- 11 نوفمبر 2005
- 19,977
- 75
- 48
- الجنس
- أنثى
الدكتور فاضل السّامرائي
مقدمات في التفسير البياني
يعرَّف التفسير بأنه "علم يُعرَف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد ص وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكَمه
وأما التفسير البياني فهو التفسير الذي يبين أسرار التركيب في التعبير القرآني، فهو جزء من التفسير العام تنصبّ فيه العنايةُ على بيان أسرار التعبير من الناحية الفنية كالتقديم والتأخير، والذكر والحذف، واختيار لفظة على أخرى وما إلى ذلك مما يتعلق بأحوال التعبير.
ما يحتاج إليه المتصدي للتفسير البياني
إن الذي يتصدى للتفسير البياني يحتاج ما يحتاج إليه المتصدي للتفسير العام إلا أن به حاجة أكثر إلى الأمور الآتية:
1ـ التبحر في علم اللغة.
2ـ التبحر في علم التصريف.
3ـ التبحر في علم النحو.
4ـ التبحر في علوم البلاغة.
وبعبارة موجزة (التبحر في علوم اللغة العربية). فلا تغني المعرفة اليسيرة بل ينبغي للمفسر البياني أن يكون على اطلاع واسع في علوم اللغة. جاء في (البرهان): "وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين
وجاء في (الإتقان) أن المفسر يحتاج إلى التبحر في لسان العرب
وجاء فيه أيضا أن المفسر يحتاج إلى اللغة والنحو والتصريف لأن به تعريف الأبنية والصيغ والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع .
وجاء في (البرهان): "النظر في التفسير هو بحسب إفراد الألفاظ وتراكيبها، أما بحسب الإفراد فمن وجوه ثلاثة:
من جهة المعاني التي وضعت الألفاظ والبديع .حو والتصريف لأن به تعريف الأبنية والصيكفي في حقه تعلم اليسير مننها:
بأحوال التعبير.
ن أس المفردة بإزائها وهو يتعلق بعلم اللغة، ومن جهة الهيئات والصيغ الواردة على المفردات الدالة على المعاني المختلفة، وهو من علم التصريف.
ومن جهة رد الفروع المأخوذة من الأصول إليها، وهو من علم الاشتقاق.
وأما بحسب التركيب فمن وجوه أربعة
الأول: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدية أصل المعنى، وهو ما دل عليه المركب بحسب الوضع وذلك متعلق بعلم النحو.
الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى، أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البلغاء وهو الذي يتكفل بإبراز محاسنه علمُ المعاني.
الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها، وباعتبار الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلق بعلم البيان.
والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله وهو ما يتعلق بعلم البديعفالمعرفة الواسعة والتبحر في علوم اللغة من ألزم الأمور للمفسر، وهي للمفسر البياني ألزم، فينبغي له أن يعرف المجرد والمزيد وأغراض الزيادة واختلاف الصيغ ومدلولاتها، وأن يكون له باع طويل في معرفة الاشتقاق وأحوال المشتقات.
وأما النحو فهو أوضح من أن تبين أهميته في هذا الشأن فإن تغيير الحركة قد يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله، فلو غيرت الحركات في قوله تعالى: إنما يخشى
من فتحة إلى ضمة، ومن ضمة إلى فتحة فقرأتها (إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ) لفسد المعنى وأصبح كفرا. ولو غيرت العبارة (خلق الل÷ُ الناسَ) إلى (خلقَ اللهَ الناسُ) لكانت كفرا وكان ذلك أكبر من الشرك الأكبر.
وإذا كان لا يعلم الفرق في المعنى بين الحروف والأدوات فقد يؤدي ذلك في أحيان كثيرة إلى الإحالة في المعنى وربما إلى الكفر. وأظن أنه لا يخفى عليك قولُ ابن عباس وغيره في قوله تعالى: "وإذ أخذ ربك من بني آدم أنهم لو قالوا (نعم) لكفرواوأنه لو قال بدل قوله تعالى فويل للمصلين
فقال (في صلاتهم ساهون) لم ينج أحد من الويل ...
ولا تكفي المعرفة اليسيرة في هذا الأمر كما قرره علماء التفسير بل على المتصدي لهذا الأمر أن يكون عالما بدقائق اللغة وما تؤديه التقديرات المختلفة إلى اختلاف في المعاني.
وكذلك بالنسبة إلى علوم البلاغة فإن ذلك من ألزم الأمور لمعرفة الفصاحة والأغراض التي يخرج إليها الكلام والفصل والوصل وأغراض التقديم والتأخير والحقيقة من المجاز وما إلى ذلك من أمور تتعلق بعلم البلاغة.
فلا يجوز لمن ليس له علم واسع بكل ذلك أن يمسك قلمه ليفسر كلام الله.
5ـ القراءات: فبالقراءات يترجح بعض الوجوه على بعض . وقد تكون القراءتان أو القراءات مماي دل على كمال البلاغة تمامها، فمن ذلك على سبيل المثال قراءة (مالك يوم الدين) وقراءة (ملك يوم الدين) فقد جمع له بالقراءتين الحكم والتملك، ذلك أن (مالك) من التملك، و(الملك) هو الحاكم الأعلى، فجمعع لنفسه تعالىكمال الأمرين، ولا يمكن ظان يكون ذلك بقراءة واحدة، فنزلت مرتين، مرة (مالك يوم الدين)، ومرة (ملك يوم الدين) فجمعت المعنيين. وهو نظير قوله تعالى: (مالك الملك) فالمالك من التملك، وصاحب المُلك بضم الميم هو الملِك، فجمع له بين الأمرين. ولو قال (مالك المِلك) بكسر الميم لم يزد على معنى التملك، ولو قال (ملك المُلك) بضم ميم الملك لم يزد على معنى الحكم، ولكنه قال (مالك الملك) فجمع له الأمرين سبحانه.
ومن ذلك قراءة (فأرسله معي ردءا يصدّقُني) و (يصدّقْني) بضم القاف وسكونها فإن القراءتين جمعتا معاني الشرط والوصفية والاستئناف. فإنه برفع الفعل يكون المعنى (فأرسله معي ردءا مصدقا لي) فتكون جملة (يصدقني) نعتا، أو يكون المعنى (فأرسله معي ردءا إنه يصدقني) فتكون الجملة استئنافية. وبالجزم يكون المعنى: إ ترسله يصدقني، فجمعت لقراءتان هذه المعاني كلها.
ومن ذلك قوله تعالى: " إن في ذلك لآيات للعالمين" الروم 22، فقرئت (للعالِمين) بكسر اللام، جمع (عالِم) من العلم، وقرئت أيضا بفتحها جمع (عالَم) بفتح اللام فجمعت المعنيين؛ ونحو ذلك ليس بالقليل.
والقراءات المتعددة قد تكون أدل شيء على الإعجاز ذلك أنه تحداهم بالقرآن فعجزوا ثم جاء بقراءة أخرى فعجزوا، ثم جاء بقراءة أخرى فعجزوا مما يدل على كمال القدرة لله وعجز البشر أمامها على كل حال. ونظير ذلك من مخلوقاته تعالى أن الله سبحانه تحداهم بخلق الذبابة فعجزوا وهم عن آياته الأخرى مثلها في العجز أو أعجز، فإنهم لا يقدرون على خلق البعضوة ولا ما فوقها ولا ما دونها كما قال تعالى: "هذا خلق فذلك أدل على كمال قدرة الله وعجز البشر.
ومثال ذلك ولله المثل الأعلى أنه لو رسم فنان لوحة بالغة الجمال والدقة، وتحدى بها أهل الصنعة، فجعل أهل الصنعة يتأملونها ويعجبون ويقولون : إن هذه اللوحة لو غير أي شيء فيها لفسدت ولأمكننا أن نصنع مثلها، فيغير فيها شيئا فينظرون إليها فيزدادون عجبا ويقولون إن هذا التغيير لم ينل منها بل زادها حسنا فما أعجب هذا الأمر! ثم يقولون: إنها لا تحتمل تغييرا آخر فيها ألبتة ولو غيرت لفسدت قطعا. فيغير فيها شيئا آخر فينظرون إليها فيقولون: ما أعجب هذا فإنها لم تزد إلا حسنا وجمالا! وهكذا، كان ذلك أدل على عظيم قدرة الفنان وإن ذلك لم يأت منه موافقة بل إنه يقدر أن يفعل ما يعجز عنه الآخرون متى أراد. وقد أشار الأقدمون إلى هذين الأمرين.
جاء في (النشر): "وأما فائدة اختلاف القراءات وتنوعها فإن في ذلك فوائد غير ما قدمنا من سبب التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة. ومنها ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز إذ كل قراءة بمنزلة الآية إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل.
ومنها ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدلالة إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضا،ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد. وما ذاك إلا آية بالغة وبرهان قاطع على صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم
يتبع ان شاء الله