رد: أحاديث منتقاة في أبواب تتعلق بالقرآن الكريم
رأيت وأنا أنتقي الأحاديث أنه لابد من أن أضع على بعضها ما ييسره الله من تعليقاتٍ أو شروحٍ أو فوائدَ أو ملاحظاتٍ أو بيانٍ لغريب الحديث؛ وذلك لكي تزداد الفائدة, فعمدت إلى الكتب التي فيها شروح مختصرة للأحاديث ونقلتُ لكم منها ما يسَّر الله -سبحانه وتعالى-؛ ابتغاءَ عدمِ الإطالة, ومن شاء التوسع والبسط فليرجع إلى المطولات.
وبالنسبة لِمُخَرِّجِي الأحاديث؛ فإن كان البخاريَ أو مسلمًا؛ اقتصرتُ على ذكره ولم أذكر معه غيره, ولم أذكر للحديث درجةً.
وكذلك الحال في الحديث الذي رواه البخاري [و]مسلم.
وإن كان غيرَ البخاريِّ ومسلمٍ؛ ذكرتُه وذكرت درجة الحديث ذكرَها الشيخ الألباني –رحمه الله تعالى-.
الحديث الأول:
عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: خيركم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمَه.
رواه البخاري.
قال المحقق السندي في حاشيته على سنن ابن ماجة: (قال المظهري: "يعني إذا كان خير الكلام كلام الله؛ فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن ويعلمه", وقال القاري: "لكن لا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص", وقال الطيبي: "أي خير الناس باعتبار التعلم والتعليم: من تعلم القرآن").
الحديث الثاني:
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنةٌ والحسنة بعشرِ أمثالِها, لا أقول (الم) حرف, ولكن ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ.
رواه الترمذي.
درجة الحديث: صحيح.
المراد بالحرف ليس نفسَ المِداد وشكل المداد, وإنما المراد: الحرف المنطوق.
س: كيف ذلك؟
الجواب: الحرفُ والكلمة في لغة العرب التي كان النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لهما معنى غير المعني الذي في اصطلاح النحاة, ففي لغة العرب التي كان النبي –عليه الصلاة والسلام- يتكلم بها: الكلمة هي: الجملة التامة, والحرف هو: الكلمة.
س: ما الدليل على ذلك؟
ج: الأدلة على ذلك كثيرة, من شاء الاطلاع عليها فعليه بكتاب "الحقيقة الشرعية في تفسير القرآن العظيم والسنة النبوية" للشيخ محمد بن عمر بن سالم بازْمول –حفظه الله تعالى- فإنه كتاب ممتع للغاية, وفيه فوائدُ عظيمة جدًا.
قال الشيخ محمد بازمول في كتابه الآنف الذكر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء, ولهذا سأل الخليل بن أحمد أصحابه: "كيف تنطقون بالزاي مِن (زيد)؟", فقالوا: "زاي", فقال: "نطقتم بالاسم, وإنما الحرف: "زه", فبيَّن الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء.
وكثيرًا ما يوجد في كلام المتقدمين: "هذا حرف من الغريب", يعبرون بذلك عن الاسم التام, فقوله –صلى الله عليه وسلم-: "فله بكل حرف" مثَّلَه بقوله: "ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف....." وعلى نهج ذلك: "ذلك" حرف, و"الكتابُ" حرف, ونحو ذلك" اهـ.
وقد أفاد -رحمه الله- أن الحرف المراد في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات..........": الحرف هو الكلمة, لا حرف الهجاء.
وهذا التفسير اعتمده الإمام ابن كثير –رحمه الله-, كما اعتمده وصححه الإمام ابن الجزري –رحمه الله-.
قال الإمام ابن الجزري: وقد سألت شيخَنا شيخَ الإسلام ابنَ كثير –رحمه الله تعالى-: "ما المراد بالحرف في الحديث؟", فقال: "الكلمة؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات, لا أقول (الم) حرف, ولكن ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ)".
وهو الصحيح؛ إذ لو كان المراد بالحرفِ: "حرف الهجاء"؛ لكان "ألف" بثلاثة أحرف, و"لام" بثلاثة أحرف, و"ميم" بثلاثة أحرف. اهـ كلام الإمام ابن الجزري.
وهذا التفسير قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: "وعليه محققو العلماء".
ويبنى على هذا التقرير: أنه لا تفضيلَ بين القراءات القرآنية مِن جهة زيادة حروف الهجاء في كلمة على قراءة دون قراءة, بل لا تفضيل بين القراءات القرآنية المثبتة على الإطلاق, إذ الكل كلام الله -جل وعلا- (انظر مقدمة القسم الثاني من كتابي: (القراءات وأثرها في التفسير والأحكام). اهـ بتصرف.
الحديث الثالث:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مَن نَفَّس عن مؤمن كُربةً مِن كُرَب الدنيا نَفَّس اللهٌ عنه كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومَن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومَن سَتَرَ مسلماً ستره اللهُ في الدنيا والآخرة، واللهُ في عَون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه، ومَن سَلَكَ طريقاً يَلتمس فيه علماً سَهَّلَ اللهُ له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينةُ، وغَشيتهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذكَرَهم الله فيمَن عنده، ومَن بَطَّأَ به عملُه لَم يُسرع به نسبُه.
رواه مسلم.
قال العلّامة عبد المحسن بن حمد العبَّاد البدر –حفظ الله تعالى- في شرحه للأربعين النووية الذي سماه (فتح القوي المتين بشرح الأربعين وتتمة الخمسين):
قوله: "مَن نَفَّس عن مؤمن كُربةً مِن كُرَب الدنيا نَفَّس اللهٌ عنه كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة"، الكُربةُ هي الشدَّة والضيق، وتنفيسها إزالتُها، والجزاء على تنفيس كربة في الدنيا أن ينفَّس عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، والجزاءُ من جنس العمل، ولا شكَّ أنَّ الجزاءَ فيه أعظم؛ لشدَّة كُرَب يوم القيامة وعظم الفائدة للمكروب في تنفيسها.
قوله: "ومَن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة"، وهذا أيضاً الجزاءُ فيه من جنس العمل، والعمل هو التيسير على المُعسر، وذلك بإعانته على إزالة عُسرته، فإن كان مَديناً ساعده بإعطائه ما يقضي به دينه، وإن كان الدَّين له أنظره إن لم يُبْرئه منه، والإبراء خيرٌ من الإنظار؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ الجزاءَ على التيسير تيسيرٌ يحصل في الدنيا والآخرة.
قوله: "ومَن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة"، وهذا أيضاً العمل فيه ستر في الدنيا، والجزاء عليه سترٌ في الدنيا والآخرة، والسترُ هو إخفاء العيب وعدم إظهاره، فمَن كان معروفاً بالاستقامة وحصل منه الوقوع في المعصية نوصِحَ وسُتر عليه، ومَن كان معروفاً بالفساد والإجرام، فإنَّ السترَ عليه قد يهوِّن عليه إجرامه، فيستمر عليه ويتمادى فيه، فالمصلحةُ في مثل هذا عدم الستر عليه؛ ليحصل له العقوبة التي تزجره عن العَوْد إلى إجرامه وعدوانه.
قوله: "والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه"، هذا فيه الحثُّ على إعانة المسلم أخاه المسلم، وأنَّه كلَّما حصل منه العون لإخوانه فإنَّه يحصِّل بذلك عون الله وتسديده، وهي كلمة جامعة من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ومَن سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة"، فيه الحثُّ على طلب العلم الشرعيِّ وسلوك الطرق الموصلة إلى تحصيله، سواء كان ذلك بالسفر لطلبه؛ أو بالأخذ بأسباب تحصيله، من اقتناء الكتب المفيدة وقراءتها والاستفادة منها، وملازمة العلماء والأخذ عنهم وغير ذلك، والجزاء على ذلك من الله تسهيل الطريق التي يصل بها طالب العلم إلى الجنَّة، وذلك يكون بإعانته على تحصيل ما قصد، فيكون بذلك محصِّلاً للعلم، ويكون أيضاً بإعانته على العمل بما علمه من أحكام الشريعة، وذلك يفضي به إلى دخول الجنَّة.
قوله: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرَّحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمَن عنده"، بيوتُ الله هي المساجد، وإضافتها إلى الله إضافة تشريف، والمساجد هي أحبُّ البلاد إلى الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" رواه مسلم (671)، وفيه الحثُّ على الاجتماع في المساجد لتلاوة القرآن وتدارسه، ويكون ذلك بقراءة أحد المجتمعين والباقون يسمعون، وبقراءتهم بالتناوب ليقوِّم بعضُهم بعضاً في القراءة، ويستفيد كلُّ واحد منهم من غيره ما يحصِّل به إجادة القراءة وتدارك الخطأ إن وُجد، وإذا كان فيهم عالم بتفسيره علَّمهم، وإن كانوا من أهل العلم فيه تدارسوا معانيه، ورجعوا في ذلك إلى كتب التفسير في الرواية والدراية المبنية على ما كان عليه سلف هذه الأمَّة، والجزاء على الاجتماع في المساجد لتلاوة القرآن وتدارسه أربعة أمور، هي: نزول السكينة عليهم والطمأنينة، وأنَّ الرحمةَ تغشاهم، أي تشملهم وتغطِّيهم، وأنَّ الملائكة تحفُّهم أي: تحيط بهم، وأنَّ الله تعالى يذكرهم عند الملائكة.
قوله: "ومَن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه"، المعنى: مَن أخَّره عملُه عن دخول الجنَّة لم يسرع به نسبه إلى دخول الجنَّة؛ لأنَّ المعتبَر في ذلك الإيمان والتقوى، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/308): "معناه أنَّ العملَ هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}، فمَن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله تعالى لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات؛ فإنَّ الله رتَّب الجزاءَ على الأعمال لا على الأنساب، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}"، إلى أن قال: "وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
لَعَمرك ما الإنسان إلاَّ بدينه ^^^ فلا تترك التقوى اتِّكالاً على النسب
لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ ^^^ وقد وضع الشرك النسيبَ أبا لهب".
الحديث الرابع:
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ؛ ريحها طيب وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة؛ لا ريح لها وطعمها حلو. ومثلُ المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة؛ ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة؛ ليس لها ريح وطعمها مر.
وفي رواية: "مثل الفاجر" بدل: "المنافق".
رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.
قال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله تعالى-: مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَل الأُتْرُجَّةِ؛ ريحها طيب (لأنه إذا قرأ القرآن وأقرأَه؛ انتفَعَ الناس به) وطعمها طيب (لأنه مؤمن). ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة؛ لا ريح لها (أي: ليس لها ريح ذكيٌّ ينتشرُ إلى الغير -وإلا فهي لها ريح-) وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة؛ ريحها طيب, وطعمها مر (أي: أنه هو بنفسه خبيث) (وفي هذا أن المنافق قد يكون منه خير, وذلك بما معه من العلم والقرءان إذا نشره وانتفع به الناس, لكن هو نفسه لا ينتفِع به؛ لأنه كافرٌ, فلا ينتفع؛ قال تعالى: "وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله") . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة؛ ليس لها ريح (أي: ليس لها الرائحة الذكية التي تجذب الناس وينتفعوا بها –وإلا فهي لها رائحة-) وطعمها مر.
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان عند شرحه لهذا الحديث:
ضرب الأمثال يراد به تقريب المعنى إلي الفهم.
والمقصود بالمثل هنا: الوصف والحال, فالمؤمن طيب في نفسه, وما من عمل يكون طيبًا, فلهذا جعل -صلى الله عليه وسلم– مذاقَه طيبًا، ورائحته التي تتعدى إلى من حوله طيبة, وإن كان المقصود بهذا الحديث من يحمل القرآن ويقرؤه؛ فغير القراءة من الأعمال يلتحق بها.
فإذا كان حامل القرآن مؤمنًا, عاملاً به, صادف محلاً قابلاً فأثمر.
والأترجة, تجمع طيب المذاق, وطيب الرائحة, وحسن المنظر, وطيب نكهتها, وجودة الهضم, وفيها منافع أخرى, فناسب تمثيل المؤمن القارئ للقرآن بها.
قال الحافظ: (( وقع في رواية شعبة، عن قتادة: "المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به", وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي، لا مطلق التلاوة )).
قوله: (( والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها )) يعني بالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن: هو الذي لا يحفظه، ولا يتلوه، فالإيمان بالله ورسله وما جاءت به طيب، ومذاقه حلو، ولكن إذا آمن بالقرآن، وعمل به، وهو لا يقرؤه، فاتته الرائحة الطيبة، والله – تعالى – يجمع الطيبين فيسكنهم دار الطيبات، كما يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه فيجعله في جهنم.
قال الحافظ: (( قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة )).
قوله: (( ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر )).
الفاجر أصله ومذاقه مر خبيث، وإذا قرأ القرآن كان ما يصدر منه من القراءة طيب، ولكن مصدر القراءة خبيث، ومثل القراءة بالرائحة التي يدركها من حوله، فلما كان هذا العمل طيباً، صار مثل الرائحة الطيبة، الصادرة من محل خبيث، مؤذ، ضار، وإن كان ينتفع برائحته.
قوله: (( ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها )) يعني: اجتمع فيه خبث الأصل، وخبث العمل، فلا نفع فيه لنفسه ولا لغيره، بل هو ردىء مؤذ في نفسه، ولا علم له ينتفع به.
قال النووي: (( فيه فضيلة حافظ القرآن، واستحباب ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد )).
والمقصود بقارئ القرآن: من حفظه، وتعاهده بكثرة التلاوة؛ للوقوف على أسرار معانيه، والعمل بأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لا مجرد الحفظ والتلاوة.
وكلام الله –تعالى– له تأثير في باطن العبد، وظاهره -إذا كان مؤمناً به-، والعباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك -وهو المؤمن المتقي التالي له-، ومنهم من لا نصيب له البتة -وهو المنافق-، ومن تأثر ظاهره دون باطنه فذلك المرائي )).
الحديث الخامس:
عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن مثَلَ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفةٌ طيِّبة قَبِلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أَجادبُ أمسكت الماءَ فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفةً أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثلُ مَن فَقِه في دين الله –تعالى- ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلت به.
رواه البخاري ومسلم
قال العلَّامة ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله تعالى- في كتابه "مذكرة الحديث النبوي في العقيدة والاتِّباع":
المـفـردات :
المثـل: المراد به هنا: الصفة العجيبة, لا القول السائر.
الهدى: الدلالة الموصلة إلى المطلوب.
الغيث الكثير: المطر العام.
الكـلأ: يطلق على النبت الرطب واليابس معاً.
العشب: النبت الرطب.
أجادب: جمع جدَب -بفتح الدال المهملة-. وهي: الأرض الصلبة التي لا يَنضَب منها الماء.
قيعـان: جمع قاع -وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت-.
توضيـح هذا المثـل:
ضرب النبي –صلى الله عليه وسلم- لِما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه, وكذا كان حال الناس قبل مبعثه –صلى الله عليه وسلم-, فكما أن الغيث يحيي به اللهُ البلدَ الميت؛ فكذا الوحي من الله يحيي به القلوب الميتة.
قال تعالى : "أوَمَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".
فالنور هنا: نور الوحي, والظلمات: ظلمات الجهل والكفر والضلال.
ثم شبَّه النبيُ –صلى الله عليه وسلم- السامعين لما جاء به بالأرض المختلفة التي ينـزل بها الغيث.
1- فمنهم العالم والعامل المعلم، فهو بمنـزلة الأرض الطيبة, شربت, فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها.
2- ومنهم الجامع للعلم المجتهد في تحصيله، لكنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع, غير أنه أداه لغيره، فهو بمنـزلة الأرض التي يستقر فيها الماء، فينتفع الناس به, وهو المشار إليه بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "نضَّر الله امْرَأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها".
3- ومنهم من يسمع العلم، فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنـزلة الأرض السبخة الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين؛ لاشتراكهما في الانتفاع بهما, وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة؛ لعدم النفع بها.
فعليك أخي بالعلم النبوي والعمل به يرفعك الله به. قال تعالى : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذي أوتوا العلم درجات"، وقال تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".
وعليك بالعمل به والدعوة إليه قال تعالى: "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين".
واحرص أن تكون من النوع الأول ممن تقبل هذا النور الذي جاء به النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- فيضيء الله به قلبَكَ ويحييه, فالحياة الصحيحة الطيبة لا تكون إلا به.
واحذر كل الحذر أن تكون من النوع الثالث الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأساً.
ما يستفاد من الحديث :
1- عظمة ما جاء به الرسول من الهدى والعلم. ألا وهو القرآن والسنة وآثارهما في حياة الناس.
2- تفاوت الناس من حيث الاستعداد لقبول ما جاء به الرسول وعدمه فالناس معادن.
3- فضل العلم والتعليم ونشر الخير في الناس.
4- خطورة الإعراض عما جاء به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من كتاب وسنة من جهة، ودلالة هذا الإعراض على رداءة معادن هؤلاء المعرضين وحقارتهم عند الله.
الحديث الخامس:
عن تميم الداري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصيحة".
قلنا: لمن؟
قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم".
رواه مسلم.
درجة الحديث: صحيح.
قال العلَّامة ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله تعالى- في كتابه "مذكرة الحديث النبوي في العقيدة والاتِّباع":
المفــردات :
الـدين: الإسلام كله؛ إذ مدار الإسلام على هذا الحديث.
النصيحة: كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له, مأخوذة من: "نصح الرجل ثوبه إذا خاطه"، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب.
أئمة المسلمين: زعماؤهم كالخلفاء والأمراء والعلماء.
عـامتهـم: سائر المسلمين ممن عدا الأئمة.
المعنى الإجمالي:
هذا الحديث عظيم الشأن, ومن جوامع كلم الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم-, وعليه مدار الإسلام, لو عمل أفراد المسلمين وجماعتهم بما تضمنه من معاني النصيحة؛ لنالوا سعادة الدنيا والآخرة, ولعاشوا أخوة متحابين تجمعهم عقيدة واحدة وراية واحدة ومنهج واحد لحياتهم.
فالنصيحة لله معناها: الإيمان به سبحانه وتعالى وبكل ما ورد في الكتاب والسنة من أسمائه الحسنى وصفاته العليا إيماناً حقاً صادقاً من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل, على أساس: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ".
وإفراده وحده سبحانه بالعبادة, ونفي الشريك عنه, والقيام بطاعته, واجتناب معصيته, والحب فيه, والبغض فيه, وموالاة من أطاعه, ومنابذة من عصاه, وجهاد من كفر به, والاعتراف بنعمته, وشكره عليها, والإخلاص في جميع الأمور له.
وأما النصيحة لكتابه: فالإيمان بأنه كلام الله منـزل منه غير مخلوق, وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, لو اجتمعت الجن والإنس؛ لا يأتون بمثله -ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً- ولا بعشر سور من مثله بل ولا بسورة من مثله.
ثم تعظيمه, وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه عند التلاوة, والذب عنه برد تأويل المحرفين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين, والتصديق بما فيه, والوقوف مع أحكامه, وتفهم علومه وأحكامه وأمثاله وحدوده, والاعتبار بمواعظه, والتفكر في عجائبه, والعمل بمحكمه, والتسليم لمتشابهه, والبحث في ناسخه ومنسوخه, ونشر علومه, والدعاء إليه.
وأما النصيحة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: فتصديقه على الرسالة, والإيمان بجميع ما جاء به, وطاعته في أمره ونهيه, ونصرته حياً وميتاً, ومعاداة من عاداه, وموالاة من والاه, وإعظام حقه, وتوقيره, وإحياء طريقه وسنته, وبث دعوته ونشرها, ونفي التهمة عنها, وخدمة علومها, والتفقه في معانيها, والدعاء إليها, وإعظامها, والتأدب عند قراءتها, والإمساك عن الكلام فيها بغير علم, والتخلق بأخلاق هذا الرسول الكريم, والتأدب بآدابه, ومحبة أهل بيته وأصحابه, ومجانبة من ابتدع في سننه أو تعرض لأحد من أصحابه.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتُهم على الحقِّ, وطاعتُهم فيه، وتنبيهُهم وتذكيرُهم برفق ولطف، وإعلامُهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين, ومجانبةُ الخروج عليهم, والصلاةُ خلفهم, والجهادُ معهم, وأداءُ الصدقات إليهم, وتركُ الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيفٌ أو سوء العشرة, والدعاءُ لهم بالصلاح, وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، والدعاءُ لهم بالتوفيق، وحثُّ الأغيار على ذلك.
وأما النصيحة لعامة المسلمين –وهم من عدا ولاة الأمر–: فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم, وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ويعينهم عليه بالقول والفعل, وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص, وستر عوراتهم, وسد خلاتهم, ودفع المضار عنهم, وجلب المنافع لهم, والشفقة عليهم, وتوقير كبيرهم, ورحمة صغيرهم, وتخولهم بالموعظة الحسنة, وترك غشهم وحسدهم, وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر, والذب عن أموالهم وأعراضهم, وحثهم على التخلق بجميع ما ذكر من النصيحة, وتنشيط هِمَمِهم إلى الطاعة. ( انظر شرح النووي لصحيح مسلم 2/38-39 ).
الحديث السادس:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له
رواه مسلم.
الحديث السابع:
عن أبي أمامة –رضي الله عنه- قال: ذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان أحدهما عابد والآخر عالم, فقال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: "فضلُ العالمِ على العابدِ كفَضْلي على أدناكم", ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن اللهَ وملائكتَه وأهلَ السمواتِ والأرضِ -حتى النملةَ في جحرها, وحتى الحوت- ليُصَلُّون على معلمِ الناسِ الخيرَ.
رواه الترمذي.
درجة الحديث: حسن لغيره.
الصلاة من الله –جلّ وعزّ-: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى. حكاه البخاري عن أبي العالية.
وقال العلَّامة المباركْفوري –صاحب تحفة الأحوذي-: ذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان أحدهما عابد (أي كامل في العبادة) والآخر عالم (أي كامل بالعلم), فقال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: "فضلُ العالمِ (بالعلوم الشرعية مع القيام بفرائض العبودية) على العابدِ (أي على المتجرد للعبادة بعد تحصيل قدر الفرض من العلوم) كفَضْلي على أدناكم (أي: نسبة شرف العالم إلى شرف العابد كنسبة شرف الرسول إلى شرف أدنى الصحابة. قال القاري: فيه مبالغة [أي: مبالغة في التفضيل] لا تخفى؛ فإنه لو قال: "كفضلي على أعلاكم"؛ لكفى فضلاً وشرفاً)", ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن اللهَ وملائكتَه (قال القاري: "أي: حملة العرش") وأهلَ السمواتِ (هذا تعميم بعد تخصيص) والأرضِ (أي: أهل الأرضين من الإنس والجن وجميع الحيوانات) -حتى النملةَ في جحرها, وحتى الحوتَ (وهما غايتان مستوعبتان لدواب البر والبحر)- ليُصَلُّون (فيه تغليب للعقلاء على غيرهم, أي: يدعون بالخير) على معلمِ الناسِ الخيرَ (قيل: "أراد بالخير هنا: علم الدين وما به نجاة الرجل, ولم يطلق المعلم ليعلم أن استحقاق الدعاء لأجل تعليم علم موصول إلى الخير).
وفيه إشارة إلى وجه الأفضلية بأن نفع العلم متعد ونفع العبادة قاصر.
الحديث الثامن:
عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من علَّم علمًا فله أجر مَن عملَ به لا يَنقُص من أجر العامل شيءٌ.
رواه ابن ماجه.
درجة الحديث: حسن لغيره.
الحديث التاسع:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة, والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران.
وفي رواية: "والذي يقرؤه وهو يشتد عليه له أجران".
رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح صحيح مسلم" عند شرح هذا الحديث:
الماهر بالقرآن (هو الذي يجيد قراءته أجادة تامة ويسهل عليه النطق به) مع السفرة الكرام البررة (أي أنه معهم في درجاتهم ومنازلهم, ولا يلزم أن يكون مهم في أمكنتهم, المعيةُ لا تقتضي المصاحبةَ جنبًا إلى جنب, لكنها معية تقتضي مطلقَ المصاحبةِ, فيكون مثلهم في الأجر وإن كان هو في الأرض وهم في السماء أو في مكان آخر, لَكِنِ المعيةُ أوسع من المقارنة التامة التي تكون جنبًا إلى جنب؛ لأن المعية تختلف بحسب مواردها, ويختلف مقتضاها بحسب السياق والقرائن, وتفسَّر في كل موضع بما يناسبه), والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق (يعني يردد الكلمة مرة بعد أخرى حتى يقيمها, فهو ليس ماهرًا. ويشمل قوله: "يتتعتع فيه": الذي فيه علة ومرض لا يستطيع أن ينطق بالحرف بسهولةٍ, فإنه لا شك أنه يشق عليه القرآن)؛ له أجران (يعني: أجر المعاناة من التلاوة, وأجر التلاوة. لكن أجر التلاوة دون أجر الماهر بالقرآن؛ لأن هذا الذي يتتعتع في القرآن -ولا سيما إن كان عن نقصِ عِلْمٍ-؛ إنما يريد الوصول إلى الغاية التي هي الحفظ والمهارة في القرآن, ولا يمكن أن تكون الوسيلة فوق أجر الغاية).
وراجعوا الأسئلة التي سئلت للشيخ بعد شرحه لهذا الحديث؛ فإنها مفيدة.