إعلانات المنتدى


أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

هاني مكاوي

مراقب قدير سابق
28 مايو 2007
5,869
35
0
الجنس
ذكر
بســــــــــــم الله الرحمن الرحيــــــــــــم

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ


هذه سيرة بطلي المفضل وقدوتي بعد النبي الأكرم (ص) وصحبه الأبرار رضي الله عنهم أجمعين.

(إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج)

مؤمن صادق الإيمان. جلس على ظهر فرسه أكثر مما جلس على عرشه. رقد في الخيم والتحف السماء مع مقاتليه أكثر مما نام بجوار أهله. تجول في الفيافي في قر البرد ولحيف الحر أكثر ما تمتع بالتنزه في بساتين وحدائقها الغناءة. زخرف طعنات السيوف والرماح جسمه بدلا من التزين بالحلى والجواهر والأوسمة. فارس زاهد لم يتكرر. زخ عرقا في سوح القتال أكثر من التزين بعطر العود والمسك أو القيلولة في أحواض الحليب. مجاهد عظيم. زاهد متصوف لم يغمض له الجفن الا منتصف الليل لينهض في الثلث الأخير من الهزيع ليتهجد. يقبل على الصلاة والدعاء والاستغفار كأنه يحمل على عاتقه خطايا الناس أجمعين. يتلوا ما تيسر من القرآن الكريم حتى ينبلج الفجر ليوقظ أهله ان كان بينهم او قواده وجنوده ان كان في ساحة الوغى والجهاد ليؤم فيهم صلاة الفجر ثم يجلس لتمشية شؤون دولته واستقبال ابناء رعيته لقضاء احتياجاتهم.
قال أبن الأثير في بيان فضله: "قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه".
لم يأبه بأبهة الحكم والسلطان ولم يتقاضى راتبا من بيت المال المسلمين وإنما كان يأكل ويلبس هو وأهله من ماله الخاص ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة قد اشتراه من ماله، يحل فيها عندما يعود من ساحة الجهاد.
كان رحمه الله لايبتسم ، وروى أبو شامة قائلاً: أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج"
ذلكم هو البطل التركماني الشهم نور الدين محمود بن عماد الدين بن آق سنقر زنكي. فكان هذا الشبل من ذاك الاسد
قبل ان نسافر معا في رحلة الى بطون التاريخ لنقتطف الازهار ونزيل الاشواك عن سيرة هذا البطل التركماني العظيم، نود ان نوضح باننا لا نبغي اعتماد التفسير الأحادي للتاريخ في سيرة الأبطال والقادة الذين كتبنا وسنكتب عنهم. ولاننظر الى سيرتهم من منظار عرقي ضيق او الدافع الاقتصادي أو المذهبي او محاولة طمس حقوق الآخرين ... الخ. إنما هدفنا هو البحث عن تلاحم القائد البطل مع المبادىء الإسلامية التي كانت محور حركته وتفسيره للوقائع ونظرته الى المحتلين الغزاة، ودور القائد او البطل في استنهاض الهمم و وضع كل القوى المؤمنة الفاعلة في المنظور الاسلامي للتوحد واحداث التغيير في النفوس وتهيأتها لتحرير الارض والمقدسات. أن اتباعنا للمنهج التأريخ الفردي الذي يركز على شخص القائد وجهوده في مواجهة التشرذم والتناحر من جهة و التحدّي الصليبي الاحتلالي من جهة اخرى هو ليس تمجيد الفرد، حتى وان كان يستحق ذلك بجدارة وامتياز، لأننا نؤمن ما من امة تنهض ويكون لها مكان تحت الشمس ما لم يظهر قائد يأخذ على عاتقه تجيير المرحلة التاريخية لصالح الأمة ونهوضها ورفعتها. ولا يخفى على القارىء الكريم أهمية وضرورة القائد المحرك للهمم والذي يضع الأسس الصحيحة لنهضة الأمة وأعدادها للنضال والجهاد من اجل الوحدة والتحرير. وكما يقول المؤرخون ان التاريخ يبقى يدور في فلك "الأشخاص" العباقرة لا في فلك "الأفكار الصحيحة. وكيف اذا كانت العباقرة يدورون في فلك الأفكار الصحيحة، فعند ذلك تحدث المعجزة كما حدثت عند تحرير بيت المقدس. ولهذا تعمدنا البدء بالكتابة عن المغوار عماد الدين زنكي وابنه الشهيد نور الدين محمود زنكي لاتهما هما اللذان وضعا استراتيجية تحرير بيت المقدس . وسار على نهجهم القائد الكردي البطل صلاح الدين الأيوبي الذي تعلم وتهذب واحترف العسكرية في مدرسة نور الدين محمود. وان معظم قواد جيش صلاح الدين ومقاتليه عند فتح بيت المقدس كانوا من الفرسان التركمان الصناديد الذين صقلتهم مبادىء الإسلام الحنيف وهذبت شجاعتهم وفروسيتهم المتجذرة فيهم، فاندفعوا للجهاد تحت راية الاسلام لتحرير ارض العرب والمسلمين المقدسة دون أي التفات إلى العرق او القومية او المذهب اذ كان يضم جيش نور الدين المسلمين السنة والشيعة التركمان والعرب والأكراد. فمن هنا تنبع أهمية القائد المحنك الذي يجمع ولا يفرق.
أكرم الله نور الدين بذكر مجيد وسيرة عطرة ولم يقطف من هذه الدنيا سوى ثمانية وخمسين عاماً، فقد ولد الفارس التركماني الزاهد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد 17 من شهر شوال سنة 511 للهجرة، الموافق 11 شباط، فبراير 1118 للميلاد ومات يوم الأربعاء 11 من شوال سنة 569 للهجرة. مكث منها في الملك 28 عاماً. وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي. وبعد وفاة عماد الدين زنكي اقتسم ولداه حسب تقاليد ذلك الزمان ملك أبيهم: فاستقر سيف الدين غازي على ولاية الموصل وتولى نور الدين محمود حكم حلب. وقد كان نهر الخابور هو الحد الفاصل بين أملاك الأخوين.
اشتهر سيف الدين غازي بالسياسة والأناة، على حين كان نور الدين الذي ذاع صيته محاربا فارسا مجاهدا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديارهم ، مفطورا على الرقة ورهافة الشعور؛ وهو ما جذب الناس إليه والتفوا حوله، وحبب القلوب فيه. وواصل سياسة أبيه الجهادية.
ظهر نور الدين محمود زنكي في وقت كان عصيبا على المسلمين والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم في حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلاد المسلمين في بلاد الشام، منذ أن وطئتها أقدام الغزاة الافرنج الصليبيون، واحتلوا القدس الشريف. وقد استطاع أباه المرحوم عماد الدين ان يباشر في توحيد المسلمين ويهيء لهم ما استطاع من قوة ورباط الخيل وتضييق فجوة الخلاف والتناحر بين امراء المسلمين. نجح المغوار بقدرته وكفاءته العسكرية والادارية العالية من فتح مدينة الرها سنة (538هـ = 1144م) الذي كان بمثابة ضربة قوية للكيان الصليبي المحتل؛ لأن الرها كانت أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى، ولم يمهل القدر عماد الدين لكي يواصل تحرير الأراضي المحتلة، حيث اغتالته يد الغدر في (6 من ربيع الثاني 541هـ = 14 من أيلول، سبتمبر 1147م) وكما تحدثنا بالتفصيل عندما تحدثنا عن عماد الدين زنكي. لم تسقط الراية الجهادية، بل حملها يد مؤمنة جبل على حب الجهاد وسار سيرة ابيه بل رفع رأس ابيه وقومه عاليا وتبوءة بامتياز مكانة مرموقة في سجل التاريخ وأحتضن نور الدين محمود زنكي التركماني ومنحه اشرف صفحاته وخلده كأعظم القادة المسلمين الأبطال وكاد ان يسمى الخليفة الراشد السادس لورعه وزهده وعدله وفروسيته وشجاعته.
يقول الإمام ابن عساكر: "بلغني أنه ( نور الدين محمود) في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة".
وعن شجاعته وأقدامه قال ابن الأثير: "وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يضرب المثل في ذلك، سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون: إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق منه لا يتحرك و لا يتزلزل" .
كان نور الدين رحمه الله إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه، وينادي بأعلى صوته الله أكبر حي على الجهاد ويندفع نحو العدو كالغضنفر الهصور.
وعن زهده يقول سبط ابن الجوزي: "كان إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط" .
استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها ابوه عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى.
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها لمواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ = 1147م) وتزوج ابنته، فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق؛ حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.
وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الغزاة من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكانت سنه إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا.
وفي سنة (542هـ = 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بقيادة لويس السابع وكونراد الثالث، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق، ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم، وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة. استغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم، للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجمها في سنة (544هـ=1149م) الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي، ثم حاصر قلعة إنب، فنهض "ريموند دي بواتيه" صاحب إنطاكية لنجدتها، والتقى الفريقان في (21 من صفر 544هـ= آخر حزيران يونيو 1149م) ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.
نجح نور الدين في ضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ = 1154م) وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة القائد التركماني نور الدين محمود زنكي: من الرها شمالا حتى حوران جنوبا، ولاول مرة منذ الغزو الصليبي أحدث الفارس القائد التوازن العسكري بين الجبهة الإسلامية وبين الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم، وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة (548هـ = 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.
قاد هذا النجاح الكبير إلى تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية أمام الصليبيين وقلصت أمامهم إمكانيات الغزو والتوسع إلا عن طريق الجنوب. ولتنفيذ استراتيجيته العسكرية لفتح بيت المقدس، توجه أولا الى أحكام سيطرته على شمالي العراق والشام كاملة وفي المقدمة منها دمشق بوابة القدس الشريف. وعندما استشرف الصليبيون خطة نور الدين تطلعوا إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر كانت تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان، وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558هـ = 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب بفضل صمود المقاتلين المسلمين.
أثارت هذه الخطوة الخطيرة مخاوف نور الدين، فأسرع الى شن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر ويضعفهم، ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي. اللذان كانا من قواد جيش نور الدين محمود زنكي. ابتدأت جهود نور الدين وقواده للوصول الى مصر، من سنة (559هـ = 1164م) واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ = 1169م) وتولى أسد الدين شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.
نجح صلاح الدين الأيوبي في بسط الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛ فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ = أيلول سبتمبر 1171م).
كان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين الأيوبي في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية لتحرير بيت المقدس وبلاد الشام من الاحتلال الصليبي، الا ان المنية قد حال أمام تحقيق حلم هذا الفارس التركماني البطل في تحرير بيت المقدس الا انه فتح الطريق واسعا أمام المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي لفتح بيت المقدس وطرد الغزاة الصليبيين من بلاد العرب والمسلمين، بعد وفاة القائد التركماني البطل الذي مهد مع والده الطريق لهذا الإنجاز الذي لا يزال التاريخ يتحدث عنه مبهورا.


معركة حطين



عين جالوت


لم يشغل نور الدين محمود مستلزمات الجهاد العسكري وتوحيد الصف الإسلامي وإنما بموازات ذلك فتح بابا الجهاد العلمي والثقافي التي هي من أهم مستلزمات التحرير . صرف جهودا كبيرة في إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها، واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث والعلوم، وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية.
وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات ( المستشفيات) في كل بلدة تحت حكمه، وجعلها للفقراء مجانا والاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق بين المدن لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها.
أما إنجازاته الاجتماعية فقد لخصها أبن عساكر في قوله: "وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلي ساكني الحرمين ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخراج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات ، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل .
وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض حتى لقي ربه عز وجل في (11 من شوال 569هـ = 15 من أيار مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم.
وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة، فكلما غاب من الميدان قائد مغوار نهض من بعده فارس أخر ليكمل المسيرة حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول وفي المقدمة منهم نور الدين وأباه عماد الدين.
كان نور الدين رحمه الله صالحاً.. صادق الرؤيا.. "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين، الاشقرين. فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز ـ نور الدين ـ وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب، قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما حتى جئ بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى ووصلا لكي ينقلا جثمان النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عنهما في البيت.
فضرب أعناقها عند الشباك الذي شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً، فصاح به من كان نازلاً تحت السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم.
ذكر الإمام أبو شامة أن العلاقة بين نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله توترت مرتين: الأولى عندما طلب صلاح الدين من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فرفض نور الدين والثانية عندما طلب نور الدين من صلاح الدين ان يقدم على راس جيشه من مصر ويلتقيان في عسقلان وتاخر صلاح الدين في الوصول.
وقد أكد ابن الأثير في أكثر من موضع أن السبب في غضب نور الدين من صلاح الدين هو أنه رأى منه ـ أي من صلاح الدين ـ فتوراً من غزو الفرنج من ناحيته، "وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته". وقال أبو شامة: "ولو علم نور الدين ماذا ادخر الله ـ تعالى ـ للإسلام من الفتوح الجليلة على يد صلاح الدين من بعده لقرت عينه، فإنه بنى على ما أسسه نور الدين رحمه الله من جهاد المشركين، وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها ـ رحمهما الله تعالى ـ.
بعد وفاة نور الدين ظل صلاح الدين على وفائه لقائده ومعلمه نور الدين، وظهر ذلك في مواقف عده منها:
ـ عندما فتح صلاح الدين بيت المقدس، "أمر بالوفاء بالنذر النوري ـ أي نذر نور الدين ـ ونقل المنبر ـ الذي بناه نور الدين ليضعه في المسجد الأقصى ـ إلى موضعه القدسي، فعُرفت بذلك كرامات نور الدين التي أشرق نورها بعده بسنين" وان نسب المنبر إلى القائد البطل صلاح الدين خطأ تاريخي ينبغي ان يصحح.
ـ لم يذكر نور الدين أمام صلاح الدين إلا وترحم عليه وذكره بالخير، حتى إنه قال إن كل عدل فيه أنما تعلمه من نور الدين.
تعد فترة ولاية نور الدين من أخصب الفترات التي مرت بالمسلمين بعد الخلفاء الراشدين؛ إذ شهدت نمواً كبيراً وطفرة حقيقية في المجالات كافة: السياسية والاقتصادية والعلمية والجهادية، وقد صرح بفضل نور الدين عدد كبير من العلماء والمؤرخين، نقتطف من أقوالهم (الدكتور ماجد عرسان الكيلاني والدكتور عماد الدين خليل وغيرهم) ما يلي:
لقد كان تحرير القدس على يد الناصر صلاح الدين في أعقاب معركة حطين (عام 583 واحداً من الانتصارات الحاسمة التي لم تكن لتتحقق بجهد البطل التاريخي وحده، وإنما بدخول المجتمع المسلم طرفاً في المعادلة وتمهيد متقن من قبل المغوار عماد الدين وابنه الفارس الزاهد نورالدين محمود زنكي.
أن الانقلاب الإسلامي الذي حدث في زمن القائد التركماني عمادالدين زنكي وابنه نور الدين محمود يشبه الانقلاب الذي حدث في خلافة عمر بن عبد العزيز الذ مازال أصدائها تنبعث من التاريخ. "إن الرحلة مع نور الدين يعلمنا كيف يكون الإيمان دافعاً حضارياً، فضلاً عن كونه الأساس المبدئي، أو العامل، الذي يشدّ القيم المبعثرة والإرادات المختلفة الاتجاه، وأعمال الناس ومنجزاتهم إلى هدف محدّد، ويضع لها الإطارات التي تجعل من مجموع هذه القيم والأهداف والإنجازات والأعمال وحدة حضارية متميزة. فهو –فضلاً عن هذا كله- يقوم بوظيفة المحرك، أو الدافع الداخلي، الذي يدفع الإنسان والجماعات، في نطاق الحضارة الواحدة، إلى التقدم دوما بحضارتهم صوب آفاق جديدة ومكاسب أكثر غنى، عن طريق استغلال إمكانات الزمن والمكان إلى أقصى مدى ممكن...".
لقد حقق نور الدين محمود بانقلابيته التي غطت جل مساحات الحياة، واستمداده من منابع الإسلام الأصلية في القرآن والسنة، الأرضية المناسبة التي تبعث المجاهد إلى الوجود وتمكنه من أداء أثره في أحسن الظروف، وأكثرها قدرة على شحن طاقاته، لا سيما وأن الجهاد لا يتحقق مفهومه الحركي الدائم إلاّ بوجود شروط معينة أبرزها: القيادة المخلصة، الملتزمة، الواعية، والتمسك الجماهيري، والدفع الروحي الدائم، والرؤية الموضوعية...".
لم يضحك ولم يبتسم خلال 28 عاما وعندما ذكروا له حديثا نبويا شريفا عن الابتسامة فرد غاضبا: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج"
قم ايها الفارس البطل وانظر الى حكام العرب والمسلمين اليوم، إنهم هم الذين يجلبون الإفرنج لمحاصرتهم واحتلالهم وإذلالهم، وهم لا يخجلون من الله العلي القدير وهم فرحون يضحكون من الأعماق كلما أذلوهم أكثر.

المصدر: مواقع ومنتديات متنوعة ولم اعثر على اسم صاحب المقال الأساسي







 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

الداعية

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
11 نوفمبر 2005
19,977
75
48
الجنس
أنثى
رد: أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

رحم الله صاحب هذا الجهد المبارك ان شاء الله ومن كتبه وجزاك الله الجنة اخي الكريم هاني موضوع جميل ورحم الله الملك العادل
 

العفو عند المقدرة

مزمار داوُدي
4 يوليو 2007
7,874
13
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
عبد الباسط عبد الصمد
رد: أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

جزاك الله اخي الكريم كل ما تحب
 

ابوعمرالشهري

مزمار داوُدي
4 أبريل 2007
6,384
9
0
الجنس
ذكر
رد: أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

احسنت اخي هاني



احسن الله اليك
 

محمد الجنابي

عضو شرف
عضو شرف
9 فبراير 2007
15,361
18
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
رد: أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

احسنت اخي هاني بارك الله فيك
 

بنت ابيها

مزمار داوُدي
6 فبراير 2007
6,560
11
0
الجنس
أنثى
رد: أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

اثابك الباري اخي هاني
 

مادي 15

مشرفة الركن العام
المشرفون
16 مايو 2008
12,244
855
113
الجنس
أنثى
القارئ المفضل
عبد الله المطرود
علم البلد
رد: أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

....
سيرة عطرة وزكية لأبطال جاهدوا لتكون كلمة الله هي العليا
جزاكم الله خيرًا ورفع قدركم
 

الموجودة

مشرفة قديرة سابقة
5 يناير 2010
8,498
406
83
الجنس
أنثى
علم البلد
رد: أبطال من تاريخنا... هل تعرفهم؟.. #4: نور الدين محمود زنكي، الملك العادل

رحم الله هذا البطل وأسكنه فسيح جناته
وهكذا فليكن الرجال ..أوفياء للدين وللوطن .
جزيت خيرا
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع