إعلانات المنتدى


المقاصد الثلاثة

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المقاصد الثلاثة

خلق الله سبحانه الخَلْقَ على استعدادات وهيئات وكيفيات مختلفة متفاوتة.. ومع هذا الاختلاف والتفاوت إلا أن الخلق يشتركون في أصل الخلق ومفاصل الاستعداد..

وجرت حكمته عز وجل بأن أنزل الكتب، وبعث الرسل منذرين ومبشرين، يخاطبون الناس من حيث هم ليوصلوهم إلى مراد الله فيهم؛ ألا وهو الخلافة عنه بعمارة الأرض حسّاً ومعنى، وهذا هو كمال العبودية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

والأطر التي يتحرك فيها هذا الكائن المستخلف رقيّاً منطلقاً من إمكاناته ومكوناته هي: اجتهاده على قلبه، واجتهاده على عقله، واجتهاده على الآخر من سواه.

فأعظم الآمال، وأرسخ الآجال، هي تكميل النفس، وتكميل الغير.. ولعمري سبق أناس أولعوا بطلب الكمالات، ومنهم من قاربها، ومنهم من عاينها.. فالكمال عنوان ارتقاء في الدار العاجلة، ومحل سعادة في الدار الآجلة، وما في غرفات الجنة ومنازلها إلا تظهير وتنجيز لرتب أصحاب الكمالات وتفاوتهم في ذلك.

ولو قلَّبنا النظر في آي الذكر الحكيم لوجدنا خطاب الحق سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم في هذه المقاصد في سورة (محمد) إذ يقول تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]. فالمقاصد إذاً هي: العلم بالله، والاستغفار من الذنوب للنفس، وكذا لعموم المؤمنين والمؤمنات.

فغاية المرء -في اجتهاده على عقله- طلب كل علم يقربه إلى الله ويجعله محل نظره فيلحظه ويكمل حظه، وإن كانت علوم الشرع الدينية في قدرها الضروري تبني الفرد؛ فإن العلوم الكفائية من سواها تبني الأمة.. واستغفار المرء لذنبه هو أبرز عنوان في احتياجه لتطهير نفسه مع كل عيب وزلل، بل السعي لتحليتها وتزكيتها بصفي الصفات، وخالص الخلال الطيبات.. ولا يتوقف هذا الاستغفار والتزكية عند حدود الذات، بل يتعداها ويجاوزها إلى كل مؤمن ومؤمنة تكميلاً لهم وتوجيهاً ونصحاً وإرشاداً، وهذا يرتبط ببسط الهداية لسائر أهل الأرض: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].

هي إذن ثلاثية: (العلم والتربية والدعوة).. هذه هي القاعدة الأساسية، والسياسات الأولوية، في بناء المرء ذاته وإدراك مهمته..

وقبل الكلام عن مسالك الترقي والبناء فيها بالتوازي مع التوازن؛ فإنه لا بد من إدراك حقيقة الأخذ بهذه المقاصد الثلاثة ومعناه ومظاهره..

يتشكل الأخذ بهذه المقاصد الثلاثة من خلال طلب حقيقتها مع صورتها، وإلا فما قولنا في أن أول من تُسَعَّر بهم النار: قارئ ومجاهد ومتصدق.. أخذوا بهذه الرسوم طلباً لوجوه الخلق، والتفاتاً لمتاع زائل، وما أرادوا بها إلا مماراة العلماء، ومجاراة السفهاء..

ففي يوم الفصل تسقط جميع الصور أمام المصور، ولا تبرز إلا الحقائق شاهدة لأهلها بالتجرد وخلوص القصد، ومثال هذا أن كثيراً من الناس يتحرك بالدعوة إلى الله، ومع اتساع دائرة نفوذ دعوته تزداد أهواؤه وتزداد رغباته.. لا شك بأن هذا مفتقر إلى حقيقة الدعوة إلى الله، وكذا المنشغل بمظاهر التزكية يقف عند وسائلها من إنشاد وإرشاد وصلات وعلاقات، يكثر الالتفات ولا ينضبط في سيره ووجهته؛ فتزكيته هذه حجاب له عن حقيقة التزكية، وكذا طالب العلم الذي لا يقيم علمه على قواعد من الأدب، وأسس من حسن الخُلُق والرحمة بالخَلْق وطلب النفع لهم؛ فأحرى به أن يراجع مقاصده من طلب العلم والارتقاء في سائر أشكال الثقافة.

فحقيقة الأخذ بالمقاصد إذاً: طلب ثمرتها؛ فثمرة العلم الفهم، وثمرة التربية الإخلاص، وثمرة الدعوة العمل والجهاد..

ومعنى الأخذ بهذه المقاصد الثلاثة هو: تحصيل نسبة الوراثة بخاتم الأنبياء وإمامهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن كل طلب للارتقاء وتحصيل السعادة والصفاء لا يكون على هذا المنهاج ولا على خطى النبي صلى الله عليه وسلم السراج الوهاج؛ فهو تخبط وتخليط: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران:31].

ومظاهر الأخذ بالمقاصد الثلاثة: بذل الكليات في طلبها؛ فيستفرغ الواحد وسعه ووقته وجهده وماله فيها، ولا ينشغل عنها بمراد، ولا يتأخر عنها بمداد؛ فيبين أخذه الجاد للمقاصد حتى في فلتات لسانه وخواطره ونياته، وفي تقلبه على فراشه بما يلوح من أحلامه ومناماته..

فكأنما امتطى الواحد جواداً يقطع به القفار من غير توقف ولا التفات ولا نكوص.. يطوي المفاوز والمراحل..

يتحلى بالهمة العالية وسائر الفضائل.. قد صحح معاملاته مع سائر الناس بالحسنى.. يطلب الله في معاملتهم بتصفية الموارد وسعة المشاهد.. فأكمل الناس من يأخذ بالمقاصد الثلاثة إلى منتهاها، ولن يكون هذا إلا للصفوة القليلة، أما الأغلبية فإنما يأخذ بقاعدة أساسية من الثلاثة، ويكون له تميز وبروز في واحدة منها، أو في جوانب من واحدة منها.. وهكذا كلٌّ ميسرٌ لما خُلق له..

ومسالك الترقي في هذه المقاصد الثلاثة ( العلم والتربية والدعوة) بأن ينتهض كل واحد للنظر في إمكاناته ومؤهلاته، ويستشرف الرؤية لطموحاته؛ فيضع خطة بنائية متصلة الحلقات، متلاصقة المراحل والتطلعات، يجعل خطة العلم تسير في دوائر الثقافة الخاصة، وهي الفروض العينية لكل مسلم؛ من تصحيح أمور طهارته وصلاته ومعرفته لربه سبحانه ذاتاً وصفات وأفعالاً، وكذا معرفة الرسل وما جاؤوا به من أمور الآخرة، وكذا تصحيح تلاوته للقرآن الكريم؛ يزكيها من كل لحن خفي أو جلي، ويشرع في بناء ثقافة عامة؛ بأن يكون له تصور عن حركة الحياة وعلوم الناس من تاريخ وجغرافيا واقتصاد وسياسة وفن، ويكون له تميز في تخصص يأخذ فيه بالقدح المعلى، وهو العلم الذي فيه إليه المنتهى.

وبالتوازي مع هذا السير العلمي والترقي الفكري؛ يجتهد الإنسان بتفقد قلبه وتخليته من ذنوبه ومعاصيه والحجب التي تحول بينه وبين الترقي، في ضبط نفسه على مراد خالقها، وتهيئتها لأعلى مراتب الكمال التي يمكنها الوصول إليها، وتنقيتها من الموانع والقواطع التي تصرفه عن حسن المعاملة مع الخلق، وحسن العبادة للحق، وتجريده عن الجنايات والمظالم التي تبعده عن ذوق السعادة العظمى في الدنيا قبل الأخرى..

وهذا يحتاج إلى ترتيب برنامج في الحرص على الفرائض، والاجتهاد في النوافل، وجثو الركب لدى المربين الصالحين، وكذا الحرص على وظائف الأوقات؛ من أذكار الصباح والمساء، وإحياء سنن المصطفى -أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم- في الدخول والخروج والركوب والطعام وسائر المعاملات الحسية والمعنوية، واستحضار النيات الصالحة في كل معاملة ونظرة ومصافحة وخدمة وإغاثة.. ولا يزال هذا الإنسان يتزود من هذه البضائع التي قلَّ طلابها في هذا الزمان..
ووسائل الترقي بالنفس من كونها أمّارة بالسوء، إلى المرحلة التي تصل فيها إلى الطمأنينة لكل أمر إلهي: الصحبة الصالحة، ومطالعة سير الصحابة والتابعين، ومحاسبة النفس على التقصير، والتشمير في حملها على الطيب من القول والخالص من العمل..
والتدرج والتوازن مطلوب في كِلا السيرين؛ من العلمي والعملي، والثقافي والتربوي، وينضم لهما اجتهاد ثالث وسعي ضروري هو: الشهادة على الآخر بإيصال هذا المنهج له، وإبراز هذا المسلك في قوالب المعاملة الطيبة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]. وهذه الشهادة تكون بالدعوة إلى الله؛ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحياء سنة التناصح، وتحتاج هذه الدعوة إلى أدب وفهم يتسعان باتساع دائرة الداعي إلى الله، وإلا فعموم الأمة مخاطب بالبلاغ وحمل الرسالة: "بلغوا عني ولو آية".

ووسائل الأخذ بالدعوة: امتلاء قلب الداعية بالرحمة في من يدعو، والتعلق بصاحب الدعوة الأولى في هذه الأمة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ باستشعار النيابة عنه في البلاغ، واختيار الأساليب المناسبة، والبعد عن إثارة ما من شأنه أن يوغر الصدور، وحسن التواصل.. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس".

هذه نظرة موجزة لما يحتاج الإنسان أن يستفرغ فيه وقته؛ ألا وهو بناؤها في ثلاثة خطوط متوازية متوازنة: (العلم والتربية والدعوة).. فيأخذ الواحد هذا الأمر بجد، ويزرع نخلته في أرض البناء، وينيخ راحلته في ساحات الارتقاء، وينكسر بباب مليكه، يعلن افتقاره واضطراره له بين يديه، يناجيه ويناديه بأحب الأسماء إليه.. عندها: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
 

مصطفى راضى

مراقب قدير سابق
7 مارس 2009
9,308
27
0
الجنس
ذكر
رد: المقاصد الثلاثة

جزاك الله خيرا
وبارك الله فيك اختى على مواضيعك الهامة والرائعة
 

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد
رد: المقاصد الثلاثة

جزاك الله خيرا
وبارك الله فيك اختى على مواضيعك الهامة والرائعة

بوركت اخي مصطفى وزادك الله حرصا وتوفيقا
 

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد
رد: المقاصد الثلاثة

ممتاز جدا
موضوع مهم .... لي عودة إن شاء الله لقراءته بتأن و روية
جزاك الله خيرا أختي و نفع بك

وفقك الله اخي
 

الملكة الحزينة

مشرفة سابقة
6 مارس 2009
12,753
154
63
الجنس
أنثى
رد: المقاصد الثلاثة

جزاك الله الجنـــــــــــــــــــه وأسعدك في الداريين
 

نور مشرق

مراقبة قديرة سابقة وعضو شرف
عضو شرف
22 يوليو 2008
16,039
146
63
الجنس
أنثى
علم البلد

~ روح الوداع ~

مزمار داوُدي
7 يوليو 2008
3,779
28
48
الجنس
أنثى
رد: المقاصد الثلاثة

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

فحقيقة الأخذ بالمقاصد إذاً: طلب ثمرتها؛ فثمرة العلم الفهم، وثمرة التربية الإخلاص، وثمرة الدعوة العمل والجهاد..
تسلمييين غااااليتي "
جزاك الله الدرجات العلا من الجنة " وأعظم لك أجراا
دمتي في حفظ الله
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع