- 28 مايو 2007
- 5,869
- 35
- 0
- الجنس
- ذكر
الفصل الأخير من الكتاب الرائع جدا جدا جدا "الإسلام والنصر" للعقيد الركن محمود شيت خطاب رحمه الله.
1
كنت ولا أزال وسأبقى أعتقد أن الكتابة في الدين والتكلم في الدين سلاح ذو حدين: إذا أحسن الكاتب أو المتكلم رفع من شأن الدين وجعل الناس يقبلون على قراءة ما يكتبه الكاتبون وسماع ما يقوله المتكلمون بلهفة وشوق، وإذا أساء الكاتب أو المتكلم حط من شأن الدين وجعل الناس ينفرون من الدين ويُعرضون عن قراءة ما يكتبه الكاتبون فيه وسماع ما يقوله المتكلمون عنه.
وقد يكتب كانب في الجغرافيا أو التاريخ أو الكيمياء أو الفيزياء أو العلوم الأخرى، وهو لا يؤمن بهذه العلوم من قريب أو بعيد، ومع ذلك قد يفيد القارىء بما يكتب وقد يستمتع القارىء بما يقرأ.
ولكن الذي يكتب في الدين، لا بد له من الإيمان المطلق بعظمة الدين، وأن يعمل بتعاليمه نصًا وروحًا، حتى يستطيع أن يفيد قارئه ويؤثر فيه.
والكاتب الذي لا يؤمن إيمانـًا مطلقـًا بعظمة الدين وأهميته منهجًا للحياة وسبيلاً إلى الدار الآخرة، لا يمكن أن يفيد قارئه بما يكتب ولا يؤثر فيه.
ومن العجيب أن القارىء يستطيع أن يكتشف بسهولة ويسر، بعد قراءة بضعة سطور مما يكتبه الكاتبون في الدين: هل الكاتب يؤمن حقا بما يقول، أم هو يكتب ما يكتبه ارتزاقـًا أو طلبًا للشهرة والسمعة أو تظاهرًا ورياء.
فإذا ما وجد القارىء حرارة الإيمان في السطور وبين السطور أيضًا، مضى في قراءته والستفاد منها واقتنع بها، وإلا ترك القراءة غير آسف على ما ترك، حرصًا على وقته من الضياع، وحرصُا على الدين من التشويه.
وقد دأب كثير من القراء في بلاد المسلمين على قراءة المقالات والكتب والمجلات الدينية. ولكن هؤلاء القراء ــ على كثرتهم وعل اختلاف بلادهم وجنسياتهم ــ يكادون يجمعون على قراءة ما يكتبه الكتـّاب المؤمنون حقـًا بالدين وعظمته والمطبقون " عملاً " ما يكتبونه على أنفسهم قبل أن يطالبوا غيرهم بتطبيقه " عمليًا " على أنفسهم.
وقد رأيت صدفة جماعة من الأزهريين يقلبون صفحات مجلة إسلامية صدرت حديثـًا، وجدوها عند أحد الوراقين حول الأزهر الشريف، ولكنهم أعادوا المجلة إلى صاحبها لأنهم لم يجدوا مقالا لكاتبهم الذين يثقون بدينه واستقامته.
وما رأيته في القاهرة، رأيته في مكة المكرمة، وفي المدينة المنورة، وفي بغداد والموصل الحدباء، وفي دمشق وحلب الشهباء, وفي بني غازي وطرابلس الغرب.
إن الحاسة السادسة للقراء لا تخطىء، بل هي التي تدلهم على الكاتب المؤمن الحق الذي يصوغ ما يكتبه بأعصابه قبل أن يصوغه بقلمه.
ونصيحتي للكاتب الذي يكتب في الدين من أجل الارتزاق أو الشهرة، أن يكتب في مجالات أخرى غير الدين، لأنه سيخفق حتمًا في مقالاته وأبحاثه الدينية، وقد يكتب له النجاح في مجالات أخرى غير مجال الكتابة في الدين.
وأقصد بأنه سيخفق، هو إخفاقه في تكوين مدرسة من قرائه، يؤمنون إيمانـًا عميقـًا بالدين.
ولست أجهل أن قسمًا من الكتـّاب الذين كتبوا في الدين، وكانت حياتهم الخاصة سلوكًا وأفكارًا تناقض تعاليم الدين الحنيف، قد نجحوا فيما كتبوه من مقالات وكتب نجاحًا نسبيًا، نظرًا لشهرتهم السابقة وقوة أسلوبهم الكتابي وذكائهم وعمق ثقافتهم، ولكن مقالاتهم وكتبهم لم تستطع أن تغرس الإيمان العميق بالدين في أحد من القراء، كما لم يستطيعوا تكوين مدرسة من القراء تهتدي بهدي آرائهم الدينية وتتلقف أقوالهم وتذيعها بين الناس. وربما استطاعوا تكوين جماعة من الأدباء يكتبون في الدين ويرتزقون بما يكتبون، فهؤلاء أدباء دينيون ــ إن صح التعبير ــ وليسوا أدباء متدينين لهم رسالة في الحياة.
وشتان بين الأدباء الدينيين، والأدباء المتدينين.
إن الهدف الحيوي للكاتبين في الدين، هو غرس الإيمان العميق في النفوس والعقول معًا، لا المتاجرة بالدين والتظاهر به والارتزاق منه.
وقد كان السلف الصالح يعتبر العلوم الدينية ( عبادة )، لذلك بارك الله في مئلفاتهم وأبقاها نبراسًا
للمؤمنين.
وخلف من بعدهم خلفٌ اعتبروا العلوم الدينية ( تجارة )، لذلك ذهبت مؤلفاتهم صرخة في واد، وماتت في مهدها وأصحابها أحياء.
2
ولكن القول بأن الكاتب في الدين يجب أن يتحلى بميزة الإيمان المطلق بعظمة الدين وأن يعمل بتعاليمه نصًا وروحًا، لا يغني عن كل قول.
فالواقع أن الكاتب في الدين يجب أن يتحلى بمزايا أخرى، ولو أن المزية السابقة هي الأساس الذي لا يكون الكاتب في الدين بدونها كاتبًا نافعًا وداعية موفقـًا.
يجب أن يكون الكاتب في الدين عالمًا متينـًا بمبادىء الدين، متخصصًا بفرع من فروعها كالفقه أو الحديث أو التفسير أو التاريخ الإسلامي... إلخ.. وأن يكون قادرًا على وضع أفكاره في صيغ كتابية سهلة الفهم مقبولة الأسلوب بعيدة عن الأخطاء اللغوية والبيانية.
وأن يكون قادرًا على الدخول في " موضوعه " مباشرة دون مقدمات لا لزوم لها، وبغير إطناب مخل، يبدد المعاني ويشتت الأفكار ويضيّع الوقت سدى.
وإذا استطاع الكاتب في الدين أن يبرز فكرته في سطور، فذلك أفضل من إبرازها في صفحات.
وصفحة واحدة أو بعض صفحة مركزة، أفضل من صفحات مطولة. وأبلغ الكتاب وأكثرهم تمكنـًا من الكتابة والعلم وأعرفهم بموضوعه وهدفه المباشر لما يكتب، هو أقلهم كلامًا وأوجزهم عبارة.
وكثير من القراء لا يطيقون قراءة الكتب الضخمة والمقالات المستفيضة، وأكثرهم يفضل الكتب الصغيرة والمقالات المختصرة.
فإذا أراد الكانب في الدين أن يفيد قراءه بما يكتب، فليختصر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليملأ ما يكتبه بالمعلومات القيمة بدون حشو لا مسوغ له، فإن ذلك سيضاعف عدد قرائه ويزيد في فائدتهم. ويجب أن يكون حريصًا على إبراز العبر والدروس الدينية التي تناسب الظروف الراهنة للأمة والوطن وللعقائد السائدة في تلك الظروف.
فإذا كانت البلاد والأمة في ظروف حربية كالظروف التي تمر بالعرب والمسلمين اليوم، فلا بد من أن يكتب الكاتبون في الدين بحوثـًا ودراسات لها علاقة بالجهاد.
وهناك بحوث لها أعظم الفائدة، تستثير الهمم وتشحذ النفوس، يمكن استنباطها من تعاليم الدين الحنيف. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن الكتابة في: الجهاد بالأنفس، الجهاد بالمال، التطبيق العملي للجهاد، الإسلام والحرب النفسية، التولي يوم الزحف، الشهيد في الإسلام، الحرب الشاملة في الإسلام، عقاب المتخلفين في الإسلام، الكتمان في الإسلام، إرادة القتال في الجهاد، بطولات إسلامية، سير قادة الفتح الإسلامي، رجال الدين في الحرب... إلخ.
3
كما أن الشباب ــ وهم يعانون صراعًا فكريًا لا هوادة فيه ــ محتاجون إلى دراسات عن الفكر الإسلامي الأصيل، وكيف يعالج هذا الفكر القضايا الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والفكرية والعسكرية المعاصرة.
إن العقيدة لا تقاوم إلا بعقيدة أفضل منها، وفي الإسلام ــ والحمد لله ــ مزايا لو أبرزها الكاتبون في الدين كما ينبغي، لاستطاعوا مصاولة الغزو الفكري المعاصر الذي يعاني منه الشباب بفكر إسلامي بنـّاء ولانتصروا على هذا الغزو الفكري المقيت.
أما أن يبقى الكاتبون في الدين حريصين على ترديد الأفكار القديمة لكتاب قدماء كتبوا مشكورين ما يناسب عصرهم وظروفهم ــ تلك الأفكار التي أصبحت معروفة من القاصي والداني ــ فلا يفيد أحدًا من القراء، ويكون وبالا على الدين نفسه وعلى الكاتب أيضًا.
ولست أكتم ما يجول في خلدي حين أقرأ بعض المقالات الدينية التي تكتب في الصحف والمجلات أو تسطر في الكتب، فكل مرة أقول لنفسي: " ترى! أيعيش هؤلاء الكتاب في الدنيا، أم هم يعيشون في الآخرة " ؟ إذ لا علاقة بين ما يكتبونه وبين ظروف الأمة والبلاد.
وعلى الكاتبين أن يبتعدوا عن الكلام المعاد، وأن يفكروا في المبتكر الجديد، وأن يجوّدوا ما يكتبونه بالدراسة العميقة المستفيضة والتفكير العميق الصادق، لكي يفيدوا ويستفيدوا...
وعليهم أن يفكروا بالهدف مما يكتبون، ويتوخوا هذا الهدف ولا يحيدون عنه أبدًا.
أما أن يكتب قسم منهم مقالات وبحوثا ( مرنة ) لا هدف لها ولا غاية، تصلح للتهاني والتعازي في آن واحد، وتصلح للمدح والهجاء، وتصلح للأعياد والمآتم... مقالات وبحوث عامة لا تضر عدوًا ولا تنفع صديقـًا، يخيل إليك حين تقرأها أن رائحة ( الجنيهات) أو ( الدنانير) أو (الريالات)
أو ( الليرات ) أو ( الدولارات ) التي يتقاضاها الكاتب مكافأة له عن كتابتها ــ تفوح منها أكثر مما يفوح العلم والإرشاد والتوجيه ــ فإن مما يكتب في مثل هذه الحال ( كارثة ) من الكوارث الفكرية ومصيبة من المصائب العقلية.
وهو بدون أدنى شك، يضر بالدين، ويجعل الناس لا يقبلون على قراءة ما يكتب فيه وينشر عنه.
4
وعلى الكاتبين في الدين ألا يقتصروا على الناحية السلبية فيما يكتبون، بل عليهم أن يهتموا بالناحية الإيجابية أيضًا.
وأقصد بذلك أن كثيرًا من هؤلاء يقتصر على ذكر الحقائق النظرية المجردة، دون أن يبدي رأيه صريحًا واضحًا قاطعًا في الحلول العملية أو في التطبيق العملي لتلك الحقائق النظرية المجردة.
فالذين يكتبون في الجهاد مثلاً، يجب ألا يقتصروا على ذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وأمثلة مما فعل السلف الصالح، بالرغم أهمية ذكر كل ذلك. بل عليهم أن يبدوا رأيهم في كيفية تطبيق الجهاد بالمال عمليًا في مثل هذه الأيام: هل تتولى الدولة ذلك؟ وكيف؟ أم هل تتولى الدولة ولجان من الشعب وضع الجهاد بالمال في نطاق التطبيق العملي، وكيف يتم ذلك؟
هل من المفيد إنشاء صناديق الجهاد، وكيف السبيل إلى ذلك؟
أريد من الكاتبين في الدين أن يتحدثوا عن ( المقدمات ) وهي الحقائق الدينية المستمدة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وآراء الأئمة وأعمال السلف الصالح كما سجلها التاريخ الإسلامي العظيم.
ولكن هذه المقدمات المجردة لا تكفي، لأنها تذكر الناحية ( السلبية ) فقط أو الناحية ( النظرية ) وحدها، إذ يجب أن تقرر ( النتائج ) بعد المقدمات، وهذه النتائج هي: كيف يمكن تطبيق النااحية السلبية أو النظرية الواردة في المقدمات، على الظروف الراهنة، لتكون أعمالاً إيجابية في مجال التطبيق العملي.
إن المقدمات لا تكفي بدون نتائج، والنظريات السلبية ناقصة بدون اقتراح طريقة للتنفيذ الإيجابي في مجال التطبيق العملي ووضع الخطة اللازمة للتنفيذ.
5
إن الكتابة في الدين تحتاج إلى الإخلاص المطلق للدين، وتطبيق تعاليمه نصًا وروحًا، والعلم الراسخ بالدين واللغة، والصبر الجميل على الدراسة، والتفكير العميق لتحديد الهدف واقتناص الجديد المبتكر، وإبراز الدروس والعبر بالنسبة للظروف الراهنة، وعدم الإكتفاء بالسلبية بل إبراز الإيجابية.
وكل هذا يحتاج الى التفكير العميق، والسهر الطويل، والصبر الجميل، والإخلاص النادر، والعمل الدائب، والتنظيم الدقيق.
لذلك كان الكاتبون في الدين قليلين في كل زمان ومكان، إذا أدخلنا في اعتبارنا أن هؤلاء الكاتبين أصحاب مدارس للدعوة، وقادة طلاب من الدعاة, وراجون ما عند الله من أجر لا ما عند الناس من مال.
يريدون وجه الحق، والحق أحق أن يتبع.
يقولون الحق ويغضبون له، ولا يغضبون من الحق، ولا يخشون في قوله لومة لائم.
وفي تطبيق هذه المقاييس على الذين يكتبون في الدين اليوم، كم يبقى منهم في قوائم الحساب؟
إن الكاتبين في الدين يجب أن يقدوا فكرًا إسلاميًا واضح المعالم، يمكن أن يسد الفراغ الذي تعانيه رؤوس شباب العرب والمسلمين، ويمكن أن يقاوم الغزو الفكري الأجنبي.
وإلا فالأمر جد خطير، لأن كل فراغ لا بد له من أن يملأ؛ فإذا عجزنا عن إملائه بالفكر الإسلامي الذي لا بد من أن يقنع الشباب بأنه أفضل من الأفكار الأجنبية الوافدة، فإن الفراغ الفكري الذي تعاني منه رؤوس الشباب سيملأ حتمًا بالأفكار المستوردة والمبادىء الوافدة.
وهنا الطامة العظمى.
والله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً.
وصلى الله على سيدي ومولاي رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
1
كنت ولا أزال وسأبقى أعتقد أن الكتابة في الدين والتكلم في الدين سلاح ذو حدين: إذا أحسن الكاتب أو المتكلم رفع من شأن الدين وجعل الناس يقبلون على قراءة ما يكتبه الكاتبون وسماع ما يقوله المتكلمون بلهفة وشوق، وإذا أساء الكاتب أو المتكلم حط من شأن الدين وجعل الناس ينفرون من الدين ويُعرضون عن قراءة ما يكتبه الكاتبون فيه وسماع ما يقوله المتكلمون عنه.
وقد يكتب كانب في الجغرافيا أو التاريخ أو الكيمياء أو الفيزياء أو العلوم الأخرى، وهو لا يؤمن بهذه العلوم من قريب أو بعيد، ومع ذلك قد يفيد القارىء بما يكتب وقد يستمتع القارىء بما يقرأ.
ولكن الذي يكتب في الدين، لا بد له من الإيمان المطلق بعظمة الدين، وأن يعمل بتعاليمه نصًا وروحًا، حتى يستطيع أن يفيد قارئه ويؤثر فيه.
والكاتب الذي لا يؤمن إيمانـًا مطلقـًا بعظمة الدين وأهميته منهجًا للحياة وسبيلاً إلى الدار الآخرة، لا يمكن أن يفيد قارئه بما يكتب ولا يؤثر فيه.
ومن العجيب أن القارىء يستطيع أن يكتشف بسهولة ويسر، بعد قراءة بضعة سطور مما يكتبه الكاتبون في الدين: هل الكاتب يؤمن حقا بما يقول، أم هو يكتب ما يكتبه ارتزاقـًا أو طلبًا للشهرة والسمعة أو تظاهرًا ورياء.
فإذا ما وجد القارىء حرارة الإيمان في السطور وبين السطور أيضًا، مضى في قراءته والستفاد منها واقتنع بها، وإلا ترك القراءة غير آسف على ما ترك، حرصًا على وقته من الضياع، وحرصُا على الدين من التشويه.
وقد دأب كثير من القراء في بلاد المسلمين على قراءة المقالات والكتب والمجلات الدينية. ولكن هؤلاء القراء ــ على كثرتهم وعل اختلاف بلادهم وجنسياتهم ــ يكادون يجمعون على قراءة ما يكتبه الكتـّاب المؤمنون حقـًا بالدين وعظمته والمطبقون " عملاً " ما يكتبونه على أنفسهم قبل أن يطالبوا غيرهم بتطبيقه " عمليًا " على أنفسهم.
وقد رأيت صدفة جماعة من الأزهريين يقلبون صفحات مجلة إسلامية صدرت حديثـًا، وجدوها عند أحد الوراقين حول الأزهر الشريف، ولكنهم أعادوا المجلة إلى صاحبها لأنهم لم يجدوا مقالا لكاتبهم الذين يثقون بدينه واستقامته.
وما رأيته في القاهرة، رأيته في مكة المكرمة، وفي المدينة المنورة، وفي بغداد والموصل الحدباء، وفي دمشق وحلب الشهباء, وفي بني غازي وطرابلس الغرب.
إن الحاسة السادسة للقراء لا تخطىء، بل هي التي تدلهم على الكاتب المؤمن الحق الذي يصوغ ما يكتبه بأعصابه قبل أن يصوغه بقلمه.
ونصيحتي للكاتب الذي يكتب في الدين من أجل الارتزاق أو الشهرة، أن يكتب في مجالات أخرى غير الدين، لأنه سيخفق حتمًا في مقالاته وأبحاثه الدينية، وقد يكتب له النجاح في مجالات أخرى غير مجال الكتابة في الدين.
وأقصد بأنه سيخفق، هو إخفاقه في تكوين مدرسة من قرائه، يؤمنون إيمانـًا عميقـًا بالدين.
ولست أجهل أن قسمًا من الكتـّاب الذين كتبوا في الدين، وكانت حياتهم الخاصة سلوكًا وأفكارًا تناقض تعاليم الدين الحنيف، قد نجحوا فيما كتبوه من مقالات وكتب نجاحًا نسبيًا، نظرًا لشهرتهم السابقة وقوة أسلوبهم الكتابي وذكائهم وعمق ثقافتهم، ولكن مقالاتهم وكتبهم لم تستطع أن تغرس الإيمان العميق بالدين في أحد من القراء، كما لم يستطيعوا تكوين مدرسة من القراء تهتدي بهدي آرائهم الدينية وتتلقف أقوالهم وتذيعها بين الناس. وربما استطاعوا تكوين جماعة من الأدباء يكتبون في الدين ويرتزقون بما يكتبون، فهؤلاء أدباء دينيون ــ إن صح التعبير ــ وليسوا أدباء متدينين لهم رسالة في الحياة.
وشتان بين الأدباء الدينيين، والأدباء المتدينين.
إن الهدف الحيوي للكاتبين في الدين، هو غرس الإيمان العميق في النفوس والعقول معًا، لا المتاجرة بالدين والتظاهر به والارتزاق منه.
وقد كان السلف الصالح يعتبر العلوم الدينية ( عبادة )، لذلك بارك الله في مئلفاتهم وأبقاها نبراسًا
للمؤمنين.
وخلف من بعدهم خلفٌ اعتبروا العلوم الدينية ( تجارة )، لذلك ذهبت مؤلفاتهم صرخة في واد، وماتت في مهدها وأصحابها أحياء.
2
ولكن القول بأن الكاتب في الدين يجب أن يتحلى بميزة الإيمان المطلق بعظمة الدين وأن يعمل بتعاليمه نصًا وروحًا، لا يغني عن كل قول.
فالواقع أن الكاتب في الدين يجب أن يتحلى بمزايا أخرى، ولو أن المزية السابقة هي الأساس الذي لا يكون الكاتب في الدين بدونها كاتبًا نافعًا وداعية موفقـًا.
يجب أن يكون الكاتب في الدين عالمًا متينـًا بمبادىء الدين، متخصصًا بفرع من فروعها كالفقه أو الحديث أو التفسير أو التاريخ الإسلامي... إلخ.. وأن يكون قادرًا على وضع أفكاره في صيغ كتابية سهلة الفهم مقبولة الأسلوب بعيدة عن الأخطاء اللغوية والبيانية.
وأن يكون قادرًا على الدخول في " موضوعه " مباشرة دون مقدمات لا لزوم لها، وبغير إطناب مخل، يبدد المعاني ويشتت الأفكار ويضيّع الوقت سدى.
وإذا استطاع الكاتب في الدين أن يبرز فكرته في سطور، فذلك أفضل من إبرازها في صفحات.
وصفحة واحدة أو بعض صفحة مركزة، أفضل من صفحات مطولة. وأبلغ الكتاب وأكثرهم تمكنـًا من الكتابة والعلم وأعرفهم بموضوعه وهدفه المباشر لما يكتب، هو أقلهم كلامًا وأوجزهم عبارة.
وكثير من القراء لا يطيقون قراءة الكتب الضخمة والمقالات المستفيضة، وأكثرهم يفضل الكتب الصغيرة والمقالات المختصرة.
فإذا أراد الكانب في الدين أن يفيد قراءه بما يكتب، فليختصر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليملأ ما يكتبه بالمعلومات القيمة بدون حشو لا مسوغ له، فإن ذلك سيضاعف عدد قرائه ويزيد في فائدتهم. ويجب أن يكون حريصًا على إبراز العبر والدروس الدينية التي تناسب الظروف الراهنة للأمة والوطن وللعقائد السائدة في تلك الظروف.
فإذا كانت البلاد والأمة في ظروف حربية كالظروف التي تمر بالعرب والمسلمين اليوم، فلا بد من أن يكتب الكاتبون في الدين بحوثـًا ودراسات لها علاقة بالجهاد.
وهناك بحوث لها أعظم الفائدة، تستثير الهمم وتشحذ النفوس، يمكن استنباطها من تعاليم الدين الحنيف. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن الكتابة في: الجهاد بالأنفس، الجهاد بالمال، التطبيق العملي للجهاد، الإسلام والحرب النفسية، التولي يوم الزحف، الشهيد في الإسلام، الحرب الشاملة في الإسلام، عقاب المتخلفين في الإسلام، الكتمان في الإسلام، إرادة القتال في الجهاد، بطولات إسلامية، سير قادة الفتح الإسلامي، رجال الدين في الحرب... إلخ.
3
كما أن الشباب ــ وهم يعانون صراعًا فكريًا لا هوادة فيه ــ محتاجون إلى دراسات عن الفكر الإسلامي الأصيل، وكيف يعالج هذا الفكر القضايا الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والفكرية والعسكرية المعاصرة.
إن العقيدة لا تقاوم إلا بعقيدة أفضل منها، وفي الإسلام ــ والحمد لله ــ مزايا لو أبرزها الكاتبون في الدين كما ينبغي، لاستطاعوا مصاولة الغزو الفكري المعاصر الذي يعاني منه الشباب بفكر إسلامي بنـّاء ولانتصروا على هذا الغزو الفكري المقيت.
أما أن يبقى الكاتبون في الدين حريصين على ترديد الأفكار القديمة لكتاب قدماء كتبوا مشكورين ما يناسب عصرهم وظروفهم ــ تلك الأفكار التي أصبحت معروفة من القاصي والداني ــ فلا يفيد أحدًا من القراء، ويكون وبالا على الدين نفسه وعلى الكاتب أيضًا.
ولست أكتم ما يجول في خلدي حين أقرأ بعض المقالات الدينية التي تكتب في الصحف والمجلات أو تسطر في الكتب، فكل مرة أقول لنفسي: " ترى! أيعيش هؤلاء الكتاب في الدنيا، أم هم يعيشون في الآخرة " ؟ إذ لا علاقة بين ما يكتبونه وبين ظروف الأمة والبلاد.
وعلى الكاتبين أن يبتعدوا عن الكلام المعاد، وأن يفكروا في المبتكر الجديد، وأن يجوّدوا ما يكتبونه بالدراسة العميقة المستفيضة والتفكير العميق الصادق، لكي يفيدوا ويستفيدوا...
وعليهم أن يفكروا بالهدف مما يكتبون، ويتوخوا هذا الهدف ولا يحيدون عنه أبدًا.
أما أن يكتب قسم منهم مقالات وبحوثا ( مرنة ) لا هدف لها ولا غاية، تصلح للتهاني والتعازي في آن واحد، وتصلح للمدح والهجاء، وتصلح للأعياد والمآتم... مقالات وبحوث عامة لا تضر عدوًا ولا تنفع صديقـًا، يخيل إليك حين تقرأها أن رائحة ( الجنيهات) أو ( الدنانير) أو (الريالات)
أو ( الليرات ) أو ( الدولارات ) التي يتقاضاها الكاتب مكافأة له عن كتابتها ــ تفوح منها أكثر مما يفوح العلم والإرشاد والتوجيه ــ فإن مما يكتب في مثل هذه الحال ( كارثة ) من الكوارث الفكرية ومصيبة من المصائب العقلية.
وهو بدون أدنى شك، يضر بالدين، ويجعل الناس لا يقبلون على قراءة ما يكتب فيه وينشر عنه.
4
وعلى الكاتبين في الدين ألا يقتصروا على الناحية السلبية فيما يكتبون، بل عليهم أن يهتموا بالناحية الإيجابية أيضًا.
وأقصد بذلك أن كثيرًا من هؤلاء يقتصر على ذكر الحقائق النظرية المجردة، دون أن يبدي رأيه صريحًا واضحًا قاطعًا في الحلول العملية أو في التطبيق العملي لتلك الحقائق النظرية المجردة.
فالذين يكتبون في الجهاد مثلاً، يجب ألا يقتصروا على ذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وأمثلة مما فعل السلف الصالح، بالرغم أهمية ذكر كل ذلك. بل عليهم أن يبدوا رأيهم في كيفية تطبيق الجهاد بالمال عمليًا في مثل هذه الأيام: هل تتولى الدولة ذلك؟ وكيف؟ أم هل تتولى الدولة ولجان من الشعب وضع الجهاد بالمال في نطاق التطبيق العملي، وكيف يتم ذلك؟
هل من المفيد إنشاء صناديق الجهاد، وكيف السبيل إلى ذلك؟
أريد من الكاتبين في الدين أن يتحدثوا عن ( المقدمات ) وهي الحقائق الدينية المستمدة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وآراء الأئمة وأعمال السلف الصالح كما سجلها التاريخ الإسلامي العظيم.
ولكن هذه المقدمات المجردة لا تكفي، لأنها تذكر الناحية ( السلبية ) فقط أو الناحية ( النظرية ) وحدها، إذ يجب أن تقرر ( النتائج ) بعد المقدمات، وهذه النتائج هي: كيف يمكن تطبيق النااحية السلبية أو النظرية الواردة في المقدمات، على الظروف الراهنة، لتكون أعمالاً إيجابية في مجال التطبيق العملي.
إن المقدمات لا تكفي بدون نتائج، والنظريات السلبية ناقصة بدون اقتراح طريقة للتنفيذ الإيجابي في مجال التطبيق العملي ووضع الخطة اللازمة للتنفيذ.
5
إن الكتابة في الدين تحتاج إلى الإخلاص المطلق للدين، وتطبيق تعاليمه نصًا وروحًا، والعلم الراسخ بالدين واللغة، والصبر الجميل على الدراسة، والتفكير العميق لتحديد الهدف واقتناص الجديد المبتكر، وإبراز الدروس والعبر بالنسبة للظروف الراهنة، وعدم الإكتفاء بالسلبية بل إبراز الإيجابية.
وكل هذا يحتاج الى التفكير العميق، والسهر الطويل، والصبر الجميل، والإخلاص النادر، والعمل الدائب، والتنظيم الدقيق.
لذلك كان الكاتبون في الدين قليلين في كل زمان ومكان، إذا أدخلنا في اعتبارنا أن هؤلاء الكاتبين أصحاب مدارس للدعوة، وقادة طلاب من الدعاة, وراجون ما عند الله من أجر لا ما عند الناس من مال.
يريدون وجه الحق، والحق أحق أن يتبع.
يقولون الحق ويغضبون له، ولا يغضبون من الحق، ولا يخشون في قوله لومة لائم.
وفي تطبيق هذه المقاييس على الذين يكتبون في الدين اليوم، كم يبقى منهم في قوائم الحساب؟
إن الكاتبين في الدين يجب أن يقدوا فكرًا إسلاميًا واضح المعالم، يمكن أن يسد الفراغ الذي تعانيه رؤوس شباب العرب والمسلمين، ويمكن أن يقاوم الغزو الفكري الأجنبي.
وإلا فالأمر جد خطير، لأن كل فراغ لا بد له من أن يملأ؛ فإذا عجزنا عن إملائه بالفكر الإسلامي الذي لا بد من أن يقنع الشباب بأنه أفضل من الأفكار الأجنبية الوافدة، فإن الفراغ الفكري الذي تعاني منه رؤوس الشباب سيملأ حتمًا بالأفكار المستوردة والمبادىء الوافدة.
وهنا الطامة العظمى.
والله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً.
وصلى الله على سيدي ومولاي رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.