الشيخ صالح بن طالب خطيب الحرم والحرمين الأول : لاعتبارات كثيرة ومن أهم مايميزه عن غيره :
النباهة والذكاء التي يتمتع بهما الشيخ والصفتان التي تلحظها سريعا إذا جالسته وتبدو واضحة كلية في لمحات من خطبه ..
الثقافة الواسعة في شتى الأبواب وتتحسسها مبثوثة في أي لقاء مفتوح للشيخ وسبق وأن لمست هذا منه في محافظة القويعية ووجدته ممتلئا بها غزيرا عميقا في مضامينها ..
القوة في الطرح وأسلوب الخطابة البلاغي وسهولة إيصال المعنى بأقصر الطرق وأخصر الكلمات وهذه هي البلاغة بالمعنى الصحيح .. وهذا نادر عند كثير من الخطباء ممن يروح ويذهب ويشرق ويغرب حتى يصل إلى المعنى .. وسأنقل لكم بضعة أسطر لترون ذلك :
يقول الشيخ صالح في خطبة آل البيت :
(الشريف في ذاته يفيض بالشرف على من حوله والكريم في معدنه يسري كرمه في المحيطين به، انظر إلى زجاجة العطر كيف تبقى فوّاحة بعد نفاد ما فيها، تطلّع إلى جوار المصباح وكيف استحال هالة من نور، وسوارًا من ضياء وكذلك البشر تفيض بركة السعداء منهم وتتعداهم إلى غيرهم. فكثير من سلالة إبراهيم الخليل غدوا أنبياء وأصحاب عيسى صاروا حواريين ورفاق محمد صلى الله عليه وسلم شرفوا بالصحبة وأزواجه أمهات للمؤمنين. ونسله استحقوا وصف الشرف والسيادة، كيف لا وفيهم من دمائه دم، وفي روحه نبض ومن نوره قبس ومن شذاه عبق ومن وجوده بقية صلى الله عليه وصلى على آله وأزواجه وصلى على صحابته وسلّم تسليمًا كثيرًا)
ثم أنتقل إلى هذا الجزء وانظر إلى قوارع الكلمات :
(ولأن آل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومحبتهم، أمر تهفو إليه النفوس وشعور تجثو عنده العواطف، وحس يتحرك له الوجدان فقد نفذ من هذا الباب من استغله وتاجر به واستخدمه من ادّعى خدمته، منذ القرن الأول من عمر هذه الأمة إلى أيامنا هذه، وعلى مر ذلك التاريخ الطويل وتحت شعار محبة آل البيت والانتصار لهم. برزت مطامع سياسية وأخرى مادية وصنعت ثارات عرقية عنصرية واندس موتورون بهذا الدين، شانئون له مبغضون لأهله يهدمون أساسه ويبغون اندراسه، حتى غيرت معالم الدين وشوهت الشريعة وبدلت العقيدة، ونبتت الفرقة وثار غبار النزاع والشقاق. طالوا أهم ما فيه وهو التوحيد ثم كرّوا على أهم مسائل العقيدة فحرفوها ثم أخذوا يعيثون فسادًا في بقية شرائع الدين وأطاعوا شيوخهم في التحليل والتحريم بلا هدى حتى ساروا كمن قال الله فيهم: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله". عظموا المشاهد وعطلوا المساجد ناهيك عن أكل أموال الناس بالباطل واستحلال فروج الحرائر. وتكفير عموم الأمة وكنِّ العداوة والبغضاء للعرب الذين هم مادة الإسلام وأصل الإسلام كل هذا يحدث ويكون تحت لافتات النصرة لآل البيت، ومحصلة الأمر كله تمكن مندسين في تغيير عقائد الإسلام الراسخة وشرائعه المثبتة وشعائره الظاهرة لدى جماعة من المسلمين باسم آل البيت ومحبة آل البيت)
حجج كأنها لجج ضربت أصداغ الأعداء وقرعت رؤوس أصحاب الأهواء حتى تحركت لها دولة إيران ممثلة بوزارتها الخارجية مما يدل على أن الشيخ ضربهم في مقتل وأدمغهم بحجة لازالون يترنحون من هولها ..
وانظر إلى هذا الوصف :
(لقد كان أهلُ الأرض قبل مجيء الإسلام في ظلام دامس وضلال طامِس، عَدا غُبّرَ من أهل الكتاب وبقايا ممّن على الحنيفيّة ملّة إبراهيم، أمّا من سواهم مِن ورثة الأديان السماوية وصانعي المعتقدات الوثنيّة الأرضية فقد اغتالوا زكيَّ النفوس وسليمَ الفطر، فذبحوها على عتبات الوثنية, وغمسوها في لُجج الجاهلية، فاستزرعوا الأصنامَ في جنبات الحرَم, وغيّبوا العقول في متاهات الظُّلَم.
وهكذا انطمست أنوار الرسالة السماوية، وتلاعب الشيطان ببني آدم، فاشتدّت حاجة أهلِ الأرض إلى بعثة نبيّ رسول من عند الله، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأدركتهم رحمةُ أرحم الراحمين، فكانت بعثة محمّد خاتم النبيين وسيّد المرسلين، فأشرقت به الأرض بعد ظلماتها، واجتمعت عليه الأمّة بعد شتاتها، وجاء الإسلام العظيمُ يحمل للبشرية كلَّ خير ويزيح عنها كلَّ شرّ )
كما لايفوتنا ذلك التقديم الرائع لخطبة الأمم المتحدة وكيف أتى بها الشيخ بتسلسل بارع :
(في منتصَفِ القرن الماضي وحينَ وَضَعَتِ الحروب العالمية أوزارَها وحين عضّت الحروب الأمميّة والأهلية الغربَ وذاقوا أُوارَها أورثهم ذلك كلُّه قناعاتٍ أن لا سيرَ لركب الحضارةِ ولا اندفاعَةَ في سبيل التقدُّم العلميّ ولا رفاهية تنشدُها الشعوب وطلقاتُ النارِ تُسمَع هنا وهناك والمدافعُ تحمِل إلى جَنَبات الأرض الهلاكَ، لا يمكِن لبيتٍ أن يخرِّج عالمًا أو لدارٍ أن تنتِج باحثًا ولا لبلدٍ أن ينشد رقيًّا وأنت ترَى في زواياه نواحًا وقتيلاً وبكاء على شجر كان مثمِرًا وظليلا وبيتٍ كان مشيَّدًا وكان جميلاً. حينئذٍ تنادى عقلاؤهم وتداعى حُكماؤهم لإنشاء منظمات وهيئاتٍ ومجالسَ وجمعيات، وسَعَوا في وضع عهودٍ وعقود ومواثيقَ وبنود تكفل للمنتَمي إليها الأمان وتَعِدُ المنضمَّ إليها النصرةَ على نوائبِ الزمان وعدوان الأباعدِ وطمَعِ الجيران، ودخلَت الدوَل العربيّة والمسلمة في كثير من تلك المنظمات والهيئات، تنشد ما يَرنو له غيرها من الأماني والاستِقرار، راغبةً مشاركةَ الإنسانيّة أمنَها وحَضارَتها )
وهذه الخطبة كاملة لا خسارة في قراءتها :
ولا أروع من هذا الوصف لحياة العرب بل الشعوب قبل الإسلام حينما وصفها الشيخ آل طالب قائلا :
(
شُعُوبُ الأرض هَيئاتٌ وألوان وألسُنٌ ولُغات وثَقافَة وحَضارات، تلتقي تارةً فتَتلاقَح، وتَصطَرِع تاراتٍ فتتناطَح، ولقد كان العربُ قبلَ الإسلام أمّةً تائهةً في عقيدتها مفكَّكةً في أواصرِها متناحِرَةً متقاتِلَة، لا يجمعهم سلطانٌ ولا دولة، ولم تكن لهم رِسالة بين الأمَمِ، تدوم الحربُ أربعين عامًا لأجل ناقةِ البَسوس، ويُقتَل الأُلوف منَ الناسِ في حربٍ ضَروس لأجل فرَسٍ تسمَّى داحِسًا، وكانت الحياةُ شبكةً محبوكةً من تِراتٍ وثارَات، فشَت حبائلُها في القبائل، وحملت المعيشةُ القاسِيَة والطمَع والجشَع والأحقادُ والاستهانة بالدِّماء حمَلتِ الناسَ على الفتك والسَّلب، وأصبحت أرضُ الجزيرةِ كِفَّة حَابِل، لا يدرِي الإنسانُ متى يُغتال وأين يُنهَب.
يَئدون البناتِ ويقترِفون المحرَّمات، يشرَبون الخمرَ ويأكلون الرِّبا، ولم تكن الأممُ الأخرى أسعَدَ حظًّا ولا أحسَن حالاً بالرغمِ من تفوُّقها في حرثِ الدنيا وعِمارتها وانتظامِ مُلكها وسُلطانها، إلا أنَّ الظلمَ والفسادَ غَاشٍ عليها، فمَا بَين الشرقِ والغرب شَقِيَت أممٌ في حضاراتِها، وظلَمَ الإنسانُ فيها أخاه الإنسان واستعبَدَه وسلَبَ حرّيتَه وجعله عبدًا للأسياد، تارةً باسم الدين، وتارة باسم الآلهةِ، وتارة بقوّة الحديد والنار، مع حروب جائرةٍ بين جيوشٍ هائلة منظّمة، تطحَن الأرواحَ وتبيد الآلافَ وتهلك الحرثَ والنّسل؛ لأنَّ الإنسانَ تَاهَ عن شِرعةِ السماءِ، ففي اللَّحظةِ التي سبَقَت بعثةَ محمّدٍ
كانَتِ الأممُ قد تدلَّت إلى قاعٍ لا تستقيمُ معه حياةٌ.)
وهنا يتحدث الشيخ صالح آل طالب عن حاجة الأمم إلى القيم والمبادىء السامية بقوله :
(
في زمن الإحباط واليأس، في سنواتِ الشدّة والبأس، في عصر تقلُّبات القيَم والموازين، وفي أوقاتِ نَكس المبادئ والمفاهيم، في ساعات قعققةِ السّلاح واسترخاص المُهَج والأرواح، في زمنِ قهرِ الأقوياء للضعفاء واستطالة الأغنياء على الفقراء وتعالي المجدودين على التُعسَاء، في موج هذه الحضارة ولُجَجِها، ما أحوجَ الأممَ إلى أن يرسوَ مركبُ حضارتِها على ضِفاف المبادئ النبيلة، ويستوي فلكُها على جوديّ القيَم السامية الجميلة، فتضمَّد على تلك الضفاف المواجعُ والجروح، وتتسامى بنبيل الصفاتِ النفس والروح. ما أحوجَ الأممَ إلى أن يستدركوا نقصَ حضارتِهم ويبحثوا عن الخللِ الذي لحِق بحياتهم. قد آن لهم أن يتساءلوا: من أين أُتوا؟ وكيف أشقَوا بهذه الحضارة وشقُوا؟ كيف أراحت الجسدَ وأتعبتِ الروح؟ ولماذا تغدو الهموم على حياتهم ولا تروح؟ أسئلةٌ شتى وما مِن جواب إلا مَن رفع بصرَه للسماء، فيجد الجواب، وفي التنزيل:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ
قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً
قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ءايَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ
[طه:124-126].
لما استُلِب من الحضارة لبُّها وفقدت روحَها وجوهرَها، لما غُيِّبت كثير من القيَم والأخلاق، حينئذ جفّت الحياة وصوَّح نبتها، واكتأبت النّفوس وعلا بثُّها .. )
ثم لايفوتنا هذا الوصف الساحر والأسلوب الباهر في هذه الجمل للشيخ آل طالب وحتى لا أكون مبالغا فلن أتحدث عنها كما هي الكلمات عن نفسها تتحدث .. لقد وقفت عندها طويلا ممعن النظر والتأمل فيها فأجد ذوقي يتقاصر دونها يقول فضيلته :
( في اللحظة التي سبقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت الأمم تدلت إلى قاع لا تستقيم معه حياة .. و لم تكن هناك أمة صالحة المزاج ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ولا دولة مؤسسة على العدل والرحمة ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء إلا بقايا من نور خافت ضعيف منزو في دير أو كنيسة لا يخترق الظلام ولا ينير السبيل. وهو عالم مفكك وقبائل متناحرة وشعوب مستعبدة ومواهب ضائعة وبلاد تتسكع في الجهل والضلالات تائهة في بحار من الظلم والظلمات .)
وإليك كلمات تكتب بمداد من نور :
(إن حرثَ الدنيا وعلومَها أمر مشتَرَك بين شعوبِ الأرض من شرقها لغربِها، لكنَّ رسالةَ هذه الأمة من نوعٍ آخر، لا قيام لها بدونه، ولا سعادةَ للبشرية إلا بهديِه، إنها رسالةُ السماء ودين الله ) (إنَّ دين الإسلامِ ليس ضمانًا للآخرة فحسب، بل هو سببُ بقاء الأمّة في الأرض وإثبات هويتِها، وإلاّ فليست بشيء دونَه. ) (لسنا أوّلَ أمةٍ ابتُلِيت وفُرِض عليها أن تكافحَ لتحيا كما تريد، وإنَّ الهزيمة تجيء من داخلِ النفس قبل أن تجِيء من ضغوطِ الأعداء.)
بلاغة وأسلوب متناهيان وحبك وسبك لمنظومة الخطابة في عقد يتلألأ نورا وإشعاعا يأخذ بالألباب ..
ناهيك عن اهتمام الغرب بخطب الشيخين : صالح بن حميد وصالح بن طالب لما فيهما من مخاطبة مراكز الغرب المهتمة بشؤون الشعوب ..
وسأنقل لكم ماقاله الشريف محمد الصمداني عن خطبة الشيخ آل طالب في آل البيت :
( لقد أحسن فضيلته الربط بين فقرات الخطبة و أحسن الوصول إلى ما يريد ، .. من الناس مَن المعاني حاضرة عنده لكن قافلة الألفاظ لا تسعفه ، فرواحلها في كل واد تهيم ! و من الناس من الألفاظ بعتبة داره و تحت دثاره ..لكنه أضاع مفتاح دولاب المعاني !
و إني أرى أن الله قد وفق فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب للوصول إلى شاطيء بعيد في بحر لجي بعبارات و ألفاظ كانت عدته ... و وراء ذلك جيشٌ يلتهب من المعاني يصيح بتلك الألفاظ ..
عباراتنا شتى و حسنك واحد ... و كلٌ إلى ذاك الجمال يشير )
وجهة نظر أبديتها مدعومة بمسبباتها وأدلتها .. دون تدخل العواطف والمؤثرات فيها .. علما بأني متابع وبشغف لخطب الحرم المكي خصوصا منذ أكثر من 25 عاما .. حتى لا أتهم بتحيز أو تعصب أو تعنصر .. والله على ما أقول شهيد .. رغم تحفظي الشديد على خطباء الحرم الباقين في أسلوب الطرح والاهتمام بالألفاظ الغريبة أو السجع المتكلف مما يضعف الأسلوب ويغرب بالمعاني فلاتصل الخطبة إلى المستمعين إلا بعد فقدها للمعنى المراد أو على الأقل فقدت جزءا كبيرا من المعنى فتكون باهتة ضعيفة لاروح فيها .. وأستثني منهم فضيلة الشيخ صالح بن حميد