , وما هذا التدرج في تاريخ مولدة :
الشهر :هو الرابع
اليوم : هو الخامس
العام : هو السادس . بعد السبعين من القرن العشرين
وسرعان ما تلقفت أذنه اليمنى صوت الاذان وأذنه اليسرى الاقامه للصلاة و وضمته الحواضن الى تربية عربية سليلة نشأة كريمة كنشأة السابقين عليه من أشقائه الكرام . وهي النشأة التي درجت عليها العشيرة جيلاً عن جيل , منذ عهود أجدادها في جزيرة العرب , حتى يومنا هذا .
ولم تشهد طفولته ما دأب عليه أقرانه من الصخب والضجيج , بل شهدت فيه طفلاً تغلب عقله على عقول لداته من أبناء المحلة . فقد كان يرهف السمع لصوت المقرئين و– وهم كثر – وقد اقبلوا: أخوانه هذا على صلاته وذاك على تسابيحه وآخرعلى دعائه. وربما اختلطت الاصوات اختلاط العطر بالنسيم أو امتزاج النسمات بالصوت الرخيم , فكان ذلك يدعو على الاصغاء والتأمل والتمييز بين برقمات البلابل وهديل الحمام وشقشقة العصفور , وهو يختزن تلك الاصوات الناعمه ويحاول تأديتها كما سمعها وكبر الطفل , وتدرج في مراحل الحياة وكبرت معه تلك الموهبه التي أنبجس ينبوعها في سنٍ باكرةٍ لم تظهر على أمثاله ألا في النادر من مواهب الرحمن .
وكان يريد أداء الاذان – وهو صغير- ويريد إسماع القوم صوته شادياً تالياً لذكر الله , ولم يكن مقتنعاً انه مازال يافعاً وان صوته بحاجه الى الصقل والمران .ويستمكن – من صغره – على كتاب الله يستظهر أياته ويتدبر معانيه, ويسأل الذاهب والأيب عن تفسير هذه الكلمه ومعنى ذلك النص وما المقصود من هذه الأيه ومن تلك الأيه , ويربط ذلك الاداء بالاداء المجسم لها ولما أنطلق صوته مؤذناً في رحاب مساجد بغداد ألتفت أليه القوم وقد نقل لي أحد الذين استمعوا أليه – أنه حين استمع أليه لم يظن أن العمر سيمتد به حتى يسمع مثل هذا النغم الممتليء حيويةً وخشوعاً . وصاحب هذا القول هو مؤذن في جامع (الشيخ صندل) الحافظ الشيخ (أسماعيل السامرائي) وهو حي يرزق.
و وليد الربيع أكتسب من ذلك الفصل طراوة من الصوت وعذوبهةً من النغم وموسيقية لا تتفق إلا للعدد القليل ممن حباهم الله مزماراً من مزامير آل داوود . كان حافظاً لما يسمع , واعياً لما يقرأ , مع سلوك رفيع يجعله في صف الأساتيذ , لافي صف التلاميذ . وقد أكسبته شخصيته المترفقة حب واحترام اولي الامر , فما شوهد صاخباً لاغياً, ولا رآه أحدهم عابثاً لاهياً , فحمل له عارفوه الحب والاكبار والتقدير والتوقير , وسار عليه لقب (الشيخ| وهو لم يزل بعد – في أول اليفاعة وطراوة الصبا وريعان الشباب.
حتى اذا تدرج ووصل الى سن العاشرة تتلمذ على ( المكتبة الصوتية ) لكبار القراء ,وكانت تلك المكتبه كنزاً حافلاً بما انطوت عليه من اصوات نبغاء القراء والمجودين وارباب الحناجر المتألقه .
فأستقامت حواسه السمعيه وحرك خطواته نحو الاداء السليم والنهج القويم .
ولم يكن بدعاً حين وجد نفسه بين يدي الشيخ الحافظ المتقن الضرير(ياسين أبن طه أبن شكر العزاوي) وهو يؤدي التجويد ببراعة وأتقان) . ولم يتمالك الشيخ (العزاوي) أن منحه أجازة عالية بذلك .)والشيخ العزاوي من ابصرالبصراء بالعلم والتفسير واللغه ودواوين العرب , وعشق القارئ الصغير(المقامات البغدادية) فعكف على دراستها وأتقن أصولها وجمع لنفسه مكتبه ثمينة من مكاتب التسجيلات, ومن القراء أنفسهم , وهنا تهيأ لدخول دار الأذاعة العراقية , وكان ذلك أمراً صعباً ومنالاً تقف دونه العثرات والمثبطات ولكنه اقتحم بكفاءته ذلك الصرح المنيع فراح الآلاف يرهفون السمع اليه وهم ما بين معجب ومنبهر وطروب . واستمع اليه شيخ المقاريء في العراق وصاحب الطريقة البغدادية العريقة( الحافظ خليل ابن اسماعيل)
رحمه الله , واتصل حبل الوداد بين الاثنين , واذا بالتلميذ يشارك شيخه , هذه القمه السامقة , وفي اكثر من محفل وهو شرف عال لم ينله الكثيرون .
والحافظ خليل بغدادي من محلة( الست نفيسه) في جانب الكرخ تتلمذ على يد( الملا محمد ذويب) الذي كان اماما لمسجد ( عبدالله السويدي)في محلة (جامع عطا) ثم ارتقى في اخذه اصول التجويد والاداء فدرس على يد الشيخ (الملا جاسم سلامه النجدي ) وبيت التلميذ قريب من بيت استاذه , وكانت تجمعها بعض بيوت (محلة البستان) التي هي نفسها محله(الست نفيسه القشطين) وراح (الخليل) ينشر شهادته بأستاذية تلميذة (عبدالرزاق)بين الناس وفي المحافل وعلى الملأ. كما شهد له بأتقان القراءات والمقامات وضبط الأداء
ذكر لي احدهم ان نتيجته في امتحان سنة 2003م كان الرسوب بسبب الاوضاع التي وقعت في العراق فقرر اْن ينهي حياته , إذْ لا معنى لبقاء الفشل في الحياة كما قال . ولكنه وهو في تفكيره المظلم تناهى اليه صوت من احدى الاذاعات , فأقتربت من المذياع واذا هو صوت ذلك القاريء البغدادي الحنون الشيخ (عبدالرزاق الدليمي ) , فأرهفت السمع , فسكنت نفسي وعدت الى الرشاد , وأخذتني حالة من النشيج والبكاء فأستغفرت الله ربي وثابت ألي نفسي وانسكب على النار ماء زلال وخبت نار الشيطان . فأستغفرت ربي ثانية وثالثة , رحت أبحث في مكاتب التسجيلات عما لديها من اعمال هذا المقريء الرائع فهداني الاستاذ( سمير) صاحب مكتبة (أنغام التراث) الى ما لديه من تسجيلات وهو يقول لي :- احسنت الاختيار .. أحسنت الاختيار .
وهنالك مواقف كثيرة اعرضت عن ذكرها ومنها ما قد يتهم راويه بالمبالغة , واجتزأت من ذلك كله باليسير اليسير . رغم قول القائل الناصح : اكتب مثل هذه الامور وعليك بما قيل لا بمن قال .