إعلانات المنتدى


الإعجاز التشريعي

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:eek:range;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
الإعجاز التشريعي في نظام الزكاة
120397735148011154_c332dfd662_m.jpg
بقلم الشريف عبود الشريف
مقدمة:
تعتبر الزكاة التي هي الركن الثالـث من أركان الإسـلام الركن االمالي الاجتماعي في الإسلام. وهي من نظم الإسـلام المالية، وذلك علي الرغـم من أنها تعتبر العبادة الثانية في الإسلام الأمر الذي يدرجها في نطاق فقه العبـادات كما أنها من الناحية الأخري تدرج في نطاق الفقه المالي والاجتماعي.
وقد أصبح موضوع الزكاة والموارد المالية في الإسلام وطرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات وحقوق العامة والخاصة هي موضوعات الساعة [1] الأمر الذي يدفع الباحثين " في محاولة ابـداء الرأي فيما جد من مسائل وأحداث متعلقة بالموضوع ، لم يعرفها علماء المسلمين السابقين مما لا يسع الباحث الإسلامي المعاصر أن يغفله ".[2]
ولهذا فسوف نحاول في هذه الورقة أن نبحث في امكانية ربط الزكاة بصفتها نظاماُ مالياُ اجتماعياُ بالفكر الاكتواري بصفتـه هندسة للنظام المالي الاجتماعي ، وما إذا كانت إدارة نظام الزكاة في حاجة إلي هذه الدراسـات الاكتوارية في تنفيـذ أحكامها علي الوجه المفروض وبالدقة المطلوبة.
التعريف بالزكاة:
الزكاة لغة هي النماء والطهارة وهي شرعاُ حق مقدر بتقدير الشارع. وقد فرضت الزكاة علي المسلميـن في السنة الثانية من الهجرة. وفرضيتها ثابتة بالكتاب والسنة والاجماع فقد وردت الزكاة في الكتاب في آيات كثيرة منها قوله نعالي :" أقيموا الصلاة وآتو الزكاة ". وكلمة الزكاة وردت في القرآن اثنين وثلاثين مرة في تسعة عشرسورة[3]. أما في السنة فقد ثبتت فرضية الزكاة في أحاديث كثيرة منها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم لما بعث " معاذ " إلي اليمن ، قال: " أدعهـم ، إلي شـهادة أن لا إله إلا الله ، وأني محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا بذلك فأعلمهم أن الله فترض خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهـم تؤخذ من أغنيائهم وترد علي فقرائهم."[4] وفي الاجماع اتفقت كلمة الأمة علي أن الزكاة فرض عين علي كل مسلم توفرت فيه الشروط المقررة فهي ركن من أركان الاسلام من جحدها اعتبر مرتداُ.[5]
موقع الزكاة بين مفاهيم الحماية الاجتماعية الأخري:
نظام الزكاة هو أحد شقي نظام الضمان الاجتماعي وشقها الثاني هو التأمين الاجتماعي ونظام الضمان الاجتماعي هو أحد شـقي نظام الرعاية الاجتماعية وشقها الآخر هو الخدمات الاجتماعية والرعايـة الاجتماعية هي أحد شقي التكافل والشـق الآخر هو الأمن. وعندما شرعت الزكاه خلال الفتح الإسلامي لأوربا لم يستطع الحكام في أوربا أن يزيلوا نظام الزكاة بعد انحسار الإسلام عن أوربا خوفاُ من اندلاع الهبات السياسية والانتفاضات الشعبية والثورة علي أنظمة الحكم. وتفاديـاُ لشـعور الشعب بأن الإسلام هو دين التكافل بين أفراد الأمة ، اسـتبدل القائمون علي الأمر أسـم الزكاة بإسم آخر للتمويه هو كلمتي " المساعدات الاجتماعية ". وعندما انتشر نظام الضمان الاجتماعي في الوقت الحاضر دخل مفهوم المساعدات الاجتماعية في أدب الضمان الاجتماعي في البلاد العربية بصفته نمطأ من أنماط عصرنة الفكر الاجتماعي ولهذا فمن الأفضل أن نرجع مرة أخري إلي أصل المفهوم وهو مفهوم الزكاة. حيث يتعيـن انفاذ ما حدده القرآن والسنة بشأن وعائها ونصابها وسعرها ومستحقيها. فالقرآن والسنة " عهدا إلي الدولة أو ولي الأمر مسئولية تحصيلها وصرفها في أوجهها المحددة [6] وعليه فلا يجوز بأي حال من الأحـوال الخـلاف حول تحديد سعر الزكاة أونصابها أو مستحقيها ومباشرة ولي الأمر تحصيلها وتوزيعها.[7] فالزكاة إذن من واجبات الدولة الإسلامية ، الأمر الذى يتعين فرضها بتشريع رسمي ملزم.[8]
الخصائص المميزة للزكاة:
للزكاة خصائص عديـدة تتميز بها عن غيرها من الماليـة الاجتماعيـة الأخري في وسـعنا حصر أهمها فيما يلي:
خاصية الإلزام والوجوب:
يشترط لوجـوب الزكاة أن يكون المزكي مسلمـا وحراُ ومالكـاُ تامـاُ لنصاب من المال وعلي أن يكون هذا المال خاليا من حوائجه الأصلية. وأن يحول علي هذا المال الحول. وعند الحنفية أن يكون المزكي عاقلاُ ولهذا فأن الزكاة لا تجب علي الكافر لأنها ركن من أركان الإسلام ولما كانت لا تصح إلا بالنيـة فإنـه ليس للكافر نيـة صحيحة ، كما أن الكافـر إذا أسلـم فإنه لا يجوزجباية الزكاة منه عن المدة السابقة عن إسلامه.
ومن وجوب جباية الزكاة أن الشافعية يرون وجوبها علي المرتد إلا أن هذا الوجوب موقوف علي عودته إلي الإسلام وإذا مات وهو مرتداً فلا زكاة عليه لأن ماله أصبح فيئاُ للمسلمين.
والمالكية يرون أن الإسـلام شـرط للصحة لا للوجـوب وهنا إن الزكاة لا تجب علي بعض القطاعـات السكانية مثل الكافر والصبي والمجنون والعبد ومن لا يملك ما يعادل القدر المقرر من المال.
3- خاصية وعاء الزكاة :
ويقصد بوعاء الزكاه المال الذي تجب عليه الزكاة ولكي تجب فيه اشترط الفقهاء شرطاً خاصاً وهو أن يكون المال مما يقتنـي للنماء لا أن يسد الحاجه ، وأن يكون هذا المال مدخلاً لصاحبة في زمرة الأغنياء. وتجب الزكاة علي تسعه أصناف فإدا هلكت أومات رب المال سقطت عنه الزكاة لأنها عبـادة محضه. أما زكاة مال الخارج من الأرض فإنها تجب في الذمة حتي إذا هلك المال لا يسقط عن صاحبه إلا في المؤونه. وفي قول الأئمة الثلاثة إن الزكاة تجب في الذمة فلا تسقط بهلاك العيـن ولا بموت من وجبت عليـه وإنما تـؤدي من باقي المال أو التركه لأنها تكليف مالي دائماً وقد فـرق الشافعـي وأحمد فيما إذا هلكت العين قبل التمكن من الأداء فتسـقط الـزكاه بما لو كان الهـلاك في خلال الحول ، وأما أذا هلكـت بعد التمكن من الأداء فإنه يكون مفرطاً ولا تسقط عنه الزكاه بل تـؤدي من جميع مالـه. ويفـرق مالك في الأنعام حيث يقول : وإذا هلكـت العين قبل وصول المصدق سقطت الزكاة عن رب المال وإدا هلكت بعد وصولة فإنها تلزمه ولا تسقط عنه (9).
وإتفق فقهاء المسلمين علي وجوب الزكاة في الأصناف التالية:
- صنفان من المعادن هما الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي.
- ثلاثة أصناف من الحيوان وهي: الأبل، والبقر، والغنم.
- صنفان من الحبوب هي : الحنطه، الشعير .
- صنفان من الثمر هما : التمر، الذبيب (10).
4- خاصية المساواة في التطبيق :
لم يفرق الإسـلام بين الأفراد في خضوعهم للزكاة طالما اسـتوفوا شروط وجوبها عليهم بل سوي بينهم مساواة تامة فلا إستثناء لبعض الفئات كما نجد في القوانين الوضعية(11).
5- خاصية النصاب - الحدود الدنيا :
أما هذه الخاصية فتناظر خاصية الحـدود الدنيا في التأمين الاجتماعي حيث يعفي ذوى الدخول المنخفضة من المؤمن عليهـم من حصته علي أن يتحمل هذه الحصة صاحب العمل كما نص علي ذلك قانـون التأمين الاجتماعي لسنة 1974م في السودان حيث فرض معدل الاشتراك عن الفئه الأولي من المؤمن عليهم علي صاحب العمل بأكمله.
6- خاصية التوازن المالي :
وتتميز الزكاة بأن موازنتها سنوية بمعني أن جبايتها وصرفها يتم في نفس العام وقد يكون حجم الجباية أقل من حجم مصارفها وفي هذه الحالة يجوز للخليفه أن يفرض علي الأغنيـاء ما يغطي العجز في مصروفاتها. وقد تكون الجباية أكبر وفي هذه الحالة يجوز للخليفة توزيع ما تبقي علي جيران المنطقة ، وقد فرضت الزكاة بمعدلات جبايه ثابته ، كما فرضت بمعدلات مصارف ثابته لا تتأثر البته بحجم المزكين وثروتهم ولا بحجم المصارف وبرغم ذلك فإن عنصر التكافؤ بين الجبايه والمصارف متوفر بسبب التدابير المتاحه للخليفة.
الزكاة من منظور تأميني :
الآن بعد أن عرضنا للخصائص التي تميز الزكاة فلتنظر إلي أي مدي تتطابق تلك الخصائص مع نظيراتها في نظم التأمين الاجتماعي حتي نتجه إلي الموضوع الرئيسي لتلك الورقه وهو إمكانية إعمال الدراسة الاكتوارية علي فريضة الزكاة.
1- خاصية وجوب الزكاة :
ونبدأ بأول خاصية للزكاة وهي خاصية الوجوب التي تشترط لوجوبها أن يكون المزكي مسلماً وحراً ومالكا تاماً للنصاب وأن يحول علي ماله الحول وفي هذا نجد إن نظام التأمين الاجتماعي يتميز أيضاً بالالزام في التطبيق حيث تم تبني هذه الخاصية لسبب إيمان المشرع بقانون الأعداد الكبيرة حتي يحقق التخفيض الكبير في تكلفة التأمين الاجتماعي (12). والفرق بينهما في هذه الخاصية هو شـرط الحريـة والتي أصبحت في زماننا هذا غير متوفرة حيث لم تعد العبودية موجـوده. كما أن هنالك إختلاف يتعلق بالإسلام حيث لا تجب الزكاة من الكافر إلا أن علي الكافر ضريبة أخري هي الجزيه وعلي المرتد ضريبه الفيئ الذي يلغي الخلاف حيث يقع الوجـوب علي الكافه المشاركة في تمويل الحماية الاجتماعية ، أما إعفاء الكافر من وجوب الزكاة عن المده السابقه علي أسـلامه متشابـه مع إعفاء المؤمن عليه عن المده السابقه علي دخوله في نظام التأمين الاجتماعي.
2- خاصيه نطاق التطبيق :
وتناظر هذه الخاصية في الزكاه خاصيه نطاق التطبيق في التأمينات الاجتماعية التي توجب التأمين الاجتماعي علي القطاع النشط اقتصادياً وليس علي الفقراء ، وكذلك ليس علي بعض القطاعات مثل المخدمين لأنفسهم أو أصحاب الحرف.. الخ إلا أن هناك من ينادي بتوسيع نطاق التأمين الاجتماعي علي الفقراء عن طريق الضريبه العامة.
3- خاصية وعاء التطبيق:
وتتاظر هذه الخاصية في الزكاة خاصية الدخل أو الأجور في التأمينات الاجتماعية والتي تشترط أن تتوفـر الأجور أولاً لكي يتـم التأمين الاجتماعي علي المؤمن عليه فإنقطاع الأجر يعني إنقطاع التأمين الاجتماعي خلال فترة الإنقطاع ، فكما أن الزكاة توجب ان يكون المال مدخلاً لصاحبه في زمرة الأغنيـاء فإن التأمين الاجتماعي يوجب أن تكون الأجور مدخـلاً للمؤمن عليه في زمرة ذوي الدخول الكافيـة إذ يعفي المؤمن عليه من ذوي الدخول التي تقل عن الحد الأدني للأجور من المشاركة في حصة الاشتراكات بل يتحملها صاحب العمل.
4- خاصية المساواة في التطبيق :
وتتطابق هذه الخاصية بين الزكاة والتأمين الاجتماعي والتعامل مع الصبي والمجنون هو نفس التعامل فيما ينتهي لآن الصبي والمجنون من المنتفعين وليس من المؤمن عليهم بل من المستفيدين من نظام الحماية الاجتماعية.
5- خاصية النصاب / الحدود الدنيا :
أما هذه الخاصية فتناظر خاصية الحدود الدنيا في التأمين الاجتماعي حيث يعض ذوى الدخول المنخفضة من المشاركة في حصه المؤمن عليهـم من جهة علي أن يتحمل هذه الحصة صاحب العمل كما نص علي ذلك قانون التأمين الاجتماعي لسنة 1974م في السودان حيث فرض معدل الاشتراك عن الفئه الأولي من المؤمن عليهم علي صاحب العمل بأكمله.
6- خاصية ربط معدل الجباية :
ويناظر هذه الخاصية لدى الزكاة خاصية ربط معدل الاشتراكات ، فكما أن التأمين الاجتماعي يربط معدلات الاشتراكات أما بنسب مئوية من الدخول أو الأجور أما بمعدلات منبسطه علي الكافه أو تتعدد بتعدد فئات الأجور. فإن ربط معدل الجبايه في الزكاة يتم كما سبق قوله أما أن يربط بمعدل مئوي يعادل 2.5% من رؤوس الأموال أو فيما يبن 5% إلي 10% من دخل الأصول الثابته.. الخ.. وفي الزكاة تربـط الجبايه بما يعادل 20%. وفي الغنم تربط عن الأربعين شاه الأولي شـاه ولدد 5 أي 1 × 10 = 2.5% وكل ذلك يدل علي التناظر بين خاصية ربط معدل الجباية في الزكاة وخاصية ربط معدل الأشتراكات في التأمين الاجتماعي.
7- خاصية المحلية :
وتناظر هذه الخاصية خاصية قومية نظام التأمين الاجتماعي وفي هذا نود أن نقرر أنه علي الرغم من أن التأمين الاجتماعي قومي السمة علي نطاق القطر إلا أن أمواله موزعه علي حسابات محلية ينفق منها علي مستحقات المعاشات وما يفيض عنها يورد إلي المركز كاحتياطي ليستثمر كما أن في وسعي القول بأن الزكاة والتأمين الاجتماعي يتفقان في إنهما يوزعان داخل القطر وليس خارجه.
8- خاصية حد الكفاية في المنفعة :
ويناظر هذه الخاصة لدي الزكاة خاصية الحدود الدنيا في التأمين الاجتماعي التي تنادي بأن ضرورة عدم المبالغة في زيادة معدلات الاشتراكات بسبب تفادي المبالغة في امتصاص خاصية القوة الشرائية للأجور سيقود بالضرورة إلي عدم المبالغة في رفع معدلات المعاشات والتعويضات الأمر الذي يؤدي إلي جعل المعاشات تعادل نسب حد الكفاية أي أن تكون المعاشات في الحدود الدنيا للمعيشة.
9- خاصية تحديد المنتفعين بالزكاة :
لما كانت الزكاة قد حددت مصارفها في ثمانية فإن التأمين الاجتماعي قد حدد المنتفعين بفئاتهم من الشيوخ والعجزة والأرامل والأيتام وأصحاب العجز المهني كمنتفعين من ذوي المدي الطويل وفي المرض والعجزه عجزاً مؤقتاً والمتبطلين كمنتفعين من ذوي المدي القصير.
وهذا يدل علي أن كل من الزكاة والتأمين الاجتماعي يهدفان إلي حماية الضعفاء حمايه اجتماعية.
10- خاصية تقسيم الزكاة :
وترتبط هذه الخاصية بالحدود الدنيا أيضاً التي أشرنا إليها فيما سبق فالزكاة تفرض إلا يعطي الفقير عطيه يصير بها من الفئات الفنية فلا تجوز له الصدقه فيصير في أول مراتب الغني فهي حرام عليه.
ومن كل ذلك يتبين لنا أن التأمين الاجتماعي يناظر الزكاة في معظم أغراضها خصوصاً تلك التي تتعلق بحماية الفقراء والمساكين وابن السبيل وأن اساليبه وآلياته تكون مماثله.
ولما كانت التأمينات الاجتماعية تعتمد في سبيل تحقق التوازن المالي علي الدراسات الاكتوارية فإننا نتساءل إذا كان من الأمكان الاستفادة من تلك الدراسات الاكتوارية وتطبيقها علي البيانات المالية والاحصائية وبيان الموازنات السنوية للزكاة للوصول إلي نتائـج دقيقه تبين لنا دقة الفروض والواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالي في قريضة الزكاة. فإذا إتفقنا علي ذلك فيتبين علينا أن نعي مايلي :
[أ] أن الغرض من تطبيق الدراسات الاكتوارية علي الزكاة لا يعني البته إجراء أي تعديل في معدلات الجباية ومعدلات المصارف التي تم تحديدها في القرآن والسنه بصورة لآ إجتهاد فيها.
[ب] وأن الغرض الرئيسي ينحصر في التحليل الإحصائي والفنـي لفريضة الزكاة من هذه الدراسات في تطوير القواعد الإكتوارية نفسها لتطبيـق ما يمكن أن تصل إليه علي نظـم التأمينات الاجتماعيـة لعلنـا نستطيع أن نعالج كثير من أوجه القصور الساريه حالياً في التأمين الاجتماعي ومن الصعوبة التي تواجهها نظم التأمينات الاجتماعية بسبب التضخم.
[ح] وإذا توصلت الدراسـة الاكتواريـة للموقف المالي للزكاة إلي أن الموارد لا تكفي لسد مصارفها فإن ذلك سيتيح للخليفة أن يفرض جبايه أخري من الأغنياء لسد هذا الفرق.
العوامل التي يعتمد عليها فحص المركز المالي للزكاة
فإذا سلمنـا بأن في الإمكان فحص المركز المالي للزكاة مستخدمين الأسس الإكتوارية فإن من الضروري الإعتماد علي العوامل التالية :
أولاً : الاحتياطي :
1- لابد من أن يكون للمنشأه المالية احتياطي بقـدر كبير.( وهذا متوفر بالنسبة للزكاه ) الذي قد يطلق عليه إجمالي الجبايه.
2- وأن يكون إجمالي الاحتياطي يعادل مجموعة المـوارد المحصلة بعد إضافة ريع الاستثمار الذي تحصله هذه الأموال ثم خصم المصروفات المخصصه لأغراض المنشأه.ومصروفات الإدارة ( وهنا نقول إن مصرف العاملين عليها أحد الإلتزامات الواقعة علي الزكاة ).
3- ويلاحظ أن التقديرات في الموازنه التقديرية دائماً لا تتطابق مع الحساب الختامي للمنشأة الأمر الذي يستوجب فحص المركز المالي لمعرفة أسـباب عدم تطابقه. ويرجع السبب في الغالب لنتائج الإحصائيات المتوقعه الحقيقية خلال مدة الفحص.( وهنا نقول أن الوالي من حقه فرض أموال علي الأغنياء في حالة حدوث عجز).
4- وهذا يستوجب حسـاباُ للاحتياطي الواجـب الاحتفاظ بـه لـدي المنشأة المالية. لتكون قادرة علي الوفاء بكل التزاماتها ، ويسمي هذا الاحتياطي الجدد الاحتياطي الحسابي ويتطلب تقدير حسابات اكتوارية طويله. والتي تسمي بفحص المركز المالي لهذه المنشأة المالية.
5- والمقصود بفحص المركز المالي تقديـر التزامات المنشأة الواجب سدادها بعد مقارنة هذه الإلتزامات بالموارد المالية للمنشأة الأمر الذي يتيح للوالي تحديد ما يفرضه علي الأغنياء من مال فوق الزكاة.
6- والمفروض في الدراسـات الاكتوارية لنظم التأمين الاجتماعي التي تكون التزاماتها طويلة المدي أن القيمة الحالية للالتزامات تساوي القيمة الحالية للاشتراكات المحتمل تحصيلها حتي تكون نظم التأمين الاجتماعي قادرة علي الوفاء بالتزاماتها. إلا أن في أي وقت نجد أن القيمة الحالية للالتزامات أكبر من القيمة الحالية للاشـتراكات المحتمل تحصيلها لذلك يتحتم علي صناديق التأمين الاجتماعي أن يكون لديها مبلغ يساوي الفرق بين هاتين القيمتين الحاليتين حتي تكون قادرة علي الوفاء بالتزاماتها.
وهذا المبلغ هو ما يسمي بالاحتياطي الحسابي ( الاكتواري ) لصندوق التأمين الاجتماعي في التاريخ المطلوب.
ولهذا إذا اريد فحص المركز المالي للزكاة يتعين إجراء الفحوص الاكتوارية التي تطبق علي نظم التأمين الاجتماعي الخاصة بالعوارض الموقوته لنظام التأمين الصحي / الاجتماعي إذا أن هذه النظم تماثل نظام الزكاة من حيث ربط اشتراك ومن حيث سداد المنافع في نفس العام.
ثانياً : كيفية فحص المركز المالي :
1- ولكي يتم فحص هذا المركز المالي لابد من توفر البيانات الخاصة بمصاريف الزكاة الثمانية في تاريخ الفحص وفق الكشوف الاحصائية التي تبين بياناتهم الديمقراطية وكذلك بياناتهم الخاصة بالنصاب.. الخ. وذلك وفق كل مصرف من مصارفها.
2- كما لابـد من توفر البيانـات الخاصة بجباية الزكاة وحجمها والحد الأدني للجباية والحد الأعلي للجباية سـواء كان ذلك من الناحيه النقدية والعينية علي أنه من الضروري تقييم الجباية العينية علي الأساس النقدي.
3- ولابد من توفر البيانات الخاصة بالممولين الجدد للزكاة وكذلك البيانات الخاصة بذلك الممولين الذين انحدرت دخولهم عن حد النصاب لطرحهم من إجمالي الممولين.
4- كما أن من الضروري توفر بيانات عن الفقراء والمساكين وبقية المصارف والجدد والذين تجاوزت دخولهم حد النصاب ودخولهم في أول درجات الغني.. الخ..
ثالثاً : الأسس التي تستخدم في الفحص الاكتواري
[أ] يتم حساب جدول لمعدلات الزكاة بالنسبة للمصارف من الفقراء والمساكين.
[ب] يتم قياس احتمالات الحياة واحتمالات الوفاه. لحساب القيمة الحالية للالتزامات المالية. الواقعه عن الزكاة بمعدل الربط المفروض.
[ح] محاولة الوصول لمعدل مناسب لتطور الدخول لدي الممولين للزكاة في سبيل حساب القيمة الحالية للجباية المقبلة للزكاة. ويتـم الحصول علي هذا المعدل من واقع خبرة صندوق الزكاة خلال فترة من الزمن كافيه لحساب هذا المعدل.
رابعاً : لابد من وضع اعتبار خاص لمعرفة العاملين عليها من المصارف المالية في الزكاة.
خاتمة :
ومن كل ذلك يتبين لنا ان فحص المركز المالي للزكاة يماثل فحص المركز المالي لبرامج التأمين المؤقت ( مثل التأمين الصحي ) بمعني ان الالتزامات التي تنشأ نتيجة تحقـق الخطر خلال سنة معينة تقابلها الاشـتراكات المحصله عـن نفـس السـنة إلا أن لابـد من أن يتم تقديـر احتياطي للاخطار الساريـة واحتياطـي المخاطر تحت التسوية. هذا بالإضافـة للقيمة الحالية للمزايـا المقررة لأصحاب المصارف المستحقين في تاريخ الفحص.
والله الموفق....
الشريف عبود الشريف
مستشار في مجال التأمين الاجتماعي والصحي
[email protected]
[1] الدكتور يوسف القرضاوي: فقه الزكاة ،دراسة مقارنة لأفكارها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1406هـ - 1986م ص 14.
[2] نفس المصدر السابق ص15.
[3] محمد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
[4] عبد الخالق النواوي :النظام المالي في الاسلام ، القاهرة ، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولي ، ذ971، ص 27.
[5] نفس المصدر السابق ص28.
[6] الدكتور الفنجري : الإسلاموالضمان الاجتماعي ، دار ثقيف للنشر ،الرياض الطبعة الثانية، ، 1982 ، ص51.
[7]نفس المصدر السابق ، ص 52.
[8] يعتبر السودان من الدول الرائدة في هذا الأمر،
(9)عبد الخالق النوادي : نفس المصدر السابق ‘ ص 4354.
(10)عون محمد الكفراوي : سياسة الإتفاق العام في الاسلام، دراسة ومقارنة ، الاسكندرية ، 1989م.
(11) فس المصدر السابق ، ص ، 274م.
(12) الشريف عبود الشريف : التأمينات الاجتماعية في التشريعات الوضعيه ، حلقة دراسية بعنوان : التأمينات الاجتماعية والتكافل الاجتماعي ، منشورات المركز العربي للتأمينات الاجتماعية ، الخرطوم ، ص 260 لسنة 1993م.





[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show&select_page=8
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:darkblue;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
رائعة التشريع الجنائي الإسلامي في القصاص
1202723234374219057_5a6b33650e_m.jpg
تأليف الدكتورالسيد مصطفي أحمد أبو الخير
الخبير في القانون الدولي


مقدمة:
(القصاص حياة) جملة مفيدة معانيها نافذة لا تنفد ولا تموت لأنها حية وكلها حياة عمرها عمر الإسلام والإنسان، وآية بكل ما تحمل هذه الكلمة من مفهوم ومضمون، وهي أيضا حكمة تشريعية تحمل بين طياتها إعجازا تشريعيا لم تصل إليه حتى الآن السياسات الجنائية والعقابية في كافة النظم القانونية الوضعية الموجودة في العالم، رغم أن ظاهرها التناقض، فقد يودي القصاص بحياة الإنسان فتصل العقوبة إلي الإعدام، أي الموت، ولكن مع ذلك فإن الموت هنا حياة للمجتمع.
نتناول هذا الموضوع في بندين هما:
أولا: فلسفة التشريع الجنائي الإسلامي.
ثانيا: القصاص.
أولا: فلسفة التشريع الجنائي الإسلامي
أساس العقوبات الإسلامية(القصاص) فقال الله تعالي في سورة البقرة الآية(179)(ولكم في القصاص حياة) أي التساوي بين الإثم المرتكب والعقوبة الرادعة فقد عبر القرآن عن العقوبة بالمثلات فقال تعالي في عقابه الأمم السابقة (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات)[1] أي إن العقوبات مماثلة للذنوب والآثام، فالعقوبات الإسلامية عامة تقوم علي المساواة بين الجرم والعقوبة ولذلك تسمي(قصاصا) وتلك غاية وهدف تسعي إليه كافة النظم القانونية الموجودة في العالم، ولم يصل إليها إلا النظام الإسلامي.
وقال أهل العلم في تسمية الحدود حدوداً لأنها تفصل وتمنع وتحجز من الوقوع في الجريمة والإثم الذي يضر صاحبه ولا يقتصر ضرره عليه بل يتعداه إلى غيره، ومن هنا قالوا سميت الحدود حدوداً لأنها تمنع من الإقدام على ارتكاب المعاصي ولأنها من جهة أخرى تمنع من ارتكب المعصية من العود إليها إذا أخذ عقوبته المكافأة الزاجرة وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بالعباد وبأمة الإسلام أنه لم يجعل أمر العدوان على ثوابت استقرار المجتمعات أمراً يرجع إلى تقدير الخلق ومن ترك شرع الله سبحانه وتعالى تخبط.
لذلك انتشرت الجرائم في تلك المجتمعات ووصلت معدلات الجريمة فيه أرقاما قياسية مخيفة تهدد بأفول نجم الحضارة الغربية، وقد بدأت صيحات التحذير من أفول هذه الحضارة في كل الدول الغربية ومن مضي علي نهجها[2].
الرحمة هي أساس الإسلام والعدل والرحمة متلازمان ولا يفترقان أبدا أحدهما لازم للأخر فالرحمة من لوازم العدل وثمرة من ثمراته فلا توجد الرحمة مع الظلم، كما لا يمكن أن يكون العدل مخالفا للرحمة ويستوي في ذلك العدل بين الناس والعدل بين الدول فالعدالة الحقيقية هي الرحمة الحقيقية، وهناك فرق بين الرحمة والرأفة فالأولي أوسع من الثانية وتكون في الخير العام والعدالة، أما الرأفة فإنها إحساس بالشفقة علي من يتألم سواء كان هذا الألم عدلا أم غير عدل، ومنهي عنها عندما يكون الألم ناتج عن إنزال عقوبة رادعة عن الشر ومانعا للإثم[3].
ويهدف النظام الجنائي في الإسلام لحفظ الكليات الخمس التي لا تقوم الحياة ولا تستمر بدونها وهم( حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال) وأي جريمة هي اعتداء علي أحدي هذه الكليات السابقة، فقد شرعت كافة العقوبات في الإسلام للمحافظة عليها، ولقد أوضحها حجة الإسلام الغزالي في كتابه المستصفي فقال (( إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة علي مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول، فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوي المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلي بدعته، فإن هذا يفوت علي الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب، إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزني، إذ به حفظ النسب والأنساب، وزجر الغصاب والسراق، إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معايش الخلق وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة))[4]
والمصالح المعتبرة وإن لم تكن دائما ذاتية ولكنها تعد من البدهيات، كما إن المنافع إضافية فقد تكون منافع قوم فيها ضرر بآخرين وقد تكون منفعة عاجلة تدفع منفعة آجلة، مادية أو معنوية لذلك يجب عند تجريم الفعل أو إباحته النظر إلي منافعه ومضاره والتوازن بينهما، كما أن المصلحة المعتبرة من الشارع تختلف عن اللذة والشهوة، فالشهوات والأهواء أمور شخصية وقتية وقد تكون انحرافا وأحيانا تتعلق بأمور لا تنفع ولا تجدي بل تضر، والهوى انحراف عن الفكر فيدفع للفساد ومن ثم للجريمة، وأغراض البشر وغاياتهم ليست دائما متجهة إلي المصالح التي يحميها الإسلام، أنما يحمي الإسلام الأغراض والمنافع الشخصية المتفقة مع المصالح العامة التي يحميها الإسلام، لذلك تقرر إقامة العقاب علي أساس حماية المصالح الإنسانية المتمثلة في حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، واعتبار العقوبة من العدالة، وظهرت منطقية وحيوية ومضمون ومفهوم الآية الكريمة ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) والملاحظ أن الآية الكريمة اختتمت بالنداء علي(أولي الألباب) أي أصحاب العقول النيرة المفكرة وليست الضالة المظلمة وتلك إعجاز آخر.
ورغم أن كافة النظم القانونية الوضعية الموجودة في العالم قد جرمت الاعتداء علي أي من هذه الأصول الخمسة، ولكنها فشلت في المحافظة عليها حتى أن مجتمعات هذه النظم منها من انهار تحت وطأة الجريمة ومنها من هو في سبيله إلي ذلك الانهيار، فمعدلات الجريمة بلغت أرقام قياسية مرعبة تنذر بكارثة محققة في تلك المجتمعات، ولم ينجح فيما فشلت فيه هذه النظم الوضعية إلا الشريعة الإسلامية خاصة في السياسة الجنائية من حيث التجريم والعقوبة والموائمة بينهما،
إن القانون ضرورة لا مفر منها للجماعة ولا غني عنها للبشر وهو في حقيقته ليس إلا أداة أوجدتها الجماعة لخدمتها وإسعادها، وتستمد القوانين وجودها وشرعيتها من حاجة الجماعة إليها، فوظيفة القوانين عامة هي خدمة الجماعة وسد حاجاتها وإسعادها، فوظيفة القانون تتمثل في تنظيم الجماعة ومنع المظالم وحفظ الحقوق وتحقيق العدالة وتوجيه الشعوب نحو النافع والمفيد، لذلك فإن كل قانون لا تحقق نصوصه هذه الوظيفة أو تخرج عليها يفقد مبررات وجوده ومسوغات مشروعيته، ويعد باطلا لا يطاع ولا يحترم ويجب نبذه وعدم تطبيقه[5].
تختلف القوانين باختلاف الأمم والشعوب لأن القانون مرآة صادقة لماضيها وحاضرها فهو يعبر عن نشأتها وتطورها وأخلاقها وتقاليدها وآدابها ونظمها ودينها ومعتقداها، فقانون أي أمة أو شعب يتضمن القيم العليا السائدة في الأمم والشعوب، لذلك وجدنا القوانين تسمي بأسم الأمم والشعوب، فهناك القانون الأمريكي والقانون الفرنسي والقانون المصري والقانون السوري وغيرهم.
وإذا ثبت انتساب القانون للأمة ثبتت شرعيته وأهليته لحكمها، وطبقه الناس عن رضي نفس وطيب خاطر، لأن الأمة في هذه الحالة أنما تحكم نفسها بنفسها، وتخضع لما تدين به من عقائد وقيم ومثل عليا، لذلك يحرص المقننون في كافة الأنظمة القانونية الموجودة في العالم علي تعديل القوانين حال تطبيقها علي أمة أخري غير أمتها لتوافق الأمة الأخيرة، لأن إلزام أمة بتطبيق قانون أمة أخري دون مراعاة الفروق بينهما معناه إلزامها التخلي عن عاداتها وتقاليدها وآدابها ومميزاتها ونظمها وشرائعها، بل يصل الأمر إلي مطالبتها بالتخلي عن نظامها الاجتماعي والتفريط في دينها، وهذا ما حدث للدول الإسلامية أبان فترة الاحتلال، مما أخرج هذه القوانين عن أهدافها وغاياتها، وأدت إلي فساد وإفساد هذه المجتمعات.
لسن التشريعات والقوانين أصول وقواعد عامة ومسلمات يجب مراعاتها لأنها أساس النصوص وأصل المواد، حيث تدور وتقوم عليها أغراضه وأهدافه السابق بيانها، ولكن الحكام وأذيالهم وأتباعهم في المجالس التشريعية أفسدوا هذه الأصول وشوهوها، واستبدلوها بأخبث في نفوسهم وبما يحصنهم ويضمن لهم الاستقرار علي كراسيهم حتى الممات.
والقانون يتكون من جسم وروح فلا يمكن أن يحقق أهدافه إلا إذا صيغ في نصوص ومواد تحفظ المعاني القانونية الرفيعة من التحريف والانحراف والنسيان، وهذا هو جسم القانون، وروح القانون تتمثل في سلطان القانون علي الناس وتقاس صلاحية القانون بمدي تقبل الأفراد له وقوة سلطانه عليهم الذي يقوم علي عنصرين، عنصر روحي خالص(نفسي)، وهو الصلة بين القانون وقلوب الأفراد ونفوسهم، وتكمن في رضاء الأفراد وقابليتهم لتطبيق واحترام القانون، ولا يتحقق ذلك إلا إذا قامت نصوص القانون علي عقائد تؤمن بها الأفراد أو دين يتبعونه أو مبادئ وتقاليد وقيم يحرصون علي احترامها، وعنصر الإلزام وهو الجزاء الذي يرتبه القانون علي مخالفته كالعقوبة والتعويض والرد والفسخ والبطلان وغيرهم[6].
إن القوانين الوضعية كانت قبل الثورة الفرنسية مزيجا من القواعد الآمرة والناهية الموروثة عن الرومان وغيرهم إضافة إلي بعض المبادئ الأخلاقية والعادات والتقاليد والسوابق القضائية ثم بعض القواعد الدينية التي تختلف باختلاف الدين والمذاهب، وبعد الثورة الفرنسية ورفع شعار (اشنقوا أخر ملك بأمعاء أخر قسيس) تم تجريد القوانين الوضعية من كل ماله علاقة بالدين والعقائد والأخلاق والفضائل الإنسانية، وأصبحت هذه القوانين تنظم علاقات الأفراد المادية وشئون الأمن ونظام الحكم، وذلك تحت زعم تحقيق وتطبيق الحرية والمساواة والإخاء بين الأفراد، ولكن أدي ذلك إلي فساد الأخلاق وانتشرت الفوضى مما أشاع روح التمرد والاستهانة بالقانون وكثرت الثورات وتعددت الانقلابات، وغاب الاطمئنان وأنعدم الأمن.
ولكن الشريعة الإسلامية حلت تلك المشكلة ببساطة ومنطق حيث ساوت بين الأفراد فيما هم متساوون فيه وخالفت بينهم فيما هم مختلفون فيه.
ظلت الشريعة الإسلامية تحكم المجتمعات الإسلامية في الدول العربية والإسلامية منذ أن دخلها الإسلام إلي أن ابتليت بالاستعمار(الأستخراب) الغربي الصليبي، والغريب في الأمر أنهم أطلقوا علي الاحتلال الغربي للدول العربية والإسلامية (استعمارا) زورا وبهتانا، لأن أي كلمة تدخل عليها في اللغة العربية حروف(أست/أ/س/ت) يكون معناها طلب الشيء الذي دخلت عليه مثل(استعلام) أي طلب العلم بشيء، ومصطلح (استعمار) مفادها طلب العمران، فهل كان الاحتلال الغربي الصليبي للدول العربية والإسلامية طلبا للعمران؟ .
لذلك يجب بداية بيان معاني ومفاهيم مضمون المصطلحات التي نستعملها، وتحريرها من الغزو الثقافي الغربي، وتعرية المصطلحات الغربية وبيان مفاهيمها ومضمونها، وعدم استعمالها واستعمال المصطلحات والمفاهيم الإسلامية في كافة العلوم حتى يتم أسلمة العلوم والثقافة والآداب بل والحياة حتى يعود الإسلام ليحكم كافة تصرفاتنا وتحركاتنا.
لذلك نحن نري أن الاحتلال الغربي الصليبي للدول العربية والإسلامية كان استخرابا وليس استعمارا.
أذن فقد دخلت القوانين الوضعية الدول العربية والإسلامية مع هذا الاستخراب الغربي الصليبي، وتمت تنحية وعزل الإسلام ليس كدين فقط بل أيضا كهوية وتشريع ومنهاج حياة وقانون وتم عزلة عن منصة الحكم والتشريع والقضاء، في الدول العربية والإسلامية، واستبداله بالقوانين الوضعية تحت زعم الأخذ بأسباب المدنية الأوربية والتقدم الأوربي والمدنية الحديثة، كأنما التقدم الأوربي والمدنية الحديثة مرجعة وسببه هذه القوانين الوضعية، رغم تفاهة تلك الحجة الفارغة فقد وجدت عقولا مهزوزه ومهزومة فكريا صدقتها بل آمنت بها وقاتلت من أجل نشرها وتلقينها للنشء في كافة مراحل التعليم.
أن هذه القوانين الوضعية المستوردة والمفروضة هي قوانين الدولة الرومانية عليها مسحة من النصرانية وأن هذه القوانين لم تمنع أبناء الإسلام الأوائل – الذين طبقوا الإسلام منهج حياة وتشريع وقضاء - من ليس هزيمة الدولة الرومانية فقط بل هدمها وانتهت الإمبراطورية الرومانية من علي الوجود في أعوام قليلة ولم تمنع هذه القوانين هذه الإمبراطورية من الهزيمة ولا من الانهيار، كما أن هذه القوانين لم تمنع الهزيمة المنكرة الدول الأوربية في الحروب الصليبية.
أن تأخر المسلمين ليس راجعا للتشريع والقوانين الإسلامية فالشريعة الإسلامية أفضل وأسمى من أي قانون وضعي وقد شهد بذلك كبار من علماء القانون في العالم الغربي، أنما يرجع تأخرهم لترك تعاليم الإسلام، فتركيا مع الإسلام خلافة عظيمة ودولة كبري تهابها كل الدول الغربية فقد لقنت أوربا دروسا عظيمة وهزيمتها هزائم منكرة، وتركيا الآن دولة تستجدي الدخول في الاتحاد الأوربي، ولو كانت هذه الفرية صادقة لكانت الدول العربية والإسلامية قد بلغت حاليا درجة كبيرة في التقدم والرقي وكانت تنافس أوربا حاليا في النهضة والتقدم العلمي ولكن العكس هو الذي حدث حيث أصبحت من دول العالم الثالث النامي.
يردد البعض بأن الشريعة الإسلامية (لا تصلح للعصر الحاضر) وهم فريقان الأول لم يدرس القانون ولا الشريعة الإسلامية والثاني درس القانون دون الشريعة الإسلامية، وكلا الفريقين ليس أهلا للحكم علي الشريعة الإسلامية لجهله بأحكامها ومن جهل شيئا عاداه، ويكون عدوا له وبالتالي لا يصلح للحكم عليه لسببين الجهل والعداوة، وهم يبنون رأيهم الخاطئ علي قياس خطأ وليس علي دراسة علمية منظمة، لاعتقادهم أن القوانين الوضعية حاليا لا تمت بصلة إلي القوانين القديمة التي كانت مطبقة حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وأن القوانين الوضعية الحديثة قائمة علي نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم تكن موجودة في القوانين القديمة، وبالتالي فهم لا تصلح للعصر الحاضر لفقدانها الأسس التي تقوم عليها القوانين الحديثة، ويبنون علي ذلك استنتاج خاطئ باعتبار الشريعة الإسلامية من قوانين الماضي التي تفتقد الأسس والنظريات والفلسفيات، فهذا القياس فاسد وخاطئ لأنه قياس بين مختلفين من عدة أوجه من حيث المصدر فالشريعة الإسلامية مصدرها الله – سبحانه وتعالي- خالق الخلق، الذي لا يعتريه النقص والنسيان، بخلاف البشر الذين فطروا علي النقص والطغيان والنسيان، ومن حيث الطبيعة فالشريعة الإسلامية إلهية المصدر أي عبادة وتشريع وحياة، فلا يجوز ولا يصح قياس ومقارنة الناس برب الناس، فالخلافات جوهرية وعميقة، فلا تصح المقارنة ولا القياس فالمقارنة فاسدة والقياس باطل.
أن النشأة الأولي للقوانين الوضعية بدأت مع تكوين الأسرة والقبيلة فكلمة رب الأسرة كانت قانون وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون، وظل القانون يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، ومع اختلاف عادات الأسر فيما بينها وتقاليد القبيلة مع غيرها من القبائل الأخرى، فقد عمدت الدولة علي توحيد العادات والتقاليد وجعلت منها قانونا ملزما لكافة الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاقها، ولذلك كانت لكل دولة قانون يختلف عن غيرها من الدول، وفي القرن الثامن عشر تطورت القوانين علي هدي النظريات الفلسفية والعلمية والاجتماعية أصحبت قائمة علي تلك النظريات التي أسست علي العدالة والمساواة والرحمة والإنسانية، ونتج عن ذلك وجود قوانين متشابهة في عدة دول ولكن بقي لكل دولة قانونها المختلف عن غيرها من القوانين.
أما الشريعة الإسلامية فهي تختلف من حيث النشأة مع القوانين الوضعية فلم تكن قواعد قليلة ثم نمت وتطورت ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت ولا نظريات أولية وتهذبت، ولم تتطور الشريعة الإسلامية مع تطور الجماعة البشرية، أنما نشأت وولدت شابة كاملة مكتملة شاملة من عند رب العالمين –سبحانه وتعالي- فهي كاملة بكماله وخالدة بخلوده،
فهي صالحة لكل زمان ومكان علي مر العصور وكر الدهور للأفراد والجماعات والدول، فقد جاءت الشريعة الإسلامية من يوم مولدها بأحدث وأكمل النظريات التي منها ما وصلت إليه القوانين الوضعية أخيرا ومنها ما لم تصل إليه القوانين الوضعية حتى الآن، مما يعني عدم وجود مقارنة أو مماثلة أو قياس فالاختلافات أسياسية وجوهرية بين الشريعة الإسلامية وبين القوانين الوضعية[7].

الاختلافات الأساسية بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية من عدة وجوه:
1 – الشريعة الإسلامية من عند الله – سبحانه وتعالي - والقوانين الوضعية من صنع البشر، ولا يصح ولا يجب ولا يعقل أن نعقد مقارنة بين الخالق – سبحانه وتعالي - وبين المخلوق، وحيث أن الأفعال والتصرفات تأخذ صفات المصدر فأن الشريعة الإسلامية تكون كاملة مكتملة خالدة صالحة لكل زمان ومكان علي مر الدهور وكر العصور، فهي كاملة بكماله – سبحانه وتعالي – خالدة بخلوده، أما القوانين الوضعية فهي تحمل صفات البشر وطبائعهم فهي ناقصة منقوصة بنقص الإنسان مؤقتة بحياته وظروفه ومحددة بقصر نظره وعصره.
2 - القوانين الوضعية مؤقتة وضعت لمرحلة معينة وظروف معينة ومع تغير الظروف والعلاقات بين الجماعات البشرية، فالحياة متغيرة متطورة بينما القوانين الوضعية المفروض فيها الثبات، ولذلك فهي ثابتة تحكم متغير وبالتالي فهي لا تساير التطورات والتغيرات في المجتمعات وبالتالي فهي مشوبة بالنقصان وغير مكتملة الأركان، بينما الشريعة الإسلامية وضعها خالق الزمان والمكان، الذي بيده مجريات الأحداث والواقع والوقائع، فهي لذلك تساير التغييرات والتطورات التي تحدث في المجتمعات البشرية كما أنها تستوعب المستجدات المستقبلية التي يمكن أن تحدث في المجتمعات البشرية.
2 - نصوص الشريعة الإسلامية تتصف بالمرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة علي مر الدهور وكر العصور، وتستوعب التغييرات والتطور، كما أن قواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث أنها لا يمكن أن تتأخر في أي مكان أو زمان أو تنخفض عن مستوي الجماعة البشرية.
3 – أن الشريعة وضعت لتنظيم وتوجيه البشر لذلك فهي دين وقانون، فالجماعة البشرية خاضعة للشريعة الإسلامية، بينما القوانين الوضعية وضعت لتنظيم الجماعة لذلك فالقانون الوضعي تابع للجماعة وخاضع لها ولتطوراتها.
4 – الجزاء في الشريعة الإسلامية في الدنيا والآخرة، بينما الجزاء في القوانين الوضعية دنيوي فقط، إن الشريعة الإسلامية تتصل قوانينها بقانون السلوك الإنساني العام، وأحكامها تتفق مع قانون الأخلاق والفضيلة، وعقابها دنيوي وأخروي فالأفعال الظاهرة يعاقب عليها بعقوبة دنيوية والأفعال غير الظاهرة يكون عقابها أخروي أمام الله سبحانه وتعالي، لذلك اتصلت الشريعة الإسلامية بالضمير الإنساني والوجدان، واتصال الحكم الدنيوي بالضمير الديني يشعر الإنسان أنه في رقابة مستمرة، من ربه سبحانه وتعالي، وذلك يعد أهم مانع نفسي وروحي من الجرائم، مما جعل مرتكب الجريمة سرا يذهب إلي الرسول صلي الله عليه وسلم ويطلب منه أن ينفذ عليه العقوبة ويقيم عليه الحد بوازع من ضميره وحسه الإيماني الذي خلقه ونماه فيه الخالق سبحلنه وتعالي[8] بخلاف القوانين الوضعية فإن المجرم إذا لم يكتشفه أحد أفلت من العقاب وأزداد ضراوة وإذا دخل السجن مدة طويلة أو قصيرة فأنه يزداد خبرة في الإجرام، فالعقوبات في القوانين الوضعية غير مانعة للجريمة.
فالعقوبات في الشريعة الإسلامية تعمل علي منع الجريمة بثلاث طرق هي:
1 - التهذيب النفسي وتربية الضمير، فقد هذب الإسلام النفس الإنسانية بالعبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج لبيت الله الحرام، مما يجعل العبد المسلم أليف مؤتلف يري نفسه من ومع وإلي الجماعة التي يعيش في وسطها وكنفها وبالتالي فهو يعمل لصالحها وعلي حمايتها حتى من نفسه.
2 – تكوين رأي عام فاضل عماده وأساسه الأخلاق الفاضلة الكريمة لذلك دعت الشريعة الإسلامية إلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسود بذلك خلق الحياء في المجتمع الإسلامي والحياء إحساس قوي بالقيود النفسية التي تجعل الجماعة وما يرضيها مكانا في النفس الإنسانية مما يجعل الشخص يحس بسلطان الرأي العام علي نفسه، ولذلك حث الإسلام علي الحياء ودعا إليه النبي صلي الله عليه وسلم وأكثر من الدعوة إليه.
3 – العقوبات الزاجرة والمانعة الرادعة فالعقوبة رادعة للمجرم زاجرة لغيرة، فالغاية من العقوبة في الشريعة الإسلامية أمران حماية الفضيلة وحماية المجتمع من أن تتحكم فيه الرزيلة والثاني المنفعة العامة ومصلحة الناس، فالفضيلة والمصلحة وإن كانا يبدو بينهما خلاف إلا أنه ظاهري بل هما متلازمان فلا فضيلة بدون مصلحة ولا مصلحة بدون فضيلة، بل أن كثير من علماء الأخلاق يعتبرون مقياس الفضيلة أو الخير هو المصلحة الحقيقية بدون هوي.
4 – العقوبة شفاء لغيظ المجني عليه وليست للانتقام فشفاء غيظ المجني عليه وعلاجه له أثره في تهدئة نفس المجني عليه فلا يفكر في الانتقام ولا يسرف في الاعتداء وبالتالي تنتشر الجريمة وتتفشي في المجتمع، بالإضافة إلي الحفاظ علي الكليات الخمس السابق بيانها، ويعتبر ما سلف خير مانع للجريمة.
فالشريعة الإسلامية تتميز عن القوانين الوضعية بالكمال والسمو والمرونة والدوام والثبات والاستقرار، ويرجع ذلك إلي أنها منزلة من عن الله – سبحانه وتعالي- الذي يتصف بالكمال والسمو والقدرة والدوام.

ثانيا: القصاص
ومن أهم السمات التي يتميز بها الشرع الإسلامي الحنيف عن القوانين الوضعية القصاص كعقوبة للجرائم، والقصاص في الشريعة الإسلامية ثابت وأصيل وله سنده في القرآن والسنة والإجماع، وهو جوهر نظرية العقوبة في الشريعة الإسلامية وسوف نوضحه من حيث المفهوم والمضمون والأنواع والأحكام والنطاق.
1 - تعريف القصاص
تعددت التعريفات في الفقه الإسلامي للقصاص فلا يوجد فقيه أو مذهب في الفقه الإسلامي إلا وتعرض للقصاص بالبحث والدراسة والتفصيل من بدايته إلي نهايته، ورغم ذلك فأنها متفقه في المضمون وإن اختلفت في المبني الألفاظ، نورد هنا بعض منها، وللقصاص تعريف لغوي وتعريف شرعي (مصطلح).
- التعريف اللغوي للقصاص:
القصاص لغة: المساواة علي الإطلاق ومعناه أيضا التتبع ومنه قصص السابقين بمعني أخبارهم[9]، (والقصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو إتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، والأخبار، وقص الشعر أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها، ومشي علي سبيله فيها، ومن ذلك قوله تعالي(فارتدا علي آثارهما قصصا)([10]) وقيل القص القطع، يقال قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه، أو يقتله به، ويقال أفص الحاكم فلانا من فلان، وأباده به فأمتثل منه أي اقتص منه)[11].

- المعني الشرعي أو الاصطلاحي:
والمقصود بالقصاص في الشرع (أن يعاقب المجرم بمثل فعله فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح)[12] وهو (عقوبة مقدرة ثبت أصلها بالكتاب، وثبت تفصيلها بالسنة، وهو المساواة بين المساواة بين الجريمة والعقوبة)[13].
ويوجد بين المعني اللغوي والمعني الشرعي تناسب، لأن القصاص يتتبع فيه الجاني، فلا يترك بدون عقاب، ولا يترك المجني عليه من دون أن يشفي غليله والقصاص هو عقوبة الدماء بشكل عام سواء أكانت دماء موضوع الاعتداء فيها النفس أم كان اعتداء موضوعه طرف من الأطراف، أم كان اعتداء موضوعه جرح من الجروح، وضمان المتلفات، أي التعويض بالمثل في الأموال والأسواق، والقصاص موجود في كل العقوبات الإسلامية غير الحدود، وهناك قصاصا قدره الشارع بالنص، وقصاصا آخر لم يحدده الشارع، وترك تحديده لولي الأمر.
2 - أنواع القصاص
وقد قسم الفقهاء القصاص إلي قسمين، قصاص صورة ومعني وقصاص معنوي فقط ، فالأول مفاده أن ينزل بالجاني من العقوبة المادية مثل ما أنزل بالمجني عليه، وهذا النوع هو الواضح والظاهر من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهو الأصل في القصاص، والثاني قصاص المعنوي وهو دية ما أتلف بالجناية وأرش الجناية، وهو عبارة عن العقوبة المالية علي الاعتداء علي الجسم بالجرح والشج، وهذا القصاص المعنوي الذي يوجد في حالة عدم تعذر الوصول إلي القصاص الأصلي لأنه غير ممكن في ذاته كجرح لا يمكن المماثلة فيه، وفي حالة عدم توافر شروط القصاص الحقيقي، وفي حالة وجود شبهة تدرأ بها العقوبة، أي أنه في حالة سقوط القصاص الأصلي الصورة والمعني وجب القصاص المعنوي.
ومن حيث نوع الجريمة قسم الفقهاء القصاص إلي نوعين هما:
1 - قصاص في النفس، أي قتل النفس، عمدا أو شبهة عمد.
2 - قصاص فيما دون النفس، أي في الأطراف والجروح.
من التعريفات السابقة للقصاص يتبين لنا أن القصاص جزاء وفاق للجريمة فالجريمة اعتداء علي النفس الإنسانية، فمن العدالة أن يؤخذ المجرم بجريمته بمثل فعله، وليس من المعقول أن نفكر بالرحمة بالجاني ولا نفكر في ألم المجني عليه وشفاء غيظه، فالقصاص يحمي حياة الناس لأن القاتل إذا حرم أحد من الحياة فأنه يحرم منها، وبالتالي يحافظ علي حياته، لذلك فالقصاص حياة لأنه يحافظ علي الحياة.

ثالثاً - الأساس الشرعي للقصاص
القصاص ثابت في الشريعة الإسلامية بالنص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية وفعل الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون والصحابة رضوان الله عليهم وإجماع الأمة:
1 – القصاص في القرآن الكريم:
ورد النص علي القصاص في القرآن الكريم في عدة آيات هي:
- في قوله تعالي ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {178} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {179})([14].
- وفي قوله تعالي:(( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ))[15]
- وفي قوله تعالي(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {45}[16].
- وفي قوله تعالي:
( @وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )[17]

- وفي قوله تعالي: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)([18])
2 - القصاص في السنة النبوية الشريفة:
وردت أحاديث في السنة النبوية الشريفة دعت إلي الأخذ بالقصاص وحثت عليه أي في السنة القوليه، وهناك من السنة الفعلية ما أخذ بذلك بالفعل، ومن الأحاديث النبوية ما يلي:
- قال رسول الله صلي الله عليه وسلم( من قتل قتلناه) وقوله صلي الله عليه وسلم (كتاب الله القصاص) وقوله عليه الصلاة والسلام(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بأحدي ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه[19].
- وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم(مَن قتل عبده قتلناه ومَن جدع عبده جدعناه)[20]
- وعن أنس بن مالك رضي أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجريين فسألوها: مَن صنع بك هذا؟ فلان حتى ذكروا يهودياً فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقر فأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجريين[21].
- وعن أنس رضي الله عنه: أن الرُّبَيع بنت النضر عمته كسّرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الإرث فأبوا، فأتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبره)[22].
- وقد روي عن الرسول صلي الله عليه وسلم قال:( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفتدي وإما أن يقتل) وقال أيضا( من أصيب بدم أو خبل فهو بالخيار بين احدي ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يأخذ العقل، وإما أن يعفو، فأن أراد برابعة فخذوا علي يديه).
3 – الإجماع:
وعليه إجماع الأمة والأئمة بلا خلاف، وعليه إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين[23].
رابعاً - حكم القصاص
فرض الإسلام القصاص حتى لا تنتشر الفوضى والاضطرابات في المجتمع، ولإبطال ما كان عليه الجاهليون قبل الإسلام من حروب بين القبائل يموت فيها الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جرم، فجاء الإسلام وبيَّن أن كل إنسان مسئول عما ارتكبه من جرائم، وأن عليه العقوبة وحده، لا يتحملها عنه أحد.
يأخذ القصاص في الشريعة الإسلامية حكم الفرض الثابت فقد جاء في القرآن الكريم(كتب عليكم القصاص) فهو في منزلة الصيام والجهاد من حيث الحكم فقد جاء في القرآن الكريم (كتب عليكم الصيام)(البقرة:183) و(كتب عليكم القتال) البقرة:(216) وقال تعالي في سورة النساء الآية(103)(إن الصلاة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا) أي أنه من الفروض الثابتة.
تتضمن الآية(179) من سورة البقرة(( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) الحكمة من القصاص في معان بلاغية هي:
1 – جعلت فائدة القصاص عامة تشمل المجتمع كله ولم تقصره علي ولي الدم وحده( المجني عليه) بدليل قوله تعالي في بداية الآية(ولكم) فالقصاص ليس انتقاما لفرد ولكن للمحافظة علي حياة الجماعة والمجتمع المسلم كله.
2 – أطلاق لفظ(القصاص)علي العقوبة فيه حكمة أبلغ من العدالة لأن القصاص يتضمن المساواة بين الجريمة والعقوبة، مما يعد معه القصاص مانع قوي وسدا منيعا للجريمة، وبذلك يحيا المجتمع حياة هادئة هانئة مستقرة وتنعدم الجريمة في المجتمع، وهذه غاية لم تصل إليها النظم القانونية الوضعية حتى الآن، فالسياسة العقابية في أي نظام قانوني تهدف للمساواة بين الجريمة والعقوبة.
3 – يتبين من الآية أن حياة الجماعة في القصاص، لأن عدم وجود القصاص يؤدي إلي أهدار الدماء وكثرة القتل في المجتمع، مما يؤدي إلي الفوضى في المجتمع، مما يهدد حياة الجماعة ويهددها بالفناء.
4 – تشير الآية أن الحياة التي تستحق أن يطلق عليها حياة هي الحياة الهادئة المستقرة وهي التي تتحقق بالقصاص، والدليل علي ذلك أن كلمة (حياة) جاءت في الآية نكرة والتنكير هنا للتفخيم والتعظيم.
5 – أن هذه الحكمة البالغة والغاية العظيمة لا تدركها إلا العقول النيرة السليمة التي تعرف جيدا مصلحة الجماعة، فالخطاب في الآية الكريمة لأولي الألباب فقال تعالي(يا أولي الألباب) وهم أصحاب العقول التي خلصت وبرأت من الأهواء والشهوات.
6 – تعتبر هذه الآية ردا بليغا علي دعاة إلغاء عقوبة الإعدام، وتعضدها وتساندها وتؤكدها الآية(32) من سورة المائدة، لأن إلغاء هذه العقوبة يعني كثرة القتل في المجتمع وانتشار الفوضى مما يأتي إلي انهيار هذه المجتمعات، فلا خوف من الحرمان من الحياة وبذلك تنتشر الجرائم الخطيرة التي تهدد كيان المجتمع كله.
ننتقل إلي الآية(32) من سورة المائدة :(( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ))
هذه الآية نزلت في حادثة قتل قابيل علي يد أخيه هابيل أبني آدم، والعلاقة بينها وبين القصاص بيان الداء والعلاج معا فالداء هنا في حادثة القتل الحقد والحسد وفقد العواطف الإنسانية النبيلة عند القتل، مما يعني أن القاتل قطع كل الروابط التي تربطه بالجماعة بإقدامه علي القتل، مما يجعله عنصر تدمير وفساد في المجتمع، لذلك ينبغي أن يكون الدواء من جنس الداء عن طريق إبعاده عن المجتمع وحرمانه الحياة كما حرم المقتول من الحياة، لذلك يجب بتره من المجتمع.
والآية الكريمة تبين أن الاعتداء علي النفس هو الجريمة بدون تفضيل في الأنفس سواء أكانت نفس طفل أو رجل أو امرأة، كما لا يهم اللون أو المكانة أو الوظيفة أو الحسب والنسب، فمناط الحماية في الآية الكريمة هي النفس الإنسانية ذاتها، مما يدل علي أن الشريعة الإسلامية تحمي النفس الإنسانية ولا تهدرها بدون حق أو سبب، وتأكيدا علي ذلك جعلت الآية قتل نفس واحدة مساوية لقتل الناس جميعا فقال تعالي:( الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) التشبيه هنا يدل علي اهتمام الإسلام بالنفس الإنسانية وعظم جريمة القتل، فحق الحياة مقدس وهو حق ثابت لكل فرد في المجتمع بقدر متساوي، لذلك عدت الآية قتل نفس بمثابة قتل كل الأنفس وتعادل قتل الناس جميعا لأنه تعدي علي الإنسانية كلها.
وتأكيدا علي أن القصاص حياة قال تعالي في هذه الآية(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) ويدل ذلك علي أن القصاص من القاتل يعني إحياء للحياة المجني عليه باحترام دمه وعدم ضياعه هدرا، وبالتالي تتحصن حياة كل نفس في المجتمع وتحمي وتحيى، لأن القصاص فيه ردعا عام للمجتمع فمن عرف أنه إذا قتل سوف يقتل فأنه يحفظ ويحافظ علي حياته وحياة غيره، وقد أشارت هذه الآية إلي الغاية الحقيقية من القصاص وهي المحافظة علي حياة الأفراد في المجتمع، هذا بشأن القصاص في القتل.
ولكن القصاص يوجد أيضا في الأطراف وليس في القتل وحده، وبينت ذلك ونصت عليه الآية(45) من سورة المائدة فقال تعالي((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
وقد أجمع فقهاء الإسلام من عهد الصحابة إلي عصر الأئمة المجتهدين وبإجماع الأمة علي أن القصاص فرض فيما دون النفس ومكتوب إذا أمكن، بدليل النص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لأن ما دون النفس(الأطراف) يجب المحافظة عليه والقصاص يحافظ عليه، والقصاص يجب في كل الأطراف وليس في الأطراف المذكورة صراحة في الآية(45) السالفة، بدليل قوله تعالي(وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
وقد أخذ بعض القانونيين علي القصاص فيما دون النفس بعض الانتقادات هي:
1 – يؤدي الأخذ به إلي كثرة المشوهين في المجتمع، مما يعيق العمل وينقص من القدرة البشرية في المجتمع.
2 – أنه ليس عقابا بل انتقاما، وغاية القوانين الإصلاح وليس الانتقام.
3 – لا يندر المساواة في قطع الأطراف، حيث يمكن قطع اليد القوية باليد الضعيفة.
هذه الانتقادات غير صحيحة بل هي مغرضة لما يأتي:
1 - أن القصاص في الأطراف لا يكثر المشوهين في المجتمع بل العكس هو الذي يحدث، لأن الإنسان إذا عرف أنه إذا أقدم علي قطع يد أخر فأن يده ستقطع، فأنه لن يقدم علي هذا الفعل، مما يتحقق معه منع الجريمة وليس زيادتها كما يدعي هؤلاء.
2- أن القصاص في الأطراف ليس انتقاما لأن الانتقام ليس فيه مساواة بين الجريمة والعقوبة بل مساواة حقيقية بينهما كما أن الانتقام يكون من المجني عليه وليس من ولي الأمر(الحاكم أو من ينوب عنه)، والقصاص يقوم به ولي الأمر وليس المجني عليه.
3 – مناط الحماية في القصاص فيما دون النفس أي في الأطراف والجروح هي سلامة الأعضاء وليس التساوي في القوي الطبيعة، أي قوتها، فقد تكون يد ضعيفة في نظر الناس ولكنها في نظر صاحبها قوية تؤدي دورها في حياته كاملة كما هو الحال مع الأقوياء الأصحاء، لأن أساس القصاص المساواة في الأنفس البشرية لأن الناس متساوية أمام التشريع الإسلامي.
وعلي ذلك لا يجب ولا يصح أن يكون هناك تفاوت بين الناس في القصاص، وقد أكد ذلك قول الرسول صلي الله عليه وسلم(المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) فالمساواة في القصاص تكون في الأنفس والأعضاء والدماء، فلا تفرقة بين الناس في الأوصاف سواء كانت أوصافا ذاتية فلا فرق بين لون ولون[24] فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم(كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي علي أعجمي ولا أبيض علي أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح) وقال أيضا (الناس سواسية كأسنان المشط).
يلاحظ عند القصاص في الأطراف تحقيق المماثلة وعدم الاعتداء أو النقص في أمور ثلاثة هي:
1 – التقابل بين الأعضاء فالأعضاء المتقابلة تقطع، فاليد اليمني باليد اليمني والصحيحة بالصحيحة فلا تقطع الصحيحة بالمريضة وهكذا.
2 – الأ تؤدي المقابلة إلي زيادة أو نقص، بمعني أن يكون التماثل ممكنا لا يزيد عن الجريمة، فإن كان التماثل غير ممكن فلا يوجد القصاص، التماثل في الوصف والتماثل في فقد المنافع.
3 – أن تكون المنفعة التي فقدت تقابل المنفعة التي تزول بالقصاص.
4 - لا يقام القصاص إلا بعد أن يشفي المجني عليه، فإن شفي وعاد لهيئته ولم يحدث نقصان فليس فيه قصاص، فإن كان هناك نقصان أقيم القصاص بحسب ما قطع.

خامساً- القصاص في غير القتل والقطع والجروح
يُشرع القصاص في اللطمة والضربة والسبة وغير ذلك بشرط المساواة، ويشترط في القصاص في اللطمة والضربة ألا تقع في العين، أو في أي عضو من الممكن أن يتلف نتيجة هذه الضربة.

القصاص في السب: ويشترط في القصاص في السب ألا يكون السب بما هو محرم، فليس للإنسان أن يلعن من لعن أباه، ولا أن يسب من سب أمه وهكذا، وليس له أن يكذب على من يكذب عليه، ولا أن يُكَفِّر من كفَّره.
القصاص في إتلاف المال: فمن أتلف مال غيره، كأن هدم له داره أو غير ذلك، يقتص منه بأن يهدم داره وهكذا، وقال بعض الفقهاء: إن هذا القصاص غير جائز، وإن على المعتدى أن يدفع مثل ما أفسده أو قيمته.
القصاص يكون في العدوان المقصود(العمد)، فالقصاص جزاء الاعتداء، ولا يتحقق العدوان المقصود في القصاص إلا بهذه الأمور الأربعة:
1 – أن يكون المتهم ممن يتحمل مسئولية أفعاله، أي يجب أن يكون كامل الأهلية، وليس مصاب بعاهة أو آفة في عقلة، وأن يكون حر الإرادة وليس مكره لأن الإكراه يفسد الإرادة.
2 – ألا يكون الفعل بحق، كأن يكون القتل دفاعا عن النفس أو المال أو العرض، أو يكون المال المسروق ملك السارق، أن يكون للفاعل حق فيما أقدم عليه قررته الشريعة الإسلامية وحمته من العدوان عليه، أو يكون فيه شبهة الحق، وشبهة الحق تثبت في أربعة أحوال: شبهة الملك وشبهة الجزئية وشبة الزوجية وشبهة رضا المجني عليه بالجريمة.
3 – وجود علاقة السببية بين الفعل والنتيجة، وتتحقق السببية بثلاثة أمور هم:
( أ ) فعل ترتب عليه جريمة.
(ب) وجود صلة بين الفعل والنتيجة الإجرامية.
(ج) قصد أحداث النتيجة الإجرامية التي حدثت.
4 – أن يتحقق القصد الذي أدي إلي وقوع الجريمة، ويكون ذلك بتعمد أحداثها وقصدها وإرادة حرة مختارة وعلم بالنهي عنها، ففي القتل تزهق الروح أي بالموت.

سادساً - موانع القصاص في القتل
توجد موانع للقصاص في القتل وهي علي تعددها مختلف فيها بين الأئمة المجتهدين، وتتمثل هذه الموانع فيما يأتي:
1 – أن يكون القتيل جزءا من القاتل: يري ذلك كل من أبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويكون القتيل جزءا من القاتل إذا كان ولده، فلا يقتص من الأب بالقتل لقول الرسول صلي الله عليه وسلم( لا يقاد الوالد بولده) وقوله (أنت مالك لأبيك) والحديث الأول صريح في منع القصاص أما الثاني ففيه شبهة تدرأ القصاص وطبقا لقاعدة(درء الحدود بالشبهات) الثابتة في الشريعة الإسلامية، أما الولد فيقتص منه في والده فإذا قتل ولد والده يقتل، حكم الأم كالأب[25]، ويخالف الإمام مالك الفقهاء الثلاثة ويقول بالقصاص هنا كلما انتفت الشبهات[26].
2 – عدم التكافؤ بين المجني عليه والجاني: يشترط مالك والشافعي وأحمد أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني، فإذا لم يكن كذلك أمتنع القصاص، ويشترط التكافؤ في المجني عليه لا في الجاني، ويعتبر المجني عليه مكافئا للجاني إذا تساويا في الحرية والإسلام، فلا عبرة بعد ذلك فيما بينهما من فروق أخري، فلا يشترط التساوي في كمال الذات ولا سلامة الأعضاء ولا يشترط التساوي في الشرف والفضائل[27] ولكن أبا حنيفة يخالفهم في ذلك ويري القصاص بين الأحرار والعبيد[28].
3 – الأمر بالقتل: يفرق الفقهاء بين الأمر بالقتل والإكراه، ويأخذون بمنع القصاص في القتل في حالة الإكراه، واختلفوا في حالة الأمر بالقتل، حيث يري مالك والشافعي وأحمد القصاص في الآمر لأنه هو المتسبب في القتل وأن كان المأمور هو الذي قتل ولكنه هنا بمثابة آلة القتل وليس القاتل، ولا يري أبو حنيفة القصاص من الآمر لأنه تسبب في القتل ولم يباشره[29].
4 – الإكراه علي القتل: الإكراه يفسد الإرادة، حيث يري مالك وأحمد والرأي الصحيح عند الشافعية القصاص علي المكره والمكره لأن الحامل المكره تسبب في القتل، ولأن المباشر المكره قتل المجني عليه ظلما [30]، ولكن عند أبي حنيفة ومحمد أن القصاص يجب علي الحامل دون المباشر لقوله صلي الله عليه وسلم ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه)[31].
5 - أن تكون الأداة التي استعملت في القتل مما يقتل به غالبًا: ويدخل في ذلك الإغراق في الماء والخنق والحبس والإلقاء من شاهق والإحراق بالنار، والقتل بالسم، فقد وضعت يهودية السم لرسول (في شاة، فأكل منها لقمة ثم لفظها، وأكل معه بشر بن البراء، فعفا عنها النبي ولم يعاقبها، فلما مات بشر بن البراء قتلها به[32].
ولا يقتل القاتل إلا بعد أن يؤخذ رأى أهل القتيل فيه، فإن طلبوا قتله قتل وكان القتل كفارة له، وإن عفوا عنه عفي عنه. وأخذت منه الدية وهى تقدر بحوالى (4250) جرامًا من الذهب تقريبًا، وعليه الكفارة وهى عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فعليه صوم شهرين متتابعين، قال تعالى((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فأتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدي بعد ذلك فله عذاب أليم))[33].
سابعاً - ما يثبت به القصاص وشروطه
يثبت القصاص باعتراف القاتل، أو بشهادة رجلين يعرف عنهما الصلاح والتقوى وعدم الكذب؛ يشهدان أنهما قد رأيا أو شاهدا القاتل وهو يقتل، ولا تصح شهادة المرأة في القصاص، فلا يشهد على القتل رجل وامرأة أو رجل وامرأتان، وإنما لا بد من أن يكون الشاهدان رجلين، وهذا رأى جمهور الفقهاء، لكن يرى بعض الفقهاء أنه يصح الأخذ بشهادة المرأة في القصاص، فإن ثبت القتل بالشهادة وجب حد القصاص على القاتل، فإن عفا عنه أولياء القتيل أو بعضهم؛ لا يقام عليه الحد، وعليه دفع الدية.
بناء علي ذلك لا يثبت القصاص في القتل إلا بتوافر الشروط التالية:
لا يثبت الحق لأولياء المقتول في القصاص من القاتل إلاّ إذا تمّت الشروط التالية:
الأول: أن يكون القتل بنحو العمد.
الثاني: التساوي في الحرية و العبودية، فيقتل الحر بالحر و العبد بالعبد و لا يقتل الحر بالعبد، بل يغرم قيمته يوم قتله مع تعزيره بالضرب الشديد.
الثالث: التساوي في الدين، فلا يقتل المسلم بالكافر ـ و إن لزم تعزيره فيما إذا لم‏يكن القتل جائزاً ـ بل يغرم ديته لو كان ذمياً.
الرابع: أن لا يكون القاتل أباً للمقتول، فلا يقتل الأب بقتله لابنه، بل يعزر و يلزم بالدية.
الخامس: أن يكون القاتل بالغاً عاقلاً وإلاّ فلا يقتل و تلزم العاقلة بالدية.
السادس: أن يكون المقتول محقون الدم، فلا قصاص في القتل السائغ، كقتل سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد الأئمة عليهم ‏السلام أو قتل المهاجم دفاعاً و ما شاكل ذلك.
ثامناً - كيفية تنفيذ القصاص
يقتل القاتل بالطريقة التي قتل بها عند بعض الفقهاء؛ لقوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}[34] وقال بعض الفقهاء: بل يكون القصاص بالسيف.
ما لا يقام فيه قصاص وتحل الدية محله: تتمثل هذه الحالات في الآتي:
1- قطع عضو أحد الناس خطأ دون تعمد.
2- الجروح التي يستحيل فيها التماثل.
3- الجروح التي تقع بالرأس والوجه؛ وهى ما يسمى بـ (الشجاج) إلا إذا كشف الجرح عن العظم فعندئذ يقام القصاص.
4- اللسان وكسر العظم، فلا قصاص فيهما لأنه لا يمكن الاستيفاء أو التماثل بغير ظلم.
تاسعاً - من يُنفِّذ القصاص
القصاص لا يحق لأحد إقامته إلا الحاكم أو من ينوب عنه. فلا يحل لولى القتيل أن يقتل القاتل حتى لا تنتشر الفوضى.
وقد ورد في القرطبي(اِتَّفَقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصّ مِنْ أَحَد حَقّه دُون السُّلْطَان , وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَقْتَصّ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض , وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِسُلْطَانٍ أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَان لِذَلِكَ, وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّه السُّلْطَان لِيَقْبِض أَيْدِي النَّاس بَعْضهمْ عَنْ بَعْض .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ عَلَى السُّلْطَان أَنْ يَقْتَصّ مِنْ نَفْسه إِنْ تَعَدَّى عَلَى أَحَد مِنْ رَعِيَّته , إِذْ هُوَ وَاحِد مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا لَهُ مَزِيَّة النَّظَر لَهُمْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيل , وَذَلِكَ لَا يَمْنَع الْقِصَاص , وَلَيْسَ بَيْنهمْ وَبَيْن الْعَامَّة فَرْق فِي أَحْكَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْره : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص فِي الْقَتْلَى " , وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلًا قَطَعَ يَده : لَئِنْ كُنْت صَادِقًا لَأ ُقيدَنك مِنْهُ , وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : بَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِم شَيْئًا إِذْ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُل , فَطَعَنَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ , فَصَاحَ الرَّجُل , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَعَالَ فَاسْتَقِدْ ) قَالَ : بَلْ عَفَوْت يَا رَسُول اللَّه , وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَبِي فِرَاس قَالَ : خَطَبَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ : أَلَا مَنْ ظَلَمَهُ أَمِيره فَلْيَرْفَعْ ذَلِكَ إِلَيَّ أُقِيدهُ مِنْهُ , فَقَامَ عَمْرو بْن الْعَاص فَقَالَ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , لَئِنْ أَدَّبَ رَجُل مِنَّا رَجُلًا مِنْ أَهْل رَعِيَّته لَتَقُصَّنهُ مِنْهُ ؟ قَالَ : كَيْف لَا أَقُصّهُ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصّ مِنْ نَفْسه , وَلَفْظ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيّ عَنْهُ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ : إِنِّي لَمْ أَبْعَث عُمَّالِي لِيَضْرِبُوا أَبْشَاركُمْ وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالكُمْ , فَمَنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ أَقُصّهُ مِنْهُ , وَذَكَرَ الْحَدِيث بِمَعْنَاهُ) .
عاشراً - استيفاء القصاص
يشترط لاستيفاء القصاص في ثلاثة شروط هي:
1- أن يكون المستحق له عاقلا بالغًا.
2- أن يتفق أولياء المقتول جميعًا على استيفاء القصاص، فإذا رفض أحدهم سقط القصاص.
3- ألا يتعدى القصاص الجاني إلى غيره، فلا يقتص من حامل حتى تضع حملها، وترضعه إن لم تجد مرضعًا.
أحد عشر - الأسباب العامة لامتناع القصاص
توجد عدة أسباب لو توافر سبب منها امتنع الأخذ بالقصاص وهذه الأسباب منها ما سبق شرحه هي[35]:
1 – إذا كان القتيل جزءا من القاتل، وسبق بيان ذلك في القصاص في النفس.
2 – انعدام التكافؤ بين الجاني والمجني عليه، ينظر إلي التكافؤ من ناحية المجني عليه وحده دون الجاني.
3 – أن يكون الفعل الموجب للقصاص حدث خطأ أو شبه عمد.
4 – أن يكون الفعل الموجب للقصاص تسببا.
5 – أن يكون الفعل الموجب للقصاص وقع في دار الحرب وهذا رأ ى الحنفية وحدهم دون باقي الأئمة.
6 – عدم أمكان الاستيفاء.
إذا توافر أي سبب من الأسباب السالفة يمتنع تنفيذ القصاص، ولكن لا تبرأ ذمة الجاني ويطلق سراحه دون عقاب، فهذه الأسباب ليست أسباب إباحة أي تجعل الفعل إذا التحقت به مباحا، ولكن تظل ذمة الجاني مشغولة بالدية لا تبرأ إلا بدفها أما للمجني عليه فيما دون النفس أو لورثة القتيل في النفس.
أثنا عشر – القصاص في القانون الدولي
بعد أن انتهينا من تبيان القصاص في القانون الجنائي الإسلامي، في محيط الدول أي داخل الدول علي مواطنيها، يمكننا تناول القصاص علي الصعيد الدولي، أي هل يمكن إعمال القصاص بين الدول، كما يطبق بين الأشخاص الطبيعية نتناول هنا إمكانية ذلك من عدمه.
الثابت والمستقر عليه في القانون الدولي العام أن أشخاصه هي الدول علي الإجماع والمنظمات الدولية علي اختلاف بين الفقهاء في القانون الدولي، ولكن غالبية الفقه الدولي يعتبر المنظمات الدولية من أشخاص القانون الدولي العام، كما أن غالبية الفقه الدولي حتى تاريخه لا تقر باعتبار الأشخاص الطبيعيين من أشخاص القانون الدولي العام.
من المستقر عليه في نظرية القانون أن كل قانون هو الذي يحدد أشخاصه المخاطبين بأحكامه، والقانون الدولي قد أختار وحدد كما بينا سلفا، كما أن كل قانون يضع قواعده وأحكامه بصورة تتناسب مع أشخاصه، فقواعد وأحكام القانون الدولي العام تناسب الدول والمنظمات الدولية.
ترتيبا علي ما سبق، يبدو منذ الوهلة الأولي استحالة تطبيق القصاص في القانون الدولي العام علي أشخاصه الدول والمنظمات الدولية، ولكن بنظرة متأنية فاحصة، تبدو المسألة في دائرة الممكن وليس في إطار المستحيل، خاصة وأن قواعد المسئولية الدولية في القانون الدولي في تطور مستمر[36] كما أن القانون الدولي ذاته في توسع وتطور مستمر من حيث الفروع، فقد شملت فروعه مجالات كثيرة، وأصبح الآن فرع من فروعه يطلق عليه القانون الجنائي الدولي أو القانون الدولي الجنائي.
وطبقا لطبيعة القانون الدولي العام فأنه يتعذر تطبيق القصاص في النفي بين الدول إلا في حالات نادرة، خاصة في حكام الدول التي تشن حروبا غير عادلة، ولكن يمكن محاكمتهم كما حدث في محاكمات نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية ويقتص منهم، وتصل العقوبة إلي القتل، وقد أقر ذلك النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من يوليو 2002م[37]، فقد نص هذا النظام علي جرائم في المادة (5)وأقرت المادة(25) من هذا النظام اختصاص المحكمة بمحاكمة الأشخاص الطبيعيين الذين يرتكبون الجرائم الدولية المنصوص عليها في المادة الخامسة من النظام.
وبالنظر إلي طبيعة القانون الدولي العام قواعد وأحكام وأشخاص وآليات، قد يتعذر الحكم بالإعدام علي الشخص مرتكب الفعل الموجب للقصاص، لذلك تبقي الدية، وهي ما أخذت به أحكام المسئولية في القانون الدولي المعاصر، تحت مسمي( التعويض المادي)، ويعد هذا التعويض من قبيل الدية، إلا أن الأمر يجب إلا يقتصر في كافة الحالات علي التعويض إلا في حالة استحالة تنفيذ القصاص بالقتل, حتى لا يفلت الجناة من العقاب، خاصة وأن أفعالهم عادة ما يترتب عليها أضرار جسام تطول العديد من الناس، وليكون ذلك رادعا لهم ولغيرهم، كما يتم شفاء غيظ المجني عليهم وهم هنا كثير.

في القانون الدولي العام بعد تطور قواعد وأحكام المسئولية الدولية ونشأة فرع القانون الدولي الجنائي بقواعده وأحكامه فضلا عن انتشار القضاء الجنائي الدولي والقضاء الدولي بعد أنشاء المحكمة الدائمة للعدل الدولي في عهد عصبة الأمم عام1919م، ثم محكمة العدل الدولية في ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م، وأخيرا المحكمة الجنائية الدولية عام 2002م، وإنشاء العديد من المحاكم الخاصة ثم محكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية 1945م ومحاكم نورمبرج ومحاكم مجرمي يوغوسلافيا ورورندا.
وأن نظام المسئولية الدولية في القانون الدولي العام وأن كان لم يأخذ بالقصاص كمصطلح إلا أنه أخذ به كمضمون في التعويض عن الأفعال التي تشكل جرائم دولية في القانون الدولي العام.
وفي النهاية يمكننا القول أن القانون الدولي قد أخذ بنظام القصاص مضمونا بالحكم بالتعويض سواء علي الأشخاص الطبيعيين الذين يرتكبون الجرائم الدولية، أو علي الدول كأشخاص دولية، وكذلك علي المنظمات الدولية، فقد تحكم المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية علي دولة أو منظمة دولية كشخص من أشخاص القانون الدولي بالتعويض عما ارتكبا من أفعال تشكل جرائم دولية سببت ضررا لأحدي الدول أو المنظمات الدولية أو للأشخاص الطبيعيين مواطني الدولة المعتدي عليها.
خاتمة
في صفحات ليست بالقليلة، ولا بالكثيرة، بينا فلسفة التشريع الجنائي الإسلامي، وركزنا بحثنا هذا علي أساس من أسس التشريع الجنائي الإسلامي وهو (القصاص) فقد بيناه من ألفه إلي يائه، من التعريف والأنواع والمضمون والأحكام والحكمة منه والشروط والموانع، فقد بينا مدي الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ).
وانتهينا إلي أن أوجه الإعجاز فيها متعددة فهي تحفظ الحياة وتمنع الجريمة وتبعث في المجتمع الأمن والأمان والطمأنينة، وتجعل الحياة هادئة مستقرة، وفندنا حجج المبطلين الذين لا يريدون أن يتحاكموا إلي الطواغيت دون شرع الله سبحانه وتعالي، ورددنا شبهات ودحضنا مفتريات تثار ضد التشريع الجنائي الإسلامي.
ولم يقتصر الأمر علي القانون الجنائي الوطني، بل تطرقنا إلي القصاص في القانون الدولي العام، وانتهينا إلي وجوده في القانون الدولي العام بعد تطور قواعد وأحكام المسئولية الدولية ونشأة فرع القانون الدولي الجنائي بقواعده وأحكامه فضلا عن انتشار القضاء الجنائي الدولي والقضاء الدولي بعد أنشاء المحكمة الدولية للعدل الدولي في عهد عصبة الأمم ثم محكمة العدل الدولية في ميثاق الأمم المتحدة وأخيرا المحكمة الجنائية الدولية عام 2002م، وإنشاء العديد من المحاكم الخاصة ثم محكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية محاكم نورمبرج ومحاكم مجرمي يوغوسلافيا ورورندا.
وكان مما وصلنا إليه في نهاية الدراسة وجوب الأخذ بتشريع الله سبحانه وتعالي علي كافة الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، خاصة التشريع الجنائي الإسلامي حتى يسود الأمن والأمان ويستقر الأمن والسلم الدوليين.
الدكتور
السيد مصطفي أحمد أبو الخير
[email protected]
0129946225 مصر
[1] - سورة الرعد الآية(6)
1- راجع في ذلك، مجموعة كتيبات الأستاذ/ مصطفي فوزي غزال، أفول شمس الحضارة الغربية، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، 1988م.
2 - الإمام محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، الجزء الأول، الجريمة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص7/9..
[4] - حجة الإسلام الغزالي، المستصفي الجزء الأول، ص287/288. نقلا عن الأمام محمد أبو زهرة، المرجع السابق، 30.
[5] - القاضي الشهيد عبد القادر عودة، الإسلام وأوضاعنا القانونية، دار المختار الإسلامي، ص:21/25.
[6] - القاضي الشهيد عبد القادر عودة، المرجع السابق، ص: 36/37.
[7] - القاضي الشهيد/ عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالشريعة الإسلامية، الجزء الأول، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1986م، ص: 12/17.
[8] - الإمام محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي الجزء الثاني (العقوبة)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص: 14/17.
[9] - الإمام محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، الجزء الثاني، العقوبة، المرجع السابق، ص: 252.
[10] - سورة الكهف الآية:64.
[11] - عبد الرحمن الجزيري، كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة، تحقيق وتعليق وتخريج ودراسة أحمد فريد المزيدي ومحمد فؤاد رشاد، الجزء الخامس، الحدود، كتاب القصاص المكتبة التوفيقية، القاهرة، بدون تاريخ، ص:231.
[12] - القاضي الشهيد عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، الجزء الأول، المرجع السابق، ص:663.
[13] - الأمام محمد أبو زهرة، المرجع السابق، ص:252.
[14] - سورة البقرة الآية: 178/179.
- سورة المائدة الآية: 32.[15]
[16] - سورة المائدة الآية: 45.
- سورة النساء الآية 92. [17]
1 – سورة الإسراء الآية:33.
[19] - رواه البخاري في كتاب الديات(6878)، ورواه مسلم في كتاب القسامة(1676)، وأبو داود في كتاب الحدود(4353) باب الحكم فيمن ارتد(4/124) والترمذي في كتاب الديات(1402) باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحدي ثلاث(4/19)، والنسائي في كتاب تحريم الدم باب الصلب(7/102)، وابن ماجه في الحدود(2534) باب لا يحل دم مسلم إلا بثلاث(2/847) وأحمد في مسنده(1/382)والبيهقي في السنن الكبرى(8/284، 213).
[20] - رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وهو من رواية والنسائي بزيادة (مَن خصي عبده خصيناه) وصحح الحاكم هذه الزيادة.
- متفق عليه وعلي لفظه. [21]
- متفق عليه واللفظ للبخاري. [22]
4 - أنظر الإجماع لابن المنذر، ص:71، والمجموع للنووي(20/267/266)والمغني لابن قدامه(7/635/636)، وبداية المجتهد(2/297/298).
- الإمام محمد أبو زهرة، الجزء الثاني العقوبة، 264/295. [24]
1 - بدائل الصنائع، ص:235، المهذب، الجزء الثاني، ص:186، والمغني، الجزء التاسع، ص:359 وما بعدها.
2- الشرح الكبير للدرير، الجزء الرابع، ص:215، المدونة، الجزء السادس، ص:106/108.
3- مواهب الجليل، الجزء السادس، ص:236، المهذب، الجزء الثاني، ص: 186، المغني لأبن قدامه، الجزء التاسع، ص:348.
4 - بدائع الصنائع، الجزء السابع، ص:235.
1 - الشرح الكبير للدرير، الجزء التاسع، ص:342، والجزء الرابع، ص:218، والمهذب الجزء الثاني، ص:189،
2 - الشرح الكبير للدرير، الجزء الرابع، ص:216، المغني، الجزء التاسع، ص:331، المهذب، الجزء الثاني، ص:189.
- بدائع الصنائع، الجزء الثاني، ص:180.[31]
- متفق عليه.[32]
- سورة البقرة الآية: 178
- سورة النحل الآية:126.[34]
1 - القاضي الشهيد عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالشريعة الإسلامية، الجزء الثاني، المرجع السابق، ص:213/219.
1- الدكتور/ السيد مصطفي أحمد أبو الخير، المبادئ العامة في القانون الدولي المعاصر، دار إيتراك للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2005، فصل المسئولية الدولية ص: 91/139.
2 - الدكتور/ السيد مصطفي أحمد أبو الخير، النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2005م، ص:20و ص: 55.






[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
120017670032365689110.jpg
ما من شيء جاء به الإسلام إلا وأظهرت الأيام صدقه وفائدته للناس جميعاً، ومن التشريع الإسلامي ما جاء في آية عظيمة يقول فيها تبارك وتعالى: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ *ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)[الأحزاب: 3-4]. لقد نزلت هذه الآية لتحرم التبنِّي الذي كان سائداً في الجاهلية، وتؤكد أن ظاهرة التبنِّي خاطئة ولا تعطي نتائج صحيحة.
طبعاً هذا ما يقوله القرآن، وإذا ما تتبعنا التاريخ نلاحظ مصداق ذلك. ومن الأشياء التي نشرتها الصحف الغربية حديثاً، فقد تزوج أخ بأخته في ألمانيا وأنجبا أربعة أطفال!! ولكن كيف بدأت القصة، وما علاقة هذه القصة بالإعجاز التشريعي الذي جاء به القرآن الكريم؟
لقد تعرف الأخ باترك إلى أخته سوزان بالصدفة، فقد ولدا قبل عشرين عاماً من أم تخلَّت عنهما، ولكن إحدى العائلات قررت أن تتبنى باترك، وعائلة أخرى تبنَّت سوزان. وبما أن القوانين الغربية تسمح بالتبني وتنسب الابن لغير أبيه، مخالفة بذلك شريعة الله تعالى، فقد أخذ كل ولد منهما نسباً مختلفاً.
وعندما تلاقيا بالمصادفة وأحسا بأن كل واحد منهما ينجذب للآخر قررا الزواج، ولكن بعد ذلك تبين لهما أنهما أخوين، ولكن الغريب أنهما وبالرغم من من ذلك قررا الاستمرار، وبعد أن تم عرض موضوع زواجهما على المحكمة لم تسمح به، ولكنهما يدافعان عن زواجهما بشدة.
وعلى الرغم من تحذير الأطباء لهما ومن تحذير رجال القانون ورجال الكنيسة إلا أنهما يعتبران أن القانون الذي يحرم زواج المحارم خاطئ! ويجب تغييره، وبالفعل هناك دولة هي السويد تبيح مثل هذا الزواج ولا عقوبة لمن يقوم به!
المهم يا إخوتي أن هذين الطفلين لو تمت نسبتهما لأبيهما لم تعد هناك مشكلة، لأن كل واحد منهما سيعرف أنه أخ للآخر، وبالتالي يدرءا عن أنفسهما هذه الجريمة، فانظروا إلى أهمية أن يلتزم الإنسان بالتشريع الإلهي.
شيء آخر انتشر الآن في الغرب لدى غير المسلمين خاصة، وهو مطالبة بعض رجال القانون والتشريع بإلغاء القوانين التي تحرم زواج المحارم ويعتبرون هذه القوانين أنها تحد من حرية الفرد! ومع أن الأطباء يحذرون من هذا النوع من أنواع الزواج إلا أن هذه التحذيرات لا تجد أي اهتمام.
تؤكد الأبحاث الطبية أن الزواج بين الأخ والأخت يؤدي إلى مخاطر وبخاصة إذا تم الإنجاب، فإن نسبة أن ينجبا ولداً معوقاً هي 50 % ومن هنا ربما ندرك أيضاً لماذا حرم الإسلام نكاح المحارم. ولكن للأسف نرى هذه الظاهرة (ظاهرة الزنا بين المحارم) قد تفشَّت في بلاد الغرب بنسب مرتفعة.
العجيب أن بعض الباحثين يؤكدون على أهمية أن يتم نسبة الولد لأبيه!! وذلك لعلاج هذه الظاهرة. ويقولون من الضروري للولد أن يعرف أباه الطبيعي، وألا يتم تسميته باسم عائلة أخرى بل باسم أبيه الحقيقي لأننا مهما حاولنا إخفاء أو تغيير اسم الأب الحقيقي سيظهر ذلك يوماً ما!
وتظهر أهمية التشريع الإلهي – أن ننسب الأولاد لآبائهم – في هذا العصر حيث نلاحظ زيادة كبيرة في نسبة الأولاد غير الشرعيين، ففي دولة "متقدمة" مثل السويد وبسبب إلغائها للقوانين الأخلاقية، فإن نسبة الأولاد غير الشرعيين تصل إلى أكثر من 50 بالمئة!! تصور مجتمعاً نصفه غير شرعي،ماذا تنتظر منه!
كذلك هناك مشاكل كثيرة يسببها نظام التبني في الدول الغربية، فالوالد الجديد يخدع الولد عندما ينسبه له ويدعي أنه أباه، وهذه مشكلة بحد ذاتها لأن الولد سيكتشف الحقيقة آجلاً أو عاجلاً، وبالتالي ستسبب له اضطرابات نفسية ويبدأ رحلة البحث عن أبويه الحقيقيين.
كذلك الأولاد الذين تم تبنيهم من قبل عائلات فإن هذه العائلات لا تعطيهم الاهتمام والرعاية الكافية، ولذلك ينشأ هذا الولد نشأة غير طبيعية من الناحية النفسية، ولكن عندما يدرك هذا الولد أن أباه الحقيقي تخلى عنه، وأن الذي يقوم على تربيته هو أب آخر سوف يزداد احتراماً لهذا الأب ولن ينشأ لديه نوع من الفصام بسبب هذا التناقض.
والسؤال عزيزي القارئ: عندما نجد العلماء اليوم ينادون بضرورة انتساب الأبناء لآبائهم وذلك بعدما أدركوا خطورة تغيير اسم الأب وأدركوا المشاكل التي سببتها ظاهرة التبني، أليس هذا ما نادى به القرآن قبل أربعة عشر قرناً؟ لنقرأ ونتأمل هذا التشريع الإلهي المحكم: (ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) [الأحزاب: 4].
ــــــــــــــــ
بقلم عبد الدائم الكحيل
www.kaheel7.com
1- Couple stand by forbidden love, www.news.bbc.co.uk, 7 March 2007.
2- Parted-at-birth twins 'married' www.news.bbc.co.uk, 11 January 2008.

http://www.55a.net/firas/arabic/print_details.php?page=show_det&id=1593




[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;"][CELL="filter:;"][FONT=(Al Moharib Blook Othman 1)][ALIGN=center]
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:darkblue;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
تاريخ الاستعباد الأسود في أمريكا
1194462441780px-amerikanska_folk,_nordisk_familjebok.jpg
لوحة توضح الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين الذين تم أبادتهم على يد المستعمرين الأوربيين
كما هو معروف إن الإنسان بدون دين حق يصبح تماماً مثل الحيوان بل أشد فتكاً من الحيوان بل الحيوان أرحم من الإنسان في بعض الأوقات فالحيوان يصيد ويفتك ليأكل ويطعم فراخه وبعد أن يشبع يتوقف عن الصيد حتى يجوع مرة أخرى أما الإنسان فلا حدود لطمعه وجشعه يقول الله تعالى : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)[البقرة : 205].
لذلك أنزل الله تعالى الرسل والشرائع حتى يلجم رغبات الإنسان الحيوانية ويجعله إنساناً ربانياً (وقاف عند حدود الله متبع لشرعه).
ولقد علمنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كيف نعامل الأجراء والخدم فقال: (إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم).
نحدثكم اليوم حديثاً فيه الكثير من الأسى والحزن عن مأساة الهنود الحمر والعبيد الأفارقة في أمريكا حتى نتعرف سوية على بشاعة وقسوة الإنسان لما يصبح بلا دين.
شاء القدر أن يبتلى الهنود الحمر بالقسط الأوفر من الإبادة والاستعباد .. فقد كان اكتشاف الأمريكتين- بالتزامن مع الثورة الصناعية – كارثة كبرى حلت بعشرات الملايين من سكان أمريكا الأصليين . والذي حدث هو أن عصابات البيض التي وصلت أمريكا وجدت مساحات هائلة من أخصب أراضى العالم البكر بحاجة إلى عشرات الملايين من الأيدي العاملة التي تعذَّر عليهم تدبيرها من أوروبا، ولذلك فكَّر الغُزاة في السيطرة على الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين،لكنهم فشلوا في استعبادهم,فلم يتورعوا عن القضاء عليهم!! وهكذا وقعت واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ .. ويقدر الباحث منير الحمش(1) أعداد السكان الأصليين الذين أبادهم الغزاة الأوروبيون بأكثر من مائة مليون هندي أحمر!!! ولم "يتورع" السادة البيض الذين أسسوا ما يسمى الآن بالولايات المتحدة الأمريكية عن استخدام أحط الوسائل وأخس السُبل للقضاء على الهنود الحمر، ومنها تسميم آبار المياه التي يشرب منها السكان الأصليون، وحقنهم بالفيروسات وجراثيم أشد الأمراض فتكاً مثل الطاعون والتيفود والجدري ومسببات السرطان …إلخ. ويحاول المؤرخون الأمريكيون التقليل من أعداد الضحايا زاعمين أنهم حوالي مليونين فقط، وفى إحصاء عام 1900م قللوا الرقم إلى مليون لا غير!! وهل قتل مليون نفس أمر هَيِّن ؟!!! ويشير المفكر الإسلامي على عزت بيجوفتش – رئيس البوسنة الأسبق – إلى القانون الأمريكي الذي ظل ساري المفعول حتى عام 1865م، وكان ينص على حق الأمريكي الأبيض في الحصول على مكافأة مجزية إذا قدم لأي مخفر شرطة بالولايات المتحدة "فروة رأس هندى أحمر"!!! هذه هي حضارتهم الغربية المزعومة، وهذه هي الكيفية التي تأسست بها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتشدق اليوم بالحريات وحقوق
1194462490268024777_df2378e3d3_m.jpg
صورة لهندي أحمر يلبس اللباس التقليدي
الإنسان !! ويضيف منير الحمش أن 80% من هنود "كاليفورنيا" مثلاً أبيدوا خلال عشرين عاماً فقط، وهلك الباقون بسبب العمل الشاق حتى الموت "بالسُخْرة" في سبيل رفاهية "السادة" البيض أجداد "جورج بوش"!! وكان اكتشاف مناجم الذهب والمزارع الشاسعة في كولورادو وغيرها من ولايات الذهب وبالاً على الهنود المساكين، إذ دفعت رغبة البيض المجرمين في الحصول على أيدي عاملة رخيصة إلى تنشيط أخس وأقذر تجارة في التاريخ بأمريكا، وهى خطف الأطفال والشباب لاستعبادهم ! وهكذا نشطت تجارة خطف أطفال الهنود من مختلف مناطق أمريكا .وكانت صحف تلك الفترة تمتلئ بصور الشاحنات المكتظة بأطفال الهنود الحمر المتجهة عبر الطرقات الريفية إلى أسواق العبيد في "سكرامانتو" و "سان فرانسيسكو" ليتم بيعهم إلى أصحاب المناجم والمزارع . ومع نهاية القتال في سنوات الاحتلال الأولى، زاد الإقبال على خطف الفتيات - بصفة خاصة – فَهُن يقدمن خدمة مضاعفة " للسادة البيض" العمل الشاق نهاراً، والجنس الإجباري ليلاً(!!) .. وأما الآباء الهنود المساكين فإن الغضب والأسى، الناجم عن خطف واغتصاب واستعباد فلذات أكبادهم، كان معناه أنهم - في نظر الأسياد البيض - "عناصر شغب" تستحق الإعدام فوراً وبلا محاكمة!! وبذلك تحول الخاطفون إلى "أبطال وطنيين أمريكيين" يساهمون في التخلص من "المشاغبين الهنود" الذين يشكلون خطراً داهماً على "أمن الدولة" الأمريكية الناشئة !!! ويقول المؤرخون أن هذه القرصنة وجدت من "يقننها" ويضفى عليها الشرعية التامة عبر قانون أصدره برلمان ولاية كاليفورنيا في أول جلسة تشريعية له في عام 1850م !!! وأصبح خطف الهنود الحمر واستعبادهم بموجب ذلك التشريع عملاً قانونياً يستحق فاعله الثناء والتكريم !!! وبموجب تعديلات أضيفت عام 1860م تم إجبار عشرة ملايين هندي أحمر على قيام بأعمال "السخرة" حتى الموت !! ولم تمض سنوات على هذا التشريع الإجرامي حتى ضاق حاكم الولاية بيتر بيزنت ذرعاً "بالسُخْرة"، فوجه رسالة إلى المجلس التشريعي قال فيها : "إن الرجل الأبيض الذي يعتبر الوقت من ذهب، والذي يعمل طوال النهار، لا يستطيع أن يسهر طوال الليل لحراسة أملاكه. وليس أمامه خيار آخر سوى شن حرب إبادة !!! إن حرباً قد بدأت فعلاً، ويجب الاستمرار فيها حتى "ينقرض الجنس الهندي تماماً" !!!
وهكذا أباد "السادة البيض" 112 مليون هندي أحمر، وأُبيدت معهم حضارات "المايا" و "الأزتيا" و "البوهاتن" وغيرها لإقامة أمريكا زعيمة النظام العالمي الجديد!!!
تعـليق
من أكثر المناظر اثارة للسخرية أن زائر الولايات المتحدة الأمريكية بحراً- عندما تقترب به السفينة من ميناء "نيويورك" – يرى تمثال "الحرية" الشهير خارج جزيرة مانهاتن !!! ويعتبر الأمريكيون البيض تمثال " الحرية " هذا رمزاً لبلادهم !! ويود كاتب هذه السطور أن يسأل هؤلاء: هل أُقيم هذا التمثال رمزاً للحرية التي ُأسبغت على 122 مليون هندي أحمر ؟! أم أنه رمز لحرية عشرات الملايين من الأفارقة المساكين الذين جرى خطفهم وجلبهم بالقوة إلى "الجنَّة الأمريكية" للعمل الشاق حتى الموت من أجل تحقيق "الحلم الأمريكي" ؟!! إنها لمهزلة كبرى أن يُقام تمثال "الحرية" على جثث وجماجم عشرات الملايين من البشر تمت إبادتهم جماعياً بشكل لم يحدث مثله لحيوانات الغابات .. بل لو حدث معشار هذه الإبادة أو 1% منها فقط ضد الحيوانات، لأقامت جمعيات الرفق بالحيوان في الغرب الدنيا ولم تقعدها !! أما إبادة مائة مليون هندي أحمر فهو أمر "يؤسف له" - على حد زعمهم- ولكنه كان "ضروريًا" لأمن البلاد !!! بل كان أبو "الحرية" الأمريكية المزعومة- جورج واشنطن- نفسه يملك ثلاثمائة عبد وجارية في مزرعته الخاصة، ولم يحرر منهم واحداً قط !!
قنص الهنود !!
يحكى المؤرخون الأوربيون المنصفون قصصاً يشيب لهولها الولدان . فقد كان الغزاة البيض يشعلون النار في أكواخ الهنود، ويقيمون الكمائن حولها، فإذا خرج الهنود من أكواخهم هاربين من الحريق، يكون رصاص البيض في انتظار الرجال منهم، بينما يتم القبض على الأطفال والنساء أحياء لاتخاذهم عبيداً واغتصابهم جنسياً أيضاً ! وكتب أحد الهولنديين قائلاً: "انتزع البيض بعض الأطفال الهنود الصغار من أحضان أمهاتهم وقطعوهم إرباً أمام أعينهن, ثم ألقيت الأشلاء في النيران المشتعلة أو النهر !! وربطوا أطفالا آخرين على ألواح من الخشب ثم ذبحوهم كالحيوانات أمام أعين الأمهات" !! إنه منظر ينفطر له قلب الحجر – كما يقول الهولندى الراوي نفسه – كما ألقوا ببعض الصغار في النهر، وعند حاول الآباء والأمهات إنقاذهم لم يسمح لهم الجنود بالوصول إلى شاطئ النهر، ودفعوا الجميع - صغاراً وكباراً – بعيداً عن الشاطئ ليغرقوا جميعاً !! والقليل جداً من الهنود كان يمكنه الهرب، ولكن بعد أن يفقد يداً أو قدماً، أو ممزق الأحشاء برصاص البيض.. هكذا كان الكل إما ممزق الأوصال، أو مضروباً بآله حادة أو مشوهاً بدرجة لا يمكن تصور أسوأ منها (2) وتم نقل أعداد هائلة من العبيد الهنود إلى جزر الهند الغربية للعمل بالمزارع الشاسعة هناك أو لبيعهم لآخرين. كما شُحن مئات الألوف منهم شمالاً إلى نيوانجلند و "نيويورك" حيث مقر الأمم المتحدة، وتمثال "الحرية" المزعوم !! وكان المؤرخ "لاس كأساس" الذي فضح جرائم الأسبان في أمريكا الجنوبية بكتابه الشهير "تدمير الهنود الحمر" قد أثار القضية أمام المحاكم الأسبانية .. فلجأت الحكومة هناك إلى تهدئة الرأي العام الثائر بإصدار قانون يمنع استعباد الهنود بشكل شخصي، لكن "النصوص"- كما يقول لاس كأساس- لم تعرف سبيلها إلى التطبيق الواقعي أبداً في الأمريكتين . وانتشر في كل أمريكا الجنوبية كذلك نظام بمقضاه يسيطر المالك الأبيض لقطعة أرض على كل الهنود الذين يعملون فيها، أي رقيق الأرض بدلاً من الرق الشخصي .. كالمستجير من الرمضاء بالنار (3)!!!
محنة أفريقيا
اكتشف البيض – بعد إبادة معظم الهنود الحمر– أنهم لن يتمكنوا من استصلاح وزراعة عشرات الملايين من الأفدنة في القارة الجديدة – أمريكا – بدون جلب الملايين من الأيدي العاملة الرخيصة . وتفتقت أذهان الشياطين عن خطة جهنمية بدأت كل دول أوروبا الغربية تقريباً تنفيذها. إن الزنوج الأفارقة هم من أقوى أنواع البشر وأكثرهم جلداً وصبراً وتحملاً للمشاق والأجواء القاسية، ولهذا استقر رأى المجرمين على" اصطياد " أكبر عدد ممكن منهم !! وهكذا تكالبت الوحوش البيضاء المسعورة على الفريسة المسكينة- أفريقيا – تنهش فلذات أكبادها بلا ذرة من رحمة أو إنسانية.. آلاف السفن الأوروبية المحملة بالجنود المسلحين بالبنادق والمدافع تقاطرت على الساحل الغربي للقارة السوداء حاملة الموت والخراب لأغلب سكانها، والخطف والاستعباد والإذلال مدى الحياة لمن بقى منهم على قيد الحياة !! تقول المصادر الأوروبية ذاتها أن جيوش إنجلترا وبلجيكا والبرتغال وألمانيا وفرنسا وهولندا وأسبانيا – ذات التسليح المتقدم الذي لا يمكن مقارنته بالسيوف والحراب التي لا يملك الأفارقة غيرها – لم تجد صعوبة كبيرة في السيطرة على الساحل الغربي لأفريقيا المطل على المحيط الأطلنطي ..وخلال خمسين عاماً فقط تم خطف وترحيل ما بين 15 إلى 40 مليوناً من الأفارقة حيث تم بيعهم كعبيد في أسواق أمريكا وأوروبا . ونلاحظ أن المصادر الغربية ذاتها تؤكد أنه من بين كل عشرة أفارقة كان يتم أسر واحد فقط واستعباده،بينما يلقى التسعة الآخرون مصرعهم إما برصاص الغزاة البيض، وأما جوعاً و عطشاً أو انتحارًا من على ظهر السفن التي كانوا يحشرون فيها كالماشية، وكثير منهم كان
1194462782250px-slavesale.jpg

بيع العبيد السود في أسترن ماريلاند
يلقى حتفه اختناقاً بسبب تكديس المئات منهم في أقبية السفن في مساحة عدة مترات بلا تهوية أو طعام أو مراحيض !! (3)
وكثيراً ما كان البحارة يقتلون المئات من الضحايا ويلقون بجثثهم في البحر. وعلى ذلك فإن ما لا يقل عن مائة مليون أفريقي قد لقوا حتفهم في 50 عاماً فقط خلال ملاحم "اصطياد العبيد" من القارة المنكوبة. تقول دائرة المعارف البريطانية في مادة "العبودية"slavery
: أن الإنجليز كانوا يشعلون النيران في الأحراش والأشجار المحيطة بأكواخ الأفارقة، فيضطر هؤلاء المساكين إلى الخروج من مساكنهم هرباً من النيران، فتتلقفهم رصاصات القناصة لقتل الرجال, بينما يتم أسر الأطفال والنساء، ثم ترحيلهم إلى مراكز لتجميع العبيد على طول الساحل الغربي الأفريقي تمهيداً لنقلهم بالسفن عبر المحيط الأطلنطي في رحلة بلا عودة !! ونلاحظ أن هذا هو الأسلوب ذاته الذي جرى استخدامه "لاصطياد الهنود الحمر، كما يصطادون الوحوش والحيوانات غير الأليفة من الغابات" !!
ونحن لا نعرف بالضبط الأرقام الحقيقية للضحايا سواء من القتلى أو ممن سقطوا في فخاخ الاستعباد حتى الموت. ولكن من المؤكد أن الأرقام الحقيقية هي أعلى بكثير مما تذكره المصادر الغربية.
ويكفى أن كاتباً غربياً كبيراً ذكر أن عدد القتلى في دولة واحدة هي الكونجو بلغ عشرة ملايين إفريقي في عهد الطاغية الملك "ليوبولد" الذي دمر شعباً بأكمله، وعرقل مسيرة الكونجو لمئات السنين بسبب نهمه وجشعه وإجرامه.
يقول آدم هو تشيلد في كتابه "شبح الملك ليوبولد" أن هذا الطاغية قتل كل هؤلاء خلال 23 عاماً فقط حكم خلالها الكونجو التي كان يدعيها مستعمرة مملوكة له شخصياً بكل ما عليها من بشر وثروات وحيوانات !!! وقد كان الأوروبيون مثل "ليوبولد" في الكونجو، والفرنسيون في مناطق أخرى، والبرتغاليون في أنجولا، والألمان في الكاميرون، والإنجليز في دول أخرى عديدة قد وضعوا نظاماً إجرامياً للسخرة لاستخراج المطاط والذهب وغيرها من كنوز القارة السوداء التي نهبها المجرمون، كما سرقوا فلذات أكباد الأفارقة ,وعطلوا مسيرتهم مئات السنين، ولم يتركوا لهم سوى الموت والخراب الشامل والتعاسة التي لم يفلت منها أحد !! ويعدد "هوتشيلد" وغيره من المؤلفين الغربيين الفظائع التي ارتكبها الأوروبيون في أفريقيا، فقد كان الشنق وتعليق الجثث على الأشجار, وقطع الأيدي والأقدام والأذن والعضو الذكرى أمراً شائعاً مارسه المحتلون على اختلاف دولهم وهوياتهم . وكان من المألوف أيضاً الإجبار على العمل المتواصل تحت الشمس الحارقة بلا ماء أو طعام كاف، والربط بالسلاسل الحديدية، وحرق قرى بأكملها عقاباً على أية بادرة تذمر . وكان هناك نوع من الكرابيج يصنعه الجلادون خصيصاً من جلد الخرتيت بعد أن يتم تجفيفه وتقطيعه بطريقة تترك أطرافه حادة وقاطعة . ويقول هوتشيلد أن عشرين جلدة بهذه الكرابيج كانت كافية ليفقد "المجلود" الوعي تماماً، فإذا ارتفع عدد الضربات إلى مائة جلدة بتلك الكرابيج الشيطانية فإن المجلود يلقى حتفه فوراً.
1194462572200px-slavetreatment.jpe
صور لعبد أسود تظهر على ظهره آثار التعذيب
وإذا كان زبانية "ليوبولد" يستخدمونها ضد التعساء في الكونجو, فقد كان الفرنسيون يستخدمونها بضراوة أشد في "برازافيل" !! ولم تكن ألمانيا بعيدة عن الميدان، فقد أباد الألمان شعباً بأكمله هو قبائل "الهيريرو" فيما يعرف الآن بـ "ناميبيا". وتكفى قراءة فقرة واحدة من تعليمات القائد الألماني لجنود الاحتلال عام 1904م لإدراك هول ما حدث ووحشية السادة البيض الذين يتطاول أحفادهم الآن على الإسلام : (كل "هيريرو" – أفريقي – يوجد يجب أن يُقتل سواء كان يحمل سلاحاً أم لا وسواء كانت لديه ماشية أم لا .. ولا يجوز اعتقال أي رجل، يجب فقط أن يُقتل") ونحسب أن الأمر لا يحتاج منا إلى أدنى تعليق !! وقد كانت البرتغال كذلك من أكثر دول أوروبا تورطاً في الرق، بل تصفها الزميلة عايدة العزب موسى بأنها "مبتدعة الرق"، وتنقل عن القسيس البرتغالي فرناندو دى أليفيرا فقرات خطيرة من كتابه " فن الحرب في البحر" تتبع فيه كيف كان تُجار الرقيق من البرتغاليين بقيادة صديقه القس "لاس كاساس" أكبر النَخّاسين في عصره،يقومون بترحيل مئات الألوف من العبيد الأفارقة عبر المحيط الأطلنطي بعد خطفهم وانتزاعهم من أسرهم وتقييدهم بالسلاسل(4).
الحاقدون على الإسلام
وكما أشـرنا في ختام الفصل الأول، كان يصاحب كل سـفينة قسيس ليقوم – حسبما ذكر إليفيرا- بتنصير العبيد مقابل مبلغ مالي يتقاضاه عن كل رأس ! وهكذا يسلبون الضحايا الحرية والدين أيضاً !! وحققت الكنائس الأوروبية ثروات هائلة من تلك الرسوم التي تتقاضاها من النَخَّاسين !! وشاركت هولندا أيضاً في تجارة العبيد، حيث طافت مئات من السفن الهولندية موانئ أفريقيا الغربية منذ القرن السادس عشر لنقل ملايين من العبيد إلى أوروبا وأمريكا . بل كانت جزيرة "جورى" التي يجمعون فيها العبيد تمهيداً لنقلهم عبر الأطلنطي تحت سيطرة الهولنديين إلى أن باعوها للإنجليز عام 1872م . وكانت بعثات التبشير "التنصير" الهولندية متورطة في أخس تجارة عرفتها البشرية، ويبدو أنهم اكتشفوا أن خطف واصطياد الأفارقة المساكين واستعبادهم يدر من الأرباح أضعاف العمل على تغيير عقائدهم باسم الرب الذي يزعمون!!
ويكشف"هيوتوماس" سبباً أخر لاختطاف الأفارقة واستعبادهم وهو الانتقام البربري .
يقول "هيوتوماس" : الحقيقة أن البرتغاليين وغيرهم كانوا يصطادون الإفريقيين ويحولونهم إلى عبيد محض انتقام من الأفارقة المغاربة بسبب سيطرتهم على أسبانيا والبرتغال (دولة الأندلس الإسلامية) فقد كان أسلاف هؤلاء المغاربة من المسلمين قد سيطروا على أسبانيا والبرتغال لمئات من السنين"
ومن الواضح كما شهد هيوتوماس أن القوم لم ينسوا أحقادهم رغم أن المسلمين - كما شهد مؤرخو الغرب – قدموا للغرب وللعالم كله أياد بيضاء طوال حكمهم للأندلس .فقد نشروا العلوم والمعارف والحضارة في تلك العهود،وعاملوا غير المسلمين بالأندلس بكل عطف ورحمة !! ويؤيد ما قاله هيوتوماس أن البابا يوجينياس الرابع أعلن رعايته لحملات الاستعباد التي يقوم بها الملك هنرى في أفريقيا !! وفى الفترة من1450 حتى 1460 عقد البابا نكولا الخامس وكالكاتاس الثالث صفقة لاسترقاق الأفارقة مقابل "تعميد" – تنصير – العبيالإسلام.0 كراون للكنيسة عن كل رأس !! بل أرسل أحد الأساقفة سفينة لحسابه في إحدى الحملات !! وبعد كل هذه الفضائح يجدون الوقاحة الكافية للتطاول على الإسلام !!! وقد كانت التفرقة العنصرية – البغيضة – وما تزال حتى الآن – سبباً في تحول كثير من الأمريكيين السود ونظرائهم في أوروبا إلى الإسلام . إذ أن طوفان المظالم والاستعباد والقهر دفعهم إلى البحث عن سفينة النجاة، فلم يجدوا أي سبيل آخر سوى الإسلام الذي يحظر تماماً كل أنواع الظلم والتفرقة بين الناس. الإسلام وحده هو الذي يرد إليهم الاعتبار والآدمية، ويساوى بينهم وبين الطغاة البيض، الأمريكية.ء كهذا في ديانة سماوية أخرى أو أية فلسفة وضعية أو أي نظام آخر .
تعـليق
نلاحظ أن مظاهر التفرقة العنصرية مازالت موجودة حتى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية . إذ توجد حتى اليوم أحياء في كبريات المدن الأمريكية يتكدس فيها السود بلا مرافق أو خدمات، كما أن معظم المشردين بلا مأوى Homeless
هم من السود والملونين,وعددهم يفوق الثلاثين مليونا. وفى أمريكا يوجد أكبر عدد من السجناء في العالم كله -2 مليون سجين- ثلاثة أرباعهم من السود (!!!) . ومازلنا نتذكر أحداث لوس انجليوس، حيث ثار السود احتجاجًا على الممارسات البوليسية الإجرامية ضدهم، وسحل مواطن أسود بواسطة رجال الشرطة البيض حتى الموت .واندلعت مظاهرات صاخبة في أكتوبر 2007 م احتجاجا على اعتقال 6 تلاميذ سود وتلفيق تهمة لهم هي الشروع في قتل تلميذ ابيض, لأنه علق أحبالا ومشانق بالمدرسة, إشارة إلى ما كان يحدث من إعدام للعبيد السود بلا محاكمات.وأكدت منظمة حماية الملونين أن السود هم الفئة الأكثر تعرضا للسجن وتلفيق الاتهامات والتعذيب في السجون الأمريكية.
وقد اعترف الرئيس السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك أورالشهيرة.ن . وتناولت شبكات تلفاز عالمية مثل CNN
ظاهرة اعتناق الملايين من الأمريكيين والأوروبيين للإسلام منذ أحداث 11 سبتمبر الشهيرة . وتبين أن أعداداً كبيرة جداً من البيض اعتنقوا الإسلام كذلك، ومن بينهم أساتذة جامعيون وأطباء وعلماء ومهندسون ومحامون ورجال أعمال، وفتيات في عمر الزهور قبلن طواعية ارتداء الحجاب – و النقاب في بعض الحالات - ورفضن حياة الشهوات والخلاعة والانحلال على النحو السائد في كل دول الغرب . وهكذا فإن العظيم:ِرين الذين حاولوا تغيير ديانة الأجداد السود الذين امتحنوا بالاستعباد، يجدون أنفسهم عاجزين الآن تماماً عن وقف اعتناق الملايين من أحفادهم للإسلام الدين الحق والدين الأصلي للمُسْتَعْبدَين الأوائل ! وصدق الله العظيم : "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يوسف الآية (21) . بل إن بعض الحاقدين يحاول التقليل من أهمية سرعة انتشار الإسلام في أمريكا قائلاً: أن الزنوج هم الذين يُسلمون، ولا يعلم هؤلاء الأغبياء أنه حتى لو صدقوا في هذا – وهم كاذبون – فإن هذا يحسب للإسلام وليس ضده. لأن الأسود يعلم أن الإسلام هو وحده الذي يضمن له كل الحقوق والعدالة والمساواة مع الآخرين، وتلك شهادة لصالح الإسلام وضد الغرب في ذات الوقت .
القانون الأسود
وقد لجأ البيض إلى أساليب شيطانية لقمع العبيد وقهرهم والسيطرة عليهم .. وقننوا هذا كله بتشريعات تشكل وصمة عار لأي نظام قانوني في التاريخ. يقول العَلاَّمة محمد فريد وجدي: "كان القانون الذي يتناول أحوال الرقيق يُعرف في كل أمة من الأمم المعاصرة بالقانون الأسود. وعلى سبيل المثال كان القانون الأسود الفرنسي الذي صدر سنة (1685) ينص على أن الزنجي إذا اعتدى على أحد الأحرار أو ارتكب جريمة السرقة عوقب بالقتل أو بعقاب بدني آخر، أما إذا أبق العبد فإن نص القانون أن الآبق في المرة الأولى والثانية يتحمل عقوبة صلم الأذنين والكي بالحديد المحمى، فإذا أبق الثالثة قتل . وقتل الآبق كان معمولا به أيضاً في انجلترا، فقد نصت على أن من أبق من العبيد وتمادى في إباقه قتل. وكان غير مسموح لذوى الألوان أن يحضروا إلى فرنسا لطلب العلم . ودام الحال على هذا في فرنسا حتى ظهرت ثورة 1848 فسعت في أبطال الاسترقاق. أما في أمريكا فكان القانون في غاية الشدة والقسوة، وكان مقتضى القانون الأسود أن الحر إذا تزوج بأمة صار غير جدير بأن يشغل وظيفة في المستعمرات . وكانت القوانين تصرح بأن للسيد كل حق على عبده حتى حق الاستحياء والقتل وكان يجوز للمالك رهن عبده وأجارته والمقامرة عليه وبيعه كأنه بهيمة(!!) . وكان لا حق للأسود في أن يخرج من الحقل ويطوف بشوارع المدن إلا بتصريح قانوني. ولكن إذا أجتمع في شارع واحد أكثر من الأمريكتين.رقاء ولو بتصريح قانوني كان لأي أبيض إلقاء القبض عليهم وجلدهم!!(5) .
وهذه النصوص كانت مطبقة في كل أنحاء الأمريكتين .
اعتذار بعد فوات الأوان !!
في عام 2006م قدمت كنيسة إنجلترا اعتذاراً رسمياً علنياً عن دورها المشين في الاتجار بالرقيق، واقتناء عشرات الألوف من العبيد ظلوا يعملون حتى الموت في المزارع الواسعة التي تمتلكها الكنيسة في منطقة الكاريبي . وقد شاركت في قنص وترحيل العبيد 2704 من السفن البريطانية . وفى مارس 2007م قاد الدكتور روان ويليامز رئيس أساقفة كانترى- كنيسة إنجلترا- مسيرة حاشدة شارك فيها عشرات القساوسة والشخصيات العامة، طافت شوارع لندن، اعتذاراً عن "تورط الكنيسة في التاريخ البشع للعبودية في العالم" على حد قول وليامز نفسه. وأضاف رئيس أساقفة بريطانيا :" أنه ليس الندم فقط، بل يجب إعلان التوبة عن مشاركتنا في هذه الوصمة التي كلفت الملايين، من العبيد البؤساء أرواحهم وممتلكاتهم، ودمرت إقتصاديات العديد من دول أفريقيا" (6)

نقلا عن مقالة لأستاذ حمدي شفيق نشرت في موقع صيد الفوائد بتصرف.
المراجـع
1- منير الحمش – أمريكا والكنانيون الحمر – دراسة منشورة بمجلة أخبار الأدب – دمشق – 9/6/2002م – بتصرف .
2- الحمر والبيض والسود – جارى ناس – ترجمة مصطفى أبو الخير – سلسلة الألف كتاب – مصر – بتصرف .
3- المرجع السابق – بتصرف .
4- عايدة العزب موسى – العبودية في أفريقيا – مكتبة الشروق الدولية – مصر – طبعة 2004م – مواضع متفرقة من الكتاب بتصرف – وأنظر أيضاً المراجع الهامة التي ذكرتها هناك .
5- محمد فريد وجدى – دائرة معارف القرن العشرين – طبعة دار المعرفة – بيروت – المجلد الرابع – حرف الراء "الرق" ص 277-278 وأنظر أيضاً "الرق في الإسلام" لأحمد شفيق باشا
6- موقع شبكة
BBCباللغة العربية على الإنترنت – 24 مارس 2007م . بتصرف
7- موقع قناة الجزيرة على الإنترنت باللغة العربية – 24 مايو 2007م . وانظر ايضا الموقع الاسلامى الممتاز : صيد الفوائد www.saaid.net

8- كلمة بتصرف تعنى أننا حصلنا على المعلومة من المصدر المشار إليه، لكن الصياغة والتعليق عليها بواسطة كاتب هذه السطور، وربما أضفنا إليها معلومة أخرى من عندنا .

http://www.55a.net/firas/arabic/print_details.php?page=show_det&id=1526




[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
[/ALIGN]
[/FONT][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:eek:range;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
أضرار الميسر بين الشريعة والحياة
1181273254roulette.jpg

صورة لأحد آلات لعب الميسر الحديثة
إعداد / انجوغو صمب
داعية وباحث إسلامي من السنغال
تعريف الميسر:
يقول المناطقة إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وعليه فأول ما يجب علينا في معرض الكلام عن الميسر هو أن نذكر تعريف الميسر حتى ندرك حقيقته ونميز أنواعه المختلفة، وما يدخل في حكمه وما لا يدخل مما يستجد من معاملات وتحدث من تصرفات.
هناك تعريفات كثيرة ومتنوعة عن العلماء للميسر، وهذه بعضها:
1- قول بن عمر وبن عباس رضي الله عنهم ( الميسر هو القمار ) [1].
2- قول الزهري عن الأعرج( الميسر هو الضرب بالقداح على الأموال والثمار)[2].
3- قول القاسم بن محمد( كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر ) [3].
4- قول ابن سيرين ( كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر) [4].
5- قول السعدي ( هو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين من النرد والشطرنج، وكل مغالبة قولية أو فعلية بعوض ) [5].
6- قول الشيخ يوسف القرضاوي ( هو كل ما لا يخلوا اللاعب فيه من ربح أو خسارة ) [6].
وهذه التعريفات الاصطلاحية للميسر من علماء الإسلام من السلف والخلف - رحمهم الله - كلها صحيحة إن شاء الله، غير أنها تبدو من تنوعها مختلفة أو متباينة، والحقيقة أنها غير متباينة فكلهم قد عرف الميسر إما بذكر مرادف له كما فعل من عرفه بالقمار، أو بذكر نوع من أنواعه كالضرب بالقداح على الأموال والثمار، أو بذكر بعض لوازمه ونتائجه كذكر الشرب والصياح وغيرهما مما يصحب الميسر من الملهيات عن الذكر والصلاة، أو بذكر ماهيته كما هو في تعريف كل من السعدي والقرضاوي.
الميسر في العصر الحديث:
وفي عصرنا الحديث تنوعت آلات الميسر وتعددت صنوفها حتى فاقت الحصر أو كاد، وقد تفاقم الأمر مع تطور وسائل الإعلام والاتصال، فخاطر الناس وتغالبوا في المبارات الرياضية بين الفرق، وعبر الشبكة العالمية ( الإنترنت )، ورسائل الجوال القصيرة، والمسابقات في القنوات التلفزيونية والإذاعية، وربما سموها ألعابا أو جوائز أو غيرها من الأسماء اللامعة، وهي لا تغير من حقيقتها شيئا.
فكل ذلك من الميسر والقمار المحرم شرعاً، إذ توفرت فيها كل أركان الميسر.
أركان الميسر:
ـ لاعبين:هما المشارك أو المشاركون في اللعبة أو المسابقة من جهة، والمنظم للعبة أو المسابقة من جهة أخرى وقد يكون شخصا واحدا أو شركة.
ـ ومن آلة الميسر:وهي المسابقة أو اللعبة مثل مباراة رياضية بين فريقين، أو سباق بين خيول، أو مصارعة بين رجلين، أو إرسال رسالة قصيرة من الهاتف الجوال إلى الرقم الفلاني تتضمن كلمة معينة ثم تتم القرعة بين المرسلين فمن خرج سهمه كان هو الفائز.
ـ ومن المال: الذي يياسر به الطرفان وهو ما يشتريه اللاعب من أوراق، أو تكلفة المكالمة الهاتفية من جهة اللاعب المتصل، أو تكلفة الرسالة القصيرة التي يرسلها، وما ينفقه الشخص أو الشركة المنظمة للعبة أو المسابقة من أموال يدفعها إلى شركات الاتصال أو وسائل الإعلام.
ـ ونتيجة اللعبة:التي لا بد أن تكون خسارة أو ربحا كنتيجة كل أنواع الميسر القديمة والحديثة، ومما يميز الميسر في عصرنا الحديث أن الخاسر دائما هو جهة واحدة وهي الأضعف وهو من يجمع دراهمه ودنانيره من الفقراء و المساكين ومن أصحاب الدخل المتوسط، ويخدعون بتخصيص نزر يسير مما جمع من أموالهم ليدفع إلى واحد أو إثنين منهم، فيصدقون بعقولهم العفنة أن ذلك فائز !!!، أما الشخص المنظم للعبة أو المسابقة فلن يخسر شيئا بحال من الأحوال، إلا ما يخسره من دينه وذلك شر الخسائر قال تعالى { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين }.
حكم الميسر في الشريعة الإسلامية:
( إن الإسلام يريد من المسلم أن يتبع سنن الله في اكتساب المال، وأن يطلب النتائج من مقدماتها، ويأتي البيوت من أبوابها، والقمار يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني الفارغة، لا على العمل والجد واحترام الأسباب التي وضعها الله وأمر باتخاذها.
والإسلام يجعل لمال الإنسان حرمة فلا يجوز أخذه منه إلا عن طريقة مبادلة مشروعة، أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة، أما ما أخذ بالقمار فهو من أكل المال بالباطل )[7].
وقد دل على حرمة الميسر نصوص من القرآن والسنة.
ومن الأدلة القاضية بتحريم الميسر من القرآن:
1- قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } [8]وهذه الآية وإن لم تصرح بتحريم الخمر والميسر ففيها تمهيد للنهي عنها، بل إن بعض الصحابة قد أقلع عن الشرب بمجرد نزول هذه الآية، ويفهم من ذلك أنه لو كان من متعاطي الميسر فيتركه كما ترك الخمر، قال ابن كثير رحمه الله تعالى ( ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة، ولهذا قال عمر لما قرئت عليهم اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا حتى نزل التصريح بتحريمه في سورة المائدة... ) [9]. ومن القواعد الشرعية أن ما زادت مفسدته على مصلحته حرمت، ومفسدة الميسر لا شك أنها أكثر من مصلحته بنص القرآن الكريم.
2- قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } [10].
ففي الآية الكريمة من صيغ التحريم وصف الميسر بأنه: { رجس من عمل الشيطان} مما يدل على تحريمه وأنه من الكبائر، والرجس وصف لكل الأعيان الخبيثة خبثا معنويا أو ماديا قال تعالى عن المأكولات الخبيثة { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به } [11]وقال سبحانه عن الخبثاء من الناس { سيحلفون لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم إنهم رجس } [12]و سمى عذابه رجسا فقال{ قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } [13]، وكذلك الأمر باجتنابه في قوله تعالى {فاجتنبوه } واجتناب الشيء هو التباعد عنه بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه [14]، ومن اجتنب شيئا وابتعد منه لم يتعاطاه , ومن صيغ تحريم الميسر أيضا الأمر بالانتهاء منه { فهل أنتم منتهون } قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ( فهو أبلغ في الزجر من صيغة الأمر التي هي: انتهوا... ) [15].
3- قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } [16]قال السعدي رحمه الله ( ولا تأكلوا أموالكم أي أموال غيركم أضافه إليهم لأنه ينبغي على المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله، ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة... ) [17]ثم ذكر نوعي أكل أموال الناس الحق والباطل فعلق على النوع الأخير بقوله ( فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع وأدلى من يريد أكلها (الأموال ) بالباطل بحجة غلبت حجة المحق وحكم له الحاكم بذلك فإن حكم الحاكم لا يبيح محرما و لا يحلل حراماً، إنما يحكم على نحو ما يسمع، و إلا فإن حقائق الأمور باقية فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ولا شبهة ولا استراحة... ) [18].
قلت: وهذا في حالة ما لم يكن الحاكم هو الداعي إلى ما يتم بواسطته أكل أموال الناس بالباطل من صور الميسر المنظم، التي تسخر له جميع الإمكانيات الدستورية والإعلامية وغيرها حتى قد يخيل للعوام أنه أصبح من الجائز كسائر أنواع المعاوضات
وأما الأدلة على تحريم الميسر من السنة فمنها ما يلي:
1- عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه ) [19]قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ( قال العلماء النردشير هو النرد وشير معناه حلو، وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا يكره ولا يحرم، وأما الشنطرنج فمذهبنا أنه مكروه وليس بحرام وهو مروي عن جماعة من التابعين، وقال مالك وأحمد حرام قال مالك هو شر من النرد وألهى عن الخير، وأصحابنا يمنعون القياس ويقولون هو دونه، ومعنى ( صبغ يده في لحم خنزير ودمه ) في حال أكله وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما والله أعلم [20]، ولا شك أن موضع الخلاف بين الأئمة هو الآلات المختلفة من نرد أو شطرنج وغيرهما من الملهيات، وليس فيما يخالطه من المغالبة بمال ونحوه فإن ذلك محرم بنص القرآن ولم ينقل عن أحد من الأئمة القول بجوازه والله أعلم.
2- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) [21]. وذكر الزرقاني من أسباب تحريمه وكونه معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن أول من وضعه هو سابور بن أردشير وفعله إتباع لسنة المجوس المنهي عن إتباعها [22].
3- ما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة ) [23]والحديث تأكيد لما ورد في سورة البقرة و سورة المائدة من تحريم الميسر، والكوبة هي الطبل، وقيل هي النرد وقيل الشطرنج.[24]
تنبيه و تفصيل:
نود أن ننبه إلى أن الميسر هو كما قال السعدي ( هو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين من النرد والشطرنج، وكل مغالبة قولية أو فعلية بعوض ) [25]أو كما عرف الشيخ يوسف القرضاوي ( هو كل ما لا يخلوا اللاعب فيه من ربح أو خسارة ) أيا كان نوع ذلك الميسر أو آلته، إذ العبرة كما يقول الأصوليون بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
ثم إن الخلاف الذي يحكى عن العلماء في تحريمه أو كراهته أو حتى إباحة بعض صوره تابع لدخول الصورة المسئول عنها في الميسر أو عدم دخوله، ووجود بعض علل التحريم في الصورة كالإلهاء عن ذكر الله وعن الصلاة أو ضياع الوقت ونحوها أو عدمه، فما كان فيه مخاطرة أو خسارة وربح فهو محرم، وما سلم من ذلك وألهى عن ذكر الله وعن الصلاة وأدى العداوة والبغضاء حرم لذلك، وأما ليس من الأول ولا من الثاني من أنواع الألعاب والمغالبات تردد بين الإباحة والكراهة.
أضرار الميسر الدينية والدنيوية:
أن التعرف على الحكم التشريعية فيما يأمر به الإسلام أو ينهى عنه لاسيما فيما يتعلق بأمور المعاملات لمما ينشط على الالتزام بشرع الله ويعين عن الانقياد له , ولذلك عودنا الشارع الحكيم الإشارة إلى بعض تلك الحكم، ومن ذلك ما نص الله عليه في القرآن الكريم و أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة من مفاسد وأضرار الميسر في الدين والدنيا وعلى الفرد والمجتمع، وهذه جملة من تلك المفاسد والأضرار في مطلبين:
أضرار الميسر الدينية:
هناك مفاسد دينية كثيرة تترتب من تعاطي الميسر والقمار ومنها:
1- أن في الميسر إثما كبيراً: قال تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع و إثمهما أكبر من نفعهما}، وهذا يقتضي كونه حراما في الشريعة الإسلامية إذ الحرام هو ( المنهي عنه على الجزم، المثاب على تركه، والمعاقب على فعله، وهو مأخوذ من الحرمة وهي ما يحرم انتهاكه ) [26]،وقد سقنا فيما مضي من الأدلة القاضية على تحريم الميسر من الكتاب والسنة ما يغني عن إعادته هنا.
فتعاطي الميسر إذن عمل يستحق فاعله عقاب الله تعالى ويعرضه لسخطه، وإثم الميسر أعظم بكثير مما قد يحصله من المال وعرض الدنيا الزائل لقوله تعالى { وإثمهما أكبر من نفعهما }، والله تعالى لم يجعل الحرام طريقا للكسب ولا سببا للسعادة في الدنيا، ولذلك رد على من ساوى بين البيع والربا فقال سبحانه { وأحل الله البيع وحرم الربا } [27]،بل إن تقوى الله تعالى وفعل أوامره واجتناب نواهيه هي سبب كل خير في الدنيا والآخرة قال تعالى { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [28]وقال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } [29]وقال تعالى {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} [30] وقال تعالى { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا } [31]
2- إن الميسر قرين الشرك وشرب الخمر : وهذه الصفة مما يزيد قبحه شرعا، فالمنهيات على درجات، واقتران منهي من المنهيات بأكبر الكبائر في الذكر يزيده قبحا وسوء، وقد نهى الله عن الميسر وقرنه بكبائر أخرى وعلى رأسها الشرك بالله تعالى فقال {إنما الخمر والميسر والأنصاب و الأزلام...} الآية. والأنصاب عند غير واحد من السلف حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأما الأزلام فهي قداح كانوا يستقسمون بها [32]،وكل ذلك من الشرك وهو أعظم ما عصي الله به ولا يغفر الله لمن مات عليه قال تعالى{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } [33].
ولعل من حكم اقتران الميسر بالشرك والخمر بيان شناعته لمن تزين له نفسه تعاطيه، فإن كثيرا من الناس لانتشار الميسر وكثرة المبتلين به من العوام والخواص، وما يتعود من سماع أو قراءة أخباره في وسائل الإعلام قد يهون عليه خطره ويسهل عليه اقترافه مع أنه قد يمتنع عن شرب الخمر وقد لا يشرك بالله تعالى، وهذا منتهى الغباوة والغفلة فما الفرق بين أنواع المعاصي، إذا كانت كلها تعبر عن استهانة بأمر الله ورسوله، وتكشف عن ضعف في الإيمان يعاني منه الإنسان.
2- إن الميسر رجس: قال تعالى { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس...} الآية ( والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس، وقيل إن أصله من الركس وهو العذرة والنتن ) [34]والقذارة أو النجاسة قد تكون حسية أو معنوية ومثال الأول الأعيان النجسة فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة فقال إنها ركس [35]،وأما القذارة أو النجاسة المعنوية فمثل الكفار والمشركين الذين قال الله تعالى فيهم { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }[36]وظاهر النصوص الواردة في ذم الميسر من القرآن والسنة يدل على نجاسته الحسية والمعنوية معا، مما يوجب على المسلم التنزه عن تعاطيه وملامسة آلاته، وغشيان مجالسه.
وكون الميسر رجسا يقتضي كون ما يحصله الإنسان من المال بواسطته خبيثا مثل مهر البغي وحلوان الكاهن، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، فلو حج به، أو تصدق به على الفقراء والمساكين، أو بنى به مساجد، أو وقف أوقافا، فكل ذلك لا يقبله الله منه، وأكله من هذا المال قد يجعل دعوته غير مستجابة، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر المرسلين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } [37]ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ) [38]
4- إن الميسر من عمل الشيطان: قال تعالى في وصف الخمر والميسر... { رجس من عمل الشيطان } ( الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، ومن المعلوم يحذر منه ويحذر مصائده وأعماله خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع عدوه فإن فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين والحذر منها والخوف من الوقوع فيها ) [39].
والشيطان حريص على إغواء بني آدم وإبعادهم عن رحمة الله بما يزين لهم من الشرك وسائر المعاصي { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } [40]وللشيطان في إغواء الناس وسائل وأساليب مختلفة فهو يستفزز من استطاع بصوته و يجلب عليهم بخيله ورجله {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزائكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [41]ومما يعدهم الشيطان الفقر فيقول لهم إن أنتم التزمتم بشرع الله في البيع والشراء وسائر وسائل الكسب لافتقرتم، فالربا والميسر والغش والسرقة مما لا بد منه في زمننا هذا قال تعالى {الشيطان يعدكم الفقر والله يعدكم مغفرة منه وفضلا }. [42]
5- إن الميسر من موانع الفلاح: ومن أضرار الميسر أنه من موانع الفلاح، وذلك بمجرد ارتكابه بدون استحلال فيمنع من مطلق الفلاح لما يسحقه من يلعب بالميسر من غضب الله وعذابه لأنه من كبائر الإثم، و يمنع من الفلاح مطلقا إذا استحل الميسر وكذب الله ورسوله، ورمى الشريعة بالضيق والقصور فيخرج بذلك من الإسلام، ويستحق الخلود في النار والعياذ بالله، قال تعالى { بلى من كسبت سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [43].
وإذا تأملنا في حالة كثير من البلاد التي ابتلاهم الله بهذه العادة السيئة وجدناهم وصلوا إلى هذه الدرجة من محاربة الله ورسوله، حيث أذنت الحكومات بممارستها ونظمت عملياتها، وصنفت مؤسساتها من مؤسسات التنمية الوطنية، وتنشر أخبارها وإعلاناتها في مختلف وسائل الإعلام، والأشد من ذلك ما تشهده من سكوت تام للعلماء والدعاة عن إنكار هذا المنكر ومحاربته، حتى ليخشى أن يعم الله الجميع بمؤاخذته إذا جازى عباده بما يقترفون، اللهم غفرا.
1181273285180px-blackjack_game_example.jpg
صورة أحد ألعاب الميسر الحديثة
6- إن الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة: إن متعاطي الميسر يهدرون أوقات غالية في ممارسة اللعب بوسائل الميسر من أوراق أو كعاب وغيرها...، وبمتابعة أخبار الفائزين والخاسرين، ويضيعون الجمع والجماعات، ويعرضون عن مجالس ذكر الله و حلق العلم، ويغفلون عن المواعظ وعن تذكر الموت وعذاب القبر وعن أهوال الآخرة، فتصبح معيشتهم ضنكا بما يخسرون من أموالهم وبما يضيعون من أعمارهم ويفوتون من مصالحهم، ويحشرون يوم القيامة – إن لم يغفر الله لهم – عميانا إلى عذاب الله وغضبه قال تعالى{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } [44].
ومن الملاحظ أن أكثر الناس تعاطيا للميسر هم الجهال و العصاة قاصري العقول من الناس، ويقل فيهم المثقفون ومرتادي المساجد وحلق الذكر مصداقا لقوله تعالى { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون } [45]قال أبو العالية ( إن الصلاة فيها ثلاث خصال فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه... ) [46].
مفاسد الميسر الدنيوية:
كما أن للميسر مفاسد تتعلق بدين المرء وتعرضه لغضب الله وعذابه يوم القيامة، فكذلك فإن له مفاسد تتعلق بالحياة الدنيا فتعكرها وتنغص صفوها، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض تلك المفاسد، كما أن بعضها مشاهدة وملموسة من واقع الحياة اليومية للمشتغلين بالميسر، وهذه بعض تلك المفاسد الدنيوية:
1- إن الميسر يسبب العداوة والبغضاء بين الناس.
يعد التآلف و التحابب بين أفراد المجتمع الواحد من عوامل قوة ذلك المجتمع وأسباب تقدمه ونموه، لأنهم يكونون كالجسد الواحد، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي الملتزم بتعاليم الكتاب والسنة ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [47]ومجتمع كهذا يتعاون أفراده على كل بر يعين على مصالح الدنيا وكل تقوى ترضي الله ورسول الله، قال النووي معلقا على الحديث ( هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والتلاطف والتعاضد في غير إثم ولا مكروه ). [48]
والميسر بأنواعه وأشكاله عادة سيئة تؤدي انتشاره في المجتمع إلى العداوة والبغضاء قال تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة في الخمر والميسر } و قال الإمام الطبري رحمه الله ( يقول تعالى ذكره إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ليعادي بعضكم بعضا ويبغض بعضكم إلى بعض فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان وجمعه بينكم بأخوة الإسلام ) [49].
ووجه ذلك - والله أعلم - أن الميسر لا يخلوا من ربح أو خسارة، وكلاهما حاصل على نحو باطل لا يقره دين ولا عقل، وليس كربح التجارة أو خسارتها، لأن التاجر المسلم أو العاقل يعترف بقضاء الله وقدره، ويسلم بنهاية الصفقات حسب المقدمات الصحيحة التي تمليها طبيعة العرض والطلب، أما المقامر فيسعى وراء خيال وسراب ويركض خلف حظ موهوم، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فيعض على أنامل الحسرة، ويلتفت فإذا حوله مياسروه يسخرون بملء أفواههم لما ربحوه من أموال الناس بالباطل، فهل بعد ذلك يتصور بين الفريقين مودة أو رحمة، لا وهيهات !!
2- إن الميسر من عوامل انتشار البطالة.
الواجب على الحكومات والدول الناصحة لرعاياها أن توفر لها فرصا حقيقية للعمل والتكسب، وذلك بإقامة مصانع كافية تستوعب السواعد القوية من المواطنين والكفاءات العالية من الباحثين والعلماء، وإيجاد مزارع واسعة تكفي الفلاحين والمزارعين، وتيسير تجارة رائجة يصفق بها الأغنياء في الأسواق، فتتحقق الكفاية لعامة الشعب وتقل البطالة، وتقضى على الجريمة ويعم الأمن في ربوع البلاد.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله ( والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها، فالرواج دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق، قال تعالى { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}[50] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة ) [51] وقال أيضا { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } [52]... ) [53].
ولا شك أن الميسر لا تمت إلى واحد من هذه المقاصد بصلة، بل إن شيوعه في المجتمع يعطل الصناعات ويخسر التجارات وتهلك المزارع، كيف لا، والشياطين تعد الشذج من الناس بالغنى الفاحش والثراء الطاغي بمجرد مشاركة في لعبة الميسر، ولذلك فإنك لا تدخل مصنعا إلا وجدت العمال منهمكين وفي أوقات العمل على أوراق الميسر، ولا ترى مزارعا إلا وفي يده تلك الأوراق، وكذلك التجار في الأسواق، والأطباء في المشافي، فمتى يتفرغ هؤلاء لما هم مهيئون له من واجبات !!
3- إن الميسر يساهم في تفشي الجريمة.
إن صالات القمار، أو قل إن مجتمعات القمار لا تخلوا في أغلب الأحيان من جرائم السرقة والقتل ومن الشرب والخلاعة و الميوعة، قال بن سيرين في تعريف الميسر ( كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر ) [54].
أما السرقة فلأن المشاهد للعبة الخمار وكيف يخسر هذا بسرعة وكيف يربح ذلك في طرفة عين تستهويه العملية فيود المشاركة فيها بأي طريق ممكن، وغالبا ما يلجأ إلى السرقة لإشباع تلك الرغبة العارمة، واعتبر ذلك في الأولاد الذين يتقامرون بالجوز والكلل وغيرها، فإنهم يسرقون الأموال من آبائهم وأمهاتهم ليشترون بها تلك الأغراض التي يتقامرون بها مع زملائهم.
وأما القتل فلما يسوء بعضهم أن يذهب ماله هباء في دقيقة واحدة وربما تعب وكد في تحصيله، فيشتاط غضبا، فينتحر هو، أو يقتل أصحابه ليسترد ما ذهب من ماله.
أما الشرب والخلاعة والميوعة فهو نصيب الفائز الخاسر من المقامرين، لإن الله تعالى يمحق الربا ويربي الصدقات، فالمال الحلال يسهل إنفاقه في الوجه الحلال بل الواجب والمندوب، وأما المال الحرام فيستهلكه صاحبه فيما يضره من شهوتي الفرج والبطن، ولهذا فإن صالات القمار في أغلب الأحيان أوكار للرذيلة والمخدرات.
4- في الميسر أكل لأموال الناس بالباطل:
ومن مقصود الشارع في الأموال أيضا كما يقول بن عاشور رحمه الله ( الوضوح، والحفظ، والعدل، والإثبات ) ويستمر - رحمه الله - في شرح تلك المقاصد قائلا: ( وأما وضوح الأموال فذلك إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان، ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين، وأما حفظ المال فأصله قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...} [55]وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس ) [56]،أما إثباتها فهو تقريرها لأصحابها بوجه لا خطر فيها ولا منازعة، أما العدل فيها فذلك بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها، وإما بعوض من مالكها أو بتبرع وإما بإرث ومن مراعاة العدل حفظ المصالح العامة ودفع الأضرار ) [57].
ومال الميسر كسب رخيص يكتنفه الغموض من كل جانب، ولا يعرف الرابح من أين جاءه الربح ولا يدري الخاسر من أين أتاه الخسران، ولا يمكن تقريره بوجه لا منازعة فيها، ولذلك يدلون إلى الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالباطل، أما مقصد العدل فهو أبعد المقاصد عن الميسر، فالميسر هو الظلم بعينه، إذ بواسطته يأكل الناس بعضهم أموال بعض بغير وجه حق، ومهما قال لك المقامر في حرية ممارسته لهذه العادة السيئة، فإنه لا يطيب نفسا بما يخسر من مال.
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على خير من دعا إلى الإيمان وعمل الصالحات، أما بعد فقد تم ما نوينا تقييده عن أضرار الميسر الدينية والدنيوية، وتوصلنا بفضل الله تعالى وتوفيقه إلى النتائج التالية:
1- الميسر هو ( هو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين من النرد والشطرنج، وكل مغالبة فعلية أو فعلية بعوض ).
2- أن حكمه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحرمة، لقوله تعالى ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )، وقوله صلى الله عليه وسلم ( من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه )
3- من أضرار الميسر على دين المرء: أنه إثم، ورجس، ومن عمل الشيطان، ومن موانع الفلاح ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ) قال تعالى{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } [58]
4- ومن أضراره الدنيوية: أنه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وينشر البطالة، ويفشي الجريمة في المجتمع، وهو طريقة لأكل أموال الناس بالباطل.
5- وكل ذلك مما أخبر الله في كتابه ومن أصدق من الله حديثا، والمجتمعات البشرية اليوم يعاني من ويلات كل هذه الأضرار والمفاسد، ولا منجى و لا مفر من ضنك الحياء وضيق المعاش الذي هم فيه إلا بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله والتمسك بكتابه وسنة رسوله. والله المستعان.
من أحب التوسع يمكن تحميل البحث بشكل مفصل بالضغط على الرابط التالي:
http://www.55a.net/words/meser.doc
يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل التالي:
[email protected]
الهوامش:
[1] - تفسير القرآن العظيم 2 / 92 للإمام إسماعيل بن عمر ابن كثير ط دار الفكر – بيروت1401 هـ
[2] - المصدر نفسه 2 / 92.
[3] - المصدر نفسه 2 / 92
[4] - تفسير الطبري 2 / 385 للإمام محمد بن جرير الطبري ط دار الفكر – بيروت 1405 هـ
[5] - تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن تأليف اعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 98 ط مؤسسة الرسالة – بيروت
[6] - الحلال والحرام ص 273 للشيخ يوسف القرضاوي.
[7] - المصدر نفسه 277
[8] - سورة البقرة 219
[9] - تفسير القرآن العظيم 1 / 256 مصدر سابق
[10]- المائدة: 90, 91
[11] - الأنعام: 145
[12] - التوبة: 95
[13] - الأعراف:71
[14] - أضواء البيان 2 / 405 تأليف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ط دار الفكر – بيروت 1415 هـ
[15] - المصدر نفسه 2 / 405
[16] - البقرة: 188
[17] - تفسير السعدي ص 88
[18] المصدر نفسه ص 88
[19] صحيح مسلم 4/ 1770 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت
[20] - شرح النووي على مسلم 15 / 16 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت 1392 هـ
[21] - رواه الحاكم في المستدرك، وقال ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) 1 / 114 لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ط دار الكتب العلمية – بيروت 1411هـ ورواه غيره.
[22] شرح الزرقاني على الموطأ 4 / 455 لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني ط دار الكتب العلمية – بيروت 1411 هـ
[23] - سنن البيهقي الكبرى 10 / 213 للإمام البيهقي نشر / مكتبة دار الباز – مكة المكرمة 1414 هـ
[24] انظر: لسان العرب 1 / 729 لابن منظور ط دار صادر ـ بيروت
[25] - تفسير السعدي ص 98
[26]- روضة الناظر وجنة المنتظر 1 / 126 للشيخ عبد القادر بن أحمد بن بدران ط مكتبة المعارف – الرياض
[27] - البقرة: 275
[28] - يوسف: 90
[29] - الطلاق: 2
[30] - الطلاق:4
[31] - الطلاق: 5
[32] تفسير القرآن العظيم 2 / 93
[33]- النساء
[34] أضواء البيان 1 / 426
[35] صحيح البخاري 1/ 70 ط دار ابن كثير – بيروت 1407 هـ
[36] - التوبة: 28
[37] - المؤمنون: 51
[38] - صحيح مسلم 2 / 703 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت
[39] - تيسير الكريم المنان للسعدي 243
[40] - الأعراف 16، 17
[41] الإسراء: 63، 64
[42] سورة البقرة 268
[43] -سورة البقر: 81
[44] - طه: 124
[45] - العنكبوت: 45
[46] - تفسير القرآن العظيم 3 / 416
[47] - صحيح مسلم 4 / 1999
[48] - شرح النووي على مسلم 16 / 139
[49] - تفسير الطبري 7 / 32
[50] سورة المزمل الآية 20
[51] - رواه البخاري ومسلم.
[52] - البقرة: 122
[53] - مقاصد الشريعة الإسلامية ص 464 تأليف العلامة محمد الطاهر بن عاشور ط دار النفائس للنشر والتوزيع – الأردن 1421 هـ
[54] - تفسير الطبري 2 / 385 للإمام محمد بن جرير الطبري – مصدر سابق
[55] سورة النساء الآية 29
[56] - سنن الدارقطني 3 / 26 ط دار المعرفة – بيروت 1386 هـ
[57] مقاصد الشريعة الإسلامية ص 473 فما بعدها ( بتصرف )
[58]- المائدة: 90, 91

http://www.55a.net/firas/arabic/print_details.php?page=show_det&id=1287




[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:deeppink;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
الإعجاز في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
د . منصور رحمانـي
جامعة سكيكدة -الجزائر
[email protected]
دأب المسلمون منذ مدة على البحث في إعجاز القرآن الكريم في مختلف الميادين التي تطرق إليها الكتاب الكريم، فكان هناك بحوث في الإعجاز البياني، والعلمي، والتشريعي، والغيبي، والنفسي ...وفي الجوانب المتعلقة بالنبي _ صلى الله عليه وسلم _ تناولت البحوث الأقوال النبوية الشريفة وما تضمنته من حقائق كشف عنها العلم الحديث، مثل أقواله في الصحة، وإخباره عن بعض الغيبيات، وحتى كتاب السيرة المطهرة لم يجاوزوا في أحسن الأحوال الإفادة من الأحكام الفقهية التي تضمنتها أحداث السيرة، في حين اكتفى الكثير منهم برواية الأحداث وتنقيحها، وهذه الجهود يشكر عليها أصحابها لما تكشف عنه من أحكام معتبرة للدين قد لا نجدها في صريح القرآن والسنة.
فسيرته صلى الله عليه وسلم يستقي منها الدعاة أساليب الدعوة ومراحلها، ويتعرفون على ذلك الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العقبات والصعوبات والموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.
- ويستقي منها المربُّون طرق التربية ووسائلها.
- ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها.
- ويستقي منها الزهَّاد معنى الزهد ومقاصده.
- ويستقي منها التجَّار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
- ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات وتقوى عزائمهم على السير على منهجه والثقة التامة بالله عز وجل بأن العاقبة للمتقين.
- ويستقي منها العلماء ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى، ويحصلون فيها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول وغيرها وغيرها من المعارف والعلوم.
- وتستقي منها الأمة جميعاً الآداب والأخلاق والشمائل الحميدة[1].
وإذا كان المسلمون قد أفادوا من السيرة المطهرة في دينهم فإنهم بحاجة أيضا للإفادة منها في دنياهم ، فلا تقل حاجتهم إلى دنياهم اليوم عن حاجتهم إلى الدين ، وهم في زمن سيطر فيه أعداؤهم على الدنيا وأصبحت مبادؤهم وقيمهم، ومقدساتهم مهددة.
إن هذا العصر الذي تحول فيه العالم كله إلى مجرد قرية كونية بما وفرته وسائل الاتصالات الحديثة وما ترتب عن ذلك من ظهور ما يسمى بالعولمة التي فتحت كل شيء أمام كل شيء، وتنافست السلع والأفكار تعرض نفسها على المجتمع البشري، ليس لنا نحن المسلمين سلعة نعتز بها وننافس بها غيرنا، وإنما عندنا دين قويم ونبي عظيم هو كل ما نملك، فعلينا أن نعرف العالم بنبينا وعظمة نبينا مستغلين ما توفره لنا العولمة، خصوصا وأن العديد من عقلاء الغرب الحديث قد أشاروا إلى فضله على بقية الخلق كما هو الشأن مع صاحب كتاب الخالدون مائة الذي قال : وكان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ على خلاف عيسى عليه السلام رجلا دنيويا فكان زوجا وأبا وكان يعمل في التجارة ويرعى الغنم، وكان يحارب ويصاب في الحروب ويمرض ... ثم مات ..
ولما كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ قوة جبارة ، فيمكن أن يقال أنه أيضا أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ.
وإذا استعرضنا التاريخ .. فإننا نجد أحداثا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين .. مثلا : كان من الممكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن اسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل سيمون بوليفار .. هذا ممكن جدا . على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل.
ولكن يستحيل أن يقال ذلك عن البدو .. وعن العرب عموما وعن إمبراطوريتهم الواسعة، دون أن يكون هناك محمد – صلى الله عليه وسلم - .. فلم يعرف العالم كله رجلا بهذه العظمة قبل ذلك ..[2]
وقبل الخوض في موضوع هذا الإعجاز لابد من بيان معنى الإعجاز والمعجزة والفرق بينهما ، والوجوه التي نبحثها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع التفريق بين المعجزة والكرامة وما لا يعد كذلك .
مفهوم المعجزة :
أمر خارق للعادة يظهر على يدي مدّعي النبوة ، مقرون بالتحدي ، سالم عن المعارضة بالمِثْل.
وكلمة أمر خارق للعادة : معناها ليس من عادة البشر فعل هذا الشيء كتفجّر الماء من يدي رسول الله . مقرون بالتحدي : معناها أي يتحدى بها النبي على نبوّته .
سالم من المعارضة بالمثل : معناها لا أحد يستطيع أن يأتي بمثلها. كالذي حصل مع سيدنا موسى لم يستطع سحرة فرعون أن يأتوا بمثل ما أتى به موسى .
يظهر على يدي مدّعي النبوة : معناها فما كان خارقا للعادة لكنه لم يقترن بدعوى النبوة كالخوارق التي تظهر على أيدي الأولياء أتباع الأنبياء فإنه ليس بمعجزة بل يسمى كرامة ولكن تسمى معجزة للنبي الذي يَتَّبِعْه هذا الولي لأنه لولم يسلك طريق هذا النبي لم يصل إلى هذه الكرامة .
ونصل مما تقدم إلى أن المعجزات خاصة بالأنبياء عليهم السلام، وما دام أن قائمة الأنبياء قد ختمت منذ خمسة عشرة قرنا فلا سبيل إلى ظهور معجزات على أيدي غيرهم مهما بلغوا من الورع والصلاح، فإذا شفي مريض بلمسة من شخص آخر فليس ذلك بمعجزة ، وإذا نجا شخص من موقف عادة ما يكون فيه الموت مؤكدا فليس ذلك بمعجزة أيضا .
وأما الإعجاز في حياته - صلى الله عليه وسلم - فنعني به أنه حقق بجانبه البشري في وقت وجيز ما عجز عنه غيره من البشر سواء كانوا أنبياء أو قادة أو زعماء ، وهذا يشير بوضوح إلى تفضله على غيره، وأنه الأولى بالتقليد والإتباع، وهذا الجانب لا نستدل به على صدقه بقدر ما نستدل به على عظمته، وهذه العظمة تقود فئات من الناس إلى اتباعه في كل أقواله مطمئنين إلى أنه أفضل قدوة، وأفضل من يتبع ، فأقواله هي أصح وأصدق الأقوال، وأفعاله وأحكامه هي أعدل الأحكام ، وتشريعه أفضل تشريع، ودينه أفضل الأديان، ومن جانب آخر فإن الغرض من هذا البحث هو استخلاص المعاني التي تمنح صاحبها التفوق والنجاح في التغيير.
Muhammad_callig.png

صحيح أن الرسل قد أيدهم ربهم بالوحي والمعجزات، وربهم واحد، ودينهم واحد، ورسول الوحي إليهم واحد، لكنهم يختلفون في جوانبهم البشرية، ولعل هذه الجوانب هي التي تفسر اختلافهم في درجات الاستحواذ على عقول الناس، فنجد منهم من أوصل رسالته إلى الآفاق البعيدة وامتدت في طول الزمان وعرضه كما هو الشأن بالنسبة لصاحب المقام المحمود - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من ظلت شريعته محصورة على نطاق ضيق، فقد يزود القادة في معاركهم بنفس العدد والعدة ولكن النصر لا يكون حليف الجميع.
وتحفل السيرة النبوية الشريفة بأنواع كثيرة من الأحداث والمعاني التي يمكن اعتبارها المفاتيح الحقيقية للتغيير، ولكن السؤال الذي تصعب الإجابة عنه هو، ما هي تلك المعاني ؟ خصوصا وأن حياته - صلى الله عليه وسلم - مفعمة بالحيوية والنشاط، وهو يتصرف في حياته تارة باعتباره نبيا، وأخرى باعتباره حاكما قاضيا، وتارة ثالثة باعتباره إنسانا عاديا، ثم من أين تؤخذ المعاني التي نفتش عنها، هل تؤخذ من لباسه وهيئته، أو من أقواله وتصرفاته، والناس يختلفون اليوم في ذلك اختلافا كبيرا كما اختلف بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في فهم السبب الموجب للجنة، عندما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فبعضهم كان يركز على هيئته الحسنة، وبعضهم الآخر على قيامه ليلا، وبعض ثالث على الصيام، وغير هؤلاء فكروا في أمور أخرى، ولكن الحقيقة شيء آخر. عن أنس بن مالك قال : كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة ، فطلع رجل من الأنصار ، تنظف لحيته من وضوئه ، قد علق نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضا ، فطلع ذلك الرجل مثل حالته الأولى .
فلما قام النبي ، تبعه عبد الله بن عمرو فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت ! قال : نعم .
قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا تعار - تقلب في فراشه - ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة الفجر قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا .
فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله . قلت : يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة . ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات : يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة ، فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك ، فأنظر ما عملك فأقتدي بك ، فلم أرك عملت كبير عمل !! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . قال عبد الله : فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه . فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك !![3] .
أقوال المنصفين المحدثين في النبي – صلى الله عليه وسلم -
أحب أن أشير في هذا المقام إلى المكانة التي يحتلها النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في عقول المنصفين من غير المسلمين حتى نعرف أن إنجازاته تستحق التعريف بها والدعوة من خلالها :
1 – مهاتما غاندي :
أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر
200px-Gandhi_studio_1931.jpg
صورة للزعيم والفيلسوف الهندي غاندي
... لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته و صدقه في الوعود و تفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه و رسالته هذه الصفات هي التي مهدت الطريق و تخطت له المصاعب و ليس السيف، بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة .
2 – راما كريشناراو :
لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها . ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة . فهناك محمد النبي ، ومحمد المحارب ، ومحمد رجل الأعمال ، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء ، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا.
3 – المفكر الفرنسي لامارتين :
250px-Louis_antoine_artois.jpg
صورة للمفكر الفرنسي لامارتين
إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة ، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في عبقريته ؟ فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات ، فلم يجنوا إلا أمجادا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانيهم ، لكن هذا الرجل لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقيم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط ، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ . ليس هذا فقط ، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة...
هذا هو محمد – صلى الله عليه وسلم – الفيلسوف ، الخطيب ، النبي ، المشرع، المحارب ، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة ، بلا أنصاب ولا أزلام، هو المؤسس لعشرين امبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة، هذا هو محمد– صلى الله عليه وسلم .
بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل : هل هناك من هو أعظم من النبي محمد– صلى الله عليه وسلم – ؟ .
4 – مونتجومري :
إن استعداد هذا الرجل لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدا وقائدا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة ، كل ذلك يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه ، فافتراض أن محمدا مدع افتراض يثير مشاكل أكثر ولا يحلها، بل إنه لاتوجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنل التقدير اللائق بها مثل ما فعل بمحمد .
5 – الدكتور زويمر :
إن محمدا كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين ، ويصدق عليه القول أيضا بأنه كان مصلحا قديرا وبليغا فصيحا وجريئا مغوارا ، ومفكرا عظيما ، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات ، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء .
6 – برنارد شو :
إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد ، هذا النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدا خلود الأبد، وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخ
180px-George_bernard_shaw.jpg
صورة للفيلسوف البريطاني برنارد شو
لوا هذا الدين على بينة ، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوربا) .
إن رجال الدين في القرون الوسطى ، ونتيجة للجهل أو التعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة ، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية ، لكني اطلعت على أمر هذ الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية ، وفي رأيي أنه لوتولى أمر العالم اليوم ، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها .
7 – تولستوي :
يكفي محمد فخرا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة ، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم ، وأن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة[4].
هذه نماذج من أقوال المنصفين الغربيين في النبي محمد – صلى الله عليه وسلم –
وقبل البحث في أسباب الإعجاز في حياته - صلى الله عليه وسلم - لا بد من الحديث أولا عن مظاهر ذلك الإعجاز، فبها يمكن أن نضع أيدينا على العوامل الحقيقية والأسباب التي أعجز بها النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره من الناس.
مظاهر الإعجاز في حياته - صلى الله عليه وسلم - :
لو أجملنا لقلنا إنه حول العرب من النقيض إلى النقيض في زمن قصير وبأقل التكاليف ، كانوا أعداء فأصبحوا إخوانا ، كانوا يعبدون آلهة كثيرة فأصبحوا يعبدون إلها واحدا خالقا ، كانوا أميين فأصبحوا متعلمين ، كانوا قبائل كثيرة متحاربة فأصبحوا دولة واحدة ،كانوا متخلفين عن الأمم المجاورة لهم فأصبحوا متقدمين عنها .
وأمَّة العُرب كم كانت مخلفة والفرس والروم في ملك وفي حشَم
ما كان يخطر بالألباب يومئذ أن المـوازين قد تهـوي وتنهدم
ليصبح البدو في مجد وفي بذخ والروم والفرس في وحل وفي أكَم
ولو أردنا تفصيل تلك الدلائل فسنكتفي بهذه النماذج وفي الإشارة ما يغني عن العبارة :
1 – نقل العرب من الفرقة والعداوة إلى الوحدة والمحبة : كانت بلاد العرب قبل الإسلام قبائل متنافرة متناحرة تتبع بأنعامها مواطن الكلإ والماء، يأكل قويها ضعيفها، ويغزو بعضها بعضا، وقامت بسبب ذلك حروب كثيرة عرفت بأيام العرب، على غرار حرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفجار وغيرها .. وكانت دولة الفرس في الشمال ودولة الروم في الغرب وحتى الأحباش في الجنوب يستغلون هذا الوضع لإحكام سيطرتهم، وفرض الضرائب على العرب، ولم يكن الفكر العربي في تلك المرحلة يرقى إلى مستوى التفكير في إقامة دولة أو مجتمع أو حضارة كما هو الشأن عند الأمم الأخرى، ولم يمض من عمر الإسلام أكثر من عشر سنوات حتى أعلن النبي – صلى الله عليه وسلم – قيام المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ليعرف العرب عندها أول دستور في حياتهم، وانتقلت العاصمة إلى يثرب، ولم يكن قيام هذه الدولة هدفا في حد ذاته، بل كان هدف مؤسس هذه الدولة أبعد من ذلك بكثير، لقد كان هدفه تكوين حضارة جديدة تمتد في طول الزمان وعرضه، تقوم على كلمة التوحيد والمباديء الإنسانية السامية، ووجود أجناس مختلفة، وألوان مختلفة ضمن أفرادها الأوائل وما تضمنته نصوص الوحي من عبارات تأمر بالمساواة بين الجميع إشارة صريحة إلى ذلك .
ولم تكن هذه الوحدة مجرد شعارات ظاهرية ، أو نظاما مفروضا على الناس وهم له كارهون ، بل إنها امتدت عمقا لتعانق شغاف القلوب ، وذابت في ثناياها جميع الانتماءات العرقية والقبلية وتبدلت الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة ، فلا فرق بين أبيض وأسود ، ولا بين فقير وغني ، ولا بين أمير ومأمور ، ولا بين شريف النسب ووضيعه ، وترك أمر الأفضلية للعمل الصالح فحسب ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )[5].
– نقل العرب من الجاهلية والأمية إلى الحلم والتعلم :كانت العرب أمة أمية لا تعرف في عمومها القراءة والكتابة بشهادة القرآن الكريم ، كما كانت الجاهلية تتحكم في تصرفاتها ، وتغذي فيها معاني الثأر والظلم والتعسف على نحو قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحـــد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
وبعد فترة وجيزة من مجيء الاسلام وما صاحبه من إصرار محمدي على التعلم ببيان فضل المتعلمين، واعتبار التعلم فريضة دينية على كل مسلم لا تقل عن فريضة الصلاة و الصيام و ما فعله في غزوة بدر مع أسرى قريش و هي حادثة لم يعرف التاريخ لها مثيلا لا قبل ذلك و لا بعده، هاهي القراءة و الكتابة تنتشر فيهم و استطاعوا حل كل المشكلات التي أعيت سابقيهم فوضعوا النقاط على الحروف و استحدثوا الشكل و وضعوا علم العروض وعلم النحو و كل ذلك في فترة وجيزة، و من جهة ثانية حلت محل صفات الجاهلية أخلاق الحلم و الأناة و التدبر و انتشر بينهم التسامح و الإحسان على نحو قيس بن عاصم يخاطب امرأته :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست بآكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني أخاف ملامات الحديث من بعدي
و سئل الأحنف بن قيس : ممن تعلمت الحلم ؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري رأيته قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه حتى أتى رجل مكتوف و رجل مقتول فقيل له : هذا ابن أخيك قتل ابنك ؟ فوالله ما حل حبوته و لا قطع كلامه ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي أثمت بربك و رميت نفسك بسهمك و قتلت ابن عمك ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك و حل كتاف ابن عمك و سق إلى أمه مائة ناقة دية ابنها إنها غريبة ..و قال الأحنف : لست حليما لكنني أتحالم [6] .
3ـ من التبعية و الرعي إلى القيادة والإدارة : كان العرب قبل الإسلام متوزعين في تبعيتهم بين الفرس و الروم عدا قلة منهم كانت تعيش على الرعي والتجارة والغزو ، ولم يكن يخطر ببال أحد منهم أن يتحولوا إلى قادة فتوح وأساطين سياسة تنقل أقوالهم وأفعالهم كتب التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها ، وحال عمر بن الخطاب قبل الإسلام وبعده خير شاهد على ذلك، ولقد استطاع النبي الكريم أن يحول جميع أصحابه إلى فاعلين في المجتمع من الخليفة إلى التاجر مرورا بالقادة والجنود، وبالتعبير المعاصر فإن الوعي السياسي كان سائدا فيهم ، كلهم يعرف المصلحة العليا ويراعيها في تصرفاته .
لقد أحسن النبي إدارة الصراع مع قريش في مكة يوم كانوا ضعافا وفي المدينة عندما تحولوا إلى قوة ، وتمكن من تفادي ما كان يمكن أن ينتج عن الهجرة من أزمات ، وكذلك نجح أصحابه من بعده في حل العديد من المشاكل كما هو الحال في حرب المرتدين ، والفتوحات الإسلامية ، وما تمخض عنها من ظهور معاملات جديدة مع الأمم التي دخلت في الإسلام ، وكان ذلك كله بفضل القواعد التي تركها لهم النبي والتي لخصها غذاة وفاته في نقطتين هما كتاب الله وسنته – صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم بعد ذلك بسبب التخلي عن الالتزام الصارم بتلك القواعد الذهبية .
4 – أنه حقق كل تلك الأعمال العظيمة بأقل التكاليف : لقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم – كل ذلك في وقت قياسي وبأقل التكاليف ، على خلاف التحولات المعاصرة التي تكلف الكثير من الأنفس والأموال دون أن تتمخض عنها نتائج محترمة ، فإذا كان التحول سلميا فإنه يكلف المبالغ الخيالية من الأموال ، وأما إذا كان غير ذلك فإنه لا يتم إلا بإزهاق أرواح كثيرة ، أما النبي فقد كان أحرص الناس على حقن الدماء وعلى التيسير والأخذ بالأيسر، ولم تكلف عملية التحول الناجحة التي امتدت على مدى ثلاثة وعشرين عاما أكثر من ألف وثمانين قتيلا من المسلمين وأعدائهم على الرغم من أنه خاض ضد أعدائه ثمان وعشرين غزوة، والسر في ذلك أنه جعل حفظ الأنفس واحدة من أهم أولوياته ، فهو قد قبل بصلح الحديبية على ما قد يبدو فيه من جور، وقبل الفدية يوم بدر ممن ناصبوه العداء، وآذوه وجاؤا لقتاله، ومن مظاهر حرصه على الدماء ما حدث في فتح مكة، فهو قد حرص على عدم إعلام قريش حينما أراد الفتح لئلا تتجهز لذلك ويذهب في المعارك قتلى كثيرون، فقد خرج من المدينة ولا يعلم من أصحابه وجهته إلا امرأته عائشة وصاحبه أبو بكر الذي أمره بإخفاء الأمر ، فكان من يظن أنه يريد الشام، وظان يظن ثقيفا، وظان يظن هوازن ، وبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبا قتادة ابن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن إضم[7] ليظن ظان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار[8] .
وقد كان حامل لواء كتيبة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في طريق الفتح سعد بن عبادة فلما رأى أبا سفيان نادى : يا أبا سفيان ! اليوم يوم الملحمة ! اليوم تستحل الحرمة ! اليوم أذل الله قريشا ! فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حتى حاذى أبا سفيان ناداه : يا رسول الله أمرت بقتل قومك ؟ سعد حين مر بنا قال : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ! اليوم تستحل الحرمة ! اليوم أذل الله قريشا ! و إني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس و أرحم الناس و أوصل الناس قال عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان : يا رسول الله ما نأمن سعدا أنه يكون منه في قريش صولة فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اليوم يوم المرحمة ! اليوم أعز الله فيه قريشا ! قال : و أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى سعد فعزله وجعل اللواء إلى قيس بن سعد[9] .
أسباب الإعجاز في حياة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ
1ـ تحقيق الاستقامة في نفسه وإلزامها بما يلزم بها غيره : فقد كان قبل الإسلام يعرف بالصادق الأمين شهادة يشهد بها أعداؤه وأصحابه على حد سواء كما كان معروفا بالوفاء و السعي في مصالح غيره فعندما نزل عليه الوحي و شكا حاله لخديجة قالت : و الله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، و تكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، و تعين على نوائب الحق[10] ، و عندما سأل هرقل أبا سفيان هل يغدر؟ قال أبو سفيان : لا[11] و لا شك أن هذه الأوصاف تسبق التعاليم إلى فتح القلوب فتحبه أو تحترمه و تكون مستعدة لأن تلتزم أمره وتجتنب نهيه فإذا أضيف إليها مشاركته الناس في الالتزام أمرا ونهيا في سرائهم و ضرائهم فهي إشارة أخرى لقيمة العمل في التغيير ، لقد حاصر المشركون المسلمين في شعاب مكة و منعوا عنهم الطعام و اللباس و الزواج وعرض بعض المشركين على النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعض المزايا و لكنه أبى ذلك أشد الإباء، فأين هذا اليوم من حكام وملوك تطحن الأزمات شعوبهم و هم يعيشون في عالم آخر من البذح و الرفاهية وأين هذا من حكام وضعوا قوانين على الناس و استثنوا أنفسهم بالحصانة.
لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثالا صادقا للرجل العملي يأمر أصحابه أن يصدقوا القول بالعمل حتى قال : "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان جبة خردل"[12] ، وعندما أمر أصحابه بالصبر فإنه كان مثلهم الأعلى ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأكرمهم على الله لم يتنزل عليه نصر الله بسُنّة خارقة، بل كُذِّب وأُوذي واتُّهم بالسحر والجنون وشُجّ رأسه وكُسرت رباعيته وتألب عليه الأحزاب. ولكنه ظل صابراً محتسبا .ً
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على هذه الحقيقة، فها هو ذا خباب بن الأرث رضي الله عنه يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا"، ومع أنه طلب أمراً مشروعاً وهو الاستنصار والدعاء، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قعد وهو مُحمرٌ وجهه، وقال: " قد كان من كان قبلكم لتُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه ...ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه ..وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عزو جل والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون[13] .
2ـ الحرص على تطبيق قوانين المصلحة العامة والالتزام با لحق مهما كانت النتائج : فلم يكن يقبل العفو في الحدود كالسرقة و القذف و غيرها حتى قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب[14] ، و أما في الأمور الخاصة فكان يفضل العفو و أفضل مثال عن ذلك عفوه عن مشركي مكة يوم الفتح حين قال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء ، و عفوه عن اليهودية التي وضعت له السم في الطعام ، و عفوه عن المنافقين الذين آذوه، ويغضب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من أية محاولة لانتهاك هذه القاعدة ففي حديث المرأة المخزومية التي سرقت و كبر على أهلها قطع يدها توسط لهم عند رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أسامة بن زيد حب النبي ، فغضب النبي حتى احمر وجهه و قال : يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب فقال :إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها[15].
كما كان – صلى الله عليه وسلم – حريصا كل الحرص على الالتزام بالحق مهما كان ذلك مكلفا، سواء كان ذلك متعلقا بالأفعال كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو بالأقوال كالشهادات ونحوها ، وهو بذلك يربي أصحابه على الصدق والخقيقة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".[16] و عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم".[17]
3ـ تنويع الخطاب حسب حال المخاطبين: حيث كانت كلماته و أحاديثه بمثابة الدواء و لذلك كان يصف لكل واحد منهم ما يناسبه فقد يكون ما يصلح للواحد منهم لا يصلح للآخر فعندما سأله رجل أي الأعمال أفضل قال : الصلاة على وقتها[18] وقال لآخر: إيمان بالله ورسوله[19] ، و لكن عندما سأله آخر أي الناس أفضل؟ قال :مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله[20]. و عندما حاول فضالة قتله مرتين وضع يده على قلبه فتحول إلى حبه، وعفا عن معاوية وعكرمة و أبى العفو عنه هبار بن الأسود و يدل هذا التنويع على فهمه للنفسيات و ما يصلح لكل منها ، كما يدل ذلك على أنه صاحب فراسة صادقة .
4 – أعطى مفهوما جديدا للسلطة والحكم : فهو قد علم أصحابه أن المسؤولية أمانة ثقيلة لا تسند إلى من سألها ، لأن ذلك يعني أحد أمرين ، فإما أن سائلها لا يعرف حقيقتها و متطلباتها و إما أنه يعرف ذلك و هو يريد استغلالها ، و في كلتا الحالتين لا يصلح لتوليها فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني ؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا أبا ذر ، إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها[21] ، و عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال : دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمرنا عن بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال : إنا والله لا نولي هذا العمل أخدا سأله أو أحدا حرص عليه[22].
ويترجم حقيقة الحكم كما جاء به الإسلام ما روي عن الربيع بن زيادة الحارثي أنه وفد على عمر بن الخطاب فأنس إليه عمر و أعجبته هيئته فشكا إليه عمر طعاما غليظا أكله فقال الربيع : ياأمير المؤمنين إن أحق اناس بطعام لين و ملبس لين لأنت ، فرفع عمر جريدة معه فضرب بها رأسه، و قال :أما و الله ما أراك أردت الله بمقالتك، ما أردت إلا مقاربتي ! ويحك هل تدري ما مثلي و مثل هؤلاء ـ جماهير الناس ـ ؟
قال الربيع : ما مثلك و مثلهم ؟ قال عمر : مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم و قالوا له : أنفق علينا ! فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين قال : فكذلك مثلي و مثلهم ...
ثم قال عمر : إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم و ليشتموا أعراضكم و يأخذوا أموالكم ! و لكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم و سنة نبيكم .
فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي ليرفعها إلي حتى أقصه منه ! فقال عمرو بن العاص : أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه ؟ فقال عمر : و مالي لا أقصه منه و قد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقص من نفسه ؟ ، و كتب عمر إلى أمراء الأجناد : لا تضربوا المسلمين فتذلوهم! ولا تحرموهم فتكفروهم ! ولا تجمروهم[23] فتفتنوهم ! ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم ![24] .
وهذا المفهوم الذي أعطاه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ للسلطة و الحكم لا يوجد له نظير في العالم قديمه و حديثه و إنما ساءت أحوال المسلمين بعد ذلك حين أصبحت المسؤولية غنيمة يتوارتها الناس ...
5 – إسناد المهمات إلى أصحاب الكفاءة: بمعنى أنه يستفيد من جميع الإمكانيات والطاقات المتاحة، فلقد ولى خالد بن الوليد قيادة في الجيش على حداثة عهده بالإسلام، وكلف معاوية بن أبي سفيان بكتابة الوحي، وأبوه كان من أشد المناوئين له، واليوم لا تسند المهمات السياسية والعسكرية إلا لأصحاب أقدميات معلومة، واتجاهات محددة، فلا يكون توزيع الوظائف على أساس الكفاءة والأهلية بمقدار ما يكون ذلك على أساس الولاء والانتماء، والكثير ممن يتحكمون اليوم في رقاب المسلمين وأموالهم ويلحقون بهم الهزيمة تلو الأخرى في شتى الميادين إنما جاؤا إلى مهامهم ومسؤولياتهم بطرق ملتوية، وعلى أساس حزبي أو جهوي أو مصلحي لا علاقة له بالكفاءة ، وفي الوقت ذاته أوصدت الأبواب الحديدية أمام أهل الكفاءة .
7 – فتح القلوب قبل فتح البلدان : فلقد عرضت عليه السيادة و الملك و من شأن ذلك أن يختصر له الطريق لتبليغ الدعوة و لكنه أدرك بحصيف رأيه أن الوصول إلى حكم الناس بطريق مريب و إن فتح الكثير من السبل لنشر الدعوة إلا أنه لا يكون مؤهلا لفتح القلوب و لذلك فإنه جاء إلى التغيير من أبوابه فصابر معهم ، وأعطى للبشرية دروسا مثالية في كيفية التعامل مع الآخرين والتأثير عليهم أيضا، وما أرى علم التنمية البشرية الحديث إلا مأخوذا من سنته – صلى الله عبيه وسلم _ وهو القائل : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، وهو القائل لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن : إياك وكرائم أموالهم ، وهو القائل : لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق.

الملخص :
لقد أصبح العالم اليوم مجرد قرية كونية صغيرة بفعل ما توفره وسائل الاتصال والإعلام الحديثة ، واكتسحت فكرة العولمة كل الحدود وتفتحت أمامها جميع الأبواب المغلقة ، وأصبح كل شيء مفتوحا أمام أي شيء ، سلعا وأفكارا وأديانا وتصورات ، والواجب على المسلمين اليوم أن يستغلوا كل ذلك في إيصال دينهم ومبادئهم إلى كل مكان أداء لواجب التبليغ.
ويساعدهم في ذلك العلم الحديث وما صاحبته من نظريات اجتماعية ونفسية في الكشف للعالم عن عظمة وصحة المعلومات والمباديء التي جاء بها الإسلام ممثلة في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، فطفق المسلمون يبحثون في الموافقات التي توصل إليها العلم الحديث مع نصوص الشريعة الغراء تحت مسمى الإعجاز العلمي ، ولقد أسلم بفعل ذلك الكثير من أرباب الفكر والنظر ، في الشرق والغرب، ومع ازدياد الكشوفات الحديثة المطابقة لما ورد في القرآن والسنة تنوع البحث في وجوه الإعجاز، إلى إعجاز علمي وآخر غيبي، وثالث نفسي وتشريعي وغير ذلك.
وموازاة مع ذلك ظهرت دراسات محدثة تتناول سنن التغيير الاجتماعي وما يشترط لنجاحها ، وما تتطلبه عملية التغيير من نفقات وتضحيات ، وظهرت أقوال حتى عند غير المسلمين تؤكد أن فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك لا يمكن أن يقوم به غيره.
وإذا كان الشيوعيون قد استطاعوا أن يصدِّروا أفكار وتخاريف ماركس ولينين وستالين على تواضعها ، واعتنقها رغم ذلك ملايين البشر ولا يزالون ، فإن البحث في موضوع التغيير في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وما تميز به من خصائص في قلة التكاليف من جهة وعظمة النتائج من جهة ثانية ، بما يعني الإعجاز في فعله أثناء حياته ، وسيلة فعَّالة في التعريف بعظمة الإسلام ، وعظمة نبي الإسلام ، ومن شأن ذلك أن يدفع الكثير من الباحثين والمتأملين في سنن التغيير الاجتماعي إلى الإسلام ، إضافة إلى ما يوفره ذلك للمسلمين من تفقه في سبل الخروج من الحفرة التي هم فيها.
وتعالج هذه المداخلة بعض المنجزات المعجزة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الارتقاء بالبشرية ، وأسباب ذلك، ولا يزال الموضوع في حاجة ماسة إلى أبحاث أخرى تبحث في مظاهر التبدل في حياة العرب والمسلمين بعد الإسلام ، وأيضا في البحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك.
الهوامش
(1) لدكتور يحي ابراهيم اليحي – مدخل لفهم السيرة – مقال على الانترنيت
(2) مايكل هارت – الخالدون مائة – ترجمة أنيس منصور – الزهراء للإعلام العربي – القاهرة ، الطبعة السابعة 1987 ص17- 18
(3) رواه الامام أحمد
(4) الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي ( 9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910 ) من عمالقة الروائيين الروس ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعدونه من أعظم الروائيين على الاطلاق. كان ليو تولستوي روائي ومصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي وعضو مؤثر في عائلة تولستوي. أشهر أعماله روايتي " الحرب والسلام" و "أنا كارنينا" وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعي ، فهما يعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية. النص منقول عن موقع إسلام أونلاين-
(5) الحجرات :13
(6) ابن عبد ربه – العقد الفريد – دار الكتاب العربي بيروت لبنان 1983 ج2 ص277
(7) ماء بين مكة واليمامة
(8) الواقدي محمد بن عمر – كتاب المغازي – تحقيق الدكتور مارسدن جونس – عالم الكتب الطبعة الثالثة 1984 ج2 ص796- 797
(9) الواقدي – المرجع السابق – ص 821 -822
(10) صحيح البخاري – كتاب التفسير وتعبير الرؤيا
(11) ابن الأثير – الكامل في التاريخ – دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الخامسة 1985 ج2 ص 144 .
(12) رواه مسلم .
(13) أمين دويدار – صور من حياة الرسول – دار المعارف – الطبعة الخامسة ص 156
(14) أبو داوود – صحيح سنن المصطفى - كتاب الحدود باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان
(15) أبو داوود – المرجالسابق – كتاب الحدود باب في الحد يشفع فيه
(16) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري
(17) رواه البخاري ومسلم
(18) متفق عليه من حديث ابن مسعود
(19) متفق عليه من حديث أبي هريرة
(20) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخذري
(21) رواه مسلم
(22) متفق عليه
(23) لا تجعلوا الجنوديبتعدون عن نسائهم مدة طويلة في ميادين القتالفإن ذلك يغريهم بارتكاب الفواحش
(24) الغزالي محمد – الطريق من هنا – دار الكتب الجزائر ص132






[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:indigo;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
العدالة الإجتماعية في الإسلام
تمهيد:
أرسى الإسلام العديد من القواعد و الأسس التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع. و من أهم هذه الأسس هي العدالة الاجتماعية بما تحمله من معاني و قيم رفيعة تساعد على القيام بمجتمع يتمتع بالسلام و الإخاء و المحبة و الرخاء. و العدالة في الإسلام لا تطبق فقط على المسلمين، إنما جعلت لجميع أفراد المجتمع بغض النظر عن معتقداتهم.1
مفهوم العدل:
كلمة العدل لغويا تعني (القصد في الأمور، أو عبارة عن الأمر المتوسط بين الإفراط و التفريط) و مقابلها الظلم و الجور. و مصطلح العدل يرمي إلى المساواة في إعطاء الحقوق و الإلتزام بالواجبات دون تفرقة لأي سبب من الأسباب سواء كان دين أو جنس أو لون.2
مظاهر العدل في القرآن:
تتضح أهمية العدل في الإسلام في كونه صفة من صفات الله تعالى، حيث أنه سبحانه و تعالى العدل. و يعد العدل من القيم الأساسية التي حث عليها القرآن و كررها في العديد من الآيات. و لقد فرض الله العدل على المسلمين ليشمل كل شيء في حياتهم ابتداءا من العدل في الحكم إلى الشهادة و معاملة الأسرة و الزوجة و جميع الناس حتى الأعداء و الخصوم. فلقد قال الله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (سورة النساء، آية 58). كما يقول: "و لا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى" (سورة المائدة، آية 8).3
مفهوم العدالة الاجتماعية:
تعني العدالة الاجتماعية إعطاء كل فرد ما يستحقه وتوزيع المنافع المادية في المجتمع، و توفير متساوي للاحتياجات الأساسية. كما أنها تعني المساواة في الفرص؛ أي أن كل فرد لديه الفرصة في الصعود الاجتماعي.4
أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام:
تعد العدالة الاجتماعية من أهم مكونات و أساسيات العدل في الإسلام. و لقد أوضح د. سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام أن هناك ثلاثة ركائز تقوم عليها العدالة الاجتماعية في الإسلام. هذه الركائز هي التحرر الوجداني المطلق و المساواة الإنسانية الكاملة و التكافل الاجتماعي الوثيق حيث أن كل عنصر مبني على الآخر. و يعني بالتحرر الوجداني هو التحرر النفسي من الخضوع و عبادة غير الله لأن الله وحده هو القادر على نفع أو ضرر الإنسان. فهو وحده الذي يحييه و يرزقه و يميته دون وجود وسيط أو شفيع حتى لو كان نبي من الأنبياء. فلقد قال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قل إني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا" (سورة الجن، آية 21) كما قال: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" (سورة آل عمران، 64). و الهدف من التحرر النفسي من الخضوع لغير الله هو التخلص من الخوف و التذلل لغير الله لنيل رزق أو مكانة أو أي نوع من أنواع النفع عن يقين أن الله وحده هو الرزاق. و لكنه قد ينجح الإنسان نسبيا في أن يتحرر من عبودية كل ما هو سوى الله تعالى في حين أن هناك احتياجات طبيعية بشرية خلقها الله في الإنسان أهمها المأكل تعوق التحرر الكامل و الحقيقي. و من أجل أن يحقق الإسلام هذا التحرر الوجداني بصورة فاعلية و واقعية، فلقد وضع الله من القوانين و التشريعات ما يضمن للإنسان احتياجاته الأساسية و بالتالي يساعده على تحقيق التحرر الوجداني الكامل. و من أهم هذه القوانيين هو وضع مبدأ المساواة كمبدأ أساسي من مباديء الإسلام. فبعكس كل من إدعى أنه من نسل الآلهة و كل من تصور أن دمه دما أزرقا نبيلا أرقى من بقية الشعب، جاء الإسلام ليساوي بين جميع البشر في المنشأ و المصير. فلقد قال الله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء" (سورة النساء، آية 1) و قال: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (سورةالحجرات، آية 13). كما قال: "و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (سورة الإسراء، آية 70). فالكرامة مكفولة لكل إنسان و الفرق بين الناس عند الله هي درجة تقواهم و ليس جنسهم أو لونهم.
أما القانون الثاني الذي وضعه الإسلام لضمان التحرر الوجداني الحقيقي فهو التكافل الاجتماعي. 5 و التكافل الإجتماعى يقصد به إلتزام الأفراد بعضهم نحو بعض؛ فكل فرد عليه واجب رعاية المجتمع و مصالحه. و ليس المقصود بالتكافل الاجتماعي في الإسلام مجرد التعاطف المعنوى من شعور الحب و المودة، بل يتضمن العمل الفعلي الإيجابي الذي يصل إلى حد المساعدة المادية للمحتاج و تأمين حاجته بما يحقق له حد الكفاية. و ذلك يكون عن طريق دفع الزكاة، فإن لم تكفي فيؤخذ من الأغنياء ما يكفي للفقراء.6
صور من العدالة في الإسلام:
ضرب الرسول صلى الله عيه و سلم أروع الأمثلة للخلق العظيم و من أهمها العدل في التعامل. و قد صار على نهجه الصحابة و على رأسهم عمر بن الخطاب و الذي سماه الرسول صلى الله عليه و سلم بالفاروق لأنه كان يفرق بين الحق و الباطل و كان العدل من أهم سماته منذ أن دخل في الإسلام. و لقد خطب عمر في الناس عندما تولى الخلافة قائلا: (إن رأيتم في إعوجاجا فقوموني. فيندب له رجل من عامة المسلمين يقول: لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا. فما يزيد عمر على أن يقول: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد سيفه.)7 و هذا يدل على قمة المساواة و العدل. فلقد أعطى عمر بن الخطاب الرعية الحق في أن يقوموه بالسيف إن لم يستقم بعكس ما هو قائم حيث أن معظم الحكام لا يسمحون إلا بتبجيلهم و تعظيمهم واضعين نفسهم في مرتبة أعلى من بقية البشر. كما أن عمر بن الخطاب في وقت خلافته خطب في الناس في وجود الولاة ليعرفوا حقوقهم و واجباتهم قائلا: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، و يشتموا أعراضكم، و يأخذوا أموالكم و لكن استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم و سنة نبيكم عليه الصلاة و السلام، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له على يرفعها إلى حتى أقص منه. فقال عمرو بن العاص: ياأمير المؤمنين أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه؟ فقال عمر: و مالي لا أقصه منه و قد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقص من نفسه؟)8
و بجانب العدل و المساواة، فلقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في العطاء و التكافل الاجتماعي بين الأغنياء و الفقراء. فلقد كان أبو بكر الصديق يملك أربعون ألف درهما من تجارته لم يتبقى منهم سوى خمسة آلاف درهم أنفقهم على الفقراء من المسلمين الذين كانوا يذوقون ألوانا من العذاب لإسلامهم. و يتضح العطاء أيضا من علي بن أبي طالب حيث أنه تصدق بثلاثة أرغفة لم يكن يملك سواهم و أعطاهم لمسكين و يتيم و أسير.9
و من ثم، فإن العدالة الاجتماعية بما تتضمنه من مساواة بين جميع أفراد المجتمع حتى بين الحاكم و المحكوم و بما تتضمنه من تكافل اجتماعي تعد من أهم القيم التي قام عليها الإسلام و مارسها الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة بدقة لبناء مجتمع قوي و متماسك؛ الإخاء و المحبة و الترابط من أهم سماته. و برغم غياب الممارسة الحقيقية لهذه المفاهيم في عصرنا الحالي، فيجب على كل الأمة الإسلامية استرجاع ما علمه لنا الإسلام و رسوله حتى نعيد البناء القوي لمجتمعنا و الشعور بالمحبة و الأمان و الطمأنينة الذي يعاني مجتمعنا من غيابه.
المصدر: منقول عن موقع العطاء من أجل التنمية http://www.neareast.org
1 محمد الحسينى عبد العزيز. نظم الأمن و العدالة فى الإسلام دار غريب للطباعة و النشر و التوزيع: القاهرة ،2002،صـ123
2 محمد نجيب أحمد أبو عجوة. المجتمع الإسلامي: دعائمه و آدابه في ضوء القرآن الكريم مكتبة مدبولي: القاهرة، 2000.، ص 73
3 محمد نجيب أحمد أبو عجوة. المجتمع الإسلامي: دعائمه و آدابه في ضوء القرآن الكريم، م. س. ذ، ص 79 - 80.
4 هبة رءوف عزت: الليبرالية..أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال، http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/2004/08/article01b.shtm1
5 سيد قطب. العدالة الاجتماعية في الإسلام دار الشروق: القاهرة، 2002، ص. ص 31 - 62
6 محمد شوقى الفنجرى "التكافل الإجتماعى" المؤتمر15 للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، مستقبل الأمة الإسلامية،القاهرة،المجلس الأعلى للشؤن الإسلامية،2003،صـ913
7 سيد قطب. العدالة الاجتماعية في الإسلام، م. س. ذ، ص 140
8 نجيب أحمد أبو عجوة. المجتمع الإسلامي: دعائمه و آدابه في ضوء القرآن الكريم، م. س. ذ، ص 92
9 سيد قطب. العدالة الاجتماعية في الإسلام، م. س. ذ، ص 151
و لمزيد من المعلومات عن العدالة الاجتماعية في الإسلام، انظر إلى المصادر الآتية:
عبد السميع المصري. عدالة توزيع الثروة في الإسلام مكتبة عابدين: القاهرة، 1986.
عماد الدين خليل. مقال في العدل الاجتماعي مؤسسة الرسالة: بيروت، 1984.
محمد عبد المنعم خفاجى. الإسلام و نظريته الاقتصادية دار الكتاب اللبناني: بيروت، 1982.
نعمت حافظ البرزنجي، تحرير. الكيان الإسلامي و النضال من أجل العدالة دار الفكر المعاصر: دمشق، 1999.
Hatem, M. Abdel Kader. Values of Islam General Egyptian Book Organization: Cairo, 1999.

http://www.55a.net/firas/arabic/print_details.php?page=show_det&id=954
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:darkblue;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center][ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:eek:range;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
التكافل والضمان الاجتماعي في الإسلام



مقدمة

ركز الإسلام على التكافل الاجتماعي كأحد الأسس التي من خلالها تتحقق الحياة الكريمة للفرد، ولهذا فقد أوجد العديد من أشكال العطاء الديني التي من خلالها يتحقق التكافل الاجتماعي ومن بينها: الزكاة و الصدقة و الوقف و الكفارات و النذور...........و هذه الأشكال لا تقتصر فقط على العطاء لسد الاحتياجات الأساسية للإنسان بل لتحقيق حد الكفاية وحد الغني فكما قال سيدنا عمر بن الخطاب, "إذا أعطيتم فأغنوا"، وذلك عن طريق توفير فرص عمل والمساعدة في عمل مشروعات صغيرة...، و قد أكد العلماء أن التكافل الاجتماعي ينقسم إلى التكافل المادي والمعنوي، والتكافل المعنوي يأتي في صور كثيرة لأن احتياجات الإنسان لا تقتصر فقط على الاحتياجات المادية و لكنه تتضمن أشكالا أخرى مثل المشورة والنصيحة، والصداقة، والتعليم، وغيرها من أشكال العطاء ومن هنا يتضح أن العطاء بالمجهود و العطاء العيني لا يقل أهمية عن العطاء المادي، وأهمية أن يوجه إلى تنمية الإنسان وليس لخلق حالة من الاتكالية بسبب قصر العطاء على سد الاحتياجات الأساسية التي تعتبر بمثابة مخدر للآلام و لا تبحث عن الأسباب الفعلية للمشكلة ومعالجتها. ومن ثم فكل شخص ينبغي أن يكون له دور حقيقي ومؤثر في المجتمع وعليه مسئولية كبيرة في حل مشكلة الفقر والبطالة.... من جذورها، والمساعدة ولو بأقل القليل في الارتقاء بفرد أو أسرة واحدة من خلال فتح باب الرزق لها أو تعليم أفراد الأسرة مما يحقق لهم الاعتماد الذاتي الذي يعد أساس التكافل الاجتماعي.
التكافل الاجتماعي و الضمان الاجتماعي في الإسلام
تعريف التكافل الاجتماعي في الإسلام
يعد التكافل الاجتماعي من أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع في الإسلام والتي تضمن سعادته و بقاءه في إطار من المودة والأمن و الوحدة والسلام. والمعنى اللغوي للتكافل هو الانضمام و هي "ضم ذمة إلى ذمة لتتقوى إحداهما بهذا الضم". و بالمعنى المبسط أن كل فرد قادر من أفراد المجتمع يتعين عليه عون أخيه المحتاج حتى يضمن له على الأقل المستوى الأدنى من الحياة الكريمة و ضمان وجود الاحتياجات الأساسية و ذلك لجميع أفراد المجتمع دون التفرقة بين ديانة أو جنسية .1 و التكافل لا يعني فقط الشعور بالتعاطف السلبي والوقوف عند هذا الحد و لكن يجب أن يصاحبه الفعل الإيجابي .2 و قد أكد العلماء أن التكافل الاجتماعي ينقسم إلى قسمين: قسما مادياً و قسما معنوياً. فالقسم المادي هو المساعدة المادية بالأموال كي ينقل المحتاج من حالة الفقر إلى "حد الكفاية" أو "حد الغنى". كما قال سيدنا عمر بن الخطاب, "إذا أعطيتم فأغنوا" وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم" 3. أما التكافل المعنوي فيأتي في صور أخرى كثيرة لأن احتياج الإنسان لا يقتصر فقط على الاحتياجات المادية و لكنه يتضمن أشكالا أخرى مثل النصيحة، الصداقة، الود، التعليم، المواساة في الأحزان، و غيرهم الكثير من أشكال العطاء.4
تعريف الضمان الاجتماعي في الإسلام
و قد أوضح العلماء أنه يوجد فرق في المعنى بين كلمتي التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي رغم تشابههما. فالضمان الاجتماعي هو التزام الحاكم نحو رعيته أو باللغة المعاصرة التزام الحكومة نحو شعبها. فالسلطة يجب أن تحرص على إبقاء الحد الأدنى من المعيشة اللائقة للشعب و توفير المساعدة لكل من يحتاج إليها.5
التكافل الاجتماعي في الإسلام لتحقيق الرخاء في المجتمع
لقد ظهر مفهوم التكافل الاجتماعي في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. يقول الله تعالى في قرآنه الكريم "إنما المؤمنون إخوة" [سورة الحجرات، آية 10] كما يقول {و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض} [سورة التوبة، آية 71]. كما ورد في السنة الكثير من الأحاديث التي تحث المسلمين على التآخي و الإيثار من أجل الآخرين. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم، " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا" و قوله "مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى". و أيضا قوله صلى الله عليه و سلم، "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".6
و لقد أوضح الإسلام أن المال الذي وهبه الله لعباده ليس ملكا خاصا لهم وإنما هو ملك لله. وذلك يستدعي أن المسلم لا ينفق المال فقط كما تلهمه أهواءه و إنما يكون الإنفاق حسب التعاليم التي أتى بها الله تعالى. فالإسلام يوضح أن الكون كله بمن عليه هو ملك لله و ليس للبشر. فلقد قال الله تعالى {ولله ملك السموات و الأرض} و أيضا {و آتوهم من مال الله الذي آتاكم}. و كون المال ملك لله، فهو أمانة في يد الإنسان إلى أن يسأل عليه يوم القيامة. و من أهم الأساسيات التي حث عليها الله تعالى في جميع رسالاته هو الإنفاق في سبيل الله. فلقد قال الله تعالى في قرآنه الكريم، {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، و من يبخل فإنما يبخل عن نفسه، و الله الغني و أنتم الفقراء و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [سورة محمد، آية 38]. كما يقول تعالى {و لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [سورة آل عمران، آية 180]. 7 و قد وصل إلزام الإسلام على المسلم أن يعطي لأخيه المحتاج إلى الحد أنه إذا لم تكفي الزكاة و الصدقات، فعلى المجتمع ككل أن يشارك بعضه بعضا في الكفاف. كما قال الله تعالى، { كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم} [سورة الحشر، آية 7]. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، "ليس بمؤمن من بات شبعان و جاره جائع إلى جنبه و هو يعلم"، كما قال، "أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا، فقد برئت منهم ذمة الله و رسوله". أما سيدنا عمر بن الخطاب فلقد قال،"إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف".8
من ثم نجد أن التكافل الاجتماعي هو حق أساسي من حقوق الإنسان التي كفلها الله تعالى لعباده منذ أربعة عشر قرنا. فنجد أن حق الإنسان في حياة كريمة هو من القواعد المثبتة في المنهج الإسلامي و ليس فقط نتيجة تجارب إنسانية ظهرت مع تقدم النظم السياسية والاقتصادية كما حدث في العالم الغربي في القرن العشرين.9 و لقد أوجد الإسلام وسائل عديدة للمسلم لكي يتحقق التكافل الاجتماعي منها الزكاة، الصدقات، الوقف و يعد صدقة جارية، الديات، الكفارات، و النذور. و هناك بعض المقترحات من بعض المفكرين التي قد نبدأ بها في المرحلة الحالية كمحاولات لتحقيق التكافل الاجتماعي، و منها التكافل العائلي ويعنى به أن العائلة تقوم بصندوق للتكافل الاجتماعي تعين به الأسر الفقيرة في العائلة كأن تعطي لهم راتب شهري أو مبلغ من المال لبداية مشروع أو إسعاف مريض. أيضا من المقترحات إنشاء لجان التكافل الاجتماعي في الأحياء لكي يساعد أغنياء الحي الفقير والمسكين و اليتيم منهم بصورة منظمة.10 ومن الضروري توريث أسس التكافل الاجتماعي عبر الأجيال.
الزكاة كوسيلة للضمان الاجتماعي:
تلعب الزكاة دورا هاما لتحقيق الضمان الاجتماعي. و هي كما وصفها الكثير من العلماء مؤسسة الضمان الاجتماعي، حيث أنها إلزامية و لها مصارفها و قيمتها المحددة. و لقد نجحت الزكاة في العصور الإسلامية السابقة كمؤسسة، متمثلة في بيت المال و الذي كان من مسؤوليات الحاكم، في تحقيق أهدافها في الإسهام بشكل كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية. وقد أوضح ذلك د. ناصح علوان في التكافل الاجتماعي في الإسلام قائلا، "لا يخفى أن مبدأ الزكاة حين طبق في العصور الإسلامية السالفة نجح في محاربة الفقر، و أقام التكافل الاجتماعي، و نزع من القلوب حقد الفقراء على الأغنياء ... و عود المؤمنين على البذل والسخاء و هيأ سبل العمل لمن لا يجد مال".11 و يتضح من هذا أن الزكاة لم تكن فقط مجرد إعطاء بعض من المال لإطعام الفقراء، إنما كانت وسيلة حقيقية للقضاء على الفقر و ذلك عن طريق توفير فرص عمل مثل أن يعطى الشاب الفقير رأس مال كي يبدأ تجارة و أن يشتري آلة لحرفة يعلمها. من هنا نجد أن الزكاة أداة من أدوات التنمية و القضاء الفعلي على الفقر.
و قد ضرب الخلفاء عمر بن الخطاب و عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما أروع الأمثلة التي أوضحت كيف أن الحاكم الصالح قادر أن يحقق العدل و الرخاء لأمته من خلال الأمانة و العدالة الفائقة في توزيع أموال الأمة. فلقد قال الخليفة عمر بن الخطاب في عام الرمادة وهو عام المجاعة, "و الله الذي لا إله إلا هو، ما أحد إلا و له في هذا المال حق أعطيه أو أمنعه، و ما أحد أحق به من أحد، و ما أنا فيه إلا كأحدكم ... و الله لئن بقيت، ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال و هو يرعى مكانه".13 أما في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فلقد محي الفقر و حل محله الغنى في جميع أنحاء الأمة، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. فعن سهيل بن أبي صالح، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن و هو بالعراق أن أخرج إليهم أعطياتهم فكتب إليه عبد الحميد: أني قد أخرجت للناس أعطياتهم و قد بقى في بيت المال مال. فكتب إليه: أنظر من أدان في غير سفه و لا سرف فاقض عنه، فكتب إليه: أني قد قضيت عنهم و بقى في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أنظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه و أصدق عنه، فكتب إليه: أني قد زوجت كل من وجدت و قد بقى في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أنظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين".14
و لقد أكد الإسلام على ضرورة مراعاة الحاكم لرعاياه بتحري الحق و العدل و تحقيق العدالة الاجتماعية و التكافل الاجتماعي. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال, "ما من أمير عشيرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل". كما قال عليه الصلاة و السلام، "ما من عبد يسترعيه الله عز و جل رعية، يموت يوم يموت و هو غاش رعيته إلا حرم الله عليه الجنة".15
و من هنا، يجب على كل مسلم و مسلمة أن يعلموا أن الأمة كلها أفرادا كانت أم حكومات عليها مسؤولية كبيرة للخروج من أزمة الفقر و الفساد و عدم المساواة التي يعاني منها الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي. و علينا أن نبدأ بأنفسنا بأن نعمل و نشجع بعضنا البعض لتحقيق التكافل بين المجتمع كي نبرأ أنفسنا أمام الله تعالى يوم القيامة بأن أعطينا و عدلنا قدر ما استطعنا و هذا أضعف الإيمان.
المصدر: منقول عن موقع العطاء من أجل التنمية http://www.neareast.org
1 جمال الدين محمد محمود. أصول المجتمع الإسلامي دار الكتاب المصري، القاهرة 1992، ص 147
2 محمد شوقي الفنجري "المقومات الأساسية للمجتمع الإسلامي: التكافل الاجتماعي" في إطار المؤتمر العام الحادي عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية: نحو مشروع حضاري لنهضة العالم الإسلامي، القاهرة 2000، ص 532
3 محمد شوقي الفنجري "المقومات الأساسية للمجتمع الإسلامي: التكافل الاجتماعي" في إطار المؤتمر العام الحادي عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية: نحو مشروع حضاري لنهضة العالم الإسلامي، القاهرة 2000، ص 533 - 534
4 جمال الدين محمد محمود. أصول المجتمع الإسلامي دار الكتاب المصري، القاهرة 1992 ، ص150
5 محمد شوقي الفنجري "المقومات الأساسية للمجتمع الإسلامي: التكافل الاجتماعي" في إطار المؤتمر العام الحادي عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية: نحو مشروع حضاري لنهضة العالم الإسلامي، القاهرة 2000، ص 532
6 جمال الدين محمد محمود. أصول المجتمع الإسلامي دار الكتاب المصري، القاهرة 1992، ص 140
7 عبد الله ناصح علوان. التكافل الاجتماعي في الإسلام دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع و الترجمة، القاهرة 2001، ص 36، 53
8 محمد شوقي الفنجري "المقومات الأساسية للمجتمع الإسلامي: التكافل الاجتماعي" في إطار المؤتمر العام الحادي عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية: نحو مشروع حضاري لنهضة العالم الإسلامي، القاهرة 2000، ص 536 - 538
9 جمال الدين محمد محمود. الإسلام و المشكلات السياسية المعاصرة دار الكتاب المصري، القاهرة 1992، ص 355
10 ناصح علوان. التكافل الاجتماعي في الإسلام دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع و الترجمة، القاهرة 2001، ص 111 - 112
11 ناصح علوان. التكافل الاجتماعي في الإسلام دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع و الترجمة، القاهرة 2001، ص 76
12 ناصح علوان. التكافل الاجتماعي في الإسلام دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع و الترجمة، القاهرة 2001، ص 18
13 محمد فاروق النبهان. أبحاث في الاقتصاد الإسلامي مؤسسة الرسالة، بيروت 1986، ص 66
14 ناصح علوان. التكافل الاجتماعي في الإسلام دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع و الترجمة، القاهرة 2001، ص 86






[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN][/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:indigo;"][CELL="filter:;"][FONT=(Al Moharib Blook Othman 1)][ALIGN=center]
كابوس الكفــــر
بقلم الكاتب التركي هارون يحيي

النزوع إلى الشر، الظلم، الحزن، التشاؤم، الاضطراب، العزلة، الخوف، الضغط النفسي، الإحباط، انعدام الأمن والطمأنينة ، تشتت الذهن، القلق، الغضب، الغيرة، الامتعاض، إدمان المخدرات، تضعضع الأخلاق، المقامرة، البغاء، الجوع، الفقر، التفسخ الاجتماعي، السرقة، الحرب، الصراع، العنف، الاضطهاد، الخوف من الموت...هذه الظواهر وغيرها يتكرر الحديث عنها في الصحف والمجلات ومحطات التلفزة بشكل يومي. وتخصص الصحف الكبيرة صفحات كاملة لهذه الموضوعات، كما تنشر صحف أخرى سلسلة من المقالات التي تتناول الجوانب النفسية والاجتماعية لهذه القضايا. غير أن احتكاكنا بهذه القضايا لا يقتصر على الصحف وحدها، بل نحن نواجه هذه المشكلات بشكل متكرر في سياق حياتنا اليومية، وأهم من ذلك، لكل واحد منا تجارب شخصية معها.
يكافح الناس والمجتمعات للتحرر من وطأة هذه الاضطرابات والظواهر السلبية، ومن مثل هذه الهياكل الاجتماعية الضارة والعليلة التي هيمنت على العالم منذ عصور. ويكفينا للتيقن من ذلك أن نلقي نظرة خاطفة على دولة اليونان القديمة وعلى الإمبراطورية الرومانية العظمى وروسيا القيصرية
وعلى ما يسمى بعصر التنوير، بل حتى القرن العشرين قرن البؤس الذي شهد حربين عالميتين اثنتين وكوارث اجتماعية واسعة النطاق. وأيا كانت الحقبة الزمنية أو الحيّز الجغرافي الذي تصوّب إليه نظرك، فإن الصورة تظل هي هي، بلا اختلاف ذي بال.
ويثور سؤال هنا وهو: لماذا عجز الناس، والحال كذلك، عن الإتيان بحلول لهذه المشكلات، أو على الأقل، بذل الجهود لتخليص مجتمعاتهم من هذه العلل الاجتماعية؟
الواقع أنه لم يسلم مجتمع في أي عصر من العصور من هذه المشكلات، ومع هذا استمرت خيبة الناس في التخلص منها وما ذاك لا لعدم صلاحية الوسائل المستخدمة لبلوغ هذه الغاية. فقد تداووا بكل الأدوية وجربوا نظماً سياسية شتى، وبسطوا قوانين شمولية فاشلة، وأقاموا الثورات، وتبنوا أيدلوجيات منحرفة، هذا في حين اتسم سلوك البعض الآخر باللامبالاة تجاه هذه المشكلات وآثروا التسليم بالوضع القائم.
وفي عصرنا هذا الراهن أشرب الناس، أو كادوا، هذا النمط الحياتي، أعني اللامبالاة. فهم مسلمون بأن هذه المشكلات هي من حقائق الحياة التي لا يملك أحد تغييرها. لذلك فهم موقنون بأن وجود مجتمع يتمتع بالحصانة من هذه المشكلات إنما هو ضرب من المحال أو حلم طوباوي بعيد المنال. ورغم امتعاضهم المتكرر والمعلن من هذا النمط الحياتي إلا أنهم يركنون إليه ويعتنقونه بكل سهولة وذلك بسبب ما قرّ في نفوسهم من استحالة وجود بديل آخر لهذا النمط الحياتي.
إن الترياق الوحيد لهذه المشكلات كلها يكمن في اعتناق مبادئ "الدين الحق". فلا أمل في تغيير هذه الصورة الكالحة التي ستبقى ما بقي التجاهل لحدود الله وإبدالها بصورة أخرى هادئة ومشرقة إلا إذا سادت قيم الدين الحق. وبعبارة أخرى، سيظل الناس نهبا لهذه المعضلات طالما تناءوا عن قيم القرآن. ولو شئنا أن نعرف هذا الوضع بعبارة بسيطة لقلنا إنه: كابوس الكفر.
لقد دفعت أرحام المطابع بكتب كثيرة حاول مؤلفوها التعامل مع المشكلات النفسية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات اليوم، إلا أن الخاصية التي تميّز هذا الكتاب هي أنه يركّز على الحل الأكثر واقعية، كما أنه ينذر الناس من مغبة المستقبل الكئيب الذي ينتظرهم إذا عشوا عن هذا الحل.
وإننا لنرجو أن يدرك الذين يقبلون على هذا الكتاب بعقل متفتح وضمير واع أن معاني السلام والثقة المتبادلة وتوفر حياة اجتماعية مثالية لا تتأتى إلا بتقمّص قيم القرآن والإقبال على الدين الحق، وهو الدين الإسلامي.
عندها سيندرج هؤلاء في سلك الناجين من رهق المعاناة، معنوية كانت أو حسية، ومن نصب المتاعب التي سلف الحديث عنها، وسيحيون في بحبوحة من الرحمة والحب والاحترام والسلام والثقة، وستسود بينهم القيم الأخلاقية. وسيتوسلون إلى مرضاة الله بمراعاة حدوده والتزام هدي القرآن. وبهذا يقوى إيمانهم بالله فيفرغ الله عليهم شئآبيب رحمته ويثيبهم جنات الفردوس بعد الممات.
مـا الــدين الحـــق؟

من أين أتيت وإلى أين أذهب؟ ما هدف ومعنى حياتي؟ ما حقيقة الموت؟ هل هناك حياة أخرى بعد الموت؟ هل الجنة والنار توجدان حق؟ ما هو أصل الحياة؟ أين الله؟ ماذا يريد منا خالقنا؟ كيف لي أن أفرّق بين الحق والباطل؟ أين أعثر على إجابات لهذه الأسئلة؟
لقد حاول الناس في كل العصور الإجابة على هذه الأسئلة المهمة وفكروا فيها بجد وأوسعوها نقاشا، ومع ذلك، وخلافا للاعتقاد الشائع، فقد خرجت أفضل الإجابات على هذه الأسئلة وعلى مر العصور من مشكاة "الدين الحق" الذي تنزل به الوحي الإلهي لا من قرائح الفلاسفة وعقول المفكرين.
كثيرة هي الأديان التي أوت إليها أفئدة الناس وجذبت الأتباع على امتداد العالم، ومن هذه الأديان على وجه التمثيل لا الحصر: البوذية والشامانية والوثنية، إلا أنه لا أحد من هذه الأديان تنزل به الوحي الإلهي. ولهذا فهي لا تزيد على كونها فلسفات أو حركات. وبعض هذه الأديان، وبحكم اقتصارها على معان رمزية أو ثقافية، لم تأت بأي حلول اجتماعية أو نفسية للمشكلات. كما أن الأشخاص الذين اضطلعوا بمهمة تطوير هذه الأديان قد أهمتهم هذه الأسئلة الملحة، إلا أنهم عجزوا عن الإتيان بإجابات يعوّل عليها. ومع هذا فهناك بعض الأديان الصحيحة والتي يتعيّن علينا تقييمها وفرزها من الأديان الباطلة. وإن أبرز سمة تميّز الأديان الصحيحة من الأديان الزائفة هي الأصل الذي خرجت منه، إذ تتصل جذورها جميعا بالوحي. لقد أخبر الله سبحانه وتعالى الناس في القرآن عن هيمنة وعلو الدين الحق على ما عداه من أديان أو فلسفات أو نظم اجتماعية، وذلك في قوله: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا" (الفتح: 28)، وفي قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِه َالْمُشْرِكُونَ" (الصف: 9)
إن اليهودية والنصرانية والإسلام هي الديانات التي ترجع أصولها إلى الوحي. فهي في أصولها تنزلات وحيية من الله تبارك وتعالى، إلا أن فسادا عريضا قد اعترى الديانتين النصرانية واليهودية بعد موت عيسى وموسى عليهما السلام. فقد غشيت غاشية التحريف والحذف والإضافة كتابي العهد الجديد (الإنجيل) والعهد القديم (التوراة)، وباختفاء الكتب الأصلية بمرور الوقت ظهرت نسخ محرفة كثيرة للعهدين الجديد والقديم، ولف النسيان المطبق النسختين الأصليتين من الكتابين. ولهذا تفرقت السبل بأتباع الديانتين عن سبيل الدين الإلهي الأصيل، فأقاموا معتقداتهم وطقوسهم وطرائقهم التعبدية والحياتية على فهم محرف لدين اختلقه الأحبار والرهبان. ولا تزال هذه التفسيرات والمعتقدات الزائغة باقية إلى يوم الناس هذا. ولهذا عجزت هذه الأديان المحرفة عن تقديم حلول للمشكلات سالفة الذكر.
بعد هذا التحريف الذي طرأ على هاتين الديانتين أوحى الله آخر الكتب السماوية والذي أريد له أن يبقى بريئا من التحريف إلى يوم القيامة وذلك بعد أن تعهد الله بحمايته وحفظه من عبث العابثين وتحريف المبطلين، يقول الله تعالى: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر: 9).
لقد بقي القرآن ولأربعة عشر قرنا من الزمان بهيئته الأولى ونسخته الأصلية بريئا من غوائل التحريف والدس. فقد بقي كل حرف من النسخة الأولى للقرآن والتي كتبت بخط اليد كما هو في المصاحف التي في أيدي المسلمين اليوم. ففي كل مصر من أمصار العالم يتلو المسلمون كتابا واحدا مما يبرهن على أن القرآن مكلوء برعاية إلهية خاصة.
لقد أوصل الله رسالاته للبشر بواسطة الرسل أو من طريق الكتب وذلك على امتداد التاريخ. فقد فرض الله على آدم، أول إنسان خلقه الله في الأرض، ذات المبدأ الذي أنزله على الرسل الذين تتالت بعثاتهم بعده. وبعبارة أخرى، فقد كان الإنسان الأول على علم تام بوجود الله. ثم حمي تنزل الكتب وبعث الرسل بعد ذلك وتتابع عبر حقب الزمان. وهذه الحقيقة أشار إليها القرآن في قوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُم ُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (البقرة: 213)
وكما أشارت الآية آنفة الذكر، فقد أوصل الله رسالاته لبني الإنسان عبر رسله وكتبه. وقد دأب الرسل على تحذير أقوامهم وتذكيرهم بيوم القيامة وخوّفوهم من جهنم التي سيخلّد الله فيها من يكفر برسالاته من البشر، كما بشر هؤلاء الرسل من يستجيب لدعوة الله من أقوامهم بالخلود الأبدي في جنات الفردوس. إن الله الذي تكفل بخلق الإنسان هو الذي يعلم أي نوع من الحياة يصلح له ويجلب له الراحة والطمأنينة في الحياة الدنيا. وهذا هو السبب في كون القيم الأخلاقية ونمط الحياة الذي يرتضيه الله للناس هو الذي يضمن لهم حياة طيبة في الدنيا وفي الآخرة. صفوة القول، فبما رحمة من الله كان الدين هو النظام الذي يمكن الإنسان من أن يعيش حياة تجري على نسق مثالي على الصعيدين النفسي والاجتماعي.
رغم أن الوصايا والرسالات التي أنزلها الله إلى خلقه كانت متنوعة بحسب تنوع بيئات الناس وأحوالهم وأزمنتهم، إلا أن الأديان السماوية تلتقي في أصول المعتقدات والمثل الأخلاقية التي يراد للناس التشبث بها. فقد جاءت كل الرسالات السماوية بحقائق جوهرية حول وجود الله، وأوضحت أسماء الله وصفاته، وبينت الغرض من خلق الإنسان وغيره من المخلوقات، ورسمت المنهج الذي يحقق للناس العبودية الحقة لله، وجلت كل ما يرتضيه الله من أنماط السلوك والعمل، وكشفت عن المبدأ الذي يعين الناس على التفريق بين الحق والباطل، وبين السيئ والحسن، وكيف يجعل الإنسان من حياته مطية تبلغه رضا الله وتدخله جنات الفردوس.
عليه فإن الدين الحق عند الله هو الإسلام. فهو أصل ومادة كافة الأديان التي عبد الناس الله بها منذ عهد أول رسول في الأرض، آدم عليه السلام. والإسلام يعني الاستسلام لإرادة الله الغالب. وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن على النحو التالي: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (آل عمران: 19).
ورغم أن الأديان الصحيحة نسبت إلى الرسل التي جاءوا بها فقيل اليهودية والنصرانية، إلا أن الأديان التي جاء بها هؤلاء الرسل كانت كلها دينا حقا واحدا. وبعبارة أخرى، فقد كانت كلها إسلاما في عهودها: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير" (الحج: 78).
إن الناس الذين أنزلت عليهم كتب سماوية (اليهود والنصارى) سبقت نزول القرآن، كانوا في الحقيقة مسلمين، وهذه الحقيقة يعبر عنها القرآن على لسان أصحاب المعتقد السليم من اليهود والنصارى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُون وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ " (القصص: 52-53 ).وقد دحض الله مزاعم اليهود والنصارى في هذا الصدد مصححا خطأ ما ذهبوا إليه بقوله: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 67).
وإذا أجلنا النظر في القرآن نجد أن كل الرسل بمختلف عصورهم جاءوا بمنظومة واحدة من المعتقدات والعبادات. فقد وردت الإشارة في القرآن إلى رسول الله زكريا ونداء الملائكة له وهو قائم يصلي: "فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ " (آل عمران: 39).ورسول الله شعيب حين خاطبه قومه قائلين: "قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ " (هود: 87).ورسول الله إدريس: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا" (مري: 55م)، وعن رسل الله اسحق ويعقوب: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين" (الأنبياء: 73)ورسولا الله داوود وسليمان: "وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ" (يونس: 78)،ورسول الله عيسى أنه قال: " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا" (مريم:1 3)ولقمان حين خاطب ابنه ناصحا: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (لقمان: 17)وقوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان: 13)، ومريم حين أوصاها الله قائلا: "يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" (آل عمران : 43).
وليست هذه سوى بعض الأمثلة لبعض طرق العبادة ومبادئ العقيدة ويمكن تعميمها على كافة رسل الله طالما أن الدين الحق نفسه هو الذي أنزل على كافة الرسل. وفي الآية التالية تتجلى الملامح الجوهرية الثابتة لهذا الدين الحق : "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه َمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة َوَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"(البيّنة: 5)
عليه فإن الدين عند الله هو الإسلام. هذه الحقيقة الثابتة يعبر عنها القرآن في قوله تعالى:"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين"َ(آل عمران: 85)
لماذا أنزلت الأديــــان؟

لقد أودع الله في أصل فطرة الإنسان ومنذ لحظة خلقه ميلا إلى إدراك وجود الله وذلك باستخدام ما عنده من ملكات الوعي والحكمة. إن من الحقائق الجلية أن كل شيء في الكون من أكبر ما فيه من موجودات إلى أصغرها، هو من خلق وتدبير الله. ففي كل شيء يحيط بنا آية وبرهان على وجود الله. فقد خلق الله الطير الذي يحلق في جو السماء والأسماك التي تسبح في قيعان البحار والإبل التي تجوب الصحراء وطيور البنغوين التي تعمر الدائرة القطبية الجنوبية للكرة الأرضية والبكتريا التي تتخذ من أجسادنا سكنا والتي لا ترى بالعين المجردة والثمار والنباتات والغيوم والكواكب والمجرات العظيمة في أكمل هيئة وأحسن تقويم وزودها جميعا بأنظمة وأجهزة حساسة ومزايا راقية.
وبالمثل، كل النظم التي تعين على استمرار الحياة في الأرض مرسومة وفق توازن دقيق. فحدوث أدنى اختلال أو انحراف في هذه التوازنات، ولو قيس بالمليمتر، من شأنه أن يجعل الحياة على وجه الأرض مستحيلة. وإن التأمل في هذه التوازنات ليكشف عما تنطوي عليه من حساب دقيق رائع وخطة بديعة. فلو تراجعت سرعة دوران الأرض حول الشمس عن معدلها الحالي لأسفر ذلك عن فروق هائلة في درجات الحرارة بين الليل والنهار، كما ستؤدي الزيادة في سرعة دوران الأرض حول الشمس إلى حدوث أعاصير وفيضانات مما يشكل تهديدا خطيرا للوجود على كوكب الأرض.
كما توجد توازنات أخرى دقيقة تجعل الحياة ممكنة على ظهر كوكبنا الأرضي. لهذا يستحيل عقلا القول بأن هذه التوازنات الدقيقة الرائعة هي وليدة المصادفة العمياء. فكاميرا التصوير أو السيارة تدل الإنسان على وجود صانع حاذق واع، وبالمثل يتعين على المرء أن يستنتج أن الكون وما فيه من شبكة نظم مترابطة ليس كياناً مستقلا بذاته خالقا لها. وتتكرر في القرآن الآيات التي يلفت الله فيها أنظارنا إلى أدلة وجوده وآيات حكمته المبثوثة في الكون: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون" (النحل: 10-13) وفي قوله تعالى: "أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون " (النحل: 17).
حري بمن يتأمل الآيات سالفة الذكر أن يقر، ولو كان مجرداً تماماً من المعارف الدينية، بوجود الله وأن ينبهر من قدرة الله وحوله. إن نظر الإنسان في جسده، ذلك الكيان الذي يموج بمنظومات معقدة ومترابطة، كفيل بجعل الإنسان يقر بجلال خلق الله. وكذلك بمقدور الشخص الذي لم يطلع على كتاب الله الموحى أن يهتدي إلى خالقه بملاحظة وتأمل ما يحيط به من مخلوقات. فالكون يزخر بالأدلة على وجود الله لكن لا يقف على هذه الأدلة إلا الذين أوتوا قرائح متقدة: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران: 190-191).
وهنا، أي بعد الإقرار بوجود الله، تتجلى الحاجة إلى الدين أكثر. وذلك ببساطة لأن الشخص الذي يقر بوجود الله سيرغب حتما في التقرب إليه، ومعرفة المزيد عنه والبحث عن سبل لاكتساب حبه ورحمته، والسبيل الوحيدة إلى هذه الغايات تكمن في فهم قيم القرآن كلام الله الخالد ودستور الإسلام السماوي، دين الحق.
08.jpg


لقد دعا الله الناس في كل العصور للإيمان به وأعد جهنم لكل من رفض الاستجابة لهذه الدعوة


[/ALIGN]
[/FONT][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:eek:range;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center] <H4 dir=rtl>القرآن يزود الإنسان بكل المعارف الضرورية له

لم يخل عصر من العصور من كتب منزلة ورسل مرسلون إلى بني الإنسان، كل ذلك لأجل أن يعرّف الله نفسه للإنسان وليعلمه أنماط السلوك والقيم الأخلاقية وأسلوب الحياة الذي يريد له العيش وفقه وهيئه له. لقد أرشدت تلك الكتب وتلك الرسل الإنسان إلى المعاني الحقيقية لمفاهيم الخير والشر والخطأ والصواب، ولفتت نظره إلى ما سيقفو الموت من حياة أخروية يثاب فيها المحسن ويعاقب فيها المسيء.
وبهذه الكيفية بيّن الله كل ما يحتاج الإنسان إلى معرفته على امتداد حياته عن طريق الأديان السماوية، فلم تغادر هذه الأديان كبيرة ولا صغيرة فيما يتصل بكيفية تحقيق حياة قيمة وطيبة في هذه الدنيا وفي الآخرة إلا جاءت بها. وقد وردت الإشارة إلى الغاية الأولى من خلق الإنسان وإرسال الرسل وإنزال الديانات في آيات كثيرة من آي الذكر الحكيم : "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين "(النحل: 89)،"وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا"(الإسراء: 105)، "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ"(الأنعام: 154).
القرآن يبين الغاية الحقيقة من خلق الإنسان

شهد التاريخ على امتداد حقبه خلق وحياة وفناء مليارات من البشر. قلة قليلة من هؤلاء البشر جهدت وسعت لمعرفة الغاية الحقيقية للحياة، أما البقية الباقية فانجرفت مع تيار الأحداث اليومي وقضوا حياتهم جرياً وراء غايات صغيرة تافهة. ولهذا كانت غاية وجودهم وشغلهم الشاغل هو أن يحققوا رغباتهم الخاصة. إن موقفا باطنيا غير مسئول يميّز هذا الضرب الطاغي من السلوك في كل المجتمعات في مختلف عهود التاريخ تقريبا. فكل جيل، باستثناء حالات قليلة، وقع في ذات الأخطاء التي وقع فيها الجيل السابق وتبنى بكل بساطة أهداف وقيم آبائهم الأولين. وهي دائرة مفرغة لا تزال تدور إلى يوم الناس هذا.
لقد استعبدت أكثر الناس فلسفات ومبادئ راتبة يقوم أكثرها على المبدأ التالي: إن الإنسان يظهر في الوجود ويشب ثم يكبر ثم يموت. إن الإنسان لا يولد إلا مرة واحدة، وإن الموت هو نهاية كل شيء. ولهذا يتعين على الناس أن يحيوا حياتهم طولا وعرضا وأن يسعوا لتحقيق رغباتهم وإشباع نزواتهم وشهواتهم ما دامت في حياتهم بقية.
وهكذا طفق الناس ينفقون حياتهم التي ظنوا حمقاً أنها الحياة الوحيدة متشبثين بأنماط الحياة والسلوك التي ورثوها من أسلافهم الغابرين. وشرعوا، مدفوعين بروح مجردة من الوعي بالموت، في جعل اتباع الشهوات والتخطيط للمستقبل غايات سامية لحياتهم. ويصدق هذا الوصف على كل الناس على اختلاف مشاربهم وشياتهم الثقافية والاجتماعية. فقد أصبح الحصول على تعليم راق وشغل منصب مرموق وتحقيق مستوى عال من العيش وبناء أسرة سعيدة وغير ذلك مما لا يحصى من الأهداف المماثلة، غايات ثابتة للحياة.
07a.jpg

كل شيء حي سيفارق الحياة في وقت محدد وسيقف بمفرده أمام الله
ليحاسبه على ما قدم في حياته وهذه حقيقة يؤكدها القرآن.

يمكن للمرء أن يفيض في ذكر هذه الأهداف فيسوّد بها صحائف كثيرة، لكن الحقيقة هي أن هؤلاء الناس قد عشوا عن الغاية الوحيدة لوجودهم، وأنفقوا حياتهم كلها والتي هي فرصة فريدة أعطوها لتحقيق غاية وجودهم الكبرى، في الباطل والسفه. وهذا الهدف النهائي هو أن يغدوا عبيدا لله الخالق. وهذا الأمر مبسوط في القرآن في قوله تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(الذاريات: 56).
إن السبيل إلى تحقيق العبودية الحقة مبين كذلك في القرآن. والعبودية لله تعني القبول بوجود ووحدانية الله، ومعرفة صفاته العليا وأسمائه الحسنى والإقرار بجلاله وعظمته والالتفات عن عبادة كل معبود سواه وصرف العمر سعياً لنيل رضاه. وقد اشتمل القرآن على وصف مفصل ودقيق لنمط الحياة والقيم الخلقية التي يرضها الله للناس. والشخص الذي يعيش في كنف هذه القيم وفي إطار هذه الحدود مبشر بحياة طيبة يحوزها في الدنيا وفي الآخرة. ولمن تنكب سبيل الله مآل سيئ ينتظره.
إن لنمط حياة المرء في هذه الدنيا دور في تشكيل مستقبله الأخروي وحياته السرمدية بعد الموت. والموت حد فاصل تنتهي عنده فترة الاختبار ولا يسمح للإنسان بعده بإصلاح ما أفسده إبان إقامته في الحياة الدنيا، ولهذا فإن تصرف الإنسان كما لو أنه جاء إلى الوجود بمحض المصادفة أو أنه حر طليق من أي قيد أو أنه قد جاء إلى هذه الحياة ليقضي أيامه في إشباع رغبات مستحقرة، سبيل ستفضي به إلى درك الخسران. إن الذين يستهترون بخالقهم ولا يبالون بأمره ولا يقيمون وزنا للغاية من خلقهم ولا يأبهون لما سيئول إليه أمرهم في الحياة الآخرة، سيقال لهم يوم القيامة على وجه التوبيخ: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون: 115).
هؤلاء الناس هم في واقع الأمر غير مدركين للغاية من وجودهم. وقد أوضح الله هذه الغاية من خلال كتبه ورسله وأرشد الناس إلى الطريق القويم، وفوق ذلك، أعطى الله الإنسان فسحة من العمر ليتعظ. ولن ينفع الذين عموا وصموا عن هذه الفرص وآثروا الشهوات واتبعوها كلها وتنكبوا الطريق الصحيح التي ارتضاها لهم بارئهم، لن ينفعهم الاعتذار يوم القيامة ولن يستعتبون: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ" (فاطر: 37).
القــرآن يرشــد إلى سبــل تحــقيق العبـــودية للـــه

لأن الإنسان خلق ليكون عبدا لله فهو مطالب بمعرفة كيفية هذه العبادة. جاءت الإشارة إلى هذا في القرآن: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ" (الحج: 67).
ففي القرآن وصف مفصل لنوع العبادة التي يريدها الله من عباده. وإن المرء لواجد في القرآن كل الإجابات على الأسئلة المتعلقة بإقامة الصلاة والعبادة الراتبة والزكاة الواجبة إلى جانب الصفات التي يمتدحها الله في عباده المؤمنين وأنماط السلوك التي يتعين على العبد اجتنابها والقيم الخلقية التي ينبغي للعبد اكتسابها، كل هذا مبسوط ومصرح في القرآن. إن التواضع والاستعداد للتضحية والبذل في سبيل الله والأمانة والعدل والتسامح والثبات على المبدأ ونحو ذلك من السمات الخلقية، مشار إليها ومحمودة في القرآن. كما تحدث القرآن باستفاضة عن الأعمال الشريرة وسيئات السلوك والتعامل الفج مع الناس وحذر المؤمنين من الاقتراب منها.
لقد خلق الله الكون والإنسان من لا شيء. وخص الإنسان من بين سائر المخلوقات بفضائل جمّة حباه إياها منها الروح وهي أبرز وأعظم ما يميّز الإنسان، وهي التي تجعل الإنسان كائنا واعيا مدركا. وأفضال الله ونعمه على الإنسان كثيرة يأتي دونها الحصر (18-النحل) لهذا يتعين على الإنسان التأمل في سبب استحقاقه لهذه النعم والمكرمات وما هو المطلوب منه مقابل ذلك.
لقد أودع الله في الإنسان القدرة على إدراك حقيقة أن كل النعم التي يستمتع بها قد جاءته من قبل الله، وبالتالي يسهل عليه إدراك ما يتعين عليه من واجب الشكر لهذه النعم. لكنه قد تنبهم أمامه طرق التعبير عن هذا الشكر والامتنان، وهنا يأتي القرآن ليهديه السبيل. فقد أمر الله عباده في القرآن أن يستشعروا الحاجة إلى نيل رضاه على امتداد حياتهم. ولتحقيق هذه الغاية يتعين على الإنسان وفي كل لحظة من وجوده أن يؤثر رضا ربه على إشباع رغباته وأهوائه، لأن المرء يغدو بدون ذلك عبدا للشهوات تستهويه فينقاد لها: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" (الفرقان: 43)
وعليه يكون نهج المسلم في كل أطوار حياته قائما على النظر في كل الخيارات والبدائل التي تعرض له، سواء تعلقت هذه البدائل بحادثة أو بفكرة أو بموقف، ثم يختار أقربها إلى رضا الله. وبالتالي يحق للمؤمن الذي قضى حياته في طلب رضا خالقه، أن يتطلع إلى إكرام الله له بالجزاء الأوفى والإنعام الأبدي. وعليه فإن نفع عبادة المؤمن يعود إليه هو لا إلى الله، لأن الله غير محتاج لصلاة العبد أو عبادته أو أعماله الصالحة، وقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة في قوله تعالى: "وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت: 6).
القرآن يعلم الإنسان التفريق بين الحق والباطل

في البيئات التي لا تقيم وزنا لمبادئ القرآن يجري تطبيق معايير متنوعة لا يعوّل عليها للتفريق بين الخير والشر. ويتمخض عن الاعتماد على مثل هذه المعايير المتنوعة سلوك خاطئ ونتائج مؤذية. فالشخص الذي حاول اقتراف جريمة مرة واحدة مثلا يعتبر أكثر براءة من الآخرين الذين ارتكبوا عدداً من الجرائم. فاللص الذي يسطو على البيوت يعد نفسه أقل ضرراً من مرتكب جريمة القتل، في حين يظن مرتكب جريمة القتل بنفسه خيراً لأنه لم يرتكب في حياته سوى جريمة قتل واحدة. فحسب رأيه، فإن من يتكسبون بسفك دماء الآخرين هم الأشرار. ومن الناحية الأخرى يرسم قاتل محترف خطاً فاصلاً بينه وبين شخص مختل العقل، و يعد نفسه بريئا تماماً. وينطبق هذا الوصف على من تجردوا من الوازع الخلقي وإن لم يكونوا في عداد المجرمين. فمن يغتاب الناس لا يرى بفعلته بأساً لأنه إنما فعلها بحسن نيّة، ومن يحمل حقداً على آخر يستصغر ذنبه لأنه لا يحقد إلا بوجه حق. ويمكن للمرء أن يسترسل في سرد حجج مماثلة كثيرة. صفوة القول أن جميع هؤلاء الناس يظنون أنهم أبرياء ولا يقرون ببشاعة جرائمهم، إلا أن الحجج والذرائع التي يسوقونها باطلة وموغلة في الخطأ، وذلك لأن الشخص البريء هو من يستمسك بكتاب الله، في حين يكون الشخص آثما إذا تعارضت تصرفاته مع دستور الأخلاق الذي جاء به القرآن، مهما انتحل من مزاعم.
وكما نعلم جميعا فإن للنفس البشرية وجهان: الضمير والنفس الأمارة بالسوء. يلهم الضمير المرء ويحفزه دائما إلى فعل الخير والصواب في حين تدفعه النفس الأمارة بالسوء إلى سيئ السلوك وكل ما يغضب الله. وانتفاع المرء بضميره، من الناحية الأخرى، لا يتسنى إلا إذا قوي إيمانه بالله وتحلى بالخوف منه.
يهب الدين الإنسان وعيا يميز به بين الخير والشر. ولن تكون للمرء آلية لاتخاذ القرارات ولا ملكة تفكير سليمة إلا إذا صدّق بما أنزل الله من هدى وسيّر حياته وفق مقررات هذا الهدى. فالشخص الذي يخاف الله مثلا يجعل له ربه فرقانا يفرق به بين الحق والباطل: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الأنفال: 29)فالقرآن فيصل فريد بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " (الفرقان: 1). ويشتمل القرآن على تفصيل دقيق لمفهوم الحق والباطل ويرشد الناس إلى أفضل السبل لاستخدام ضمائرهم ووعيهم. وفي الآية التالية نرى تفصيلا شاملا لمفهوم الحق والباطل: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة: 177).
إن كل معتقد يرثه المرء من أسرته أو من أسلافه أو يكتسبه من بيئته الاجتماعية لا يستحق أن يعول عليه طالما تعارض مع مبادئ القرآن. وشاهدنا على ذلك تلك العبارات المعينة التي يشيع استخدامها لوصف شخص ما بأنه خيّر، ومنها قولهم "إن فلان لا يؤذي ذبابة". إلا أن كف الإنسان عن إلحاق الأذى حتى بالذباب مع تنكبه سبيل الهدى التي رسمها القرآن لا تجعله رجل خير. فالمهم أن يحجز الإنسان نفسه عن الأعمال الشريرة التي أشار إليها القرآن وأن يأتي أفعال الخير التي امتدحها القرآن. يعتقد البعض أن تحلي الشخص بصفة الرأفة بالمساكين والشفقة بالأطفال وتقديم العون لهم لا يسبغ عليهم صفة التدين. فالقرآن يبين لنا أن هذه الأعمال لا تجعل صاحبها أهلا لصفة الإيمان الحق، إنما المؤمن الحق هو الشخص الذي يجهد في اقتفاء أثر القرآن ويقف نفسه لنيل مرضاة الله.
القرآن يرشد الإنسان إلى طبيعة العالم الحقيقية

يخبرنا الله في القرآن—أحدث الكتب عهدا بالسماء وهادي البشرية إلى الصراط المستقيم—أننا خلقنا لنعبد الله وحده. كما يلفت أنظارنا إلى حقيقة أن هذا العالم دار اختبار وابتلاء للمؤمنين، يمتحنهم ربهم ليميز الخبيث من الطيب. وبناء عليه، وكشرط من شروط هذا الاختبار، يحذر الله الإنسان من مغبة الاستجابة للعوامل التي خلقت لتغريه وتبعده عن الصراط المستقيم، مشيرا إلى الطبيعة الخداعة المغوية لهذه العوامل: ".وثمة آيات كثيرة في القرآن تصف حقيقة الحياة في هذا العالم نورد فيما يلي بعضا منها: " إِنَّمَاأَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم"(التغابن: 15)، "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"(آل عمران: 14)، "وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُون" (القصص: 60)
إن المكانة الاجتماعية والمالوالأولاد ورغد العيش والفقر وضنك العيش كل أولئك أشياء يبتلى بها الإنسان في الدنيا، يقول الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الأنعام: 165).أما الدليل على أن خلق الحياة والموت ليس سوى اختبار وابتلاء للإنسان ففي قوله تعالى: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُالْغَفُور "(الملك: 2). وكل النعيم الذي يحوزه الإنسان أو يُسلبه في الدنيا إنما هو اختبار له: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء: 35)،"وَأَمَّا إِذَا مَاابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ"(الفجر: 15-16)، هذه الآية تتضمن وصفا جليا لموقف شخص ليس له من الوعي ما يجعله يستوعب طبيعة هذا الابتلاء. وقد حذر الله المؤمنين من هذا الصنيع وذكرهم مرارا بالغرض الحقيقي من خلقهم: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (طه: 131).
ومع ذلك فإن أمثال هؤلاء الناس الذين عجزوا عن إدراك هذه الحقائق، ينخدعون بالمظهر الخداع لهذه النعم، إذ يدفعهم ولعهم بالحياة واغترارهم بها إلى بذل الغالي والرخيص في سبيل تحصيل هذه المكاسب الدنيوية، وينتابهم شعور بالخيبة ويتملكهم الإحباط إذا واجهوا أزمة أو مصاعب. وفي القرآن إشارة إلى هذه الحالة العقلية: "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُور إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ" (هود: 9-10)
أما المؤمنون الذين يفهمون كل الحوادث التي تعترض سبيلهم في ضوء هدى القرآن كائنا ما كانت الظروف، فلا يذهلون عن ذكر الله واليوم الآخر ويدأبون في السعي للفوز بدار الخلود. فهم يعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (البخاري) فيدركون أن إقامتهم في الدنيا محدودة وأن أيامهم فيها معدودة وأن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية.وهذا هو سر نجاة المؤمنين من غوائل الضلال والتيه والعجب حين تهبط عليهم النعم تترى ومن مشاعر الحزن والغم والهم إذا ابتلوا بشيء من الخوف والحرمان ونقص من الثمرات. ولأنهم علموا أن الله مبتليهم بالنعم وبالحرمان فلا يبدر منهم إلا ما يرضي الرب. استجابتهم للأحداث يحكيها قوله تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء: 35)
بهذا يدرك المرء أن القرآن تتجلى فيه رحمة الله الواسعة المحيطة وذلك لأن المؤمنين يتعلمون أصدق الحقائق عن طريق القرآن.
القرآن يعلمنا أن الدار الآخرة لهي الحيوان(أي الحياة الحقيقة)
لا يستطيع الإنسان أن يحيط بأي شئ من مسائل الغيب. والمستقبل منأمور الغيب المستورة عن إدراك الإنسان. فلا يستطيع أحد أن يقطع بما سيقع في الثواني القليلة القادمة. وبسبب قصور التصور هذا ينظر الناس في كل العصور بفضول وحيرة إلى كل شئ مرهون بذمة المستقبل وبخاصة طبيعة الحياة التي تعقب الموت.
لا جرم أن الله، خالق الكون والإنسان والموت والساعة والجنة والنار والماضي والمستقبل، هو وحده القادر على إعطاء أدق وأصدق الإجابات عن هذه الأسئلة. فهو الذي خلق الكون وما حوى من كائنات حية من عدم ولا يزال يخلقها لحظة بعد أخرى. كما خلق اللهالزمان، أحد الأبعاد الكونية والذي يلف كل كائن حي. لكن الله لا يحده زمان فهو بلا ريب خارج حدود مفاهيم الزمان والمكان. فالله خلق كل شيء خارج إطار الزمن. فقد خَلق الله وعلم بكل شيء مما نعده نحن ماضياً أو حاضراً في لحظة واحدة.
يطلق وصف الغيب على كل شيء تعجز حواسنا عن إدراكه بما في ذلك المستقبل. واليوم الآخر هو أيضا جزء من الغيب بالنسبة للإنسان طالما ظل على قيد الحياة. والقرآن يحدث الناس عن اليوم الآخر ويتحفهم بوصف مفصل له. ولقد وضع الفلاسفة في كل العصور افتراضات شتى فيما يتعلق بالحياة بعد الموت بالإضافة إلى الثقافات المتعددة التي تزخر بالمعتقدات الأسطورية عن الدار الآخرة. إلا أن الدين الحق هو الذي يعطي أدق وصف لليوم الآخر.
إن الدين الحق هو وحده الذي ينبئ الإنسان بالطبيعة المحدودة للحياة الدنيا وبما ينتظر الإنسان من حياة سرمدية في الدار الآخرة. يخبرنا القرآن أنه سيأتي يوم يعاقب فيه المسيء ويثاب المحسن. فالقرآن هو المصدر الفريد الذي نستقي منه المعلومات عن لحظة الموت وعن يوم الحساب وعن الجنة والنار. يذكرنا القرآن، آخر وحي تنزل من رب العالمين، وفي آيات عديدة أن المقر الحقيقي الإنسان سيكون في الدار الآخرة. يقول الله تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون" (الأنعام: 32)
أثر الدين على الحياة الاجتماعية

إن للكفر آثاراً وانعكاسات سلبية شتى على الناس والمجتمعات، فالظلم والأنانية وانعدام الثقة هي أبرز سمات المجتمعات اللادينية. وهذه هي طبيعة المجتمعات الكافرة، لأنه لا شيء غير الدين يحقق الاستقامة الأخلاقية للأفراد والمجتمعات. فالأشخاص الذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر يتصرفون بمسئولية وذلك لأنهم يقضون حياتهم في طاعة الله. فالخوف من الله يحملهم على اجتناب الشرور. وما سادت هذه الروح في مجتمع إلا تلاشت منه العلل الاجتماعية أو انحسرت إلى أبعد الحدود. لكن الكافر وبسبب غفلته عما ينتظره في اليوم الآخر من عقاب أو ثواب، لا يراعي حدود الله. لأن تكذيبه بيوم الدين يدفعه إلى الظن باستحالة الكف عن الشرور. ولا يتردد كثير من الناس رغم تحاشيهم لأنماط معينة من السلوك المنبوذ اجتماعيا، في ارتكاب شرور أخرى إذا تولد فيهم دافع إلى ذلك أو حفزوا إليها أو واتتهم الفرصة لارتكابها.
إن من يسلك طريق الكفر تبدأ متاعبه ومشكلاته المادية والمعنوية في حال حياته وذلك لأن كل إنسان يستيقن في قرارة نفسه أن به حاجة ماسة للتمسك بأهداب القيم الدينية. ولا شك أنه ما من إنسان إلا وقد وهب ملكة الضمير، لكن في حين نجد هذه الآلية منضبطة لدى المؤمنين فإنها تكون مختلة لدى الأشخاص الذي لا يحيون بقيم الدين. وبعبارة أخرى، يعاني الأشخاص الذين ينأون عن قيم الدين من رهق روحي بسبب تلهيهم عن صوت الضمير. فكل إنسان في حقيقة الأمر يقر بأن له خالقاً يراقبه وأنه مطالب بأن يسمو بنفسه أخلاقياً، لكن هذه الحقائق تتعارض مع رغباته ونزواته الدنيوية، وهذا هو الدافع الذي يجعل الناس ينبذون الدين بالكلية أو ينتحلون معاذير مثل قولهم"إنني رجل أمين وطيب ومخلص" مراوغة وتملصا من العيش وفق هدى القرآن. لكن فيكلا الحالين فإن الناس يحسون بميل باطني إلى العيش وفق منهج القرآن. إن مصدر الانحراف العقلي وغيره من المشكلات النفسية والروحية في المجتمعات التي خبت فيها جذوة الدين هو هذا الضنك والعنت الروحي الذي نسميه "وخز الضمير". الآيتان التاليتان تصفان حال الأشخاص الذين حلت بهم هذه المصيبة وهم على قيد الحياة: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُون" (النمل: 71-72)
إن وخز الضمير ليس سوى جزء يسير من العذاب الروحي والجسدي الذي سيذوقه الكافر يوم القيامة. ولقد استحق الإنسان هذا العذاب الدنيوي لأن حياته وسلوكه وتصوراته ليست منسجمة ومتلائمة مع الغاية من خلقه. وسيظل يعاني من هذا الألم الروحي طالما أصر على هذه العقلية والسلوك اللاديني. وهذا هو السبب الذي يجعله ينقب عن سبل لكبت صوت ضميره طمعاً في إسكات سياط الألم الروحي
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
</H4>
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:red;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
إن الإنسان بحكم تكوينه العقلي والجسدي ميّال إلى قيم الدين. فالله خلق الإنسان وخلق له طريقة مثلى للعيش. ولهذا فإن تجاوز حدود الله يخلق مشكلات شخصية واجتماعية. وكما ذكرنا في الصفحات السابقة فإن هذه المضاعفات والمشكلات ليست في الحقيقة سوى نكبات وكوارث شخصية واجتماعية كان ولا يزال لها أثر سلبي على الإنسانية على امتداد التاريخ. وليس من سبيل لتجاوز هذه المعضلات إلا بالاستمساك بقيم الدين، وذلك لأن الدين يوجد حلا حقيقيا لكل معضلة من هذه المعضلات.

التمسك بالقيم الدينية يمنع وقوع الجريمة

لا يرجى من أي شخص لا يحيا وفق قيم الدين ولا يتوقع بالتالي أن يحاسب على أفعاله وأن يعاقب في نهاية المطاف، أن يراعي حدود الله أو أن يعمل لخير ومصلحة الآخرين طمعاً في مرضاة الله. فهو حسب معتقده الباطل يرى أن له فرصة واحدة للحياة في الدنيا وبالتالي يتعين عليه أن يجعلها حياة ممتعة إلى أقصى حد وأن يسعى لتحقيق رغباته وأن يفعل جميع ما يشتهي. يصور القرآن هذا المنطق فيقول: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون " (الجاثية:24).
حري بأي شخص تتقمصه هذه الروح المتمردة ويعتد بهذا المذهب الضال أن تصدر عنه كافة ألوان الشرور والانحراف الخلقي، فهو لا يبالي أن يسرق أو يكذب أو ينقض عهوده أو يلجأ إلى العنف أو يزوّر أو يستغل جهود وممتلكات الآخرين متى ما لاحت له الفرصة لعمل ذلك. صفوة القول، ليس ثمة ما يحجز مثل هذا الشخص عن مقارفة الشرور.
وبمرور الوقت يستسلم هذا الشخصلأوامر نفسه الأمارة بالسوء بعد أن تكون قد استعبدته. فهو لا يتورع عن إتيان أي قدر أو ضرب من الشرور. فهو يسارع إلى القتل إن ظن أن في القتل مصلحة له. وصفحات الصحف اليومية تطفح بأخبار هذا النوع من الحوادث. إذ تمتلئ صفحاتها بأخبار أشخاص يقتلون جيرانهم ليستولوا على مجوهراتهم،وأخبار عن نساء يدفعهن الغضب إلى قتل أزواجهن وعن آباء يعذبون أطفالهم أو أبناء يقتلون آباءهم ليستولوا على أموالهم. ولا شك أن هناك الكثير من شاكلة هذه الحوادث تحدث كل يوم دون أن يكشف عنها الغطاء. وفي هذا كله برهان ساطع على حقيقة أن الناس قد غدوا عبيدا لأنفسهم الأمارة بالسوء وانتكسوا روحيا حتى صاروا أضل من البهائم. ويصف القرآن كل فرد من هؤلاء بأنه معتد وذلك في قوله تعالى: " وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيم " (المطففين: 12) .
في المجتمعات التي يستطيع فيها الناس عمل ما يشاءون متى يشاءون يمكن للشخص الذي يجلس إلى جنبك في الباص أو في مركز التسوق أو في المسرح أن يشكل تهديداً محتملا لك ولسواك. فقد يكون لصا كاسراً أو قاتلاً أو مغتصباً. وفوق ذلك فقد يكون مثل هذا الشخص الخطر جميل المحيا وحائزا على درجات علمية راقية. إن مقابلة أجرتها إحدى المجلات الشهيرة لتؤكد ذلك. سألت المجلة الضيف قائلة له: "أشرت إلى أن حوادث القتل تثير اهتمامك. فهل تفكر في ارتكاب جريمة قتل في يوم ما؟ أجاب الضيف قائلا: "فكرت في القتل مرات كثيرة لكن ليس في بالي شخص معين استهدفه. أحيانا أشعر بدافع لقتل ثمانية أو تسعة أشخاص في اليوم الواحد. إن روحي مسكونة بالرغبة في مثل هذا النوع من العنف. وهي وهذه الرغبة موجودة في أعماق كل إنسان. وعلى الرغم من أن جريمة القتل تبدو منفرة، فهناك الدم والقتيل وسيارات الإسعاف والشرطة وغير ذلك، إلا أن هذا لا يمنعني من الانجذاب إلى حوادث القتل." ثم كان السؤال التالي: "أي نوع من حوادث القتل تود أن ترتكبه؟" فأجاب الضيف: "أنا أفضل استخدام السلاح الناري. وذلك لأن أساليب القتل الأخرى كتسميم الضحية مثلا لا تحدث جو الرعب الذي يصحب حوادث القتل عادة، فهي طريقة للقتل مغرقة في التخفّي"
المدهش أن الشخص الذي وجهت إليه الأسئلة أعلاه، والذي يصفه مجتمعه بأنه شخصية مستنيرة، يحمل مثل هذه المشاعر الإرهابية ولا يستنكف أن يجاهر بها. إن هذا المثال يرسم صورة واضحة المعالم للعقلية للروح التي تسود مجتمعاً لا يقيم وزنا للقيم الدينية، كما يعكس البشاعة التي تنطوي عليها دخائل الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله ولا يخافون عقابه. إن حكم القرآن في القتل، الذي يرتكبه الكفار بكل سهولة، هو على النحو التالي: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(المائدة-28).
إن المثل الذي تتضمنه الآية أعلاه ، والذي يقول فيه الله إن قتل نفس واحدة هو كقتل البشر قاطبة، مهم جدا. وفي آية أخرى يبين الله أن قاتل النفس مصيره الخلود الأبدي في نار جهنم: " وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " (النساء:93). ولهذا فإن الشخص العامرة دواخله بالخوف من الله يتفادى حتى مجرد التفكير في ارتكاب جريمة القتل. هذا المبدأ تصوره حكاية القرآن عن ابني أدم عليها السلام. لقد دفعت الغيرة أحد ابني آدم إلى العزم على قتل أخيه، لكن الضحية، الذي يخاف الله ربه، أبدى سلوكا وموقفا غاية في الروعة والجلال: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة:28)وعند هذه النقطة يتجلى الفرق الجوهري بين المؤمن والكافر. فالمؤمن لا تحدث نفسه بالاقتراب من فعل ذمه الله مهما كانت الظروف. كما أن الحديث الشريف الذي جاء فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" (سنن ابن ماجة)، يوضح هذا الموقف تماما. أما الكفار فلا شيء يزجرهم عن ارتكاب الشرور.
إن أخلاق الإسلام تطهر المجتمع من آفات السرقة والرشوة والكذب والقتل. والمستمسكون بأخلاق الإسلام يراقبون حدود الله ولا يصغون للوساوس الشريرة التي تنفثها في جنانهم أنفسهم الأمارة بالسوء. أما من لا يأبه لقيم الدين فهو دوما يتصرف وفق ما تمليه مصلحته. وهذه هي السبيل المفضية إلى الشر بمختلف ألوانه. فالسرقة مثلا قد تجلب للمرء نفعا ماديا إلا أن المؤمن يعرض عنها لأن الدين حرمها. والسرقة في واقع الأمر تؤذي السارق والمسروق منه. فربما سرقت كل مدخرات المرء في ليلة واحدة لكن سارقها قد يصبح نهبا لتأنيب الضمير. ولهذه الأسباب حرم الإسلام مثل هذه الشرور وفتح الطريق نحو بيئة عالمية رائعة يسودها السلام.
وهنا قد ينبري كافر ليقول: "أنا لا أؤمن بالله لكنني رغم ذلك أعف عن الغش". من الوارد جداً أن يمتنع هذا الشخص عن الغش طوال حياته بدافع من مبادئه، لكنه قد يستسلم في ظل ظروف معينة لإغراء الغش فيغش الآخرين. فقد تمر به مثلا ضائقة مالية أو ربما كان في وسط لا يرى في السرقة بأسا. وثمة دواع أخرى مختلفة قد تجر المرء إلى ممارسة الغش والتورط في مستنقع الإثم. لكن الدين يحرم بشكل قاطع الاستيلاء على ممتلكات الآخرين دون وجه حق. والشخص الذي يجعل قيم الدين هاديا له في حياته لا يحاول البتة أن يغش الآخرين. فالغش ضرب من ضروب الظلم التي ذمها القرآن ونفر منها في آيات كثيرة منها قوله تعالى: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون" (البقرة:188)
القرآن يأمر بإسناد الأمور إلى أهلها

إن أكبر سبب لاستعصاء كثير من المشكلات على الحل في عالم اليوم هو أن من يتصدون لهذه المشكلات تنقصهم الموهبة والمؤهلات للنهوض بأعباء هذه المهمة. ففي المجتمعات التي تغيب عنها أخلاق الإسلام تجد أناسي كثيرا تنقصهم المهارات الأساسية التي يتطلبها أداء المهام التي يتولونها. وحتى لو توفرت فيهم هذه المهارات فإنهم قد يعوزهم الالتزام بمبدأ فعل الخير للآخرين أو خدمة الإنسانية. وفي أغلب الأحوال لا تكون المهارات والخبرات هي المعيار الذي يحكم عملية توزيع المهام على الأشخاص، بل تحدد ذلك المصلحة الذاتية المتبادلة والامتيازات. فعندما يموت أحد ملاك المصانع مثلا فإن ابنه هو الذي يتولى مسئولية إدارة المصنع، ولا يهم بعد ذلك إن كان الابن يتمتع بالمهارات والمعرفة التي تمكنه من إدارة المصنع أم لا، بل ربما كان في قرارة نفسه كارها لهذا المنصب لكنه يقبل به على مضض لأنه هذا المنصب الموروث يضمن له النجاح والأمان الوظيفي والمالي والهيبة والاعتبار. ولذلك يفشل الابن في تذليل المشكلات التي تظهر في مكان العمل ولو كانت تافهة ويعجز عن اتخاذ إجراء مناسب لتصحيح الأوضاع، الأمر الذي يفضي إلى مزيد من المعضلات الأكثر تعقيدا مع مرور الوقت.
لكن مثل هذه المشكلات لا وجود لها في البيئات التي تسود فيها مبادئ القرآن وذلك لأن القرآن يأمر المؤمنين بإسناد الأمور إلى أهلها الذين تتوفر فيهم المهارات والمعرفة التي تقتضيها هذه المهام: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا " (النساء:58)
إن الشخص الذي يؤمن بالله ويهتدي بمبادئ الدين وقاف عند حدود الله. ولهذا فالمجتمع الذي يتكون من أشخاص مؤمنين هو في الحقيقة يشتمل على: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُون" (المعارج:32-33)حيث يؤدي كل فرد فيه مسئولياته بأحسن وجه.
أخلاق الإسلام تعصم البشرية من الغدر والخيانة

يوجه الدين الإنسان إلى مفاهيم الوفاء والالتزام. ومن الخطأ الظن بأن هذه المفاهيم تبقى في المجتمعات التي لا تهتدي بقيم القرآن، وذلك لأن الفرد في المجتمعات المؤمنة يظل وفياً للآخرين في كل الأحوال حلوها ومرها لا لشيء سوى الفوز برضا الله، أما الذي لا يرجو لله وقارا ولا يظن أنه سيعاقب على ما يرتكب من شرور فإن مصلحته هي التي تحركه ثم لا يلبث أن يغدو إنسانا مفرط الأنانية.
والمجتمعات الكافرة تموج بالأمثلة التي تثبت هذه الحقيقة. فالناس هناك يتنكرون لمن زل عن مكانة كان يتسنمها أو عن منصب كان يشغله، ويزهدون في الشخصيات الهامة التي لم تعد تثير اهتمام الناس، وينفضون من حول الغني إذا افتقر. كما يشعر من يصاب بمرض عضال بمرارة هجر الخلان ورغبتهم عنه. وهكذا يمكنك الاطلاع على نماذج من الخيانة في صفحات الصحف كل يوم. ففي مجال الأعمال والشركات يبغي الخلطاء على بعضهم على بعضهم الآخر ويتخادعون. ففي مثل هذه العلاقات التي تفوح منها رائحة المصلحة يشاهد المرء كل أشكال السلوك غير الأخلاقيوذلك لما للمال من تأثير كبير على مجريات الحياة اليومية.
أما الصداقة فهي ظاهرة اجتماعية أخرى تتبدى فيها ملامح الخيانة والغدر. إذ لا يتورع الناس عن هجر أعز أصدقائهم إذا أحسوا أنهم يجنون منفعة أكبر من صداقة أخرى. فقد غُبن كثير من الناس من قبل أصدقائهم لأسباب مماثلة. وينسحب هذا الحكم على الزواج. إذ يترك الزوج زوجه أو يخونها لأتفه الأسباب. فهم يظلون على هذا الضلال لأن فعالهم المنكرة ستظل، حسب منطقهم المعوج، طي الكتمان طالما لم يطلع عليها أحد. لهذا فإنهم لا ينتهون عن غيهم. وباختصار هناك عنصر غدر وخيانة في معظم العلاقات في المجتمعات الكافرة مما يجعل تعامل الناس فيما بينهم مشوبا بالتردد والريبة.
ولا يقتصر انحراف منطق المجتمعات الكافرة على هذه النماذج وحدها. فكم من مشاهير بسبب المال أو الجمال يعشقهم ملايين المعجبين يفقدون هذا الحب وهذا الاهتمام ويقضون بقية أيامهم في عزلة كاملة وفاقة وعوز، يرقبون الموت بعد أن تتقدم بهم السن ويذهب عنهم ما كانوا يتمتعون به من سحر وجاذبية. فقد فقدوا فجأة المعجبين والأصدقاء وأضواء كاميرات الصحافة.
أن الاعتقاد السائد بين اللادينين هوعلى أن الإنسان بهيئته الحالية قد تطور من مخلوقات شبيهة بالقرد عن طريق عمليةمصادفات. وهذا هو السر في أن الإنسان يقم تقيمه على أساس مظهره ووضعه الماليوبهما يتميز المرء في مجتمعه. ومتى ما تلاشت هذه القيم المادية تلاشت مكانة المرء في أعين الآخرين. ولا جرم أن هذه الفلسفة لا تجعل أي قيمة لكائن أصله قرد، إذ ينصرف كل الاهتمام إلى المال والشهرة التي يحوزها المرء. وعليه يحل الأشخاص الأصغر سنا والأكثر جمالا محل المسنين ويزيح المجتمع كبار السن جانبا لأنه لم يعد بحاجة إليهم. كما يفترض بقية أفراد هذا المجتمع أنهم قد انحدروا من قرود وسيطويهم الفناء في نهاية الأمر. ولأن فلسفتهم لا تعرف قيمة الوفاء، فهم لا يتورعون عن التخلي عن آبائهم المسنين وتركهم يقضون بقية أيامهم في دور الرعاية متناسين أن هؤلاء الأباء المسنين هم الذين تطوعوا بتربيتهم ورعايتهم حتى بلغوا مبلغ الرشد. وأسوأ من ذلك أن هؤلاء الآباء والأمهات المسنين يلقون معاملة سيئة في كثير من دور الرعاية.
لا ريب أن أي قلب يخلو من قيم الدين يمكن أن يدفع صاحبه إلى أن يتصرف بعنف أو بعدم اهتمام حتى تجاه والديه. وفي ظل هذا الجدب الروحي تتسرب قيم التنكر والخيانة والغدر إلى كافة أشكال العلاقات الإنسانية. وليس من حل لهذه المشكلة الاجتماعية التي تشيع الألم والاضطراب الروحي إلا بمراعاة قيم الدين. فحين يتمسك الناس بمبادئ الإسلامفسينظر بعضهم إلى بعض باحترام وتقدير. فلا يغدو المال ولا جمال الخلقة ولا المكانة الاجتماعية معيارا للتفاضل بينهم، بل تكون قيمة الواحد منهم بقدر ما عنده من خشية الله وبحسب نصيبه من الكمال الأخلاقي. فالجسد ليس سوى نعمة مؤقتة وهبها الله للإنسان. وقد خلق الله الإنسان واستعمره في الأرض ومنحه الحياة اختبارا له. ومقامه في هذه الدنيا قصير إلى أجلمعين ثم ينتقل إلى مقامه الأبدي في الدار الآخرة. وحين يوافي الآخرة فإنه يحاسب على قدر ما تحقق له من سمو خلقي ولهذا كان سمو الأخلاق، لا غيره، هو الأهم. إن الله يأمر عباده بالوفاء لبعضهم البعض وهذا هو مصدر سعادة المؤمنين.
حيثما سادت أخلاق الإسلام فثمة قيم الوفاء والإخلاص المحض. الأطفال يجلون والديهم. والآباء والفنانون والعلماء والأشخاص الذين خدموا أممهم ينالون التقدير اللازم بغض النظر عن تقدم سنهم. والشباب لا يتخلون عن كبار السن من أفراد أسرهم ولا يدعونهم يقاسون مرارة الوحدة في نهاية حياتهم. فهم يزورونهم بانتظام ويجهدون في خدمتهم. ففي مثل هذه المجتمعات تعمّر الصداقات وتتطاول آجالها، لا بل يصبح الناس كأنهم اخوة أو أخوات، لا أصدقاء فحسب. وأكثر من ذلك يرى الناس في مثل هذه المجتمعات في عوادي المرض وغوائل المصائب والصعاب مواسم لنيل رضا الله. والرجل والمرأة المقبلان على الزواج يحافظان على بقاء علاقتهما ويقويانها بالإكثار من ذكر الله. كما يدفعهما إيمانهما بالحياة الآخرة السرمدية إلى الإخلاص التام لبعضهما الآخر. إخلاص لا يغيّره تبدل الظروف، كأن يصاب أحدهما بالمرض أو العجز أو الكبر. فإخلاص الرجل وحبه واحترامه لزوجته مثلا يبقى على مر الأيام، لا ينضب معينه حتى لو فقدت الزوجة جمالها الأول بسبب تقدم السن أو الإصابة بمرض. وليس هذا إلا لأن المؤمنين يعلون من شأن الروح فقط. بل يتحول الصبر الذي يبدونه في أيام البلاء هذه إلى متعة روحية عظيمة. والحديث التالي يوضح ولاء المؤمنين لبعضهم بعضا بشكل جيّد: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه ومن فرج عن أخيه كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. " (البخاري ومسلم).
وينطبق هذا الفهم للإخلاص والوفاء على الشراكات التجارية وغير ذلك من ضروب العلاقات التي تربط بين المؤمنين. فالوفاء بالعهود والعقود من أبرز وأهم سمات المؤمن. إلا أنه من سفه الرأي أن نتوقع من الناس في المجتمعات المحرومة من قيم القرآن أن يراعوا قيم الوفاء والإخلاص.
وهناك مسألة تتعين الإشارة إليها هنا وهي: أنه ربما زعم شخص ما أنه لا يخلف وعوده ولا يغدر رغم أنه لا يدين بدين معين. ونحن نقول إنه من الوارد أن يوجد شخص غير متدين لكنه مستقيم في تعامله، متنزها عن الخيانة والغدر طوال حياته. لكن، وكما سبق أن أشرنا، قد تتبدل الظروف بشكل يجعله يظن أن بإمكانه خدمة مصالحه. وفي هذه الحالة لا يملك إلا أن يستجيب لإغراء الظروف الجديدة. لكن المؤمنين لا يجرؤن على انتهاك حرمات الله مهما دعت الظروف.
الأمن والسلام يسودان حيث يتمسك الناس بمنهج الله

يرشد الله الإنسان إلى حياة يسودها الأمن والسلام. حياة تختفي من على وجهها سورة الغضب وغير ذلك من أنماط السلوك غير الأخلاقية التي حرمها الله: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين " (آل عمران: 134)، "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون " (الشورى: 37). كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حث المؤمنين على كبح جماح الغضب وكظم سورة الغيظ في كثير من أقواله: "ليس الشديد بالصرعة لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب" (البخاري).
هكذا وصف الله المؤمنين في القرآن، وهم، أي المؤمنين، حريصون على الالتزام بمقتضى هذا الوصف. وما ذلك إلا لأن رحى حياتهم تدور حول قطب واحد وهو مرضاة الله تبارك وتعالى. فهم في تطلع دائم إلى إرضاء الله في كل كلمة يتفوهون بها وكل موقف يتخذونه وكل خطوة يمشونها. ويأمر الله عباده بالتزام نمط من السلوك الراقي الرفيع. ويصف هذا النمط من السلوك في كثير من آيات الكتاب الكريم بـ "التي هي أحسن". فهو يلفت الأنظار إلى ذلك بقوله: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا"(الإسراء: 53)، "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُون " (المؤمنون: 96)، "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم" (فصلت: 34).
يدأب كل فرد في الأوساط التي تتمسك بهدي القرآن إلى تنمية أفضل الأخلاق في نفسه. ولهذا تغدو السكينة والوداعة والسلم أسلوب حياة يجئ سجية وتتطوع به النفوس غير مكرهة. فلا تملك آفات الغضب والصراع والشقاق إلا أن تتلاشى. هذا هو دأب المؤمنين وبقائهم على هذه الأخلاق الكريمة. ولا يعثر المرء على أثر لآفات الصراع والنزاع، لا في حياة الأسرة ولا في ميدان التجارة ولا حيث تزدحم حركة المرور. هذه السوءات الخلقية التي يتقبلها أناس آخرون ولا يرون بها بأسا، تسبب الحرج للمؤمنين.
يعم السلم في الأماكن التي يستمسك فيها بأخلاق الإسلام. أما في المجتمعات الكافرة فيعاني الناس من رهق القلق وعنت المشاكل. فليس ثمة آلية واحدة لمنع شخص مجرد من قيم الدين من إتيان صنيع غير مقبول. وأغلب الظن أن مثل هذا الشخص سيعاني من تقلب المزاج وذلك لأنه يتصرف وفق ما تمليه عليه شهواته ونزواته، فهو قد يغضب فجأة، وقد يتصرف تجاه الآخرين بشكل غير لائق، بل قد يلجأ إلى العنف أحيانا. والحق أن الشعور بالغضب يعكس ما يعتمل في دواخل الفرد من قلق. وكما نوهنا من قبل، فهذه حالة يتكرر حدوثها في أوساط المتزوجين والأصدقاء وفي ميادين العمل التجاري وفي العلاقات الأسرية. ويندر أن تجد في مثل هذه المجتمعات أشخاصا لا ينزعجون إذا أحسوا بأن الأمور تجري على غير ما يشتهون، أو إذا تعرضوا للضغط أو شعروا بأن مصالحهم تتعرض للخطر. ففي مجتمع كهذا يعز العيش في سلام وذلك لأن الناس فيه لا يأبهون ولا يكترثون بمشاعر الآخرين.
لا يتصور كثير من الناس أن الشخص الذي يثير غضبهم قد يكون مرهقا أو يعاني من قلة النوم أو مريضا أو يواجه مشكلة ما. فالناس ليسوا ملائكة وقد يقعون باستمرار في الأخطاء. ومن العبث مهارشة الآخرين وسبهم أو حتى الاشتباك معهم لأسباب تافهة وأخطاء صغيرة. لكن في المجتمعات الكافرة قد تثور النزاعات لأتفه الأسباب-- بسبب رداءة طعام أو اتساخ قميص أو تأخر خدمة في أحد المطاعم. كما أن أفراد مثل هذا المجتمع قد لا يأبهون لما يحدث من ظلم طالما لم يتأثروا سلبا بنتائجه.
yadm.jpg
لقد أودع الكثير من الأشخاص المسنين في مؤسسات الرعاية أو ألقي بهم في قارعة الطريق وهذا أحد إفرازات المجتمعات المحرومة من الإيمان والتي لا قيمة فيها للإنسان
منظومة الأخلاق الإسلامية تحقق التوازن العقلي

يوقن المؤمنون أن كل ما يحدث في هذا الكون يجري بقدر الله وبالتالي يسلمون أمرهم إلى الله تبارك وتعالى. وهو إيمان يحقق لهم توازنا روحيا. فلا تقدر حادثة، حسنة كانت أم سيئة، أن تفقدهم توازنهم. ولا تصدر عنهم ردود أفعال مفاجئة. كما أنهم لا ينساقون وراء عواطفهم ولهذا تكتسب تصرفاتهم طابعا عقلانيا في كافة الأحوال. ولهذا تحلى المؤمنون بدرجة عالية من الثقة. ففي أوقات الشدة والفتن يتخذ المؤمنون احتياطات معقولة ويقللون من مقدار الأضرار المحتملة عليهم وعلى من يحيطون بهم. ولأن المؤمنين قد أشربوا مبادئ القرآن-- الهدى الذي أنزله الله للبشرية--فإن هذه المبادئ تنعكس على كل ما يصدر منهم من مواقف وأفعال. وذلك أن الالتزام الصارم بأوامر الله والخوف منه يقدح وعيهم ويشعل مداركهم. فهم قد وهبوا أدوات بارعة للتفكير وإصدار الأحكام وآلية فذة لاتخاذ قرارات راشدة.
ولا جرم أن امتلاك هذه المواهب يسكب الطمأنينة في نفس المؤمن فلا يستسلم لهواجس الخوف ولا تتملكه مشاعر اليأس ولا يخور. كما لا يطيش صوابه لما يعترض سبيله من حوادث مؤسفة بل يتصرف على الدوام بعقلانية. وهو يناضل الصعاب والمشكلات ولا يستسلم أبدأ. وحتى في أحلك اللحظات فإنه يراعي مشاعر الآخرين ويخاطبهم بأدب ويستعين بالصبر وكل هذه من سجايا النفوس الكبيرة الواثقة. ولأن المؤمن يؤمن إيمانا قاطعا أن كل حدث في الوجود لا يخرج عن قدر الله، فهو يستحضر دائما قول المولى عز وجل: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور " (الحديد: 22).
إن ذهول المتنكرين لقيم الدين عن هذه الحقائق يجعلهم على الدوام نهبا للقلق والخوف والإجهاد النفسي. والإجهاد النفسي هو الذي ينزع عنهم لباس الاستقرار النفسي والعاطفي. إن من يراقب أمزجة هؤلاء الناس سيجد عجبا. إذ تنتابهم تقلبات مرهقة في المزاج. وإذ بدوا مسرورين فسرعان ما تنتابهم نوبات من البكاء المرٌ. ففي أغلب الأحوال يصعب التكهن بالأشياء التي تفرحهم وتلك التي تسوؤهم. فأحيانا يتذكرون حدثا غير سعيد فيلفهم الغم، وتدهمهم حالات الاكتئاب بسهولة ولا يتردد الواحد منهم في الإعلان عن أنه في حالة اكتئاب كاملة. وتراودهم فكرة الانتحار من حين لآخر، بل يحاولون الانتحار أحيانا. إن سلوك مثل هؤلاء الناس لا يعرف الحدود. وليس لهم فهم لمسائل الخطأ والصواب ولا يميزون بين أنماط السلوك اللائقة وغير اللائقة، وبين المعقول واللامعقول وذلك لأنهم غافلون تماما عن المعيار الذي وضعه الدين.

إن هؤلاء الناس لا يتوكلون على الله بسبب جهلهم بالدين. فهم ببساطة غافلون عن حقيقة أن كل الحوادث في هذه الحياة تجري على قدر إلهي مرسوم، وأن جميع الحوادث، حسنها وسيئها، وضعت لابتلاء الإنسان واختباره. إن افتقارهم لمبادئ الدين الحق يحول بينهم وبين إدراك المغزى الحقيقي لما يقع لهم من حوادث. وهذا هو سبب عجزهم عن تقييم هذه الحوادث كما ينبغي. ولأنهم يعزون كل الحوادث للمصادفة المحضة فهم يشعرون على الدوام بالقلق والإجهاد والخوف. كما أن هذا هو السبب الذي يدفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة وإبداء ردود أفعال غير مناسبة. إنهم يعضون أصابعهم ندما على كل تصرف يبدر منهم.
ليس بمقدور هؤلاء الناس أن يضعوا معيارا سليما لأي شيء، فهم يفرحون وينتشون إذا جرت الرياح بما يشتهون، ثم ما يلبثوا أن تظهر عليهم سيماء الغطرسة والوقاحة. إن ابتهجوا فقدوا السيطرة على أنفسهم وسلكوا سلوكا مشينا. ويمكن أن تصدر عنهم أشياء غير متوقعة، فقد يشرعون فجأة في الزعيق أو البكاء أو الابتهاج. وإن غضبوا أكثروا من الكلام أو ربما غدا سلوكهم عدوانيا.
ولا ينحصر هذا الضرب من السلوك على شريحة اجتماعية معينة من شعب معين، ففي المجتمعات الغافلة عن أخلاق الدين يمكن للأشخاص الأكثر نضجا والأكمل عقولا والأرفع تعليما أن يفقدوا السيطرة على أعصابهم ويسيئوا استخدام مواهبهم بتتبع أغراض شريرة. ومن الأمور المشاهدة بشكل واسع أن هؤلاء الناس يمكن أن ينحطوا إلى الدرك الأسفل من اللؤم والخبث أو أن يصبحوا عدوانيين حين تتعرض مصالحهم للخطر أو حين تجري الأمور على غير ما يريدون.
التمسك بالدين يثمر شخصية قوية وحازمة

إن الناس في المجتمعات الجاهلة محدودو القدرات ولو بدا أنهم يتمتعون بقوة الشخصية، إذ لا يلبث ضعفهم أن يتكشف في ظل ظروف معينة. وحتى أصحاب المبادئ منهم قد يتناسون مبادئهم هذه إذا تعرضت مصالحهم لتهديد. فهم نادرا ما يرقبون حرمة قانون إذا تعرضوا لضغط أو حلت بهم نكبة أو أصابتهم مصيبة المرض وظنوا أنهم بمفازة من أعين الرقباء. إنهم عرضة لأن يتهافتوا على ما يقدم لهم من عروض جذابة طالما لم يكن ثمة سبب وجيه يردعهم عن التنكر لمبادئهم والانقياد لشهواتهم.
لكن، وكما أسلفنا القول، ليس المهم إن كان المرء من هؤلاء قد ارتكب مثل هذا الجرم أم لا، بل الأمر الأهم هو أنه ليس هناك ما يحجز شخصا لا يبالي بقيم الدين من الانقياد لرغباته الأنانية. إن عدم خوف هذا الشخص من الله يسلبه قوة الإرادة. لكن الأمر مختلف جدا بالنسبة لشخص ملتزم بأخلاق الإسلام. إذ لا شيء يحول بينه وبين فعل ما يؤمن بأنه حق. والسبب الأول لهذا الإصرار هو خوفه العميق من الله. فهو يعلم أن الله يرى ويسمع ويعلم بكل ما أخفى فؤاده ويستشعر معية الله. فالشخص الذي يؤمن بالله حقا هو شخص قوي الشخصية وقاف عند حدود الله لا يتعداها. وهو يرهب أن يأتي عملا يسخط الله، ولا يني يسعى لنيل القربى من خالقه بالغا ما بلغت العوائق التي تعترض سبيل حياته. هذه الحقيقة تتجلى في قوله تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْر حساب " (النور: 36-38)
أخلاق الإسلام تذهب الأنانية
ليس غريبا أن ينحصر تفكير المستهترين بقيم الدين في أنفسهم. فهذا في الحقيقة متطلب فلسفي أساس للنظام الذي يحيون وفقه. إن الاستعداد للتضحية وإظهار الرحمة والتخلق بكريم الأخلاق هي قيم يأتي بها الدين وليس ثمة ضامن لمراعاة المرء لها سوى الدين نفسه. إن المؤمنين بالله واليوم الآخر والمدركين لحقيقة أن ثمة حسابا ينتظرهم بعد الموت هم وحدهم المؤهلون لبلوغ مرتبة الكمال الخلقي التي وصفها القرآن. وهذا هو السبب الذي يجعل الكافر غير قادر على تسنم هذه الذروة الأخلاقية. ولا يحق للكافر أن يقول: "صحيح أن في المجتمع أشخاصا أنانيين لكنني قطعا لست واحدا منهم" وذلك لأن المرء إذا لم يراع قيم الدين فلا مناص من أن يصبح أنانيا.
وهذا هو سبب انكفاء الذاهلين عن قيم الدين على مصالحهم الضيقة وعدم اكتراثهم لمصالح غيرهم. فهدفهم الأول في الحياة هو أن يزدادوا غنى وأن يترقوا مهنيا وأن يتوسعوا في الرزق، ولهذا يغيب عن تفكيرهم سد حاجات غيرهم من فقراء ومحتاجين ومسنين أو احتياجات مجتمعهم. والسبب في ذلك هو أن نظرة الكافر للحياة ينقصها الدافع والحافز إلى التضحية أو الالتزام بالخلق الكريم. وشبيه بذلك موقفهم العام ممن حولهم من الناس، بل إن مجموع أفراد المجتمع يتصرفون بذات الطريقة. وهذا الميل العام لدى أفراد المجتمع يمنح شيئا من راحة الضمير. صفوة القول، إن الأنانية ضربة لازب في المجتمعات التي لا تراعي قيم الدين، فهي تنتظم أفراد هذه المجتمعات قاطبة.
إن الإنسان مبتلى بشعور الأنانية الذي أودعه الله في النفوس العنيدة. يشير الله إلى هذا الاتجاه (الأنانية) في الآية التالية: "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء: 128).
وعلى العموم، فإن الأشخاص الأنانيين يقطعون بصواب وسلامة قناعاتهم الشخصية حتى في المسائل التافهة، فلا تكاد احتياجات الآخرين أو رغباتهم تعني عندهم شيئا. فلو أحس الشخص الأناني بالإجهاد فإن كل ما يفكر فيه هو أن يجلس بأسرع وقت ممكن ولا يفكر بالمريض أو بالشخص المسن الذي يجلس إلى جواره ويحتاج إلى الراحة. إن حرصه على الحصول على أفضل وضع أو أفضل شيء يعميه عن رؤية الناس من حوله. فهو لا يرى بأسا بإقلاق الآخرين في سبيل تحصيل راحته. وهو يطالب الآخرين بالهدوء أثناء عمله لكنه يستنكف أن يحترم الآخرين أثناء عملهم. إن أنانيته هذه تتبدى بصور شتى سواء في بيته أو في مكان عمله.
وقد تجد في المجتمعات الكافرة أناسا كريمي الأخلاق ويتعاملون بنبل مع الناس من حولهم. لكن دافعهم الأول إلى هذا السلوك الحسن هو الرغبة في تحصيل الثناء وحسن الأحدوثة لا الطمع فيما عند الله من مثوبة. بالإضافة إلى حقيقة أن العون الذي يقدمونه للفقراء يكون في أغلب الأحوال لا يساوي شيئا مقارنة بحجم ثرواتهم.
وقد توجد في المثاليين منهم رغبة في تحمل المسئولية وتولي القيادة، وليس ذلك بالطبع عن رغبة في إرضاء الله أو خدمة الناس، بل يريدون بذلك خدمة مصالحهم وقضاء أوطارهم وتعزيز وضعهم الاجتماعي والاشتهار بين الناس. إذ لا تلبث طباعهم الحقيقية أن تتكشف إذا تعرضت مصالحهم للتهديد.
إن من يوصفون بالكرم في المجتمعات البعيدة عن هدي الإسلام قد يعتبرون أنانيين إذا قورن كرمهم بأريحية وتضحيات المؤمنين. وإن تصور المؤمنين لمفهوم التضحية بالنفس يختلف جدا عن تصور الكافرين له. فالمؤمنون يؤثرون قضاء حاجات غيرهم على قضاء حوائجهم. وقلوبهم عامرة بحب الخير لأخواتهم وإخوانهم. وهذا تطبيق عملي للوصف القرآني القائل: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا"(الإنسان: 8)،وهذا الحس الأخلاقي هو الذي يدفع المؤمنين إلى خوض أهوال الحرب وتعريض أنفسهم لغوائل الردى استجابة لأمر الله: "وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء: 75) .فبدلا من الانكفاء على احتياجاتهم هم يشعر المؤمنون بالمسئولية تجاه الكافة ويسعون لتحقيق الخير للجميع. وهذه الروح الإيمانية يعبر عنها بجلاء الحديث النبوي القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (البخاري). وهكذا تنهض العلائق الاجتماعية على معاني التضحية في المجتمعات التي تسود فيها قيم الدين فيتمخض ذلك عن بيئة اجتماعية بريئة من المشكلات.
أخلاق الإسلام تحد من المغالاة في الطموح الدنيوي

إن الدين هو وحده الذي يعلم معاني الحب والأخوة والمشاركة في صورتها الحقيقية. وليس سوى الدين ما يعمق هذه المفاهيم ويصون وجودها. ومرد ذلك إلى حقيقة أن النفس البشرية مجبولة على حب الدنيا والطمع والولع بتحصيل حظوظها. ولأن الدار الآخرة غائبة عن قائمة اهتماماتهم، يجهد المحرومون من هدي الدين، وعلى امتداد حياتهم، في إرضاء طموحاتهم التي لا تعرف الحدود. يصور الله رواد هذا الطريق على النحو التالي: " وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًاوَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًاثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ " ( المدثِّر: 12-15). تنحصر طموحات الناس في البيئات البعيدة عن هدى الدين في تحصيل المزيد من الثروة، ولهذا يفشو فيهم التنافس المحموم بسب تكالبهم أيهم يغدو الأكثر مالا والأكثر نجاحا والأكثر شهرة. إنهم ببساطة يسوءهم أن يروا غيرهم في نعمة وخير. ويحسدون الآخرين ويسعون لامتلاك ما يملكون، بل يسرهم أن تذهب النعمة عن الآخرين.
وتنبت من هذا الشره فلسفة جوهرية للحياة وهي أن هؤلاء الناس لا يعتبرون الآخرين مخلوقات برأها الله ونفخ فيها من روحه، بل الناس في نظرهم مخلوقات عادية تطورت من مخلوقات بدائية شبيه بالقرود وستتحول في نهاية الأمر إلى هباء لا قيمة له. وقد قاد هذا المنطق إلى الاعتقاد بضرورة أن يحقق الإنسان أقصى وأفضل غاية من حياته طالما أن فرصته في الحياة واحدة لا تتكرر. وهذه النظرة المنحرفة توحي لصاحبها أن من العبث تقديم العون للآخرين أو السعي لتحقيق رغباتهم أو سد احتياجاتهم. وهي نظرة معيبة تدفع الإنسان نحو مهاوي الاكتئاب.

إن هذا الاكتئاب مصير محتوم ينتظر كل جاهل بأخلاق الدين، وهو يسلك الإنسان في سقر المشكلات ويملأ حياته بالقلق والضغط النفسي وغير ذلك من آفات ترهق روحه وتؤذيها، وهذا هو سبب حرمان الكافرين من السلام والسعادة الحقيقية. إن شهوات ورغبات الإنسان، رغم مشروعيتها، لا حدود لها وذلك لأن الإنسان خلق ليكون جزءا من الحياة الأبدية في الدار الآخرة. وهذه الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء ومقدر لها النقص والشح بحيث لا تفي بمراد الإنسان. ولهذا يسعى الذين تغيب عنهم حقيقة الابتلاء هذه ويغفلون عن قيم الدين إلى قضاء أوطارهم وتحقيق شهواتهم في الحياة مما يوقعهم في حالة مستمرة من عدم الرضا والقناعة. وهذا العجز عن تحقيق تطلعاتهم في الحياة يحيل حياتهم إلى كابوس مقيم. فهم مفتقرون رغم ما يلوح عليهم من مخائل الثراء. إن استسلامهم لمشاعر الأسى على ما فاتهم من غنى يسلبهم نعمة الاستمتاع بما في أيديهم من ثروات. وليس هذا العنت الروحي سوى الخطوة الأولى من مشوار العذاب السرمدي الذي سينتهون إليه.
يحث الإسلام المؤمنين على البذل والعطاء ومواساة الآخرين. والمؤمنين والمؤمناتيوالي بعضهم بعضا: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم " (التوبة :71) وهم يفرحون لأي خير يناله أحد منهم. إن تسخير كل واحد من هؤلاء المؤمنين لمهاراته وخبراته في سبيل الله يشيع في المجتمع روح التعاون والتآسي. إن أفراد مثل هذا المجتمع يؤمنون أن الله هو الذي برأ الإنسان فتطبع هذه القناعة طريقة تعاملهم فيما بينهم بطابع الرحمة والتقدير. إن مجتمعا كهذا تختفي منه مظاهر الظلم الاجتماعي والتدافع واختلال النظام. إن مصدر السلام والأمن في قلوب المؤمنين يوضحه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" (البخاري ومسلم)
التمسك بقيم الدين يقضي على آفة الحسد

لقد سبق أن قلنا أن القرآن عرف الحسد بأنه حالة عقلية غير أخلاقية، وهذا هو سبب اجتناب المؤمنين للحسد ذلك الخلق الذي يتعارض مع إرادة الله. أما الكفار فلا يحول بينهم وبين الحسد حائل وذلك لأنه قد تقرر في منطقهم أن لا وجود لأي دافع للامتناع عن الحسد. إن التنافس يولد في النفوس مشاعر الغيرة والأنانية والانفعال. فالبنت الشابة تحسد بنتا شابة أخرى لأنها أكثر منها جمالا وأفضل هنداما. وتساور الشاب مشاعر الحسد تجاه شاب آخر لأنه أكثر شهرة منه. والحسد مشاهد في كل المستويات الاجتماعية، وهو يكون عادة فيما يملكه الآخرون. فالانتقال للعيش في حي راق وقضاء عطلة الصيف في مصطاف مشهور واقتناء سيارة جديدة والسفر خارج البلاد كل هذه أوضاع تجر حسد الحاسدين. إن الطموح يغلب على البعض بحيث يعجزهم حتى عن التعبير عن سعادتهم بما يحرزه الآخرون من نجاح أو كسب. والعنت الذي يسببه التنافس للروح الإنسانية مشاهد بوضوح ولا سيما في مجال التجارة والمال. وتكاد الرغبة في تحقيق تقدم مرموق في مجال المال والأعمال والحسد الذي ينشأ بسبب ذلك أن تكون أنماطا سلوكية معتادة في الحياة اليومية.
لكن القرآن يرسم للمؤمنين سبيل حياة مبرأة من الرغبات الأنانية، ولهذا فإنهم يفرحون بما يصيب إخوانهم من نعمة أو خير: " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم " (الحشر: 9-10)
ويوصي الرسول، نزولا عند أمر الله، يوصي المؤمنين باجتناب الحسد: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" (أبو داوود)
أخلاق الإسلام تشيع الحب والاحترام بين الناس
إن الحب ومكارم الأخلاق هما عماد الدين الحق. ويرغب الله الإنسان في القرآن في معاني الحب والتضحية. والله رحيم بعباده، ويبين الله رحمته لعباده في قوله تعالى: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ" (البروج: 14). ويأمر الله عباده بأن يتواصوا بالمحبة والمرحمة. ولهذا يتراحم المؤمنون ويتحابون تدفعهم إلى ذلك رغبة في إرضاء الله، إلى جانب إيمانهم بقيمة الإنسان الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه وهداه إلى سبل الإيمان.
إن يقين المؤمنين بحقيقة أن العالم دار ابتلاء تدفعهم إلى الإحسان في تعاملهم مع الآخرين وذلك لعلمهم أنهم سيجازون بالحسنى حين يردون إلى خالقهم. إذ تدفعهم مخافة الله التي تنطوي عليها ضمائرهم إلى توخي الإحسان إلى الآخرين في كل ما يأتون. إنهم يستشفون جمال الله في كل ما تقع عليه أعينهم من مخلوقاته فتمتلئ نفوسهم بحبه. كما أن إيمانهم بالحياة التي تنتظرهم في دار المعاد يقوي مشاعر الحب والاحترام هذه ويعمقها.
وهكذا فإن دفء الحياة وهنائها لا يناله إلا المستمسكون بقيم الدين. فحياة الأسرة تغدو أكثر سعادة وذلك بما يكتنفها من مشاعر الاحترام العميق من قبل الأبناء تجاه والديهم وتجاه من يبلغ الكبر عندهم. إن القرآن يأمر بهذا النوع من السلوك: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا" ( الإسراء: 23) كما يلفت الرسول صلى الله عليه وسلم الأنظار صوب هذا المعنى وذلك بقوله: "ليس منا من لا يرحم صغيرنا ولا يوقر كبيرنا" (الترمذي) وفي آية أخرى يرشد الله المؤمنين بقوله: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا " (النساء: 36)
فإن سادت أخلاق الدين في مكان ما تنافس أهله في التحلي بكريم السلوك والآداب. والحق أنه ليس سوى الدين ما يبعث مثل هذه النزعة الأخلاقية في النفوس: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءتُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون" (إبراهيم: 24-25)فالصداقة والحب والتراحم معان لا يلتزم بها إلا الذين يأتمرون بأمر الله، وهذا هو الحب الخالص الذي لا يحث عليه سوى التطلع إلى نيل رضا الله: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 71)
إن رابطة الصداقة التي تصورها الآية أعلاه تفضي إلى تضامن لا انفصام له في المجتمع بوجه عام، تضامن يحس به جميع أفراد هذا المجتمع. أما المجتمعات التي لا تؤمن بقيم الدين فإنها تفتقر إلى الشعور بالمحبة الصادقة وذلك لأنها لا تحب وتحترم غير الجمال والمال والمكانة الاجتماعية.
إن صداقة الشخص الذي يؤسس صداقاته على ثروة أو جمال أو غير ذلك حري بأن تظل صداقته دائرة على محور هذه القيم. كما تظهر الآثار السلبية لهذه العقلية بعمق في العلاقات الزوجية. ففي المجتمعات الكافرة تنكح المرأة لمالها أو لجمالها أو لحسبها. وفي أغلب الأحوال يتبخر حب الرجل لامرأته في هذه المجتمعات إذا بهت جمالها أو أصابها المرض، وفوق ذلك فإن الذي يجهل الآخرة ولا يؤمن بها ليس عنده استعداد لأن يبدد حياته القصيرة في رعاية وتمريض امرأة طريحة الفراش. وهناك أمثلة كثيرة أخرى على أثر الكفر على العلاقات الاجتماعية في مثل هذه المجتمعات.
إن الاحترام لا يقل أهمية عن الحب. فهو تعبير عن مدى الأهمية التي يوليها المرء لشخص ما. لكن في المجتمعات التي لا تأبه لقيم الدين تكون حظوظ الناس من الاحترام بحسب ما عندهم من سلطة أو مال أو جاه، فإن غابت هذه الأسباب لم يكن ثمة ما يحث الأشخاص على احترام بعضهم الآخر.
[/ALIGN]​
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]​
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;"][CELL="filter:;"][FONT=(Al Moharib Blook Othman 1)][ALIGN=center]
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:darkblue;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
كابوس الكفر الجزء الثاني
بقلم الكاتب التركي هارون يحيى
أخلاق الإسلام تحث على الصداقة الحق
في المجتمعات البعيدة عن قيم الدين تسمع الناس يقولون: "عندي أصدقاء كثر لكن ليس بينهم صديق واحد يمكن التعويل عليه" أو تسمعهم يقولون: "إنني لا أثق بأي من أصدقائي". فرغم ما لهؤلاء الناس من صداقات حميمة ظاهريا إلا أنهم يشعرون في قرارة أنفسهم بالحرمان من الأصدقاء. ومن المستبعد جدا أن يعثروا على أصدقاء مخلصين. وهذه الحقيقة هي التي تثنيهم عن السعي لإقامة صداقات أفضل. وما ذاك إلا لأن الصداقة الحق تقتضي من طرفيها اجتهادا وتضحية. فالصديق الحق هو الذي لا يتردد في التضحية من أجل أصدقائه إذا حلت بهم ضائقة أو طرقهم مكروه، فلا يتأخر عن مواساتهم بماله أو بوقته أو بأي شيء آخر من نفيس ما يملك. لكن ليس للناس في المجتمعات الغافلة عن هدى الدين دافع للتضحية والإيثار.
فلو مرض أحدهم فجأة مثلا فالراجح أن يستثقل صديقه نقله إلى المستشفى أو دفع نفقات علاجه أو البقاء بجانبه في المستشفى لرعايته. وأغلب الظن أنه سينتحل المعاذير ويتحجج بضرورة ذهابه للعمل أو للمدرسة أو البقاء مع أسرته بدلا من البقاء إلى جانب صديقه الذي يحتاج إلى العون. والأدهى من ذلك أن الجميع يعتبرون هذا تصرفا عاديا لا يدعو للاستغراب.
إن هذا هو السبب الرئيس في انعدام الصداقة الصدوقة في المجتمعات الشاردة عن مبادئ الدين، فحتى الأزواج لا تقوم علاقاتهم على الأمانة والوفاء، إذ لا يلبث الحب أن يتلاشى في وقت قصير. فالأسباب الاقتصادية والضغوط الاجتماعية هي التي تشدهم إلى بعضهم بعضا لسنوات طويلة. وتدفعهم هذه الظروف إلى التعويل على أبنائهم لتأمين مستقبلهم لكن هذا المسعى يخيب أيضا بسبب تقوقع الأبناء على أنفسهم، إذ يصدهم الطمع الدنيوي والأنانية عن مد يد العون لوالديهم. ولهذا كتب على كل من يتنكب سبيل الإيمان أن يحيا وحيدا محسورا يتجرع كأس العزلة ولا يكاد يسيغه.
التمسك بقيم الدين يبدد كافة المخاوف الدنيوية
تنتاب الأشخاص الذين بعدوا عن الله ولا يتوكلون عليه هموم ومخاوف لا أساس لها. ولهذا فهم في قلق وخوف دائم مما يخبئه لهم المستقبل، ومن احتمالات انتهائهم إلى الوحدة أو أن تذهب عنهم أموالهم. إنهم يوجلون من أن يتعرضوا لحادث، وفوق ذلك، فإنهم يهابون الموت ويجزعون من مجرد التفكير فيه: "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجمعة: 8).فالموت في تصور الكفار لغز لا يسبر غوره. فحتى لو لم يكونوا يؤمنون بالحياة بعد الموت فإنهم يفكرون كثيرا في مواجهته وترتعد فرائصهم لمجرد التفكير في أنه سيحل بساحتهم يوما ما. إن تكذيبهم للدار الآخرة يضفي على الموت هالة كبيرة من الرهبة في أذهانهم. فهم يظنون أن الموت سيجعلهم نسيا منسيا ولن تتاح لهم أبدا فرصة ثانية للحياة. والحق أن خوفهم من الموت ينبع في الأساس من خوفهم من الحرمان من متع الحياة والفناء لا من حقيقة اليوم الآخر. ولهذا يسعى هؤلاء الناس لمدافعة هذا الخوف من الفناء بابتداع آثار ضخمة تخلد ذكراهم: "وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون" (الشورى: 129)
إن مجرد التفكير في الموت يطوّح بالكفار في مهاوي البؤس. وحتى لو اجتهدوا في الكف عن التفكير في الموت فإن مشاهده تطل عليهم كل يوم من على صفحات الصحف وشاشات التلفاز. كما تظل حالات الموت التي تتخطف الناس من حولهم وحوادث الأمراض والإصابات التي يتعرض لها أشخاص آخرون في أماكن أخرى، تذكرهم أبدا بنهاية هذه الحياة. ومع هذا فهم يدأبون في تحاشي التفكير في الموت. وإن جاء ذكر الموت على لسان أحد الناس شغبوا عليه وأنسوه النهاية القادمة.
إن تنوع الصور التي يأتي بها الموت يملأهم رعباً. ولذلك تجدهم يتفادون المرور بقرب المقابر مثلا، كما ينفرون من السكنى بجوار المقابر. لكن هيهات، ففوت الموت بعض المستحيل. وهذه الحقيقة الراسخة يحكيها القرآن في قوله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا" (النساء: 78).
إن الموت والحياة الآخرة حقيقتان يدركهما المؤمنون تمام الإدراك ولا تلهيهم الحياة عن التفكير فيهما والاستعداد لهما. فالموت في نظرهم يأخذهم للقيا بارئهم ويقربهم زلفى من دار الخلود والنعيم المقيم ومن الحياة التي لا موتفيها. فهم يوقنون بأن الموت لا يعني نهاية حياتهم وفنائهم ولهذا خلت قلوبهم من رهبته.
التمسك بهدى الدين يزيل الخوف من المستقبل
إن الناس، كل الناس، ما خلا المؤمنين، يساورهم فضول وتطلع وإشفاق مما يخبئه لهم المستقبل. وتغذي قلقهم هذا الحوادث المؤسفة والقروح التي ربما مستهم في أوقات ما من حياتهم وشعورهم بأنهم قد يمسهم مثلها في قادمات الأيام. وهناك، إلى جانب هذه المخاوف المقيمة، مخاوف يومية تتبدى في صور شتى وفي أطوار مختلفة من حياة المرء. وقد تتمثل هذه المخاوف اليومية الصغيرة مثلا في بحث دراسي يتعين على طالب ما الفراغ منه في حيز زمني ضيّق. ومع تقدم عمر الإنسان تزداد التعقيدات التي يصنعها لنفسه وقد يلازم الخوف من هذا التعقيدات الإنسان ما دام حيا.
وبالنسبة لتلميذ في المرحلة الثانوية فإن شكله وعلاقته بأصدقائه وشهرته وسط مجموعته ونجاحه في الدراسة وعلاقته بأسرته تمثل في نظره أهم المشكلات في العالم. ولهذا فهو يصاب بنوبة من الضغط النفسي لأصغر أزمة تواجهه، وتشتدد معاناته بوجه خاص عندما يكون بصدد اتخاذ قرار فيما يتعلق بحياته المهنية. وغني عن القول أن هذه مشكلات لا ينبغي أن تسبب للمرء ضغطا نفسيا عميقا. فمن الطبيعي أن يرغب المرء في الحصول على الوظيفة التي يعتقد أنها ستجلب له السعادة والنجاح، لكن إن أخفق المرء في الحصول على هذه الوظيفة رغم حرصه عليها فما عليه سوى أن يكل أمره إلى الله سائلا إياه أن يتفضل عليه بنعمة أخرى. ولا شك أن النجاح والفشل كليهما يذهبان أدراج الرياح بعد الموت. ولا يبقى إلا ثقة المرء بربه وإيمانه به.
لكن الغافلين عن قيم الدين ولجهلهم بهذه الحقيقة المهمة يشعرون بخوف أكبر بشأن المستقبل كلما تقدم بهم العمر. وبالإضافة إلى خططهم بشأن المستقبل فإن كثرة المهام والمسئوليات الدنيوية تقلقهم، إذ تتعدد المشكلات التي تحيط بهم وتنتابهم، بمرور الوقت، أفكار شتى منها على سبيل المثال: هل ستتم ترقيتهم في الشركة، هل سيأخذون عطلة في ذلك الصيف أو أين سيقضون العطلة السنوية وهل ستتاح لهم فرصة الانتقال لمنزل أفضل حالا أم هل سيتمكنون من الحضور في الوقت المحدد للاجتماع.
وأكثر ما يقض مضاجع هؤلاء هو خوفهم من تردي أوضاعهم المالية، إذ ينتابهم قلق شديد بشأن قدرتهم على إعالة أسرهم في المستقبل. إن لهم طموحات دنيوية عريضة لكن مواردهم محدودة ولا تتيح لهم تحقيق هذه الطموحات. ثم لا يلبث هذا الأمر أن يغدو مصدرا كبيرا لمخاوفهم، ولأجل هذا السبب يحجمون عن إسداء المعروف للآخرين رغم ما بحوزتهم من ثروات تكفل لهم عيشا هنيئا. إنهم قلقون بشأن المستقبل ويتصرفون بلؤم سواء الغني منهم أم الفقير. لكن الله هو الذي يتكفل برزقهم في الحياة الدنيا وهو الذي يرفع عنهم البلاء إن توكلوا عليه حق توكله، إلا أنهم حرموا هذا النعيم بسبب ضعف ثقتهم في الله. إن الإنسان مبتلى بالنعم التي يتفضل بها عليه خالقه ومأمور بأن يسخر هذه النعم في طاعة الله، لكن خوف هؤلاء الناس بشأن المستقبل يجعلهم محصورين في نطاق مصالحهم الشخصية الضيقة وهذا الوضع تشير إليه الآية التي يقول الله فيها: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم ٌ" (البقرة: 268)
وهناك خوف مقيم آخر ينتاب الإنسان بشأن المستقبل،، ألا وهو تقدم السن. فعندما تكبر سن الإنسان تحدث تغييرات في جسده، فتغطي جبينه التعرجات ويأخذ شعره في التساقط ثم يبيّض لونه وتضعف حواسه تدريجيا. وتثير كل واحدة من هذه الآثار الفزع والهلع في نفوس الذين يجهلون أخلاق الدين. فيتساءلون مثلا: هل سيعتني بهم أبناؤهم إن أصابهم مرض؟ ويفكرون كذلك في كيفية مواجهتهم للموت الذي سيلاقيهم يوما ما. ومن دواعي قلقهم الكبيرة هو ما ستؤول إليه حياتهم بعد موت أزواجهم.
هذه ببساطة هي المشكلات والمخاوف التي تصيب أصحاب القلوب الخالية من الإيمان. لكن الأمر جد مختلف عند المؤمنين، فقلوبهم خلو من هذه المخاوف ولا تحزنهم البلوى تصيبهم لأنهم يقطعون بأن كل ما يجري لهم لا يعدو كونه تقديرا إلهيا وراءه من الحكم ما وراءه. ولذلك فهم لا يرجون غير هدى الله لأنهم يؤمنون أنه هو وحده ملتحدهم الذي إليه يأوون. هذا بالإضافة إلى عدم خوفهم من أي شيء أو وضع في هذه الحياة الدنيا. فهم يكلون أمرهم إلى الله وينشدون رضاه. وهذا الموقف الإيماني تحكيه الآية التالية: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون" (التوبة: 51). ويحكي صلابة إيمان المؤمنين بربهم وتوكلهم عليه الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يقول فيه: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأنهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" (الترمذي)
إن المرء إذا اعتصم بمبادئ الإسلام مقيما لها وجهه تلاشت من طريقه كثير من المشكلات والمعاناة، وعاش حياة ملؤها الأمن والهناء. إن عند الدين حل لكل أزمة ومخرج من كل ضيق. والمتدينون يشعرون بالراحة والتحلل من الأعباء، وما ذاك إلا لقناعتهم الراسخة بأن كل ضر يصيبهم إنما هو ابتلاء من رب العالمين. ففي غمرة الشدائد تجدهم يحتسبون الأجر بالثقة في الله. وبالمثل تراهم شاكرين لأنعم الله عليهم في الحياة الدنيا ويتطلعون إلى ما في الدار الآخرة من حسنات. إن هذه القناعة هي بلا شك امتياز تحقق للمؤمنين بسبب تمسكهم بأخلاق الإسلام. لكن لا سبيل إلى تحصيل هذا الامتياز إلا بقوة الإيمان والثقة بالله والتسليم لأمره. فالذين تجتمع فيهم هذه الخصال هم وحدهم الذين لا ترى عليهم وعناء القلق. أما الآخرون الذين تكتنفهم الهموم والمخاوف وتحيط بهم من كل جانب، فيذوقون نصيبهم من العذاب وهم على قيد الحياة وحين تقوم الساعة يردون إلى أشد العذاب.
أخلاق الإسلام تحث المؤمنين على التواضع
يأمر الله الناس في كثير من آي القرآنبأن يتواضعوا ويذكرهم مرارا بسخطه على كل جبار متعجرف. ولهذا ليس أمام المؤمن خيار سوى التواضع. إلا أن الكافرين لا يمكن أن يتواضعوا وذلك بسبب بعدهم عن الهدى الرباني. إذ تصبح عندهم المزايا الشخصية كالذكاء والغنى والجمال والشهرة دواعي للإعجاب بالذات وتصعير الخدود واحتقار الآخرين. إنهم دوما يسعون إلى التفوق على الآخرين في مجالات الجاذبية الشخصية والتميز والذكاء، لكنهم يذهلون، في عماهة سكرتهم هذه، عن حقيقة أنهم سيلاقون الموت يوما ما وأنهم سيفارقون كل شيء مما تشتهيه نفوسهم وأن ما يدلون به من جمال ورشاقة قوام سيتحلل متلاشيا في الثرى. إنهم في حقيقة الأمر يبالغون في الاعتداد بالنفس وهو في فهمهم علامة على سلامة الشخصية.
إن الغرور هو الذي يمنعهم من معاملة الناس بحب واحترام خالصين. فهم يتوقعون أن يعاملهم الآخرون بكل محبة واحترام لكنهم يظنون أن مقابلة هذا الحب وهذا الاحترام بمثله أو بأحسن منه، غباء لا يليق بهم. إن الناس الذين يجهلون مبادئ الإسلام مصابون بالنرجسية وتضخم الأنا. كما يدفعهم ظنهم أنهم قد أحاطوا علما بكل شيء،، إلى محاولة السيطرة على الآخرين واغتنام كل سانحة لإذلالهم. والشيء المهم هنا هو أن هؤلاء الناس ليسوا حالة نادرة أو استثناء، إذ ينطبق هذا الوصف على كثير من الناس في المجتمعات الغافلة عن قيم الدين: "وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُول " (الإسراء: 37)وفي آية أخرى: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور" (لقمان: 18)ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين من الكبر وذلك في الحديث: "بئس الرجل المتكبر الذي ينفخ أوداجه وينسى العلي العظيم" (مسلم)
قد يخدع بعض الناس أنفسهم بقولهم "أنا متواضع"، لكن التواضع كخلق إسلامي له تأثيره على كل لحظة في حياة الإنسان وعلى كل ما يصدر عنه من سلوك وما يتخذ من مواقف. إن دافع المؤمن إلى التواضع الحق هو إيمانه بأن الله بيده ملكوت كل شيء بما في ذلك نفس الإنسان وما ملكت يداه وأنه خالق كل شيء. فهو يعلم أن علم الله محيط بكل ما يقع في الكون. وهؤلاء الناس لا يسعهم إلا أن يكونوا مؤمنين. وليس يرجى من الشخص الذي ينقصه العلم الديني أن يتواضع وذلك لأنه يفتقر إلى البعد الخلقي الذي لا يكون إلا للمؤمن. فكل ما يبدي من تواضع، إن لم يتقيد بهدي القرآن، لا يعدو أن يكون نفاقا أو سلوكا ناشئا عن شعور بالنقص.
إن أي مجتمع يفشو فيه الكبر هو مجتمع لا يطاق ولا ينضح إلا بالقلاقل والعذاب. وثمة بون شاسع بين مجتمع لا يعرف أفراده حدودا للتكبر والقسوة والنرجسية وآخر سيماء أفراده التواضع. وهذا الفرق سببه الأول إعراض البعض عن هدى الدين.
أخلاق الإسلام تطهر المجتمع من القسوة والشحناء
إن الرحمة، إلى جانب كونها صفة للرحمن، خلق يحب الله من عباده أن يتخلقوا به. إذ يرشد الله المؤمنين في كثير من الآيات إلى أن يعمروا قلوبهم بالرحمة. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يحث المؤمنين على التراحم وذلك في الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (الترمذي وأبو داوود)
إن العيش بغير أخلاق الإسلام والزهد في رضا الله يقعدان بالمرء عن ابتغاء الكمال الأخلاقي. وإن مظاهر انعدام الرحمة في المجتمعات البعيدة عن الإيمان لتتبدى في كل مناحي الحياة وفي كافة العلاقات الاجتماعية فيها. فالشخص غير المؤمن قد يعامل حتى أمس الناس به رحما كأبيه وأمه وأخواته واخوته وغيرهم بقسوة. كما أنه قد يغضب بسرعة من أخطاء أو تقصير الآخرين فيؤذيهم، وذلك لأنهم لا ينظرون إلى الحوادث من زاوية الرحمة.
تقل في المجتمعات الكافرة مظاهر الرأفة بالبؤساء وأصحاب العاهات وذلك لأن المصالح المباشرة لأفرادها أهم عندهم من كل شيء آخر. وهذا الاشتغال بالمصالح الشخصية هو الذي يحول بينهم وبين التفكير في الآخرين. والحق أن لكل واحد من هؤلاء الناس تفسيره الخاص للرحمة، لكنه تفسير ممسوخ. فهو مثلا يترفق بالشحاذين ويرى ذلك غاية الرحمة لكنه يتلهى وينكفئ على ذاته حين تبرز ظروف تستدعي تصرفا نابعا من أصل الضمير، أو تتطلب تضحية. فإن شهد حادث سير مثلا فإنه لا يتوقف ليساعد المصابين، وتراه يصطنع معاذير شتى يسوغ بها هذا التصرف. إذ إن تطوعه بأخذ المصابين إلى المستشفى سيفسد عليه يومه أو قد يكلفه شيئا من المال أو الوقت. وفوق ذلك، لا يجد مثل هذا الشخص دافعا للتضحية من أجل شخص لا يعرفه، فهو في النهاية لن يحصل على شيء.
إن هذه الأحداث تكثر في المجتمعات النافرة عن هدي الدين. ولا سبيل إلى اختفاء هذه اللامبالاة غير الإنسانية إلا إذا تشبث الناس بأخلاق القرآن. فليس سوى الدين ضامنا لقيام مجتمع طيب يتواصى أهله بالمرحمة ويتنافسون في فعل الخيرات. ومع هذا ينبغي التنبيه إلى أنه لا يكفي أن تتوفر هذه السمات الخلقية في فئة محدودة من الناس، بل إن التمسك بهدي القرآن في بعض الأوضاع والتنكر له في أوقات أخرى، أو اجتناب منكرات معينة ثم الوقوع في غيرها لا يضمن قيام هذا المجتمع المنشود. إذ لا سبيل إلى إقامة حياة اجتماعية آمنة إلا إذا خضع كل أفراد المجتمع لإرادة الله الشرعية واتسم سلوكهم بالتضحية والإيثار.
katliam.jpg

الوحشية والسلوك غير الإنساني لا يظهر في المجتمعات التي يلتزم أهلها بقيم القرآن بل يهنأ فيها
المسنون والأطفال والفقراء والمحتاجون بالحماية والرعاية. والصور أعلاه نتاج لحياة بعيدة عن أخلاق القرآن.
أخلاق الإسلام تهب الجميع مفاتيح للخير
إن الشخص المستمسك بهدي القرآن يأتي بالحلول للمشكلات ويتصرف بحكمة في كل الظروف، ولهذا لا يعرف الإحباط طريقا إلى قلبه العامر بمبادئ القرآن بالغا ما بلغ تعقيد الوضع الذي يواجهه.
حين تختفي أخلاق الدين تقل الحكمة وهذا هو السبب الذي يبقي المشكلات البسيطة بلا حل في المجتمعات اللادينية. ولهذا يواجه أفراد مثل هذه المجتمعات أزمات ومشكلات جمة خلال مسيرة حياتهم. وبدلا من التماس حلول ناجعة لهذه المشكلات فإنهم يجعلونها جزءا من حياتهم اليومية وكأن هذه المشكلات مقدر لها أن تبقى بلا حل. إن لهذا العجز عن الإيتاء بحلول للمشكلات تداعيات ضارة على كافة جوانب حياة المجتمعات اللادينية. إنهم في الغالب يتردون في وهاد اليأس والألم والشكوى. وفي غضون ذلك يعجزون عن الإتيان بالحلول بسبب تعطيلهم لموهبة العقل، وحتى إن حاولوا عمل ذلك جاءوا بحلول غير عقلانية بسبب انحصار فكرهم في فضاء ضيٌق جدا.
وفوق ذلك، يكاد تعذر العثور على حلول للمشكلات أن يكون مسوغا للاستكانة والاستسلام في المجتمعات التي لا ترعى قيم الدين. فهو في الغالب يتخذ غطاء توارى به سوءة الكسل واللامبالاة والخدر وتجاهل المسئولية. ففي مكان العمل بخاصة يحاول كل فرد أن يظهر تعقيد المهام الموكلة إليه محاولا إظهار نفسه بمظهر الشخص الذي يتولى أداء مهام صعبة. لكن هذه ليست في حقيقة الأمر سوى مناورة يريد أن يسوغ بها ما عسى أن يبدر منه من فشل أو إهمال أو أخطاء.
إن السبب الأول لبقاء الأزمات دون حل في المجتمعات البعيدة عن قيم الدين هو أن أهلها عاجزون حتى عن التعامل مع مشكلاتهم الشخصية. ولا غرو، فالشخص البعيد عن مبادئ الإسلام تغلب عليه شهواته فتجده منهمكا في إشباعها غافلا عن مصالح واحتياجات محيطه الاجتماعي. فهو في كل الأحوال مقبل على مصالحه الخاصة محتف بها مستنكفا أن ينفق ماله ووقته في خدمة مصالح الآخرين.
إن توافه المشكلات تبقى في مثل هذه المجتمعات عصية على الحل. وفي غضون ذلك يحاول كل فرد ترك انطباع حسن في نفوس الآخرين أو يلتمس الزلفى إلى رؤسائه أو يسعى إلى تلميع وجهة نظره أو على الأقل يحاول أن يكون هو صاحب القول الفصل والكلمة الأخيرة. وهذه الطموحات والعقد الشخصية هي التي تشل قدرة الإنسان على الإتيان بحلول للمشكلات الماثلة في نهاية الأمر. إن السبب الأول لعجز المتنكرين لمبادئ الدين عن الإتيان بحلول مرضية للمشكلات توضحه الآية التالية: "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون" (الحشر: 14)
وكثيرا ما يشاهد المرء نماذج لهذا العجز في البرامج الحوارية التلفزيونية المفتوحة حيث ينفق المشاركون ساعات طويلة في مناقشة قضية معينة بل يأخذهم النقاش أحيانا إلى مطلع الفجر. وسبب استحكام الخلاف بين هؤلاء المتحاورين هو أن الكل قد أوتي جدلاً. فقد يستيقن طرف بسلامة وجهة نظر الطرف الآخر لكنه يجحدها علوا وتكبرا وتأخذه العزة بالإثم والرغبة في إذلال الآخرين ومعارضتهم. ويخوض المجادلون في طوفان من التفاصيل التافهة ليظهروا سعة اطلاعهم. فالهدف الأول هنا هو استغلال كل سانحة لإبراز ذكائهم وحذقهم. وهم في الغالب يطيشون عن موضع النقاش ليكتشفوا بعد ساعات لاحقة أنهم لم يصلوا إلى حل. والمدهش أن هذه النقاشات تبرز إلى السطح مزيدا من التعقيدات والاختلافات والآراء المتعارضة. فهم في الحقيقة لا يبغون حلا أصلا، فتراهم يلجئون إلى فلسفات خاوية معتقدين أن النقاش وتبادل الأفكار هو غاية في نفسه. إنهم يرون أن عدم الوصول إلى أي حلول بعد نقاش متطاول أمر مقبول وطبيعي.
أما المؤمنون، ولقناعتهم أن الله محيط بالأمور، فلا تطيش عقولهم ولا تعشى أبصارهم مهما كانت الظروف التي تمر بهم. إنهم يتخذون أفضل القرارات وأنجع الحلول وأقربها للتقوى. إنهم يبادرون إلى البت بشأن القضايا لا يصدهم عائق وكيف لا وهم يسترشدون بأكرم الأخلاق وأقوى شعور بالمسئولية وأمضى ملكة تفكير تفضل بها عليهم خالقهم: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى:38)فهواهم في كل الأحوال مع ما يرضي الله فلا يصرفهم عن السير في سبيل الحق والعدل صارف ولو اقتضى ذلك تفويت مصلحة لهم شخصية.
إن إخلاص المؤمنين لربهم وجهادهم في سبيله وانقطاع أملهم إلا منه يحجزهم عن الطمع فيما عند الآخرين ويزهدهم في ثناء الناس ومدحهم، ولهذا يمدهم الله بتأييده وعونه وتوفيقه في كل قرار يتخذونه. إن الخوف الشديد من الله والوقوف الصارم عند حدوده يجعل للمؤمن نورا يبصر به إذا سجى ليل النوازل (الأنفال: 29) فيهتدي إلى أفضل القرارات وأبرك الحلول: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا " (الطلاق: 2-4)
أخلاق الإسلام تهدي إلى التوكل على الله


[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
[/ALIGN]
[/FONT][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
أخلاق الإسلام تحث المؤمنين على التواضع
يأمر الله الناس في كثير من آي القرآنبأن يتواضعوا ويذكرهم مرارا بسخطه على كل جبار متعجرف. ولهذا ليس أمام المؤمن خيار سوى التواضع. إلا أن الكافرين لا يمكن أن يتواضعوا وذلك بسبب بعدهم عن الهدى الرباني. إذ تصبح عندهم المزايا الشخصية كالذكاء والغنى والجمال والشهرة دواعي للإعجاب بالذات وتصعير الخدود واحتقار الآخرين. إنهم دوما يسعون إلى التفوق على الآخرين في مجالات الجاذبية الشخصية والتميز والذكاء، لكنهم يذهلون، في عماهة سكرتهم هذه، عن حقيقة أنهم سيلاقون الموت يوما ما وأنهم سيفارقون كل شيء مما تشتهيه نفوسهم وأن ما يدلون به من جمال ورشاقة قوام سيتحلل متلاشيا في الثرى. إنهم في حقيقة الأمر يبالغون في الاعتداد بالنفس وهو في فهمهم علامة على سلامة الشخصية.
إن الغرور هو الذي يمنعهم من معاملة الناس بحب واحترام خالصين. فهم يتوقعون أن يعاملهم الآخرون بكل محبة واحترام لكنهم يظنون أن مقابلة هذا الحب وهذا الاحترام بمثله أو بأحسن منه، غباء لا يليق بهم. إن الناس الذين يجهلون مبادئ الإسلام مصابون بالنرجسية وتضخم الأنا. كما يدفعهم ظنهم أنهم قد أحاطوا علما بكل شيء،، إلى محاولة السيطرة على الآخرين واغتنام كل سانحة لإذلالهم. والشيء المهم هنا هو أن هؤلاء الناس ليسوا حالة نادرة أو استثناء، إذ ينطبق هذا الوصف على كثير من الناس في المجتمعات الغافلة عن قيم الدين: "وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُول " (الإسراء: 37)وفي آية أخرى: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور" (لقمان: 18)ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين من الكبر وذلك في الحديث: "بئس الرجل المتكبر الذي ينفخ أوداجه وينسى العلي العظيم" (مسلم)
قد يخدع بعض الناس أنفسهم بقولهم "أنا متواضع"، لكن التواضع كخلق إسلامي له تأثيره على كل لحظة في حياة الإنسان وعلى كل ما يصدر عنه من سلوك وما يتخذ من مواقف. إن دافع المؤمن إلى التواضع الحق هو إيمانه بأن الله بيده ملكوت كل شيء بما في ذلك نفس الإنسان وما ملكت يداه وأنه خالق كل شيء. فهو يعلم أن علم الله محيط بكل ما يقع في الكون. وهؤلاء الناس لا يسعهم إلا أن يكونوا مؤمنين. وليس يرجى من الشخص الذي ينقصه العلم الديني أن يتواضع وذلك لأنه يفتقر إلى البعد الخلقي الذي لا يكون إلا للمؤمن. فكل ما يبدي من تواضع، إن لم يتقيد بهدي القرآن، لا يعدو أن يكون نفاقا أو سلوكا ناشئا عن شعور بالنقص.
إن أي مجتمع يفشو فيه الكبر هو مجتمع لا يطاق ولا ينضح إلا بالقلاقل والعذاب. وثمة بون شاسع بين مجتمع لا يعرف أفراده حدودا للتكبر والقسوة والنرجسية وآخر سيماء أفراده التواضع. وهذا الفرق سببه الأول إعراض البعض عن هدى الدين.
أخلاق الإسلام تطهر المجتمع من القسوة والشحناء
إن الرحمة، إلى جانب كونها صفة للرحمن، خلق يحب الله من عباده أن يتخلقوا به. إذ يرشد الله المؤمنين في كثير من الآيات إلى أن يعمروا قلوبهم بالرحمة. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يحث المؤمنين على التراحم وذلك في الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (الترمذي وأبو داوود)
إن العيش بغير أخلاق الإسلام والزهد في رضا الله يقعدان بالمرء عن ابتغاء الكمال الأخلاقي. وإن مظاهر انعدام الرحمة في المجتمعات البعيدة عن الإيمان لتتبدى في كل مناحي الحياة وفي كافة العلاقات الاجتماعية فيها. فالشخص غير المؤمن قد يعامل حتى أمس الناس به رحما كأبيه وأمه وأخواته واخوته وغيرهم بقسوة. كما أنه قد يغضب بسرعة من أخطاء أو تقصير الآخرين فيؤذيهم، وذلك لأنهم لا ينظرون إلى الحوادث من زاوية الرحمة.
تقل في المجتمعات الكافرة مظاهر الرأفة بالبؤساء وأصحاب العاهات وذلك لأن المصالح المباشرة لأفرادها أهم عندهم من كل شيء آخر. وهذا الاشتغال بالمصالح الشخصية هو الذي يحول بينهم وبين التفكير في الآخرين. والحق أن لكل واحد من هؤلاء الناس تفسيره الخاص للرحمة، لكنه تفسير ممسوخ. فهو مثلا يترفق بالشحاذين ويرى ذلك غاية الرحمة لكنه يتلهى وينكفئ على ذاته حين تبرز ظروف تستدعي تصرفا نابعا من أصل الضمير، أو تتطلب تضحية. فإن شهد حادث سير مثلا فإنه لا يتوقف ليساعد المصابين، وتراه يصطنع معاذير شتى يسوغ بها هذا التصرف. إذ إن تطوعه بأخذ المصابين إلى المستشفى سيفسد عليه يومه أو قد يكلفه شيئا من المال أو الوقت. وفوق ذلك، لا يجد مثل هذا الشخص دافعا للتضحية من أجل شخص لا يعرفه، فهو في النهاية لن يحصل على شيء.
إن هذه الأحداث تكثر في المجتمعات النافرة عن هدي الدين. ولا سبيل إلى اختفاء هذه اللامبالاة غير الإنسانية إلا إذا تشبث الناس بأخلاق القرآن. فليس سوى الدين ضامنا لقيام مجتمع طيب يتواصى أهله بالمرحمة ويتنافسون في فعل الخيرات. ومع هذا ينبغي التنبيه إلى أنه لا يكفي أن تتوفر هذه السمات الخلقية في فئة محدودة من الناس، بل إن التمسك بهدي القرآن في بعض الأوضاع والتنكر له في أوقات أخرى، أو اجتناب منكرات معينة ثم الوقوع في غيرها لا يضمن قيام هذا المجتمع المنشود. إذ لا سبيل إلى إقامة حياة اجتماعية آمنة إلا إذا خضع كل أفراد المجتمع لإرادة الله الشرعية واتسم سلوكهم بالتضحية والإيثار.
katliam.jpg

الوحشية والسلوك غير الإنساني لا يظهر في المجتمعات التي يلتزم أهلها بقيم القرآن بل يهنأ فيها
المسنون والأطفال والفقراء والمحتاجون بالحماية والرعاية. والصور أعلاه نتاج لحياة بعيدة عن أخلاق القرآن.
أخلاق الإسلام تهب الجميع مفاتيح للخير
إن الشخص المستمسك بهدي القرآن يأتي بالحلول للمشكلات ويتصرف بحكمة في كل الظروف، ولهذا لا يعرف الإحباط طريقا إلى قلبه العامر بمبادئ القرآن بالغا ما بلغ تعقيد الوضع الذي يواجهه.
حين تختفي أخلاق الدين تقل الحكمة وهذا هو السبب الذي يبقي المشكلات البسيطة بلا حل في المجتمعات اللادينية. ولهذا يواجه أفراد مثل هذه المجتمعات أزمات ومشكلات جمة خلال مسيرة حياتهم. وبدلا من التماس حلول ناجعة لهذه المشكلات فإنهم يجعلونها جزءا من حياتهم اليومية وكأن هذه المشكلات مقدر لها أن تبقى بلا حل. إن لهذا العجز عن الإيتاء بحلول للمشكلات تداعيات ضارة على كافة جوانب حياة المجتمعات اللادينية. إنهم في الغالب يتردون في وهاد اليأس والألم والشكوى. وفي غضون ذلك يعجزون عن الإتيان بالحلول بسبب تعطيلهم لموهبة العقل، وحتى إن حاولوا عمل ذلك جاءوا بحلول غير عقلانية بسبب انحصار فكرهم في فضاء ضيٌق جدا.
وفوق ذلك، يكاد تعذر العثور على حلول للمشكلات أن يكون مسوغا للاستكانة والاستسلام في المجتمعات التي لا ترعى قيم الدين. فهو في الغالب يتخذ غطاء توارى به سوءة الكسل واللامبالاة والخدر وتجاهل المسئولية. ففي مكان العمل بخاصة يحاول كل فرد أن يظهر تعقيد المهام الموكلة إليه محاولا إظهار نفسه بمظهر الشخص الذي يتولى أداء مهام صعبة. لكن هذه ليست في حقيقة الأمر سوى مناورة يريد أن يسوغ بها ما عسى أن يبدر منه من فشل أو إهمال أو أخطاء.
إن السبب الأول لبقاء الأزمات دون حل في المجتمعات البعيدة عن قيم الدين هو أن أهلها عاجزون حتى عن التعامل مع مشكلاتهم الشخصية. ولا غرو، فالشخص البعيد عن مبادئ الإسلام تغلب عليه شهواته فتجده منهمكا في إشباعها غافلا عن مصالح واحتياجات محيطه الاجتماعي. فهو في كل الأحوال مقبل على مصالحه الخاصة محتف بها مستنكفا أن ينفق ماله ووقته في خدمة مصالح الآخرين.
إن توافه المشكلات تبقى في مثل هذه المجتمعات عصية على الحل. وفي غضون ذلك يحاول كل فرد ترك انطباع حسن في نفوس الآخرين أو يلتمس الزلفى إلى رؤسائه أو يسعى إلى تلميع وجهة نظره أو على الأقل يحاول أن يكون هو صاحب القول الفصل والكلمة الأخيرة. وهذه الطموحات والعقد الشخصية هي التي تشل قدرة الإنسان على الإتيان بحلول للمشكلات الماثلة في نهاية الأمر. إن السبب الأول لعجز المتنكرين لمبادئ الدين عن الإتيان بحلول مرضية للمشكلات توضحه الآية التالية: "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون" (الحشر: 14)
وكثيرا ما يشاهد المرء نماذج لهذا العجز في البرامج الحوارية التلفزيونية المفتوحة حيث ينفق المشاركون ساعات طويلة في مناقشة قضية معينة بل يأخذهم النقاش أحيانا إلى مطلع الفجر. وسبب استحكام الخلاف بين هؤلاء المتحاورين هو أن الكل قد أوتي جدلاً. فقد يستيقن طرف بسلامة وجهة نظر الطرف الآخر لكنه يجحدها علوا وتكبرا وتأخذه العزة بالإثم والرغبة في إذلال الآخرين ومعارضتهم. ويخوض المجادلون في طوفان من التفاصيل التافهة ليظهروا سعة اطلاعهم. فالهدف الأول هنا هو استغلال كل سانحة لإبراز ذكائهم وحذقهم. وهم في الغالب يطيشون عن موضع النقاش ليكتشفوا بعد ساعات لاحقة أنهم لم يصلوا إلى حل. والمدهش أن هذه النقاشات تبرز إلى السطح مزيدا من التعقيدات والاختلافات والآراء المتعارضة. فهم في الحقيقة لا يبغون حلا أصلا، فتراهم يلجئون إلى فلسفات خاوية معتقدين أن النقاش وتبادل الأفكار هو غاية في نفسه. إنهم يرون أن عدم الوصول إلى أي حلول بعد نقاش متطاول أمر مقبول وطبيعي.
أما المؤمنون، ولقناعتهم أن الله محيط بالأمور، فلا تطيش عقولهم ولا تعشى أبصارهم مهما كانت الظروف التي تمر بهم. إنهم يتخذون أفضل القرارات وأنجع الحلول وأقربها للتقوى. إنهم يبادرون إلى البت بشأن القضايا لا يصدهم عائق وكيف لا وهم يسترشدون بأكرم الأخلاق وأقوى شعور بالمسئولية وأمضى ملكة تفكير تفضل بها عليهم خالقهم: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى:38)فهواهم في كل الأحوال مع ما يرضي الله فلا يصرفهم عن السير في سبيل الحق والعدل صارف ولو اقتضى ذلك تفويت مصلحة لهم شخصية.
إن إخلاص المؤمنين لربهم وجهادهم في سبيله وانقطاع أملهم إلا منه يحجزهم عن الطمع فيما عند الآخرين ويزهدهم في ثناء الناس ومدحهم، ولهذا يمدهم الله بتأييده وعونه وتوفيقه في كل قرار يتخذونه. إن الخوف الشديد من الله والوقوف الصارم عند حدوده يجعل للمؤمن نورا يبصر به إذا سجى ليل النوازل (الأنفال: 29) فيهتدي إلى أفضل القرارات وأبرك الحلول: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا " (الطلاق: 2-4)
أخلاق الإسلام تهدي إلى التوكل على الله
إن أرواح المتمردين على إرادة الله المتنكرين لمبادئ الإسلام يغلب عليها التشاؤم والتمرد والاكتئاب. إنهم يعزون كل ما يقع لهم إلى المصادفة المحضة وتزخر حياتهم بمشاعر التوتر والقلق والاضطراب. فهم، بخلاف المؤمنين، محرومون من نعمة التوكل على الله وإدراك أن كل شيء في الكون يجري حسب قدر إلهي مكتوب. لقد عزب عن إدراكهم أن الخير والشر يقعان بإرادة الله لاختبار الإنسان وأنهم لن يعيشوا بسلام إلا إذا انصاعوا لأمر الله. ولهذا فإنهم يقاسون عواقب تصرفاتهم ويغتمون بكل ما يصيبهم في حياتهم صغيرا كان أو كبيرا.
يأخذ هؤلاء الناس تجاربهم اليومية بجد ويطيلون التفكير في حوادث الدنيا كما لو أنها أهم شيء في الحياة. وهكذا فإنهم يتبرمون إذا لم تجر الأمور بما يشتهون، ثم لا يلبث التشاؤم أن يسلمهم إلى اليأس ظانين أن ما أصابهم إنما هو سوء طالع لا يملكون حيلة لدفعه ولا يهتدون سبيلا. إن فسقهم عن أمر ربهم هو الذي يحول بينهم وبين إدراك أن كل الحوادث تجري بقدر مقدور.
إن اهتمامهم بالأحداث اليومية التي تقع لهم يجعل أمزجتهم متقلبة لا تستقر على حال. أصغر الأشياء في هذه الحياة تقلقهم، فتراهم ينفقون الأيام في التأسف والتحسر والدعاء بدعوى الجاهلية. إن العواقب السيئة لعدم توكلهم على الله تتبدى في حياتهم كلها بشكل يومي وفي كل الظروف.
فالزوجة القائمة على أمر بيتها مثلا تحصر اهتمامها كله في نطاق أسرتها ومشاغلها في البيت. فإن عجزت عن حل مشكلة ولو كانت صغيرة جزعت وندبت حظها دون أن يخطر لها أنها محنة قدرها الله وأنها لا بد أن تنطوي على منحة. والعجيب أن هذه الحادثة التي تنغص حياتها قد تكون طعاما نسيته في الموقد فاحترق أو عطل أصاب المكنسة الكهربائية. إن عدم تسليمها لأمر الله وبعدها عن قيم الدين يجعل أصغر المشكلات تكبر في عينها لتصبح مصدرا للقلق والحزن.
وهذا الوصف ينطبق أيضا على زوجها مدير الشركة حين يواجه بعض المشكلات في عمله التجاري. فهو يرى أن مشاكل زوجته لا تساوي شيئا إذا قيست بهمومه هو. ولذلك يصاب بقلق نفسي لأنه يجهل أن الحوادث أقدار مقدرة ولأنه ينقصه السلوك الإيجابي. كما ينسحب هذا الوصف على الأطفال الذين يعيشون في بيئة لا تقيم وزنا لمبادئ الدين. إذ تستحوذ مسيرتهم الدراسية التي تمتد لعشر أو خمس عشرة سنة على كامل تفكيرهم. فلا يكاد الواحد منهم يتغلب على مشاعر اليأس إذا لم يكن أداؤه مرضيا في امتحان واحد ولو حصل على كامل الدرجات في المواد الأخرى. فتجدهم أكثر قلقا بشأن صداقاتهم وشهرتهم. وما التشاؤم واليأس والعجز عن العثور على حلول للمشكلات والشكوى سوى آفات انتقلت إليهم عدواها من والديهم ومن يحيط بهم من الناس. وهذه السمات تظل ملازمة لهم. لكن الشيء الذي صيّرهم إلى هذا الوضع هو عدم تمسكهم بمبادئ الدين وجهلهم بخالقهم وعدم توكلهم عليه.
يستطيع الإنسان أن يسلم من غوائل الاكتئاب والبؤس إذا طبق مبادئ القرآن متى ما أحس بالإحباط وأيقن أن هناك خيرا في كل شيء قدره الله. فالتمسك بأخلاق الإسلام يستأصل كل أنواع التشاؤم والإحساس بالفشل، لأن المتخلق بأخلاق الإسلام ينظر إلى كل قضية، صغيرة كانت أو كبيرة، نظرة إيجابية. وهذا السلوك يجلب السلام للحياة على الصعيدين الشخصي والاجتماعي.
إن المهتدي بأخلاق الإسلام لا ينظر إلى الحوادث على أنها وليدة المصادفة. ولأنه يؤمن بأن كل الحوادث لا تخرج عن نطاق القدر الإلهي، فهو يتوخى إدراك الحكمة من وراء الأحداث والرسائل التي يوصلها الله لعباده. وهذا هو سبب اختفاء كلمة "لو" عن كل مكان تعمره قيم الدين. فلا تصل إلى سمعك عبارات من شاكلة "لو لم أذهب بالأمس لما أصابني هذا الأمر" أو "كنت سأسافر للخارج لتلقي للدراسة لولا التحاقي بهذه المدرسة" أو "لو أتيت مبكرا لكنت قد التقيته" أو عبارة "لماذا سلكنا هذا الطريق؟ إنه طريق يزدحم بالحركة" أو "ما منعني من التمتع بشبابي إلا اقتراني بك" أو "لو أنني لم أرتد هذا الثوب لما أفسدت ليلتي" أو "لو امتنعت عن الخروج لنجوت من المرض" أو "لو امتنعت عن السفر لما تعرضت لحادث سير" أو "لو أنها قابلت طبيبا آخر لعوفيت من مرضها" أو "لو أنه لم يسافر في تلك الطائرة لما مات". إن الأشخاص الذين تخلو حياتهم من الإيمان بالله وينأون عن هدي الدين يكثرون من قول "لو" وسيقولونها في الدار الآخرة لكنها لن تغني عنهم شيئا: "وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (الأنعام: 27)
الآثار السلبية للكفر على جسد الإنسان
كما أن للكفر آثاراً ضارة على المجتمع فكذلك له أثر ضار على سلامة الأفراد الجسدية والروحية، وسنتعرض في هذا الفصل لهذه الأضرار الروحية والجسدية.
كما مضت الإشارة فيما مر فإن الأشخاص الذين لا تظللهم أخلاق الإسلام يعيشون في قلق وتوتر دائمين، وهو أمر يسبب لهم أمراضا نفسية لا حصر لها. فأجسادهم تسرع إليها الشيخوخة، وذلك أن ضرر معاناتهم الروحية يمتد إلى أجسادهم فيضعفها بالأوجاع.
وهذه الآثار يمكن أن تطال حتى الأشخاص الذي يتمتعون بالصحة والشباب والجمال. إذ تبدو أعراض التغييرات الفسيولوجية ويبهت لون الشعر والعينين ويزداد تساقط الشعر والصلع في أشخاص صغار السن لكن هذه الأعراض لا تظهر عند الأشخاص المتدينين من نفس الفئة العمرية. ولأسباب فسيولوجية يخشوشن الجلد ويغلظ ويفقد نعومته في وقت قصير ثم لا يلبث أن تظهر على الجلد إمارات الاعتلال. ولا ريب أن لعدم التزام هؤلاء الناس بإرشادات القرآن المتعلقة بالنظافة دخل كبير في ذلك. وهذه ظواهر مشاهدة على نطاق واسع في المجتمعات البعيدة عن أخلاق الإسلام وعن هدي القرآن. فهي من الشيوع بحيث تعد ظاهرة طبيعية. إنهم يلقون جزاء كفرهم في الحياة الدنيا وحين تقوم الساعة ينالهم عذاب أشد وأمض.
أما المؤمنون فيحتفظون بحيويتهم وذلك بسبب تمتعهم بالصحة والاستقرار النفسي وسلامتهم من مشاعر الأسى والضغط النفسي واليأس. ولا غرو، فأن توكلهم على الله وحسن ظنهم به وطمعهم في رحمته يؤثر إيجابا على صحتهم الجسدية. وينسحب هذا الوصف على أصحاب الضمائر الحية من الناس الذين يؤمنون بالله حقا.
صحيح أن المؤمنين يمرضون ويشيخون لكن هذه الأحوال ليست وليدة أسباب نفسية كما هو الحال لدى غير المؤمنين، فالمرض والموت والكبر حتم مقضي على الناس كلهم. إلا أن سرعة وضراوة هذه العمليات لها علاقة مباشرة بالسلوك النفسي السلبي الذي يغلب على الشخص بسبب تنكبه طريق الإيمان. فالشخص الذي يقضي حياته كلها مطمئن القلب تملأ جوانحه الثقة بخالقه ويرجو خيرا في كل شر يعرض له، سيعيش سعيدا هانئ البال فيسلم بذلك من غواشي القلق والخوف وما تلحقه بصحته من أذى.
إن مجتمعا يغفل أهله عن قيم الدين حري بأن يحرم من الأمن والطمأنينة التي يسكبها الدين في قلوب من يتشبثون به، وسيذوق الثمار المرة لهذه الغفلة من أذى نفسي وجسدي. وأمثلة ذلك كثيرة ومشاهدة في المجتمعات التي تفسق عن أمر ربها.
وثمة علتان في عصرنا هذا ترتبطان بمصطلح "أمراض العصر" ألا وهما الاكتئاب والضغط النفسي. وهاتان العلتان يعاني منهما كل الناس ولكنهما ترتبطان أيضا باضطرابات فسيولوجية.
إن أشهر الاضطرابات التي ترتبط بالضغط النفسي والاكتئاب تتمثل في ثنائي: إدمان تعاطي المخدرات والأرق. ثم تأتي بعد ذلك الأمراض الجلدية والباطنية بالإضافة إلى الاضطرابات المرتبطة بضغط الدم والكلى والجهاز التنفسي والحساسية والانفلونزا والصداع النصفي والذبحة الصدرية وتضخم المخ. إن من الخطأ طبعا إرجاع أسباب هذه الأمراض إلى الضغط النفسي والاكتئاب وحدهما. إلا أن البحوث الطبية أثبتت أن هذه الأمراض ترجع في كثير من الأحيان إلى مشكلات نفسية.
إن الشخص الملتزم بمبادئ الدين يجعل توكله كله على الله ويؤمن بالقدر خيره وشره. كما يدفعه علمه بحب الله لعباده الصالحين، إلى التصرف بطريقة ينال بها رضا ربه. وفي النهاية فإن إحسان المرء في كل الظروف، يجلب نوعا من الطمأنينة التي يجدها المرء حين يستجيب لداعي ضميره.وإن حدث أن نزلت بساحة المؤمن ضراء فإنه يعلم أنها ابتلاء من الله فيتعامل معها وفق مقررات القرآن، فلا يستسلم لمشاعر الأسى واليأس والضيق. إن تركيزه على الفوز في الآخرة يجعل همه الأكبر هو أن يتصرف بطريقة تضمن له الفوز برضا الله حين يقوم الناس لرب العالمين. إن قوة إيمانه بالله تحصنه من بأس النوازل فيثبت جنانه. وهذه الطمأنينة ورباطة الجأش تعجم قناته وتقويه.
شتان بين العيش وفق مبادئ الدين والتنكر لها. إن أقصى ما يأمله الكافر ويرجوه هو أن "يعيش حياته طولا وعرضا" وأن يحافظ على قوته وصحته ليستمتع بالحياة. وهو بهذا المعنى شديد الارتباط بجسده الذي يقربه إلى طموحه هذا زلفى. وهذا، حسب اعتقاده، أفضل شيء يفعله. لكنه اعتقاد بيّن الخطأ واضح الخطل. إن شروده عن هدى القرآن يقربه من هلاكه وبواره بدلا من أن يكسبه حياة هانئة. فهو سيذوق من العذاب الأصغر في الدنيا دون العذاب الأكبر الذي ينتظره في يوم الحساب. وبهذا يغدو الجسد الذي أريد له أن يستمتع بكل مباهج الحياة عرضة لأضرار فاتكة.
لقد خلق الله عقل وجسد الإنسان لكي يلتزما بالعيش وفق هدى الدين. وقد هيأهما الله للعمل في إطار نظام تسوده قيم الدين وزودهما بمزايا وسمات ملائمة. فإن سخّر الجسد لغاية غير الغاية التي من أجلها خلق أسرع إليه الفساد وحل به الخراب. والواقع أن جسد وعقل الإنسان خلقا متشابكين متصلين. ولأن الله خلقهما فمن الضروري أن يسخرا في خدمة الغاية التي من أجلها خلقا.
korku.jpg
في المجتمعات التي لا تلتزم بقيم الإسلام يكون الحزن والغم والضغط النفسي والسخط جزءا من حياة الناس اليومية. والحق أن كل شيء لا يحدث إلا بإذن الله، والناس الذين يقرون بهذه الحقيقة يتوسمون الخير في كل الحوادث والنوازل. أما الكفار فسيعلمون بعدم جدوى الأحداث التي أصابتهم بالهم والحزن أو الغضب حين يأتيهم الموت: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون " (البقرة: 216)
أوضحنا فيما مضى من فصول هذا الكتاب كيف أن روح الإنسان تكون عرضة لعنت رهيب في هذه الحياة الدنيا متى ما تنكب الإنسان الجادة التي رسمها الله وأراد له السير فيها. كما يعاني الناكبون عن صراط الله المستقيم من رهق جسدي. إن قوة الرابطة بين الروح والجسد تتبدى في كثير من الأمثلة في المجتمع. فقد لوحظ أن الأشخاص الذين ينعمون بالاستقرار النفسي وهناء العيش، والذين ينظرون لكل حادثة بإيجابية ويرجون المنح من وراء المحن ولا يغلب عليهم التشاؤم ولا يستولي عليهم الغضب يحافظون على حيويتهم إلى آخر أيام حياتهم ويشيخون بإيقاع بطيء. وهذا هو السبب الذي يجعل المجلات والصحف الطبية والصحية تؤكد على وجوب أن يتعامل القراء بإيجابية مع أحداث الحياة ليضمنوا لأنفسهم عيشا سعيدا. وتجمع هذه المجلات على ضرورة أن يحافظ الإنسان على هدوئه وأن يكون متفائلا بغض النظر عن الظروف التي تمر به. لكن الإنسان إذا تأمل في هذه النصائح فسيجد أنها جميعا مزايا يمكن للمرء نيلها بالالتزام بمبادئ الدين. فبدون الالتصاق التام بأخلاق القرآن لا يتسنى للناس التحكم التام بأمزجتهم.
تجاهل قيم الدين يسبب التوتر النفسي
يرجع الضغط النفسي، ذلك الوباء المقلق والواسع الانتشار، إلى أسباب نفسية. وهو عبارة عن حالة عامة من التوتر الذهني والجسدي الذي يسببه الخوف واليأس والقلق ومشاعر أخرى كالخوف من فقدان الوظيفة والخوف من الإصابة بالمرض أو الخوف من موت أحد أفراد الأسرة.
يستجيب جسم الإنسان للضغط النفسي بإحداث سلسلة من التفاعلات البيوكيماوية. ولهذا يزداد معدل هرمون الأدرنالين في الدم ويصحب ذلك ارتفاع شديد في معدل استهلاك الطاقة وتسارع تفاعلات الجسم. وفي غضون ذلك تتسرب مواد السكر والكولسترول والأحماض الدهنية إلى مجرى الدم فيرتفع نتيجة ذلك ضغط الدم وتزداد ضربات القلب.
تحدث حالات الضغط النفسي المزمن ضررا بالغا بجسم الإنسان ولا سيما في وظائف الجسم. كما يحدث الضغط النفسي ارتفاعا كبيرا في نسبة هرموني الكورتيزون والأدرنالين. كما يحدث الجلكوز المتجه إلى المخ ارتفاعا في معدل الكلسترول معرضا الجسم لمخاطر شديدة. ويسبب الضغط النفسي أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم والاكتئاب وإصابات في الجهاز التنفسي والجلد وداء الصدف إلى جانب مشكلات صحية كثيرة أخرى.
تشير مصادر علمية كثيرة إلى وجود علاقة مهمة بين الضغط النفسي والتوتر والآلام التي يسببها. فقد أشارت الدراسات أن التوتر الناشئ عن الضغط النفسي يحدث تقلصا في الأوردة مما ينتج عنه إعاقة تدفق الدم لمناطق معينة من المخ. وتحدث هذه العملية نقصا حادا في كمية الدم التي تصل إلى هذه الأجزاء من المخ. وفي غضون ذلك يحدث حرمان هذه الأجزاء من الدم لفترات طويلة أضرارا بأنسجتها. ففي حالة الضغط النفسي تزداد حاجة النسيج المتوتر إلى قدر أكبر من الأوكسجين لكن عدم حصوله على قدر كاف من الدم يدفعه إلى تنبيه أجهزة استشعار الألم. وفي غضون هذا التوتر يتم إفراز هرموني الأدرنالين والنورأدرنالين، وهما هرمونان يؤثران على الجهاز العصبي، مما ينشأ عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة زيادة في توتر العضلات. ويولد هذا التوتر آلاما ثم تبدأ بعد ذلك دورة شريرة من ألم يحدث توترا يفضي إلى قلق ينشئ آلاما حادة.
إن الذبحة الصدرية هي بلا شك إحدى أخطر الاختلالات الجسدية الذي يسببها الضغط النفسي. وتشير كثير من الدراسات والبحوث إلى أن خطر الإصابة بالذبحة الصدرية يزيد عند الأشخاص المصابين بالقلق وحدة الطبع وسرعة الانفعال ويقل عند الأشخاص الذين لديهم قدرة على السيطرة على أنفسهم عند الغضب. وطبقا للبحوث العلمية التي أجريت في هذا الصدد فإن الإثارة الشديدة للجهاز العصبي المتجانس تحدث زيادة في معدل الأنسولين في الدم والذي يشكل بدوره تهديدا كبيرا للصحة وذلك لأن جميع الحالات التي تؤدي إلى مرض الشريان التاجي لا يفوق ضررها الضرر الذي تسببه زيادة معدل الأنسولين في الدم.
إن هذه الحالة غير العادية التي تصيب جسم الإنسان واستمرارها لمدة طويلة من الوقت تلحق ضررا بالغا بالصحة وبالتوازن الطبيعي للجسم. إن أهم مخاطر الضغط النفسي على جسم الإنسان تتمثل في الآتي:
- الهم والخوف: قلق الشخص من فقدان السيطرة على الغضب في حياته
- التعرّق: كثافة العرق والحاجة إلى الاستخدام المتكرر للمرحاض
- تغير الصوت: تلعثم وارتعاد الصوت
- حالة النشاط الفائق: نوبات مفاجئة من تفجر الطاقة وضعف التحكم بمعدل السكر في الدم
- الأرق: الكوابيس
- أمراض الجلد: النمش والحمى والإكزيما وداء الصدف
- أمراض الجهاز الهضمي: سوء الهضم والقرحة والغثيان
- الشد العضلي: آلام الفك والظهر والعنق والكتفين
- إصابات طفيفة: الانفلونزا وغيرها
- الصداع النصفي
- تزايد ضربات القلب وألم الصدر وارتفاع ضغط الدم
- اضطرابات الكلى وبقاء السوائل داخل الجسم
- اضطرابات الجهاز التنفسي وضيق التنفس
- الحساسية بأنواعها المختلفة
- الذبحة الصدرية
- ضعف جهاز المناعة
- تضاؤل حجم المخ
- الشعور بالذنب وفقدان الشعور بالأمان
- الاضطراب وضعف القدرة على إصدار أحكام متوازنة والعجز عن التصور وضعف الذاكرة
- حدة التشاؤم والقناعة القوية بالفشل
- صعوبة الوقوف المستقر
- عدم أو ضعف التركيز
- توتر الأعصاب وفرط الحساسية
- التصرف بشكل غير عقلاني
- فقدان شهية الطعام أو شدة الجوع
إن الضغط النفسي بلاء يصيب الأشخاص الذين يجهلون المنافع التي يجلبها الالتزام بأخلاق الإسلام. وليس لهم نجاة من هذا العذاب طالما ظلت أفكارهم ونظرتهم إلى الحياة وأحداثها على ما هي عليه من جمود. وهذه الحقيقة تؤكدها توصيات الخبراء فيما يتصل بالتعامل مع الضغط النفسي. ولنوضح هذا الأمر بضرب المثال الآتي: يحث دين الله على "التغلب على الغضب". والخبراء يعلقون على الغضب، وهو أحد أهم مسببات الضغط النفسي، على النحو التالي: " لا تفقد أعصابك مهما كان مقدار الاستفزاز الذي تشكله الحالة الماثلة. لا تلجأ للعنف (إلا في حالات الدفاع عن النفس) ولو شعرت بأن لك الحق في اللجوء إلى العنف".
وكما رأينا فيما مر فإنه كلما أفلح المرء في المحافظة على هدوئه ورباطة جأشه كلما زاد حظه من السلامة من كثير من الأمراض. إن هذه حقيقة يؤكدها العلم. ومما لا شك فيه أن هدوء البال وطمأنينة النفس لا ينالا إلا بالتمسك بالدين.
الاختلالات المناعية الناشئة من الضغط النفسي
ثمة علاقة وثيقة بين الضغط النفسي وجهاز المناعة. وللضغط النفسي أثر سلبي بالغ على جهاز المناعة، فالضغط النفسي يدمر جهاز المناعة. ففي حالة الضغط النفسي يزيد المخ من معدلات هرمون الكلسترول في الجسم مما يضعف جهاز المناعة. وبعبارة أخرى، هناك ارتباط وثيق بين الهرمونات وجهاز المناعة.
لقد أظهرت الدراسات في مجال الضغط النفسي والجسدي أن حدة الضغط النفسي وبقاءه لمدة طويلة يضعف مقدرة جهاز المناعة على المقاومة تبعا للتوازن الهرموني للجسم. وقد أثبتت آخر الدراسات أن كثيرا من الأمراض، بما في ذلك السرطان، تظهر وتحتد تبعا للضغط النفسي. وهذا هو ما يجعل لهدوء البال وصفاء المزاج دور كبير في الحفاظ على سلامة أعضاء الجسد بوجه عام. وقد ظهر أن هذا الاستقرار النفسي يمنع ظهور طائفة من العوامل التي تقود إلى الإصابة بالأمراض. والحق أن الإيمان بالله يفرز مثل هذه النظرة التي تعين الفرد على التمتع بسلامة العقل والجسم. إن النظرة الإيجابية إلى كل حادثة تعرض للمرء هو نوع من العبادة بشرط أن يكون الطمع في إرضاء الله هو الدافع إلى هذا السلوك. إن القرآن يرشد المؤمنين إلى إحسان الظن بالله والثقة به والأمل فيما عنده ويسهل لهم سبيلا إلى النجاة والفوز في الدار الآخرة بالإضافة إلى ما يحققه لهم في الحياة الدنيا من حياة سعيدة وهانئة ومباركة. على أن هذا هو فقط جزء من الفضل الجزيل الذي وعد الله الذين يلتجئون إليه ويقتدون بهديه. وليس معنى ذلك أن المؤمنين لا يمرضون ولا يصيبهم مكروه، بل الأمر ببساطة هو أن المؤمنين، مقارنة بغيرهم، أقل تعرضا للأمراض وذلك لأنهم بمفازة من الضغط النفسي وتعكر المزاج.
هناك أمر مهم تجدر الإشارة إليه، وهو أن الناس لا يفزعون إلى الدين هربا من الأمراض. لكن الثقة بالله والتسليم لأمره واتباع النور الذي أنزله يفضي إلى العافية في العقل والجسد. وبعبارة أخرى، فإن سلامة صحة المؤمنين لها علاقة بقوة إيمانهم وصلابة بنيتهم الروحية.
وبصريح العبارة فإن إنسان القرن الحادي والعشرين بحاجة إلى تحقيق شيء واحد هو: أن يعود لفطرته الأولى التي فطره الله عليها وأن يلتزم بمبادئ الدين، لأنه إن لم يفعل حصد الخيبة والخسران في الدنيا والآخرة.
التشبث بقيم الدين يحل جميع المشاكل الاجتماعية
ناقشنا بتفصيل فيما مر من فصول هذا الكتاب الحالة العقلية وسمات الأشخاص الغافلين عن قيم الدين والسلوك الإنساني الذي تحدثه هذه الغفلة. وسنبين في هذا الفصل كيف أن التشبث بقيم الدين يعين على حل مشكلات اجتماعية استعصت على الحل لعقود متطاولة من الزمن.
تلاشي كافة ألوان الفساد والانحطاط

إن التفسخ الأخلاقي هو أبرز سمات المجتمعات البعيدة عن هدي الدين. ويتخلل هذا التفسخ كافة مستويات المجتمع ويزداد حدة وتمكنا بمرور الوقت. ويفاقم من هذا التفسخ غفلة الناس عن هدي القرآن وافتقارهم إلى قيم الخوف من الله والرغبة في نيل رضاه. ولا جرم أن في هذه المجتمعات بعض التقاليد والأعراف والقوانين الاجتماعية التي طورها الأفراد والقادة والتي تسهم في تشكيل السلوك العام للمجتمع، لكن لأن هذه الأعراف والقوانين هي نتاج للعقل البشري ولا يرفدها خوف من الله، فإن أثرها على المجتمع ضعيف ولا تستطيع أن تقضي على السلوك المعوّج.
والدليل على ذلك أنه لا يوجد سبب يمنع الشخص المنحرف من الإمعان في الفساد. تأمل مثلا في حال أحد ملاك الشركات، فهو إن لم يكن يؤمن بالله ولا يخاف عقابه فمعنى ذلك أنه قد وطن نفسه على التصرف بشكل غير أخلاقي وأصبح متحفزا لاستغلال كل سانحة لتمرير قراراته ووضعها موضع التنفيذ. وهو لا يرى بأسا بإساءة معاملة موظفيه واحتقارهم أو استغلالهم. كما أنه يسلك نفس هذا السلوك تجاه شركائه، فيخدعهم ويخادعهم ويحاول بشتى الطرق الملتوية أن يحوز لنفسه أكبر قدر من الثروة وفي أسرع وقت ممكن دون أن يزعه من هذا الصنيع الفاجر وازع.
كما أوضحنا من قبل فإن التصور الأخلاقي يختلف من شخص لآخر إذا لم تكن الشريعة الإلهية أصلا للمعايير الاجتماعية. فقد يعاف شخص ما سلوكا معينا في حين يعده شخص آخر سلوكا مقبولا لا بأس به. فحين يختفي تأثير القيم الدينية عن مكان ما يتخذ أهله قيما أخلاقية شتى. وفي ظل غياب منظور قيمي موحد يصبح المجتمع فيصلا وحاكما للبت في مختلف النزاعات والصراعات، ولهذا تكون الأجيال اللاحقة أسوأ أخلاقا من الأجيال السابقة.
إن الأثر السيئ للتفسخ الأخلاقي على المجتمعات في تزايد مستمر. وينتشر الفساد بسرعة في المجتمعات التي لا تؤمن بالله. وقد يكون السلوك مرفوضا في عام مقبولا في الذي يليه. ولا شك أن هذا التردي المطرد يقود إلى تدمير المجتمع ويفاقم الانحطاط الخلقي. والعجيب أن هذا التفسخ الأخلاقي يوصف بأنه "حداثة" ومعاصرة ويغدو أهم موضوع في حملات تعليم وتثقيف المجتمع، وينشط المنظرون اللادينيون في الترويج للشعار القائل: " إن إنسان القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون حرا وطليقا من كل القيود".
إن أجيالا بكاملها تتعرض في سن مبكرة للتفسخ الأخلاقي. بل هناك زيادة كبيرة في أعداد الأطفال الذين يرتكبون جرائم قتل في أوربا وأمريكا. ومن الشرق الأقصى تأتينا الأخبار بتعرض الأطفال لأبشع ألوان الاستغلال الجنسي لتحقيق أغراض تجارية. والحق أن الانحراف الجنسي كان في الثمانينات موضوعا يتحرج الناس حتى من مجرد الخوض فيه، أما اليوم فقد أصبحوا يعدونه جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة العصرية بل ويتعاطفون مع الأشخاص المنحرفين جنسيا. ومن ناحية أخرى يرمى الأشخاص الذين يعارضون هذه النظرة بتهمة التخلف ومخالفة روح العصر. وقد عاب القرآن سلوك هؤلاء الناس وذلك في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون " (النور:19)
إن من المستبعد جدا أن يشيع التفسخ الأخلاقي في مجتمع تسوده تعاليم الدين، وذلك لأن خوف أفراد هذا المجتمع من الله يعصمهم من الانزلاق في مهاوي الانحطاط الخلقي. ففي الآية التالية مثلا يتضح المعيار الأخلاقي الذي وضعه الله للناس: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون" (النحل:90)
إن الانحراف الخلقي يقل كثيرا في المجتمعات المؤمنة التي تراعي حدود الله التي بينها في كتابه المجيد. وإن شذ من هذه الاستقامة العامة سلوك معين فخرج على الإجماع الخلقي فإن ذلك لا يمثل مشكلة للمجتمع وذلك لأن المؤمنين سيواجهونه بالنكير لا بالتشجيع كما هو الحال في المجتمعات الضالة، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أحد أهم واجبات المسلم كما يوضح ذلك قوله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم" (التوبة:71)
بناء على ما تقدم يمكن القول إن المجتمع الذي تظلله قيم القرآن هو أيضا مجتمع فريد ومتميز أخلاقيا وذلك لأن أفراد هذا المجتمع: "وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ" (آل عمران:114) وثمة فضيلة أخرى يتحلى بها المؤمنون يشير إليها قوله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصّلت:33) وقوله تعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَاب" (الزمر:18)وقوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون" (آل عمران:110).وجاء في أحد الأحاديث النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه" (أبو داوود) كما حث الرسول المؤمنين على التواصي بالخلق النبيل وذلك في قوله: "أحسن الناس إسلاما أحاسنهم أخلاقا" (أبو داوود). وفي هذا شاهد قوي على أن مجتمع المؤمنين متفوق أخلاقيا على غيره من المجتمعات اللادينية.
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
 

ام العيدي

مزمار ألماسي
4 نوفمبر 2007
1,989
18
0
القارئ المفضل
عبد الرحمن السديس
رد: الإعجاز التشريعي

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:limegreen;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center] <H2 dir=rtl style="TEXT-ALIGN: justify">التمسك بقيم الدين يقوي الرابطة الأسرية

إن قوة الترابط الأسري هي الدعامة التي ينهض عليها كل هيكل اجتماعي ناجح. وتفكك المجتمعات مرده إلى تفكك الأسر. ولقد كانت الأسرة هدفا أول للأيديولوجيات الهدامة مثل الشيوعية والاشتراكية، إذ هدف هؤلاء إلى هدم مؤسسة الزواج والقضاء على قيم الأمومة والإخلاص والخصوصية والشرف. وقد زعم فلاسفة ومنظرو هذه الاتجاهات أن هذه القيم لا قيمة لها. ففي الماضي كان العيش المشترك بين رجل وامرأة لا تجمع بينهما رابطة زوجية مثلا محل رفض المجتمع لكنه أصبح هذه الأيام سلوكا معتادا. وفوق ذلك فإن متوسط أعمار الأشخاص الذي يتعايشون دون رابطة زوجية يتناقص باطراد.
إن نظرة مجتمع اليوم إلى الأسرة معيبة بوجه عام. فغالب النساء ينظرن إلى الزواج كضمانة للعيش. وهذه النظرة تجعل المال المعيار الأول في اختيار الزوج. وأحيانا قد تكون المكانة الاجتماعية والجمال والبيئة عوامل مهمة في قرار الارتباط برجل معين، لكن في الأغلب يبقى المال هو المعيار الأول والأهم. ولهذا لا يستغرب المرء من تصاعد معدلات الطلاق والتي تفضح ضحالة الزيجات التي تقوم على عوامل خادعة كالمال والمكانة الاجتماعية والجمال.
وثمة مهدد آخر معروف للزواج وهو ارتفاع سقف توقعات الأزواج من زوجاتهم. فالجمال من ناحية عامة عامل مهم في اختيار الرجل لزوجته، كما قد يتأثر اختياره بعوامل أخرى مثل حظ المرأة من التعليم وتعدد مهاراتها. ولا شك أن توفر هذه المزايا في أحد الزوجين أو كليهما أمر لا اعتراض عليه، لكن إذا أسس الزواج، الذي ينبغي أن يقوم على أرضية صلبة، على هذه العوامل وحدها فستنهار الأسرة متى ما تبين لاحقا أن أحد هذه العوامل غير موجود.
إن الزواج يتطلب وفاءً وحبا واحتراما وهو نوع من المفاهيم لا يمكن أن تصبح قيما صلبة وملزمة إلا من خلال الدين. وعليه فإن الدين هو الضمانة الوحيدة لتماسك ونجاح العلاقة الزوجية.
إن الزواج القائم على هذا الفهم غير العقلاني هو زواج مؤسس على شفاء جرف هار. إذ سرعان ما تختفي من أفق الزواج معاني الحب والاحترام وتذهب المودة المتبادلة بين الزوجين جفاء. فما يمر طويل وقت على الزواج حتى تتبدى لكل طرف عيوب ونواقص الطرف الآخر، فيحتدم النقاش والاختلاف بين الزوجين ويتبادلا الاتهامات الخطيرة. لكن بعد حين من الوقت يقبل الزوجان بالأمر الواقع وتلفهما الدائرة الخبيثة ككثيرين غيرهم. ومما يجدر ذكره هنا أن الأجيال التي تخرج من كنف هذه الأسر تكون مضطربة نفسيا، وذلك لأن تأثرهم بسلوك والديهم يجردهم من معاني الحب والاحترام.
إن الأسر تتفكك عادة في المجتمعات التي لا تجعل من قيم الدين هاديا لحياتها. فللمال في هذه المجتمعات دور كبير في تشكيل العلاقات بين أفراد الأسرة. فالأب الذي ينفق بسخاء على أسرته يكافأ من قبل زوجته وأولاده حبا واحتراما، لكن إن حدث أن توقف الأب يوما ما عن الإنفاق على أسرته فإن هذا الحب والاحترام ينقلب إلى سخط، وهكذا يصبح المال سببا مستمرا للنزاع داخل الأسرة، وليس ثمة ضمانة على بقاء الزوجة مع زوجها إذا أفلس أو قل دخله. والغالب في مثل هذه الحالات أن ينتهي الزواج بالطلاق. وهذا بلا شك إحدى عواقب العيش بعيدا عن مظلة القرآن.
ثمة بون شاسع بين نظرة المؤمن ونظرة الكافر للزواج. فيقين المؤمن بأن هناك حياة أبدية تنتظر الإنسان بعد الممات تجعله يصمم على البقاء في كنف الزواج إلى الأبد. فالقرب من الله هو كل ما يرجوه المؤمن من الزواج. وبعبارة أخرى، فهو يريد من الشخص الذي سيبقى معه إلى الأبد أن يحيا وفق هدي القرآن. وذلك لأن كل السمات التي يتحلى بها الإنسان في الحياة الدنيا إنما هي عرض زائل. فاهتداء الزوجين بالقرآن يملأ حياتهما بالحب والاحترام والانسجام. فإن حدث أن أخطأ أحدهما ذكره الآخر بهدي القرآن فتزول المشكلة وذلك لأن المؤمن لا يجد حرجا فيما قضى الله بل يسلم تسليما. وعليه يمكننا، بناء على الأسباب الواردة أعلاه، أن نقول إن الأشخاص الذين يؤمنون بالله ويخافونه يقيمون زيجاتهم على قاعدة صلبة.
لكن من الخطأ حصر مفهوم الأسرة في العلاقات بين الزوجين فقط، فسلوك الأطفال تجاه والديهم وكبار السن من أفراد الأسرة مهم أيضا، وفي البيئات التي تعمرها مبادئ الدين تقوم هذه العلاقات على قاعدة الحب والاحترام. كما يخلو جو الأسرة من أنماط السلوك الفظ والزعيق والعراك والتي لا يسلم منها جو أسري في أيامنا هذه. ويسود بدلا منها جو من السلام والبهجة. فلا وجود لمزيد من الكوارث الأسرية وكل فرد يحمل أسرته في حدقات عيونه الأمر الذي يخرج إلى الوجود حياة أسرية يعز نظيرها. ويرى الأطفال في أبويهم نعمة عظيمة ويشعرون برابطة قوية تشدهم إليهما. ويشعر الأبوان أن أبناءهما إنما هم وديعة أستودعهم الله إياها واستحفظهم عليها. إن "الأسرة" تعني الدفء والحب والثقة والتضامن. ولا بد من التأكيد ثانية على أن مثل هذه الحياة الأسرية السليمة تقتضي التزاما تاما وخالصا بقيم الدين وخوفا من الله وحبا له.
رابطة الود والاحترام تقوى بين أفراد المجتمع

ذكرنا في عرضنا للآثار المعنوية للكفر على الإنسان أن الكفار لا يمكن أن يدركوا المعنى الحقيقي للحب والاحترام. فمجتمع قوامه أناس كهؤلاء لا يمكن للعلاقة بين أفراده، صغارا كانوا أم كبارا، بدوا كانوا أم حضرا، أن تتسم بالدفء. ويشعر الفرد في ظل مثل هذه الظروف بالوحشة والعزلة. فكل فرد يفكر بنفسه فقط. والواقع أن مشاعر الحب والاحترام التي يبدونها لبعضهم بعضا ليست هي التي وصفها القرآن. والسبب الأول لذلك أن قيمهم كلها مبنية على اهتمامات مادية الصبغة.
لا أحد في هذه المجتمعات يحترم شخصا آخر دون مقابل. فالموظف يحترم رئيسه خوفا من غضبه وما قد يترتب على هذا الغضب من فقدان للوظيفة. ويجل الطالب أستاذه لئلا يفشل في الامتحان. كما تشعر المرأة بالرغبة في الإحسان إلى زوجها طمعا في استمراره في الإنفاق عليها. لكن من الواضح جدا هنا أن الاحترام الذي تعكسه جميع هذه الأمثلة يقوم على المصلحة الخالصة.
لكن لا تكاد تعثر على أثر لصور التعامل هذه في المجتمعات وأنماط العيش المصبوغة بصبغة الخلق القرآني. إذ يحترم كل فرد في هذه المجتمعات وبشكل تلقائي كل مؤمن يسعى للفوز برضا الله. فلا يحتاج المرء لأن يصبح نجما مشهورا أو ثريا واسع الثراء لينال التوقير وحسن التقدير في مجتمعه. فمجرد إيمانه بالله وخوفه منه وسعيه لنيل رضا خالقه يكفي لرفع مكانته في عيون الناس في مجتمعه.
أشرنا فيما سلف من فصول هذا الكتاب إلى نمط الأخلاق والروح التي تغلب على المجتمعات الكافرة. ولنتأمل الآن، في حال مجتمع قوامه أمثال هؤلاء الناس. هل سيكون مجتمعا تسوده معاني الحب والاحترام؟ إن الإجابة هي وبلا تردد بالنفي. فمن خلا قلبه من حب الله خالقه ورازقه لا يمكن أن يحب خلق الله وعباده. وحل هذا الإشكال يكمن في قيام مجتمعات تسير حياة أفرادها وفق مبادئ الدين.
انتهاء فظائع السكر والقمار

إن أبرز ملامح هذه الصورة الكالحة للمجتمعات اللادينية هو أن السكر والقمار قد أصبحا طريقة حياة لغالبية أفراد هذه المجتمعات. إن حرمان هؤلاء الناس من هدي الإسلام جعلهم لا يدركون معاني الصبر أو الرجاء أو التوكل على الله، وهذا هو سبب فزعهم إلى السكر والقمار متى ما اعترضت سبيلهم محنة. فإن لم تجر الرياح بما يشتهون أو إذا تملكهم الغضب أو استولى عليهم الملل أو ركبهم الحزن أو حتى إن ألمت بهم حالة فرح، هرعوا إلى الكحول يطلبون عندها السلوى والعزاء، لكنهم لا يجنون من ذلك سوى الإضرار بأنفسهم وبالآخرين. فحين تبلغ سكرتهم مداها تذهب عنهم عقولهم ويغيب وعيهم فيرتاحون عندها من عذابات الضمير ووخزه الممض، ثم يأخذون في شتم الناس وإساءة الأدب والتعامل بوقاحة دون أدنى شعور بالحرج.
إن ذهاب العقل والوعي بسبب السكر وما يترتب على ذلك من نتائج مؤسفة يوضح حالة الاضطراب التي يجلبها ذلك للمجتمع. فليس بمستغرب أن يفقد شخص ما كل ما يملك في ليلة واحدة على طاولة القمار، أو أن يندفع بتأثير السكر إلى ارتكاب جريمة قتل أو ممارسة العنف أو الانتحار أو غير ذلك من الموبقات. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الشرور وذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَإِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون " (المائدة:90-91)
يجتنب المؤمنون القمار لأن الإسلام يحرمه تحريما قاطعا. إن الخوف من الله الذي يعمر قلوبهم يضمن هذا الاجتناب ويعينهم عليه، فلا يستهويهم أبدا بالغا ما بلغت قوة الدافع وشدة الإغراء. والحق أنه ليس ثمة معاذير ومسوغات شرعية تتيح للمرء الوقوع في مثل هذا المنكر. وما كان لمؤمن أو مؤمنة أن يأثم بالتماس الأعذار وذلك لأنه لا مجال للمرونة أو التساهل في شيء حرمه الإسلام.
إنه لا يمكن الوثوق بقيم الغافلين عن قيم الدين وذلك لأنها تتغير تبعا لتغير الظروف والوقت والملابسات. لذلك تبرز تفسيرات شتى انطلاقا من هذه العوامل. فقد تجد القمار وأمثاله من المنكرات مرفوضة في بعض الأمكنة في حين تجدها مقبولة تماما حتى في نظر منكريها إذا مورست في أماكن معينة كالفنادق مثلا. فقد لا يجد الشخص الذي لا يقامر حرجا البتة في لعب القمار إذا كان المكان ملائما لذلك.
إن السلوك القويم يقتضي مجانبة الشرور في كل الأحوال. وإن تقلب سلوك المرء بحسب الظروف والرفقة دليل على ضعف الشخصية. وليس يرجى من شخص يجهل قيم الدين أن يكون ذا شخصية أو إرادة قوية.
اختفاء مشكلة المخدرات
ذكرت إحدى وكالات الأنباء نقلا عن تقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة في عام 1997م أن 200 مليونا من سكان العالم يتعاطون المخدرات. ولا تنفك الصحف ومحطات التلفزة تعرض في كل يوم تقارير مطولة عن تعاطي وإدمان المخدرات الأمر الذي يصيب عقولنا بالخدر ويدفعنا إلى عد هذا الأمر من جملة الأشياء المعتادة. غير ن التأمل في هذه الشرور يتيح لنا فهما أفضل لوهن الأساس الذي يرتكز عليه هذا القبول. فهل يعقل أن يستسلم الإنسان الذي خصه الله بنعمة العقل وميزه بها عن كافة المخلوقات لإدمان مليجرامات قليلة من مادة ما ويفقد وعيه أو ينهار بالكامل إذا حرم منها؟
يتعاطى مدمنو المخدرات في الغالب الجرعة الأولى من المخدرات قائلين: "لا بأس من تجربة هذا الأمر مرة واحدة"، فتتولد فيهم، بوعي أو بدون وعي، نزعة تمرد. ثم يجدون أعذار "معقولة" لإدمانهم لكنها مع ذلك أعذار واهية. إن تلهي هؤلاء الأشخاص عن ضعف إرادتهم الشخصية يدفعهم إلى الإنحاء باللائمة على من حولهم من الناس، حيث تصبح المشاكل الأسرية و الفشل في الدراسة و العمل والصراعات الاجتماعية والمشكلات المالية وتصعّب الأمور أو الاكتئاب لسبب أو لآخر، أسبابا كافية للتورط في مستنقع الإثم. وما إن تتلبسهم هذه الروح حتى تتكون لديهم نظرة سلبية للأمور ثم يغوصون أكثر في لجج السلبية والتشاؤم.
يشعر هؤلاء الناس بالضعف أمام مصاعب الحياة. ولأنهم محرومون من معية الله ورفقته فإنهم لا يثقون بأحد، مما يزيّن لهم أن سداد الرأي يحتم عليهم نسيان كل شيء وأن يفقدوا الوعي الحقيقي. فتدفعهم هذه القناعة إلى زيادة كمية المخدرات التي يتعاطونها في كل يوم فيخربون حياتهم بأيديهم. كما يزيدهم إنكارهم للمعاد الأخروي وإيمانهم بأن الموت هو النهاية التي لا بعث بعدها يزيدهم حرصا على الاستمتاع بحياتهم إلى آخر مدى لكنهم يصابون بالهلع حين تتحول هذه الحياة إلى كابوس يقض مضاجعهم، فينتهون إلى ورطة وذلك حين تفتك المشكلات، التي تلقي بوطأتها الثقيلة على حياتهم اليومية، بصحتهم العقلية والجسدية.
إن هذه الحالة المرعبة من السخط والغضب الذي يجدونه إنما هو عقاب في هذه الدنيا على تهافتهم على شهواتهم بدلا من الحرص على إرضاء الله.
لقد وهب الله الإنسان حكمة وضميرا وعقلا وبشره بحياة مباركة في هذه الدنيا وفي الآخرة شريطة أن يكون همه هو إرضاء الله، فإن لم يفعل فالجحيم مصيره في الدنيا وفي الآخرة. والحق أن الذين يبتغون القرب من الله هم وحدهم الذين ينعمون بالأمن أملا في الفوز بالنعيم المقيم في فردوس الله الأعلى وطمعا في العيش الهانئ في الحياة الدنيا.
إن القرب من الله مالك السماوات والأرض وما بينهما هو بلا ريب أشد ركن يمكن أن يأوي إليه الإنسان، وهذا هو الذي يجعل المؤمنين أقوى الناس وأصلبهم قناة، قوة في الإرادة وقوة في الإدراك. إن عمق إيمانهم بالله وإخلاصهم لدينه الذي أنزل هو الذي يمدهم بهذه القوة.
25a.jpg

إن الأمراض الاجتماعية كتعاطي المخدرات والكحول والقمار والعنف تنشأ بسبب الغفلة عن ذكر الله.
وهي آفات يسلم منها كل من يعرف نعم الله عليه ومسئولياته تجاه مسبغ هذه النعم.
اختفاء البِغاء
"وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً"(الإسراء: 32)
إن الزنا، وهو أحد الأفعال التي حرمها الله، جريمة شنعاء تحط من قدر الإنسان في الدنيا والآخرة إن لم يتب صاحبها. ويجلب الزنا للمجتمع وللأفراد الذين يمارسونه أمراضا عديدة. أما المؤمنون فيجتنبون الزنا بل ويبغضونه لأن الله حرمه. ويجب أن لا يغيب عن البال أن الله يحث على الزواج والذي هو رابطة يباركها الإسلام.
وفوق ذلك، فإن الأذى الذي يلحقه الزنا بالمجتمع عامل آخر يعزز عزيمة المؤمنين على النفور منه والابتعاد عنه. كما يحذر المؤمنون من سوء عاقبة مرتكبي جريمة الزنا التي حرمها الله في القرآن تحريما قاطعا. ولقد أركس الزنا كثيرا من الناس اليوم وسلبهم الكرامة والثقة بالنفس والاحترام وسلكهم في نمط حياة مذل. كما هدم الزنا كثيرا من الأسر وملأ حياتها بالحزن والقلق وفاقم أزماتها النفسية. وما درى هؤلاء البؤساء أنهم سيحصلون على الأمن والاستقرار النفسي وسيستعيدون ثقتهم بأنفسهم وسيحافظون على أواصر الحب والاحترام فيما بينهم إن استجابوا لأمر الله وقصروا أنفسهم على الحلال المشروع. إلى جانب أن هذه العفة ستضمن سلامة الجو الأسري وسلامة المجتمع.
إن للزنا دوراً معروفاً في تحطيم المجتمعات وذلك لأنه يستهدف الركيزة الأولى في المجتمع وهي الأسرة. ويفقد الأشخاص الذين سقطوا في حمأة الزنا هيبتهم وكرامتهم الشخصية واحترام الناس من حولهم. ومن الخطأ الظن بأن الرغبة في الحصول على المال هي وحدها التي تدفع الناس إلى ممارسة الدعارة. ففي الغالب يكون هناك ميل شخصي نحو الزنا ولكن هذا لا يغير من حقيقة أنه زنا. وينشد الناس بوجه عام في مثل هذه الحالات الراحة النفسية وذلك بزعم أنهم "لا يرمون إلى تحقيق أي مكسب مادي من وراء علاقاتهم" لكن هذا تمويه وتضليل كبير إذ لا يرجى من شخص مرد على تجاوز حدود الله أن يقف عند حدود مشروعة. ويخبرنا الله في القرآن أنه حرم كافة أشكال العلاقات الجنسية التي تحدث خارج إطار الزواج. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نمتنع عن حصر البغاء في قالب معين واحد.
ومن جهة أخرى فإن قناعة أكثر الناس الذين يمارسون الزنا بحرمته وشناعته تملأهم هما وغما وتجعلهم فريسة لعذابات الضمير. ولن يفلح إنكارهم وجحودهم في إخفاء حقيقة أنهم قد فقدوا كرامتهم وثقتهم بأنفسهم.
إن نصب أماكن معينة لممارسة البغاء هو من الأضرار الأخرى التي تلحقها هذه الظاهرة بالمجتمع. وكلما زاد البغاء كلما زاد عدد هذه الأماكن مما يعجل بخراب المجتمع. إذ ينجذب الشباب إلى هذه المواضع وتضعف الروابط الأسرية ثم تكثر الخيانة. لكن الله يدعو إلى أوضاع يسودها الأمن والإخلاص والوفاء والثقة ويسمي ذلك نعمة.
لقد اختار كثير من الناس عبر تاريخ البشرية أن يتكسبوا بالبغاء فأركسوا بذلك أنفسهم وحطوا من أقدارها. ويعرض الزنا في أيام الناس هذه كطريق سهلة للكسب المادي. إذ تدفع الرغبة في الثراء كثيرا من الناس إلى أن يحيوا حياة مذلة مشينة. ويحذر الله الناس في القرآن من هذا الخطر فيقول: " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة:268)
لكن إذا لاذ الإنسان بكنف خالقه ودخل في زمرة المؤمنين فسيسوق له الله الرزق من حيث لا يحتسب ويغنيه من فضله. ولا ريب أن المؤمن الحق سينال بإذن الله الفضل في الدنيا والآخرة. لكن الله قد يبتلي عبده المؤمن فيقدر عليه رزقه، وفي هذه الحالة ينال المؤمن خيرا عند خالقه إذا تأمل حال الحياة وحتمية زوالها.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإنسان قد يقع في أي نوع من الأخطاء في حياته. وليس بمستبعد أن يأتي المرء أفعالا محرمة في القرآن أو أن يقضي حياته في البغاء أو في أي لون آخر من ألوان العلاقات الجنسية المحرمة. لكن إذا تاب المرء وأناب إلى الله وخلصت بذلك نيته فإن الله سيقبل توبته إن شاء الله. لكن يتعين على المرء أيضا أن يدرك أن التوبة التي يقبلها الله ليست هي التوبة التي تأتي عند قدوم الموت. ولقد أوضح الله هذا الأمر في القرآن فقال: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {17} وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النساء: 17-18)
لا أحد يتكسب بفعل غير مشروع

أشرنا فيما مضى من فصول هذا الكتاب إلى حقيقة أن الناس المحرومين من قيم الدين لا يدركون حقيقة اليوم الآخر ولذلك تصبح الدنيا أكبر همهم ولا يعرفون حدودا في انسياقهم وراء شهواتهم. فهؤلاء الناس لا يتورعون عن عمل أي شيء في سبيل إشباع رغباتهم ولو أدى بهم ذلك إلى التضحية بكرامتهم. فهم، حسب منطقهم المعوج، سيموتون في نهاية المطاف ويتحولون إلى تراب ولذلك يتعين عليهم أن يستمتعوا بكل لحظة من حياتهم القصيرة. فيصبح المال بغيتهم الأولى وذلك لأنه في نظرهم الطريق الموصلة إلى النجاح والوسيلة التي يحصلون بها على ما يريدون. وهنا يتجلى ضعفهم الأخلاقي فيتكون لديهم استعداد لعمل كل شيء يجلب لهم المال بطريقة هينة ميسورة.
حري بهؤلاء الناس أن يقعوا في كل ما يمكن تصوره من ألوان الشرور كالخداع والخيانة والغش والسرقة والنصب والابتزاز وشهادة الزور. وإن في الأخبار التي تفيض بها الصحف اليومية عن هذه الممارسات لتأكيد لهذه الحقيقة، فمن منا لم يسمع بجرائم القتل التي أرتكبت بغرض الحصول على ميراث القتيل، ومن منا لم يسمع بتشجيع أناس لزوجاتهم وبناتهم وجيرانهم على ممارسة البغاء للحصول على المال أو غير ذلك من ضروب الغش.
لكن المؤمنين يعلمون أن الله هو الرزاق المتين. وليس معنى ذلك أنهم يجلسون في بيوتهم ينتظرون الرزق أن يأتيهم بل يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، لكن طمعهم في الدنيا محدود ولا يرد على خواطرهم هم باكتساب العيش من غير وجوهه المشروعة. إنهم يدركون أن رضوان الله لا ينال ألا بالصدق وبالتقوى، كما جاء في الحديث: "إن الله يحب المؤمن يحب أن يكون رزقه حلالا" (الطبراني). لكن الله يكافئهم على زهدهم في الحياة بأن يسبغ عليهم آلائه الكثيرة.
ماذا يحدث للمجتمعات عندما يتشبث أفرادها بأخلاق الإسلام؟

إن وجود قيم الدين يملأ النفوس بحب الله. ولهذا الحب تأثير إيجابي بالغ على الناس كافة. إن تطلع المؤمنين إلى نيل رضا الله وعفوه يدفعهم إلى التحلي بأفضل الأخلاق وإبداء المحبة والاحترام لبعضهم البعض فتتخلل معاني الرحمة والتسامح والعطف جميع مفاصل المجتمع ويتسابق الناس ويتنافسون على فعل الخيرات.
وفي المقابل، تحول خشية الله بين الناس وبين الوقوع في الإثم وبهذه الطريقة يقضى بسهولة على كل أنواع الشر وينفذ دفء الدين وروحه إلى سائر جوانب الحياة. ولا ريب أن المقصود بالدين هنا هو العقيدة الأصلية التي جاء بها القرآن والاستمساك بها بتجرد وإخلاص.
إن للأسرة وظيفة جوهرية في تكوين وبقاء أي مجتمع من المجتمعات. وحين يتمسك الناس بمبادئ الدين ويقيموا لها وجوههم تزدهر العلاقات وتقوى بين أفراد الأسرة ويسود الحب والاحترام الحقيقيين. وحين تفقد الأسرة يفقد مفهوم الدولة معناه، وذلك لأن الأسرة والدولة مفهومان متداخلان. إن تفكك الأسرة يعجل بنهاية المجتمع والدولة. وفي المجتمعات البعيدة عن هدى الدين ينزع الناس إلى التمرد والفوضى والخروج على سلطان الدولة. وإذا دعت الحاجة إلى إظهار القيم الأخلاقية وحمايتها يحجم الأشخاص الذين تخلو قلوبهم من خوف الله عن المشاركة في تحقيق هذا الهدف. وحين تتعارض مصالح المجتمع مع المصالح الشخصية يسارع الأشخاص المجردون من قيم الدين، حكاما كانوا أو محكومين، إلى تفضيل مصالحهم الفردية. ومما يجدر ذكره هنا أن هذا التفضيل للمصالح الشخصية يحمل صاحبه إلى التهرب من خدمة قومه حين تدعو الحاجة. ولهذا فليس بمستغرب أبدا أن يمارس هؤلاء الأشخاص أنشطة إرهابية. لكن الشخص المقتدي بهدي الدين لا يفرط في واجباته الوطنية بل لديه استعداد لتعريض حياته للخطر ذبا عن القيم التي يؤمن بها. إن مصالح الوطن في نظر مثل هذا الشخص مقدمة على مصالحه الشخصية.
في المجتمعات التي يسود فيها الوعي الديني يشعر الطلاب بالحب والاحترام تجاه الدولة ويدعمونها ولا يهاجمون قوات الشرطة أو قوات الجيش كما يحدث في المجتمعات الأخرى. إنهم يثمنون دور قوات الشرطة والجيش في حفظ الأمن. ويثق أفراد المجتمع بوجه عام بدولتهم وجيش وشرطة بلادهم ويعينونهم. وتنتهي انتفاضات الطلاب والصراعات بين الأخوة والنزاعات بين اليمين واليسار. وذلك لأنه لا يبقى شيء يشتجر حوله الناس بعد أن توحدت كلمتهم بشأن كتاب الله وما فيه من تعاليم تحث على التعاون والتعاضد.

إن حكم الدولة يصبح في ظل هذه الأوضاع سهلا ميسورا ويعم الأمن والرخاء ربوع البلاد. أما الأشخاص الذين يتولون إدارة شئون البلاد فيعاملون مواطنيهم برفق وإنصاف ولا يسومونهم الظلم والخسف. ويرد المواطنون التحية بأحسن منها فيحترمون مسئوليهم. ولا ريب أن دولا بهذا الوصف لتنهض على أساس متين.
إن البعد عن أخلاق الإسلام يجعل الأب عدوا لابنه وبالعكس، ويولد الشقاق بين الاخوة، ويدفع أصحاب العمل إلى ظلم موظفيهم وهكذا تنتظم الفوضى الاجتماعية كافة قطاعات المجتمع، فتتوقف المصانع والشركات عن العمل بسبب الفوضى ويستقل الأثرياء عرق الفقراء. أما في مجال العمل التجاري فيغلب الغش على كافة المعاملات. وهكذا تصبح الفوضى والصراعات طريقة حياة لأفراد المجتمع. وسبب ذلك كله تجرد الناس من خشية الله. وذلك لأن الشخص الذي لا يرجو لله وقارا لا يتورع عن الظلم أو عن اللجوء إلى العنف المفرط والقسوة، بل وحتى القتل. كما يدفعهم موت الضمير إلى الإصرار والتبجح بفعالهم المقبوحة. وعلى النقيض من ذلك فإن الشخص الذي يخاف عذاب الله الذي أعده للظالمين يوم القيامة يحجم عن إتيان هذه المعاصي. إن منظومة الخلق الإسلامي تمنع وقوع هذه الأفعال وذلك لأن كل شيء يعالج برفق وهدوء وبالتي هي أحسن، فلا أخطاء ولا تجاوزات قانونية تحدث وتخلو ساحات المحاكم ومراكز الشرطة من القضايا والمرافعات.
إن الاستقرار العقلي الذي ينعم به أفراد المجتمع قاطبة يعود بالخير والبركة على المجتمع. وتنتعش حركة البحث العلمي فلا يمر يوم دون حدوث تقدم تقني أو اكتشاف علمي جديد ثم يسخر كل ذلك في خدمة المجتمع ككل. وتزدهر الثقافة ويسعى القادة لتحقيق الرفاه العام للمجتمع. وهذا الازدهار هو نتيجة لتحرر أرواح الناس وعقولهم من الضغوط. وذلك لأن هدوء البال يشحذ الذهن ويعمّق الفكر. إن الحياة القائمة على الاستقامة الخلقية تجلب للناس السعادة والنجاح الاقتصادي والزراعي والصناعي.
sefalet.jpg
إن الفقر والجوع وسفك الدماء والعنف الذي ينتظم العالم تعود جذوره إلى المنطق الذي يعد جميع هذه الشرور أمرا معتادا ولا مناص منه. ويسمح هذا المنطق بقتل النساء والأطفال المساكين لا لشيء إلا لأنهم ينتمون لعرق آخر، أو يسمح بتجويعهم في الوقت الذي يعاني فيه الآخرون ممن التخمة. وجميع هذه الأمور تحدث لأن هذا المنطق المذكور يعدها من "قوانين الحياة الثابتة". لكن هذا العنف ليس "قانونا من قوانين الحياة" بل هو أحد "قوانين الكفر". وهذه البشاعات ستتلاشى إلى الأبد وسيسود العدل والرحمة ربوع العالم إذا آب الناس لقيم القرآن.
أما في مضمار الفنون والآداب فتحدث نهضة كبيرة. فالناس الذين تتبخر أحلامهم ويضيق أفقهم بما يجابهون من فتن وأزمات يومية يمكنهم التخلص من هذه المشكلات بالتشبث بقيم الدين. وكأثر لذلك يبدع الناس في الفنون وتبلغ قدراتهم ومواهبهم غايتها القصوى. والشخص الذي يدرك أن الله قد نفخ فيه من روحه وبشره بجنة تزخر بالمجد والفن وغير ذلك من آلاء يأتي دونها الحصر يتولد فيه تشوف وتطلع إلى بلوغ غايات الكمال الفني والجمالي. وفوق ذلك، فإن الحب الذي تنطوي عليه جوانحه لمن حوله من الناس سيعزز التزامه بتقديم أفضل ما عنده.
لكن الناس المحرومين من أخلاق وقيم الدين لا تجد فيهم اهتماما ولا تطلعا إلى إثراء أرواحهم. فلا يشعرون البتة بالرغبة في التعامل مع الآخرين بخلق حسن وذلك لأن هؤلاء الآخرين ليسوا في نظرهم سوى أحفاد قرود مآلهم إلى الفناء. وغاية هؤلاء الناس في الحياة هي أن يتبعوا شهواتهم التي تمليها عليهم غرائزهم الأنانية الحيوانية. غير أن تتبع شهوات النفس لا يسعد الروح الإنسانية ولا يزكيها بل يصيبها بالتبلد والتحجر. فهؤلاء الناس لا يرجى منهم إضافة شيء ذي بال إلى الفن والأدب، كما أنهم يفقدون القدرة على تذوق الفن والجمال والانفعال بهما. والبلد الذي لا يستمتع أهله بالفن والجمال الحقيقي يصاب أهل الفن والأدب فيه بالإحباط فتعقم قرائحهم أن تنتج إبداعا فنيا حقيقيا. ويغدو الجري وراء المال والشهرة الهدف الأول للفنانين والأدباء فتأتي أعمالهم الفنية ممسوخة وزائفة.
وختاما، فإنه حين يتمسك الناس بقيم الدين التي جاء وصفها في القرآن تستحيل حياتهم إلى فردوس ويغدو الانسجام والتناسق الاجتماعي الذي هفت إليه أفئدة الناس في كل العصور وأصبح في نظرهم حلما صعب التحقق، يغدو واقعا معاشا في فترة زمنية قصيرة.
قيم القرآن هي الحل
تطرقنا عبر فصول هذا الكتاب إلى وجهة نظر وأنماط سلوك الأشخاص البعيدين عن قيم الدين وناقشنا السمات الأساسية للمجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد. وحللنا طريقة عيشهم الموبوءة بالمشكلات والأزمات المعضلة وما يترتب عليها من ضرر نفسي وجسدي. كما تعرضنا بالوصف للحياة المباركة لمجتمعات المؤمنين وذكرنا أن ما تتسم به حياة المؤمنين من سلام وأمن ليس سوى انعكاس لحقيقة أن القرآن يطرح الحلول لكافة أنواع المشاكل. بل يوفر القرآن الحل الأنجع والأعقل لأي مشكلة أو معضلة كانت.
إن التمسك بأخلاق القرآن يسكب السعادة والأمن في الروح الإنسانية ويضع حدا لكل صنوف الظلم والصراعات والحروب والإجحاف والسرف والقلق والتعصب والقسوة والعنف. ويرشد ويوجه العلاقات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية ويضع حدا للتدافع بين أفراد الأسرة والأقارب والمجتمع ككل. لقد جاء القرآن بأفضل وأكمل وأنجع الحلول. وفوق ذلك، يرشد القرآن الإنسان إلى أقوم الخلق وأفضل السلوك للتعامل مع أي قضية وفي ظل أي ظرف. وإن مجتمعا يكون أفراده مثالا يتجلى فيه هذا السمو الأخلاقي سيهتدي إن شاء الله إلى أفضل الهياكل الاجتماعية التي لهث وراءها البشر من قديم العصور. إن اشتمال القرآن على حلول لجميع المشكلات تبينه الآية التي يقول فيها رب العزة: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون" (يوسف: 11)
لا يمكن للناس بدون هدي القيم الإسلامية أن يأتوا بحلول عملية لمشكلاتهم الشخصية والاجتماعية. والحق أن التاريخ يزخر بمشكلات كثيرة ظلت بلا حل حتى نزول القرآن. وطالما استمر الإنسان في تجاهله للدين الحق فإنه لا محالة سيواجه مشكلات وأزمات يعجز عن التعامل معها. وهذا هو المصير الذي ينتظر الغافلين عن الدين في الحياة الدنيا أما العذاب الذي ينتظرهم في الدار الآخرة فهو أنكى وأبقى.
إن الله هو وحده المحيط بأحوال الإنسان، وقد زود الله الإنسان في كل العصور بكل أنواع التفسيرات والتوضيحات والمعارف من خلال الدين الحق. ويخبرنا الله في القرآن أن الإنسان سينال السعادة في الدنيا إذا اقتفى أثر القرآن: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون" (النحل: 97).لكن إذا أصر الإنسان على التنكر لهدي الله وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فستناله سيئات ما قدمت يداه. وذلك لأن تجاهل القرآن يعني الحرمان من نور الله. فلا تجارب الإنسان الشخصية ولا تجارب الأجيال السابقة ستغني عن الإنسانعند التعامل مع المشكلات التي سيواجهها في مسيرة حياته. بل سيغرق في مستنقع الغم والهم والضغط النفسي والحيرة والفشل. وبعد حين سيستسلم هذا الإنسان لهذا الوضع ويحيا حياته الحاضرة معتقدا أن النكبات التي تحل به، والتي هي في الحقيقة ثمرة للكفر، حقائق حياتية لا تتغير.
إن سبيل الخلاص واضحة بينة، ألا وهي الالتفات إلى الله خالق الكون والركون إليه وابتغاء السعادة وراحة البال في التمسك بالدين الذي ارتضاه الله لنا. لقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن الالتفات إلى الدين هو طوق النجاة في الحياة وبشرنا أنه سينجي عباده المخلصين من الخوف بشرط أن يسمعوا ويطيعوا له: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون" (النور-55)
المصدر : موقع هارون يحيى www.harunyahya.com
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
</H2>
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع