رد: تربت يداك؟؟
[FONT="] جزى الله خيرا أديبتنا الفاضلة على ما بينت، وأزيد في القصيدة بيتًا فأقول:
هذه من الكلمات التي جاءت عن العرب صورتها دعاء ولا يراد بها الدعاء بل المراد الحثّ والتحريض
[1]. وقال الأصمعي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " عليك بذات الدِّين تَرِبت يداك " إنما أراد الاستحثاث كما تقول للرجل : انْجُ ثُكِلتك أمك وأنت لا تريد أن تثكل أبو عمرو - أي أصابهما التُّراب ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر
[2].
قال ابن الأعرابي: للعرب أفعال تخالف معانيها ألفاظها، قالوا (تَحَرَّجَ) و(تَحَنَّثَ) و(تَأَثَّمَ) و(تَهَجَّدَ) إذا ترك الهُجُودَ، ومن هذا الباب ما ورد بلفظ الدعاء ولا يراد به الدعاء بل الحثّ والتحريض كقوله تربت يداك وعقرى حلقي وما أشبه ذلك
[3].
وقوله في حديث خُزيمةَ: أنعِمْ صباحاً تَرِبتْ يداك، يدلّ على أنه ليس بدعاء عليه، بل هو دعاء له وترغيب في استعمال ما تقدمت الوَصاةُ به، ألا تراه قال: أنعم صباحا ثم عقبه، تربت يداك، والعرب تقول: لا أمَّ لك ولا أبَ لك، يريدون لله دَرُّك، قال:
هَوَتْ أُمُّه ما يَبْعثُ الصبحُ غادِيا *** وماذا يؤَدِّي الليلُ حِينَ يَؤُوبُ
فظاهره: أهلكه الله، وباطنه: لله دره، قال: وهذا المعنى أراده جميل بقوله:
رَمَى اللهُ في عَيْنَيْ بُثَيْنَة بِالقَذَى *** وبالغُر من أبنائِها بالفَوادِحِ
أراد لله درها ما أحسن عينيها، وأراد بالغر من أبنائها ساداتِ أهل بيتها، قال: وقال بعضهم: لا أم لك ولا أرض لك، ذم
[4].
ومثلها قولهم للشاعر المفلِقِ: قاتله الله، وللفارس المحرب: لا أب له، وعلى هذا فسر أكثرهم قوله صلى الله عليه وسلم لمن استشاره في النكاح: عليك بذات الدين تربت يداك، وإلى هذا المعنى أشار القائل بقوله:
أُسبُّ إذا أجدتُ القول ظلمًا *** كذاك يقال للرجل المجيد
يعني أنه يقال له عند إجادتِه واستحسانِ براعتِه: قاتله الله فما أشعره، ولا أب له فما أمهره
[5].
وَهَذَا دُعَاءٌ لَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُهُ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى الْقَلْبِ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى الشَّرْطِ يَعْنِي افْتَقَرَتْ يَدَاكَ أَيْ إنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، وَأَتْرَبَ يُتْرِبُ إتْرَابًا أَيْ اسْتَغْنَى وَهُوَ ضِدُّ تَرِبَ
[6].
قال الدينوري: وتجيء (أفعَلْت) مضادة لـ(فعلت) نحو: نَشَطْتُ الْعُقْدة: عَقَدْتها بأُنشوطة، و(أنْشَطْتها): حللتها، (وتَرِبَتْ يداك): افتقرت، و(أتْرَبَتْ): أستغنت، و(أخْفَيت الشيء): سترته، و(خَفَيْتُه): أظهرته
[7].
وقال العماد الأصبهاني في خريدة القصر وجريدة العصر:
إذا أَثْرَيْتَ من أَدَبٍ وَعِلْمٍ *** فلا تَجْزَعْ ولو تَرِبَتْ يَدَاكَا
فمعنى الفقرِ فَقْرُ النفسِ، فاعْلَمْ *** وإنْ أَلْفَيْتَ في اللفظِ اشتراكا
فانظر كيف جعل: تربت يداك بمعنى الفقر صراحة، والله أعلم.
ولها نظائر عجيبة في اللغات العامية، كما يقول أهل مصر تعجبًا ومدحًا (يخرب بيتك)، وحين يريدون الدعاء بها يقولون (ربنا يخرب بيتك)، وعند أهل نجدٍ يلعنون الوالدين تعجبًا، وهو مستنكر عند أهل العلم منهم، لكن العامة يستخدمونه بكثرة..
والله من وراء القصد.
[/FONT]
[1] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي لأحمد الفيومي (1/ 73).
[2] المزهر في علوم اللغة وأنواعها (2/ 138).
[3] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي لأحمد الفيومي (1/ 128).
[4] قاله الأزهري في تهذيب اللغة.
[5] درة الغواص في أوهام الخواص للحريري، وهو من أشهر ما ألف في التصحيفات اللغوية، وهو أحد الكتب التي أدرج الصفدي فصيحها في معجمه (تصحيح التصحيف).
[6] طلبة الطلبة لعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ النَّسَفِيُّ (2/ 55).
[7] أدب الكاتب لأبو محمد الدينوري (ص: 356).
[FONT="]
[/FONT]