- 22 يوليو 2008
- 16,039
- 146
- 63
- الجنس
- أنثى
- علم البلد
-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أفلا ينظرون إلى الإبل..؟!
كلما قرأت في صلاتي: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت} [الغاشية:17]، أو قرأت القرآن متأملاً.. هاتفت نفسي: هل في هذا الحيوان ما يستحق أن يُفرد بالذكر عن غيره؟! أي إنه مثال على عظمة الخالق يَندب القرآن إلى تأمله، والتعرف على ما فيه من صفات فاقت غيره كآية من آيات الله الدالَّة على قدرته.. أم هو مثال من البيئة العربية عُرف بمزاياه وصفاته ومنافعه وقربه من العربي، حتى صار لا غنى له عنه.. فيكون المثال من الواقع المحسوس، لتقدم الحجة، ويستقيم المثال.. على ضرب من الواقعية المحمودة؟!
الرأي الباديه أنه من البيئة العربية.. وإن لم يقتصر الأمر على ذلك، بل جرى الحديث عن قدرات هذا الحيوان.. كما فعل ابن كثير في تفسيره حيث قال: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت}.. فإنها خلق عجيب، وتركيبها غريب؛ فإنها في غاية الشدة والقوة، وهي مع ذلك تنقاد للقائد الضعيف وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها، ونبهوا بذلك لأن العرب غالبية دوابهم كانت الإبل. ا.هـ
ولكن العلم الحديث يكشف لنا من كمال الصنعة الإلهية في هذا الحيوان الأعاجيب، دالة على تفرده في الصفات والبناء البيولوجي.. ما يوافق هذا التنبيه الإلهي.. إلى الإبل كيف خلقت!
وترجع دراسة الإبل دراسة علمية إلى الزوجين (نت وبودل شميت نلسن) قاما بها في الصحراء الكبرى (1975م)، وللمؤلفين (لورس ميلن ومارجري ميلن) كتاب عن الماء والحياة به فصل عن الجمال (1966م).
سألت جمّالاً في القرية التي كنت أعمل فيها -وقد رأيته صباحاً ينحدر عن جمله وينيخه أمام البَقَّالة التي بكَّرتُ إليها أشتري بعض حاجتي منها-: كأنك كنتَ نائماً؟!
قال: نعم.. صليتُ العشاء وحمَّلت البعير وركبت.. وعندما استوى قائماً، طويت لجامه على رقبته.. وتكوَّمت وجعلت غطائي عليَّ.. وأمرته بالمسير.. ولم أصح إلا قبل أن تراني بدقائق!!
كانت الرحلة تزيد عن (25) كيلومتراً.. وقد نام صاحبنا وبقي الجمل يسير عارفاً طريقه، غير آبه، إلى أن وصل غايته، كما اعتاد على ذلك!
شجاعة وذكاء.. يعجز عنهما بعض بني آدم! تلك بعض خصائص هذا المخلوق العجيب، الذي سخَّره الخالق العظيم لخدمة الإنسان!
الخصائص الموروفولوجية (الخارجية) للإبل:
إذا نظرتَ إلى الجمل منتصباً؛ راعك منه هذا الجسم الضخم.. فيلقي في نفسك مهابة له! وإذا نظرت إلى خفِّه؛ وجدت كيساً طريّاً ممتلئاً من الجلد كمخدة لا تغوص في الرمال أبداً.. بل يسير بها واثقاً لا يأبه لشيء!! لذلك سمَّته العرب: (سفينة الصحراء).. فكان فعلاً سفينتها التي لا تعرف الغرق، ولا تأبه لجفافها، ولا لندرة الماء فيها، ولا الخوف من وحوشها!
وجعلت له مخدة في بطنه (الكلكل) تحمل ثقله إذا برك، وسنام من دهن، أو سنامين.. كما في جِمال وسط آسيا. وإذا نظرت إلى رأسه وجدته ضخماً.. تأخرت فيه العينان والأذنان، ووجدت فماً يلملم النباتات الشوكية.. لا يخاف منها ولا يعيرها أدنى التفاتة!!
والجِمال منها ما يحمل الأثقال ويقطع بها (50) أو (60) كيلومتراً في اليوم، ومنها الرواحل المضمرة الأجسام، وقد تقطع في اليوم (150) كيلومتراً. ويستطيع ابن (4) سنوات منها أن يحمل الأثقال.. ويبقى كذلك حتى يبلغ الثلاثين!!
الصبر على الجوع والعطش!
تتميز البيئة الصحراوية بندرة الماء والغذاء فيها، لذا كان الجمل فارسها الذي يغالب الجوع والعطش، ويصبر عليهما حتى تتوافر الظروف المناسبة!
وهاتان الصفتان تعتمدان على بعض الظروف الخارجية كدرجة الحرارة والرطوبة والحمل والإجهاد الذي يتعرض له الجمل، والعوامل الداخلية وهي الأعجب والأغرب!
والجمل يتناول طعامه الجاف.. ويتناول طعاماً (رطباً طريّاً) خاصة بعد أمطار الشتاء.
وتقرض الطعام أسنان قوية، ثم يدخل الطعام إلى معدته.. وهي من غرف ثلاث وليس أربع. ثم يجتر هذا الطعام في الوقت المناسب! وفي معدة الجمل كميات كبيرة من البكتيريا والبرتوزوا (الحيوانات الأولية) تساعده على هضم السليولوز الموجود في طعامه النباتي.. ولولا تلك الكائنات الدقيقة فإن الجمل لا يستطيع أن يستفيد من ذلك الطعام!
ويصبر الجمل على العطش شهرين متتاليين، إذا كان طعامه طريّاً بعد أمطار الشتاء. وإذا كان الطعام جافّاً يابساً فإنه يحتمل العطش أسبوعين كاملين!
وفي مقارنة بين الجمل والإنسان في أثر الظمأ على كلٍّ منهما، نجد الحقائق التالية:
عندما تصبر الإبل على العطش لمدة أسبوعين؛ فإنها تصاب بالضعف والهزال.. وقد تفقد ربع وزنها في تلك المدة! وقد لاحظ (شميت نيلسن) أن جملاً قد فقد (100) كيلوغرام في ثمانية أيام، وعندما وجد الماء شرب منه (100) لتر في (10) دقائق.. وبذلك استرجع ما خسره!
ولكن إذا تعرض الإنسان للعطش، لا يتم إنقاذه بمثل ذلك، بل يُسقى الماء بالتدريج.. اتقاء لتغير نسبة الماء في دم الإنسان.. التي لا تحتمل التغير المفاجئ في دمه؛ لأن ذلك يودي بحياته، بعكس الفعل في جسم الجمل!
وللجمل ميزة على الإنسان في نوع الماء الذي يجده؛ ذلك أن الجمل الظمآن يستطيع أن يطفئ عطشه بالماء المالح أو المر، أما الإنسان الظمآن فلا يستطيع شرب الماء المالح! ويرجع قبول الماء المالح لأن الكلية تستطيع أن تخرج الأملاح من دم البعير وتطرحها إلى الخارج.
ومثل باقي الحيوانات، فإن الجمل يختزن الزائد من طعامه وشرابه في جسمه؛ ففي السنام يختزن الطعام على شكل دهن. والماء يختزن في جميع أجزاء الجسم، وفي كرشه (الغرفة الأولى من معدته) هناك غريفات صغيرة تختزن فيها الماء بمقدار سبع لترات.. وهذا الماء يساعد في عملية الهضم.
العناية في استخدام الماء!
يتميز الجمل عن غيره بعنايته الفائقة في اقتصاد استخدام الماء، فيحرص على أن يخرجه من جسمه بأقل مقدار. وقد جاء ذلك كله من استعداد بنائي وظيفي جعله الله في هذا الحيوان انسجاماً مع بيئته!!
يمتاز الجمل بأنه لا يتنفس من فمه، ولا يلهث أبداً مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، ولا يعرق الجمل إلا بمقدار ضئيل جدّاً! وهذا يعني أنه يتجنب تبخر الماء من جسمه.
وإخراج الماء من جسم الإنسان أو الحيوان يرتبط بإخراج (البولينا) الذائبة في الماء من الجسم.. والبولينا (اليوريا) في الجمل تفرزها بطانة المعدة.. ووجودها في المعدة يمد الكائنات الدقيقة هناك والتي تساعد في هضم (السليلوز) بمادة عضوية نيتروجينية لازمة لها، وما يتبقى منها يخرج مع البراز دون حاجة إلى الماء.. وبذلك يتوفر الماء!
وكذلك، فإن الكلية تتحرر لأداء أعباء مثل: رد الماء إلى الدم ليخرج البول مركَّزاً.. وتساعد أيضاً في طرد الأملاح الزائدة عندما يضطر الجمل لشرب الماء المالح!
إذا كان الجمل يقتصد إلى هذا الحد في استخدام الماء، ويتحمل الظمأ الشديد، فماذا يجني من ذلك؟
يساعد ذلك في الاستمتاع بآلية التبريد والتكيّف التي تخفف عنه شدة الحر! ولفهم هذه الحقيقة لا بد من شرح لهذه الآلية.. فالجمل ذو جسم ضخم، وكلما زاد حجم الجسم قلت نسبة السطح الخارجي إليه. والنسبة هي: (ناتج قسمة مساحة السطح الخارجي على حجم الجسم)، وهكذا كلما كبر الحجم؛ فإن ناتج هذه القسمة يكون أقل.. وهذا يعني: أن ما يمتصه جسم الجمل من الحرارة من حوله أقل مما تمتصه الأجسام الأصغر منه كالإنسان أو الفأر!
والحرارة الممتصة تستدعي كمية من العرق تناسبها للتخلص منها، وقد تبين أن الجمل يحتاج إلى إخراج نصف كمية الماء التي يخرجها الإنسان.. وهذه الحقيقة هي التي تُلجئ الحيوانات الصغيرة إلى الاحتماء بجحورها من حر الصيف الشديد!
وضبط الحرارة في أجسام الإبل أمر في غاية الروعة! والإبل من ذوات الدم الحار؛ أي إن درجة حرارة أجسامها لا تستجيب للتغيرات في الحرارة إلا بمقادير ضئيلة جدّاً. لكن هذا يكلف الجسم كثيراً من عمليات التبريد صيفاً والتدفئة شتاءً!
كيف تعمل هذه الآلية؟!
فالجهاز يعمل إذا كان الجمل رياناً.. فلا تتفاوت حرارة جسم الجمل بين نهار الصحراء الحارق وليلها القارس إلا في حدود درجتين، أما إذا عطش الجمل واشتد الحر.. عُدِّلت حركة تنظيم الحرارة في المخ من مسلكه؛ فأبدى كثيراً من التساهل حتى يصبح الفرق سبع درجات مئوية! وهذا يعني أن الجمل يحتمل درجة حرارة تصل إلى (41م)، وفي المساء يتخلص الجمل من هذه الحرارة بالإشعاع إلى هواء الليل.. دون أن يفقد قطرة من ماء! وهذا الإجراء يوفر للبعير (5) لترات من الماء!
الصمود المذهل!
لقد وضع الجمل في ظروف غير طبيعية؛ لفهم قدرته على التعامل مع تلك الظروف. فإذا تعمدنا وضعه في ظروف بالغة القسوة بأن منعناه من شرب الماء، ثم جززنا فروة جلده، وتركناه طيلة النهار في هجير الصحراء اللافح، ثم حرمناه من ليلها البارد.. بأن حبسناه في مكان مغلق دافئ؛ فإنه سيصمد أمام هذا التحدي صموداً مذهلاً؛ إذ تثبت كفاءة أجهزته الوظيفية الخارقة.. استهلاك الماء في صورة عرق وبول وبخار ماء مع هواء الزفير حتى يفقد ربع وزن جسمه.. دون تبرم أو شكوى!
لقد جاء الجمل بهذا الماء المستنفذ من أنسجة جسمه، ولم يأخذ من ماء دمه إلا جزءاً قليلاً لا يُذكر.. وهكذا فإن الدم يستمر سائلاً جارياً.. موزعاً للحرارة ومبدداً لها من سطح الجسم!!
وإذا ما قارنّا ذلك بالإنسان اتضحت لنا تلك الحقيقة.. فأخطر ما يعانيه الإنسان الظمآن هو أن نسبة الماء في دمه تقل حتى يغلظ ويبطئ دورانه؛ فلا تتوزع الحرارة في أنسجة الجسم وخاصة الدماغ؛ فيكون في ذلك حتفه!
وهكذا وجدنا أن الجمل حيوان صابر، يؤدي دوراً في حياة الإنسان بكفاءة عالية منقطعة النظير، وهو يصبر على الجوع والعطش، بما لا يقدر عليه الإنسان!!
يقول تعالى في الأنعام -ومنها الجمال-:
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُم ممَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُون .
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُون} [المؤمنون: 21-22].
وقال سبحانه في (البُدن) -وهي الجمال العظيمة من قرابين النحر-: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [الحج:36].
ولا زالت الإبل تثير الدهشة والإعجاب.. وتبارك الله أحسن الخالقين..
مصطفى محمود الهديب
أفلا ينظرون إلى الإبل..؟!
كلما قرأت في صلاتي: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت} [الغاشية:17]، أو قرأت القرآن متأملاً.. هاتفت نفسي: هل في هذا الحيوان ما يستحق أن يُفرد بالذكر عن غيره؟! أي إنه مثال على عظمة الخالق يَندب القرآن إلى تأمله، والتعرف على ما فيه من صفات فاقت غيره كآية من آيات الله الدالَّة على قدرته.. أم هو مثال من البيئة العربية عُرف بمزاياه وصفاته ومنافعه وقربه من العربي، حتى صار لا غنى له عنه.. فيكون المثال من الواقع المحسوس، لتقدم الحجة، ويستقيم المثال.. على ضرب من الواقعية المحمودة؟!
الرأي الباديه أنه من البيئة العربية.. وإن لم يقتصر الأمر على ذلك، بل جرى الحديث عن قدرات هذا الحيوان.. كما فعل ابن كثير في تفسيره حيث قال: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت}.. فإنها خلق عجيب، وتركيبها غريب؛ فإنها في غاية الشدة والقوة، وهي مع ذلك تنقاد للقائد الضعيف وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها، ونبهوا بذلك لأن العرب غالبية دوابهم كانت الإبل. ا.هـ
ولكن العلم الحديث يكشف لنا من كمال الصنعة الإلهية في هذا الحيوان الأعاجيب، دالة على تفرده في الصفات والبناء البيولوجي.. ما يوافق هذا التنبيه الإلهي.. إلى الإبل كيف خلقت!
وترجع دراسة الإبل دراسة علمية إلى الزوجين (نت وبودل شميت نلسن) قاما بها في الصحراء الكبرى (1975م)، وللمؤلفين (لورس ميلن ومارجري ميلن) كتاب عن الماء والحياة به فصل عن الجمال (1966م).
سألت جمّالاً في القرية التي كنت أعمل فيها -وقد رأيته صباحاً ينحدر عن جمله وينيخه أمام البَقَّالة التي بكَّرتُ إليها أشتري بعض حاجتي منها-: كأنك كنتَ نائماً؟!
قال: نعم.. صليتُ العشاء وحمَّلت البعير وركبت.. وعندما استوى قائماً، طويت لجامه على رقبته.. وتكوَّمت وجعلت غطائي عليَّ.. وأمرته بالمسير.. ولم أصح إلا قبل أن تراني بدقائق!!
كانت الرحلة تزيد عن (25) كيلومتراً.. وقد نام صاحبنا وبقي الجمل يسير عارفاً طريقه، غير آبه، إلى أن وصل غايته، كما اعتاد على ذلك!
شجاعة وذكاء.. يعجز عنهما بعض بني آدم! تلك بعض خصائص هذا المخلوق العجيب، الذي سخَّره الخالق العظيم لخدمة الإنسان!
الخصائص الموروفولوجية (الخارجية) للإبل:
إذا نظرتَ إلى الجمل منتصباً؛ راعك منه هذا الجسم الضخم.. فيلقي في نفسك مهابة له! وإذا نظرت إلى خفِّه؛ وجدت كيساً طريّاً ممتلئاً من الجلد كمخدة لا تغوص في الرمال أبداً.. بل يسير بها واثقاً لا يأبه لشيء!! لذلك سمَّته العرب: (سفينة الصحراء).. فكان فعلاً سفينتها التي لا تعرف الغرق، ولا تأبه لجفافها، ولا لندرة الماء فيها، ولا الخوف من وحوشها!
وجعلت له مخدة في بطنه (الكلكل) تحمل ثقله إذا برك، وسنام من دهن، أو سنامين.. كما في جِمال وسط آسيا. وإذا نظرت إلى رأسه وجدته ضخماً.. تأخرت فيه العينان والأذنان، ووجدت فماً يلملم النباتات الشوكية.. لا يخاف منها ولا يعيرها أدنى التفاتة!!
والجِمال منها ما يحمل الأثقال ويقطع بها (50) أو (60) كيلومتراً في اليوم، ومنها الرواحل المضمرة الأجسام، وقد تقطع في اليوم (150) كيلومتراً. ويستطيع ابن (4) سنوات منها أن يحمل الأثقال.. ويبقى كذلك حتى يبلغ الثلاثين!!
الصبر على الجوع والعطش!
تتميز البيئة الصحراوية بندرة الماء والغذاء فيها، لذا كان الجمل فارسها الذي يغالب الجوع والعطش، ويصبر عليهما حتى تتوافر الظروف المناسبة!
وهاتان الصفتان تعتمدان على بعض الظروف الخارجية كدرجة الحرارة والرطوبة والحمل والإجهاد الذي يتعرض له الجمل، والعوامل الداخلية وهي الأعجب والأغرب!
والجمل يتناول طعامه الجاف.. ويتناول طعاماً (رطباً طريّاً) خاصة بعد أمطار الشتاء.
وتقرض الطعام أسنان قوية، ثم يدخل الطعام إلى معدته.. وهي من غرف ثلاث وليس أربع. ثم يجتر هذا الطعام في الوقت المناسب! وفي معدة الجمل كميات كبيرة من البكتيريا والبرتوزوا (الحيوانات الأولية) تساعده على هضم السليولوز الموجود في طعامه النباتي.. ولولا تلك الكائنات الدقيقة فإن الجمل لا يستطيع أن يستفيد من ذلك الطعام!
ويصبر الجمل على العطش شهرين متتاليين، إذا كان طعامه طريّاً بعد أمطار الشتاء. وإذا كان الطعام جافّاً يابساً فإنه يحتمل العطش أسبوعين كاملين!
وفي مقارنة بين الجمل والإنسان في أثر الظمأ على كلٍّ منهما، نجد الحقائق التالية:
عندما تصبر الإبل على العطش لمدة أسبوعين؛ فإنها تصاب بالضعف والهزال.. وقد تفقد ربع وزنها في تلك المدة! وقد لاحظ (شميت نيلسن) أن جملاً قد فقد (100) كيلوغرام في ثمانية أيام، وعندما وجد الماء شرب منه (100) لتر في (10) دقائق.. وبذلك استرجع ما خسره!
ولكن إذا تعرض الإنسان للعطش، لا يتم إنقاذه بمثل ذلك، بل يُسقى الماء بالتدريج.. اتقاء لتغير نسبة الماء في دم الإنسان.. التي لا تحتمل التغير المفاجئ في دمه؛ لأن ذلك يودي بحياته، بعكس الفعل في جسم الجمل!
وللجمل ميزة على الإنسان في نوع الماء الذي يجده؛ ذلك أن الجمل الظمآن يستطيع أن يطفئ عطشه بالماء المالح أو المر، أما الإنسان الظمآن فلا يستطيع شرب الماء المالح! ويرجع قبول الماء المالح لأن الكلية تستطيع أن تخرج الأملاح من دم البعير وتطرحها إلى الخارج.
ومثل باقي الحيوانات، فإن الجمل يختزن الزائد من طعامه وشرابه في جسمه؛ ففي السنام يختزن الطعام على شكل دهن. والماء يختزن في جميع أجزاء الجسم، وفي كرشه (الغرفة الأولى من معدته) هناك غريفات صغيرة تختزن فيها الماء بمقدار سبع لترات.. وهذا الماء يساعد في عملية الهضم.
العناية في استخدام الماء!
يتميز الجمل عن غيره بعنايته الفائقة في اقتصاد استخدام الماء، فيحرص على أن يخرجه من جسمه بأقل مقدار. وقد جاء ذلك كله من استعداد بنائي وظيفي جعله الله في هذا الحيوان انسجاماً مع بيئته!!
يمتاز الجمل بأنه لا يتنفس من فمه، ولا يلهث أبداً مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، ولا يعرق الجمل إلا بمقدار ضئيل جدّاً! وهذا يعني أنه يتجنب تبخر الماء من جسمه.
وإخراج الماء من جسم الإنسان أو الحيوان يرتبط بإخراج (البولينا) الذائبة في الماء من الجسم.. والبولينا (اليوريا) في الجمل تفرزها بطانة المعدة.. ووجودها في المعدة يمد الكائنات الدقيقة هناك والتي تساعد في هضم (السليلوز) بمادة عضوية نيتروجينية لازمة لها، وما يتبقى منها يخرج مع البراز دون حاجة إلى الماء.. وبذلك يتوفر الماء!
وكذلك، فإن الكلية تتحرر لأداء أعباء مثل: رد الماء إلى الدم ليخرج البول مركَّزاً.. وتساعد أيضاً في طرد الأملاح الزائدة عندما يضطر الجمل لشرب الماء المالح!
إذا كان الجمل يقتصد إلى هذا الحد في استخدام الماء، ويتحمل الظمأ الشديد، فماذا يجني من ذلك؟
يساعد ذلك في الاستمتاع بآلية التبريد والتكيّف التي تخفف عنه شدة الحر! ولفهم هذه الحقيقة لا بد من شرح لهذه الآلية.. فالجمل ذو جسم ضخم، وكلما زاد حجم الجسم قلت نسبة السطح الخارجي إليه. والنسبة هي: (ناتج قسمة مساحة السطح الخارجي على حجم الجسم)، وهكذا كلما كبر الحجم؛ فإن ناتج هذه القسمة يكون أقل.. وهذا يعني: أن ما يمتصه جسم الجمل من الحرارة من حوله أقل مما تمتصه الأجسام الأصغر منه كالإنسان أو الفأر!
والحرارة الممتصة تستدعي كمية من العرق تناسبها للتخلص منها، وقد تبين أن الجمل يحتاج إلى إخراج نصف كمية الماء التي يخرجها الإنسان.. وهذه الحقيقة هي التي تُلجئ الحيوانات الصغيرة إلى الاحتماء بجحورها من حر الصيف الشديد!
وضبط الحرارة في أجسام الإبل أمر في غاية الروعة! والإبل من ذوات الدم الحار؛ أي إن درجة حرارة أجسامها لا تستجيب للتغيرات في الحرارة إلا بمقادير ضئيلة جدّاً. لكن هذا يكلف الجسم كثيراً من عمليات التبريد صيفاً والتدفئة شتاءً!
كيف تعمل هذه الآلية؟!
فالجهاز يعمل إذا كان الجمل رياناً.. فلا تتفاوت حرارة جسم الجمل بين نهار الصحراء الحارق وليلها القارس إلا في حدود درجتين، أما إذا عطش الجمل واشتد الحر.. عُدِّلت حركة تنظيم الحرارة في المخ من مسلكه؛ فأبدى كثيراً من التساهل حتى يصبح الفرق سبع درجات مئوية! وهذا يعني أن الجمل يحتمل درجة حرارة تصل إلى (41م)، وفي المساء يتخلص الجمل من هذه الحرارة بالإشعاع إلى هواء الليل.. دون أن يفقد قطرة من ماء! وهذا الإجراء يوفر للبعير (5) لترات من الماء!
الصمود المذهل!
لقد وضع الجمل في ظروف غير طبيعية؛ لفهم قدرته على التعامل مع تلك الظروف. فإذا تعمدنا وضعه في ظروف بالغة القسوة بأن منعناه من شرب الماء، ثم جززنا فروة جلده، وتركناه طيلة النهار في هجير الصحراء اللافح، ثم حرمناه من ليلها البارد.. بأن حبسناه في مكان مغلق دافئ؛ فإنه سيصمد أمام هذا التحدي صموداً مذهلاً؛ إذ تثبت كفاءة أجهزته الوظيفية الخارقة.. استهلاك الماء في صورة عرق وبول وبخار ماء مع هواء الزفير حتى يفقد ربع وزن جسمه.. دون تبرم أو شكوى!
لقد جاء الجمل بهذا الماء المستنفذ من أنسجة جسمه، ولم يأخذ من ماء دمه إلا جزءاً قليلاً لا يُذكر.. وهكذا فإن الدم يستمر سائلاً جارياً.. موزعاً للحرارة ومبدداً لها من سطح الجسم!!
وإذا ما قارنّا ذلك بالإنسان اتضحت لنا تلك الحقيقة.. فأخطر ما يعانيه الإنسان الظمآن هو أن نسبة الماء في دمه تقل حتى يغلظ ويبطئ دورانه؛ فلا تتوزع الحرارة في أنسجة الجسم وخاصة الدماغ؛ فيكون في ذلك حتفه!
وهكذا وجدنا أن الجمل حيوان صابر، يؤدي دوراً في حياة الإنسان بكفاءة عالية منقطعة النظير، وهو يصبر على الجوع والعطش، بما لا يقدر عليه الإنسان!!
يقول تعالى في الأنعام -ومنها الجمال-:
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُم ممَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُون .
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُون} [المؤمنون: 21-22].
وقال سبحانه في (البُدن) -وهي الجمال العظيمة من قرابين النحر-: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [الحج:36].
ولا زالت الإبل تثير الدهشة والإعجاب.. وتبارك الله أحسن الخالقين..
مصطفى محمود الهديب