إعلانات المنتدى


الخلاف (أنواعه وأسبابه), والموقف من مسائل الخلاف

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

المالكي المصري

عضو كالشعلة
5 أكتوبر 2009
432
4
0
الجنس
ذكر
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -في شرحه لكتاب "ستة أصول عظيمة" للإمام محمد بن عبد الوهاب-:


قوله: "أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه . . إلخ"
الأصل الثاني من الأصول التي ساقها الشيخ-رحمه الله تعالى-: (الاجتماع في الدين والنهي عن التفرق فيه)
وهذا الأصل العظيم قد دل عليه كتاب الله –تعالى-, وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل الصحابة -رضي الله عنهم- والسلف الصالح -رحمهم الله تعالى-.
أما كتاب الله –تعالى-: فقد قال الله-عز وجل-:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقدكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}. وقال تعالى : {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}. وقال تعالى : {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
ففي هذه الآيات: نهى الله –تعالى- عن التفرق وبيَّن عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع والأمة بأسرها.
وأما دلالة السنة على هذا الأصل العظيم: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا-ويشير إلى صدره-, بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله" وفي رواية: "لا تحاسدوا ، ولا تباغضوا، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخواناً" وفي رواية: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً". ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً", وقال -عليه الصلاة والسلام- لأبي أيوب -رضي الله عنه-: "ألا أدلك على تجارة؟" قال: " بلى يا رسول الله". قال : "تسعى في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا", وفي مقابلة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين بالتحاب والتآلف ومحبة الخير والتعاون على البر والتقوى وفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه؛ في مقابلة ذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعدهم؛ وذلك لما في التفرق والبغضاء من المفاسد العظيمة, فالتفرق هو قرة عين شياطين الجن والإنس؛ لأن شياطين الإنس والجن لا يودون من أهل الإسلام أن يجتمعوا على شيء, فهم يريدون أن يتفرقوا؛ لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام والاتجاه إلى الله -عز وجل-.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حث على التآلف والتحاب بقوله وفعله، ونهى عن التفرق والاختلاف الذي يؤدي إلى تفريق الكلمة وذهاب الريح.
وأما عمل الصحابة: فقد وقع بينهم -رضي الله عنهم- الاختلاف، لكن لم يحصل به التفرق ولا العداوة ولا البغضاء، فقد حصل الخلاف بينهم في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسولُ الله بين أظهرهم, فمن ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من غزوة الأحزاب، وجاءه جبريل يأمره أن يخرج إلى بني قريظة لِنقضهم العهد؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "لا يصليَنَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة".
فخرجوا من المدينة إلى بني قريظة، وحان وقت صلاة العصر، فقال بعضهم:" لا نصلي إلا في بني قريظة، ولو غابت الشمس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة". فنقول سمعنا وأطعنا.
ومنهم من قال: "نصلي في الوقت؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد بذلك: المبادرة والإسراع إلى الخروج, ولم يرد منا تأخير الصلاة".
فبلَغ ذلك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف أحداً منهم ولم يوبخه على ما فهم، وهم بأنفسهم -رضي الله عنهم- لم يتفرقوا من أجل اختلاف الرأي في فهم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما عمل السلف الصالح: فإن من أصول أهل السنة والجماعة في المسائل الخلافية: أن ما كان الخلاف فيه صادراً عن اجتهاد وكان مما يسوغ فيه الاجتهاد: فإن بعضهم يعذر بعضاً بالخلاف, ولا يحمل بعضهم على بعض حقداً ولا عداوة ولا بغضاء, بل يعتقدون أنهم إخوة حتى وإن حصل بينهم هذا الخلاف، حتى إن الواحد منهم ليصلي خلف من يرى أنه ليس على وضوء ويرى الإمامُ أنه على وضوء، مثل أن يصلي خلف شخصٍ أكلَ لحم إبل وهذا الإمام يرى أنه لا ينقض الوضوء، والمأموم يرى أنه ينقض الوضوء فيرى أن الصلاة خلف ذلك الإمام صحيحة -وإن كان هو لو صلاها بنفسه لرأى أن صلاته غير صحيحة-، كل هذا لأنهم يرون أن الخلاف الناشئ عن اجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس في الحقيقة بخلاف، لأن كل واحد من المختلفين قد تبع ما يجب عليه اتباعه من الدليل الذي لا يجوز له العدول عنه، فهم يرون أن أخاهم إذا خالفهم في عملٍ ما اتباعاً للدليل؛ هو في الحقيقة قد وافقهم؛ لأنهم يَدعون إلى اتباع الدليل أينما كان، فإذا خالفهم موافقة لدليل عنده؛ فهو في الحقيقة قد وافقهم؛ لأنه تمشى على ما يدعون إليه ويهدون إليه من تحكيم كتاب الله –تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما مالا يسوغ فيه الخلاف: فهو ما كان مخالفاً لما كان عليه الصحابة والتابعون، كمسائل العقائد التي ضل فيها من ضل من الناس، ولم يحصل فيها الخلاف إلا بعد القرون المفضلة -أي لم ينتشر الخلاف إلا بعد القرون المفضلة- , وإن كان بعض الخلاف فيها موجوداً في عهد الصحابة, ولكن ليُعلم أننا إذا قلنا: (قرن الصحابة)؛ ليس المعنى أنه لا بد أن يموت كل الصحابة، بل القرن ما وجد فيه معظم أهله, قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله –: "إن القرن يُحكَم بانقضائه إذا انقرض أكثر أهله". فالقرون المفضلة انقرضت ولم يوجد فيها هذا الخلاف الذي انتشر بعدهم في العقائد، فمن خالف ما كان عليه الصحابة والتابعون: فإنه عليه, ولا يقبل خلافه.
أما المسائل التي وجد فيها الخلاف في عهد الصحابة وكان فيها مساغ للاجتهاد؛ فلا بد أن يكون الخلاف فيها باقياً, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر", فهذا هو الضابط.
فالواجب على المسلمين جميعاً أن يكونوا أمة واحدة, وأن لا يحصل بينهم تفرق وتحزب بحيث يتناحرون فيما بينهم بأسنة الألسن ويتعادون ويتباغضون من أجل اختلاف يسوغ فيه الاجتهاد, فإنهم وإن اختلفوا فيما يختلفون فيه فيما تقتضيه النصوص حسب أفهامهم فإن هذا أمر فيه سعة -ولله الحمد-، والمهم ائتلاف القلوب واتحاد الكلمة, ولا ريب أن أعداء المسلمين يحبون من المسلمين أن يتفرقوا -سواء كانوا أعداء يصرحون بالعداوة، أو أعداء يتظاهرون بالولاية للمسلمين أو للإسلام وهم ليسوا كذلك-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال فضيلته في شرحه لكتاب (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد):
الخلاف في الفروع:
الفروع: جمع فرع, وهو لغة: ما بني على غيره.
واصطلاحاً: ما لا يتعلق بالعقائد, كمسائل الطهارة والصلاة ونحوها.
والاختلاف فيها ليس بمذموم حيث كان صادراً عن نية خالصة واجتهاد، لا عن هوى وتعصب، لأنه وقع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينكره, حيث قال في غزوة بني قريظة: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فحضرت الصلاة قبل وصولهم, فأخر بعضهم الصلاة حتى وصلوا بني قريظة، وصلى بعضهم حين خافوا خروج الوقت، ولم ينكر النبي- صلى الله عليه وسلم- على واحد منهم. [رواه البخاري], ولأنَّ الاختلاف فيها موجود في الصحابة وهم خير القرون، ولأنه لا يورث عداوة، ولا بغضاء، ولا تفرق كلمة, بخلاف الاختلاف في الأصول.
وقول المؤلف: "المختلفون فيه محمودون في اختلافهم" ليس ثناء على الاختلاف, فإن الاتفاق خير منه، وإنما المراد به: نفي الذم عنه، وأن كل واحد محمود على ما قال؛ لأنه مجتهد فيه مريد للحق, فهو محمود على اجتهاده واتباع ما ظهر له من الحق -وإن كان قد لا يصيب الحق-، وقوله: "إن الاختلاف في الفروع رحمة وإن اختلافهم رحمة واسعة" أي: داخل في رحمة الله وعفوه حيث لم يكلفهم أكثر مما يستطيعون ولم يلزمهم بأكثر مما ظهر لهم, فليس عليهم حرج في هذا الاختلاف، بل هم فيه داخلون تحت رحمة الله وعفوه، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد. اهـ
ــــــــــــــــــــــ
فائدة: هناك حديث يتردد على ألسنة كثير من الناس هو: "اختلاف أمتي رحمة", وهذا الحديث تكلم عليه العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة بكلام نفيس, نقلته لكم كلَّه؛ لكي تستفيدوا منه, وهو في هذه الصفحة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الشيخ ابن عثيمين في (كتاب العِلم):
طالب العلم لابد له من التأدب بآداب، نذكر منها :
................... الأمر الرابع:
رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
أن يكون صدره رحباً في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء إما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه ويكون الأمر فيها واضحاً, فهذه لا يعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال, فهذه يعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو قلنا ذلك لقلنا بالعكس قوله حجة عليك.
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسان فيه الخلاف، أما من خالف طريق السلف -كمسائل العقيدة-؛ فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي للرأي فيها مجال؛ فلا ينبغي أن يتُخذ من هذا الخلاف مطعنٌ في الآخرين، أو يتُخذ منها سببٌ للعداوة والبغضاء .
فالصحابة –رضي الله عنهم– يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه الأيام ديدناً للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزباً بأن يقولوا: "أنا مع فلان وأنا مع فلان", كأن المسألة مسألة أحزاب, فهذا خطأ.
من ذلك –مثلاً- كأن يقول أحد: "إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل فأنت مبتدع".
كلمة (مبتدع) ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهية؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول: هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد –رحمه الله– على أنه يخيّر بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع.
فيجب أن لا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سبباً للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق وكلنا فعل ما أدّاه اجتهاده إليه، فما دام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سبباً للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفون حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يداًَ واحدة، ولا يجعلوا مثل هذا الخلاف سبباً للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، خالفك هو بمقتضى الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما.
ولهذا فنحن نحب ونهنئ شبابنا الذين عندهم الآن اتجاه قوي إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل وأن يبنوا علمهم على كتاب الله وسنة رسوله، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببا للتحزب والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}, فالذين يجعلون أنفسهم أحزاباً يتحزبون إليها؛ لا نوافقهم على ذلك؛ لأن حزب الله واحد، ونرى أن اختلاف الفَهْمِ لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع في عرض أخيه.
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يُراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لا شك يفرح أعداء المسلمين, والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر, قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم– يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة: إن الرجل إذا خالفك بمقتضى الدليل عنده؛ فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلاً منكما طالب للحقيقة وبالتالي فالهدف واحد وهو الوصول إلى الحق عن دليل، فهو إذَنْ لَم يخالفْك ما دمت تقرّ أنه إنما خالفك بمقتضى الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقى الأمة واحدة -وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها-، أما مَنْ عاند وكابر بعد ظهور الحق؛ فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.
انتهى باختصار .
وبالمناسبة:
هناك حديث نسمعه كثيرًا من كثير من الناس, وهذا كلام العلامة الألباني في كتابه (سلسلة الأحاديث الضعيفة) حول هذا الحديث, نقلته لكم كلَّه بنصِّه, قال الشيخ –رحمه الله-:
57 - " اختلاف أمتي رحمة " .
لا أصل له .
ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا ، حتى قال السيوطي في " الجامع الصغير " : ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا ! .
وهذا بعيد عندي ، إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم ، وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده .
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال : وليس بمعروف عند المحدثين ، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع .
وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على " تفسير البيضاوي " ( ق 92 / 2 ) .
ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء ، فقال العلامة ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحكام " ( 5 / 64 ) بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث :
وهذا من أفسد قول يكون ، لأنه لوكان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا ، وهذا ما لا يقوله مسلم ، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف ، وليس إلا رحمة أو سخط .
وقال في مكان آخر : باطل مكذوب ، كما سيأتي في كلامه المذكور عند الحديث ( 61 ) .
وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن كثيرا من المسلمين يقرون بسببه


(1/141)


الاختلاف الشديد الواقع بين المذاهب الأربعة ، ولا يحاولون أبدا الرجوع بها إلى الكتاب والسنة الصحيحة ، كما أمرهم بذلك أئمتهم رضي الله عنهم ، بل إن أولئك ليرون مذاهب هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما هي كشرائع متعددة ! يقولون هذا مع علمهم بما بينها من اختلاف وتعارض لا يمكن التوفيق بينها إلا برد بعضها المخالف
للدليل ، وقبول البعض الآخر الموافق له ، وهذا ما لا يفعلون ! وبذلك فقد نسبوا إلى الشريعة التناقض ! وهو وحده دليل على أنه ليس من الله عز وجل لو كانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلافا كثيرا } فالآية صريحة في أن الاختلاف ليس من الله ، فكيف يصح إذن جعله شريعة متبعة ، ورحمة منزلة ؟ .
وبسبب هذا الحديث ونحوه ظل أكثر المسلمين بعد الأئمة الأربعة إلى اليوم مختلفين في كثير من المسائل الاعتقادية والعملية ، ولو أنهم كانوا يرون أن الخلاف شر كما قال ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم ودلت على ذمه الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة ، لسعوا إلى الاتفاق ، ولأمكنهم ذلك في أكثر هذه المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يعرف بها الصواب من الخطأ ، والحق من الباطل ، ثم عذر بعضهم بعضا فيما قد يختلفون فيه ، ولكن لماذا هذا السعي وهم يرون أن الاختلاف رحمة ، وأن المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة ! وإن شئت أن ترى أثر هذا الاختلاف والإصرار عليه ، فانظر إلى كثير من المساجد ، تجد فيها أربعة محاريب يصلى فيها أربعة من الأئمة !
ولكل منهم جماعة ينتظرون الصلاة مع إمامهم كأنهم أصحاب أديان مختلفة ! وكيف لا وعالمهم يقول : إن مذاهبهم كشرائع متعددة ! يفعلون ذلك وهم يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم :

(1/142)


" إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " رواه مسلم وغيره ، ولكنهم يستجيزون مخالفة هذا الحديث وغيره محافظة منهم على المذهب كأن المذهب معظم عندهم ومحفوظ أكثر من أحاديثه عليه الصلاة والسلام ! وجملة
القول أن الاختلاف مذموم في الشريعة ، فالواجب محاولة التخلص منه ما أمكن ، لأنه من أسباب ضعف الأمة كما قال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ، أما الرضا به وتسميته رحمة فخلاف الآيات الكريمة المصرحة بذمه ، ولا مستند له إلا هذا الحديث الذي لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا قد يرد سؤال وهو : إن الصحابة قد اختلفوا وهم أفاضل الناس ، أفيلحقهم الذم المذكور ؟ .
وقد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله تعالى فقال ( 5 / 67 - 68 ) : كلا ما يلحق أولئك شيء من هذا ، لأن كل امرئ منهم تحرى سبيل الله ، ووجهته الحق ، فالمخطئ منهم مأجور أجرا واحدا لنيته الجميلة في إرادة الخير ، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه ولا استهانوا بطلبهم ، والمصيب منهم مأجور أجرين ، وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه ، وإنما الذم المذكور والوعيد المنصوص ، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى وهو القرآن ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النص إليه وقيام الحجة به عليه ، وتعلق بفلان وفلان ، مقلدا عامدا للاختلاف ، داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية ، قاصدا للفرقة ، متحريا في دعواه برد القرآن
والسنة إليها ، فإن وافقها النص أخذ به ، وإن خالفها تعلق بجاهليته ، وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء هم

(1/143)


المختلفون المذمومون .
وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل ، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم ، مقلدين له غير طالبين ما أو جبه النص عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .
ويشير في آخر كلامه إلى " التلفيق " المعروف عند الفقهاء ، وهو أخذ قول العالم بدون دليل ، وإنما اتباعا للهو ى أو الرخص ، وقد اختلفوا في جوازه ، والحق تحريمه لوجوه لا مجال الآن لبيانها ، وتجويزه مستوحى من هذا الحديث
وعليه استند من قال : " من قلد عالما لقي الله سالما " ! وكل هذا من آثار الأحاديث الضعيفة ، فكن في حذر منها إن كنت ترجو النجاة { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } .
58 - " أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
موضوع .
رواه ابن عبد البر في " جامع العلم " ( 2 / 91 ) وابن حزم في " الإحكام " ( 6 / 82 ) من طريق سلام بن سليم قال : حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا به ، وقال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول .
وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة ، أبو سفيان ضعيف ، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي ، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك .

(1/144)


قلت : الحمل في هذا الحديث على سلام بن سليم - ويقال : ابن سليمان وهو الطويل - أولى فإنه مجمع على ضعفه ، بل قال ابن خراش : كذاب ، وقال ابن حبان :
روى أحاديث موضوعة .
وأما أبو سفيان فليس ضعيفا كما قال ابن حزم ، بل هو صدوق كما قال الحافظ في " التقريب " ، وأخرج له مسلم في " صحيحه " .
والحارث بن غصين مجهول كما قال ابن حزم ، وكذا قال ابن عبد البر وإن ذكره ابن حبان في " الثقات " ، ولهذا قال أحمد : لا يصح هذا الحديث كما في " المنتخب " لابن قدامة ( 10 / 199 / 2 ) .
وأما قول الشعراني في " الميزان " ( 1 / 28 ) : وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين ، فهو صحيح عند أهل الكشف ، فباطل وهراء لا يتلفت إليه !
ذلك لأن تصحيح الأحاديث من طريق الكشف بدعة صوفية مقيتة ، والاعتماد عليها يؤدي إلى تصحيح أحاديث باطلة لا أصل لها ، كهذا الحديث لأن الكشف أحسن أحواله - إن صح - أن يكون كالرأي ، وهو يخطئ ويصيب ، وهذا إن لم يداخله الهوى ، نسأل الله السلامة منه ، ومن كل ما لا يرضيه .
وروي الحديث عن أبي هريرة بلفظ : " مثل أصحابي " وسيأتي برقم (438 )
وروي نحوه عن ابن عباس وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله .
أما حديث ابن العباس فهو :

(1/145)


59 - " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به ، لا عذر لأحدكم في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله ، فسنة مني ماضية ، فإن لم يكن سنة مني ماضية ، فما قال أصحابي ، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ، فأيها أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة " .
موضوع .
أخرجه الخطيب في " الكفاية في علم الرواية " ( ص 48 ) ومن قبله أبو العباس الأصم في الثاني من حديثه رقم 142 من نسختي ، وعنه البيهقي في " المدخل " رقم ( 152 ) ، والديلمي ( 4 / 75 ) ، وابن عساكر ( 7 / 315 / 2 ) من طريق سليمان ابن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا .
قلت : وهذا إسناد ضعيف جدا : سليمان بن أبي كريمة قال ابن أبي حاتم ( 2 / 1 /138 ) عن أبيه : ضعيف الحديث.
وجويبر هو ابن سعيد الأزدي ، متروك ، كما قال الدارقطني والنسائي وغيرهما ، وضعفه ابن المديني جدا .
والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس ، وقال البيهقي عقبه : هذا حديث متنه مشهور ، وأسانيده ضعيفة ، لم يثبت في هذا إسناد .
والحديث أورد منه الجملة الأخيرة الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " ( 1 /25 ) وأورده السيوطي بتمامه في أول رسالته " جزيل المواهب في اختلاف المذاهب " من رواية البيهقي في " المدخل " ثم قال العراقي : وإسناده ضعيف .
والتحقيق أنه ضعيف جدا لما ذكرنا من حال جويبر ، وكذلك قال السخاوي

(1/146)


في " المقاصد " ولكنه موضوع من حيث معناه لما تقدم ويأتي .
فإذا عرفت هذا فمن الغريب قول السيوطي في الرسالة المشار إليها : في هذا الحديث فوائد ، منها إخباره صلى الله عليه وسلم باختلاف المذاهب بعده في الفروع ، وذلك من معجزاته ، لأنه من الإخبار بالمغيبات ، ورضاه بذلك وتقريره عليه حيث جعله رحمة ، والتخيير للمكلف في الأخذ بأيها شاء ... فيقال له : أثبت العشر ثم انقش ، وما ذكره من التخيير باطل لا يمكن لمسلم أن يلتزم القول والعمل به على إطلاقه لأنه يؤدي إلى التحلل من التكاليف الشرعية كما لا يخفى .
وانظر الكلام على الحديث الآتي ( 63 ) .
ومما سبق ، تعلم أن تصحيح الشيخ مهدي حسن الشاهجهانبوري لهذا الحديث في كتابه " السيف المجلى على المحلى " ( ص 3 ) وقوله : إنه حديث مشهور ليس بصحيح بل هو مخالف لأقوال أهل العلم بهذا الفن كما رأيت ، وله مثله كثير فانظر الحديث ( 87 ) .
وأما حديث عمر بن الخطاب فهو :
60 - " سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء ، بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى " .
موضوع .
رواه ابن بطة في " الإبانة " ( 4 / 11 / 2 ) والخطيب أيضا ونظام الملك في " الأمالي " ( 13 / 2 ) ، والديلمي في " مسنده " ( 2 / 190 ) ، والضياء في

(1/147)


" المنتقى عن مسموعاته بمرو" ( 116 / 2 ) وكذا ابن عساكر ( 6 / 303 / 1 ) من طريق نعيم بن حماد حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعا .
وهذا سند موضوع ، نعيم بن حماد ضعيف ، قال الحافظ : يخطئ كثيرا ، وعبد الرحيم بن زيد العمي كذاب كما تقدم ( 53 ) فهو آفته وأبوه خير منه .
والحديث أورده السيوطي في " الجامع الصغير " برواية السجزي في " الإبانة " وابن عساكر عن عمر ، وقال شارحه المناوي : قال ابن الجوزي في " العلل " : هذا لا يصح نعيم مجروح ، وعبد الرحيم قال ابن معين : كذاب ، وفي " الميزان " :
هذا الحديث باطل ، ثم قال المناوي : ظاهر صنيع المصنف أن ابن عساكر أخرجه ساكتا عليه والأمر بخلافه فإنه تعقبه بقوله : قال ابن سعد : زيد العمي أبو الحواري كان ضعيفا في الحديث ، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه ومن يروي عنه ضعفاء ، ورواه عن عمر أيضا البيهقي ، قال الذهبي : وإسناده واه .
قلت : وروى ابن عبد البر عن البزار أنه قال في هذا الحديث : وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر ، كذا في الموضعين : ابن عمر ، والظاهر أن لفظة ( ابن ) مقحمة من الناسخ في الموضع الأول وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد ، لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه ، والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح :

(1/148)


" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ " ، وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم لوثبت ، فكيف ولم يثبت ؟!
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه .
ثم روى عن المزني رحمه الله أنه قال : إن صح هذا الخبر فمعناه : فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه ، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به ، لا يجوز عندي غير هذا ، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلوكان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضا ، ولا أنكر بعضهم على بعض ، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه فتدبر .
قلت : الظاهر من ألفاظ الحديث خلاف المعنى الذي حمله عليه المزني رحمه الله ، بل المراد ما قالوه برأيهم ، وعليه يكون معنى الحديث دليلا آخر على أن الحديث موضوع ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم ، إذ كيف يسوغ لنا أن نتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم يجيز لنا أن نقتدي بكل رجل من الصحابة مع أن فيهم العالم والمتوسط في العلم ومن هو دون ذلك ! وكان فيهم مثلا من يرى أن البرد لا يفطر الصائم بأكله ! كما سيأتي ذكره بعد حديث.
وأما حديث ابن عمر فهو :
61 - " إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم " .
موضوع .
ذكره ابن عبد البر معلقا ( 2 / 90 ) وعنه ابن حزم من طريق أبي شهاب الحناط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر مرفوعا به .

(1/149)


وقد وصله عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " ( 86 / 1 ) : أخبرني أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب به ، ورواه ابن بطة في " الإبانة " ( 4 / 11 / 2 ) من طريق آخر عن أبي شهاب به ، ثم قال ابن عبد البر : وهذا إسناد لا يصح ، ولا يرويه عن نافع من يحتج به .
قلت : وحمزة هذا هو ابن أبي حمزة ، قال الدارقطني : متروك ، وقال ابن عدي :
عامة مروياته موضوعة ، وقال ابن حبان : ينفرد عن الثقات بالموضوعات حتى كأنه المتعمد لها ، ولا تحل الرواية عنه ، وقد ساق له الذهبي في " الميزان "
أحاديث من موضوعاته هذا منها .
قال ابن حزم ( 6 / 83 ) : فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلا ، بل لا شك أنها مكذوبة ، لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم : { وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى } ، فإذا كان كلامه عليه الصلاة والسلام في الشريعة حقا كله وواجبا فهو من الله تعالى بلا شك ، وما كان من الله تعالى فلا يختلف فيه لقوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }

(1/150)


وقد نهى تعالى عن التفرق والاختلاف بقوله : { ولا تنازعوا } ،فمن المحال أن يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم وفيهم من يحلل الشيء ، وغيره يحرمه ، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالا اقتداء بسمرة بن جندب ، ولكان أكل البرد للصائم حلالا اقتداء بأبي طلحة ، وحراما اقتداء بغيره منهم ، ولكان ترك الغسل من الإكسال واجبا بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب وحراما اقتداء بعائشة وابن عمر وكل هذا مروى عندنا بالأسانيد الصحيحة .
ثم أطال في بيان بعض الآراء التي صدرت من الصحابة وأخطأوا فيها السنة ، وذلك في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، ثم قال ( 6 / 86 ) : فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون ؟ ! .
وقال قبل ذلك ( 5 / 64 ) تحت باب ذم الاختلاف : وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى الذي شرع لنا دين الإسلام ، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى ببيان الدين ... فصح أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلا ، وقد غلط قوم فقالوا : الاختلاف رحمة ، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، قال : وهذا الحديث باطل مكذوب من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية .
أحدها : أنه لم يصح من طريق النقل .
والثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يأمر بما نهى عنه ، وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره ، وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة ، وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدة ، فمن المحال الممتنع
الذي لا يجوز البتة أن يكون

(1/151)


عليه السلام يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ .
فيكون حينئذ أمر بالخطأ تعالى الله عن ذلك ، وحاشا له صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة ، وهو عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنهم يخطئون ، فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطيء ، إلا أن يكون عليه السلام أراد نقلهم لما رووا عنه فهذا صحيح لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات ، فمن أيهم نقل ، فقد اهتدى الناقل .
والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الباطل ، بل قوله الحق ، وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر ، لأنه من أراد جهة مطلع الجدي ، فأم جهة مطلع السرطان لم يهتد ، بل قد ضل ضلالا بعيدا وأخطأ خطأ فاحشا ، وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق ، فبطل التشبيه المذكور ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحا ضروريا .
ونقل خلاصته ابن الملقن في " الخلاصة " ( 175 / 2 ) وأقره ، وبه ختم كلامه على الحديث فقال : وقال ابن حزم : خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط .
وروي هذا الحديث بلفظ آخر :
62 - " أهل بيتي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
موضوع .
وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب ، وقد وقفت عليها ، وهي من رواية أبي نعيم الأصبهاني قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن القاسم بن الريان المصري المعروف باللكي - بالبصرة في نهر دبيس قراءة عليه في صفر سنة سبع وخمسين وثلاث مئة فأقر به قال - أنبأنا أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط أبو جعفر الأشجعي بمصر - سنة اثنتين وسبعين ومئتين قال - حدثني أبي

(1/152)


إسحاق بن إبراهيم ابن نبيط ، قال : حدثني أبي إبراهيم بن نبيط عن جده نبيط بن شريط مرفوعا .
قلت : فذكر أحاديث كثيرة هذا منها ( ق 158 / 2 ) ، وقد قال الذهبي في هذه النسخة : فيها بلايا ! وأحمد بن إسحاق لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب .
وأقره الحافظ في " اللسان " .
قلت : والراوي عنه أحمد بن القاسم اللكي ضعيف .
والحديث أورده ابن عراق في " تنزيه الشريعة " ( 2 / 419 ) تبعا لأصله " ذيل الأحاديث الموضوعة " للسيوطي ( ص 201 ) وكذا الشوكاني في " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " ( ص 144 ) نقلا عن " المختصر " لكن وقع فيه نسخة نبيط الكذاب فكأنه سقط من النسخة لفظة ( ابن ) وهو أحمد بن إسحاق نسب إلى جده ،
وإلا فإن نبيطا صحابي.
انتهى كلام الشيخ الألباني.
ــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه رسالة ألَّفَها الشيخ ابن عثيمين:

الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه


إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70) (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71)
أما بعد: فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل البعض لماذا هذا الموضوع وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟
ولكن هذا العنوان وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لا سيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت وبالله أستعين أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين.إن من نعمة الله ـ تبارك وتعالى ـ على هذه الأمة أن الخلاف بين الأمة لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصلية، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون، وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:
أولاً: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى بعث محمداً بالهدى ودين الحق وهذا يتضمن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الدين بياناً شافياً كافياً، لا يحتاج بعده إلى بيان، لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله عز وجل ـ ورسول الله بعث بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يرجعون عند التنازع إليه فيحكم بينهم ويبين لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل القرآن مبيناً لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله: (يسألونك عن) كذا فيجيب الله ـ تعالى نبيه بالجواب الشافي ويأمره أن يبلغه إلى الناس، قال الله تعالى)يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (المائدة:4)
) وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(البقرة: الآية219) ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال:1)
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) (البقرة، الآية:189) .
()يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)


إلى غير ذلك من الآيات.

ولكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اختلفت الأمة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة، وأصول مصادرها.

ولكنه اختلاف سنبين إن شاء الله بعض أسبابه.

ونحن جميعاً نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق

بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن عمد وقصد؛ لأن من اتصفوا بالعلم والديانة، فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومن كان رائده الحق فإن الله سييسره له. واستمعوا إلى قوله تعالى)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17) ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) (الليل:5) ()وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل:6- 7) ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لابد أن يكون ، لأن الإنسان كما وصفه الله ـ تعالى ـ بقوله: (وخلق الإنسان ضعيفاً) . (النساء، الآية:28) . الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابد أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور. ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة: مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي:

السبب الأول:

أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.

وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن بعدهم . ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع:

الأول إننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري(115) وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام، وفي أثناء الطريق، ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابةـ رضي الله عنهم ـ فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين . . . وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائباً في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه" فكان هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.

مثال آخر: كان علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر. . أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عنده وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل(116) ، لأن الله تعالى يقول:" ( وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(الطلاق: الآية4). ويقول: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(البقرة: الآية234) وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ولكن السنة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى: ( وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). (الطلاق، الآية:4). وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.

السبب الثاني:

أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم.

فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا نفقة لها ولا سكنى(117)،

وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً لقوله تعالى) وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(الطلاق: الآية6)عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلاً وعلماًـ خفيت عليه هذه السنة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل، وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

السبب الثالث:

أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجل من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية.

رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً، وكان معه أبي بن كعب ـ رضي الله عنه فلما انصرف من صلاته قال:"هلا كنت ذكرتنيها"(118) وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه: (سنقرئك فلا تنسى* إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى). ( الأعلى، الآيتان:6، 7). ومن هذا ـ أي مما يكون قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسرـ رضي الله عنهما ـ حينما أرسلهما رسول الله في حاجة، فأجنبا جميعاً عمار وعمر(119) . أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر ـ رضي الله عنه ـ فلم يصل ... ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ـ وضرب بيديه الأرض مرة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه وكان عمار ـ رضي الله عنه ـ يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا". ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال :اتق الله يا عمار، فقال له عمال: إن شئت بما جعل الله علّي من طاعتك أن لا أحدث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت ـ يعني فحدث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وحصل بينه وبين أبي موسى ـ رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية يعني آية المائدة، فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن لا شك في أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجنب يتيمم، كما أن المحدث حدثاً أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي فيقول قولاً يكون به معذوراً، لكن من علم الدليل فليس بمعذور، هذان سببان.

السبب الرابع:

أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.

فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السنة:

1ـ من القرآن قوله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيبا). (النساء، الآية:43) .

اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في معنى(أو لامستم النساء). ففهم بعض منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجماع وهذا الرأي رأي ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ .

وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: ) فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(المائدة: من الآية6) أما الأكبر فقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(المائدة: الآية6). وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يذكر أيضاً موجبا الطهارتين في طهارة التيمم فقوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر . . . وقوله: (أو لامستم النساء) إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر . . ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فاللذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس إنسان ذكر بشرة الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة أنتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ(120) ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.

2ـ من السنة: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال:"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(121)

الحديث ، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم من فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها. ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله أن لا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.



السبب الخامس:

أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ فيكون الحديث صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر؛ لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم الناسخ.

ومن هذا رأي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه. هذا هو المشروع في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وصار المشروع أن يضع يديه على ركبته. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يعلم

بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق . . . لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه، قال تعالى)لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)



السبب السادس:


أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو أجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعاً.

ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان، النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.

ويمكن أن نمثل ذلك برأي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في ربا الفضل.

ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنما الربا في النسيئة"(122) .

وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره:"أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة"(123)

وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعاً من القمح بصاعين يداً بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط . وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخرت القبض، فأعتطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا . . لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن : إنما تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من زاد أو استزاد فقد أربى(124) .

إذن ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) (آل عمران:130) إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": إلى تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.

السبب السابع:

أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً . وهذا كثير جدًّا، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح(125)وهو أن يصلي الإنسان ركعتين ، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشر تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع، ويرى آخرون: أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وإن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سنداً ومتناً، وأن من قال إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: أنه لم يستحبها أحد من الأئمة .

وإنما مثلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس؛ لأننا نعتقد أن كل من دان لله ـ سبحانه ـ مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه بدعة.

كذلك أيضاً من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث أسود"ذكاة الجنين ذكاة أمه"(126)

فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أخرج منها بعد الذبح؛ لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.

ومن العلماء من فهم أن المراد به أي بالحديث . . . إن ذكاة الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل"(127) . ومن المعلوم أنه لا يمكن إنهار الدم بعد الموت، هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة، وبحر لا ساحل له . . ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟

وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو أختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون من نتبع؟

تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيد

وحينئذ نقول: موقفنا من هذا الخلاف وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علماً وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.

ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:

1ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يتقضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحراً في العلم.

2ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ ايتبع الإنسان إماماً لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لما ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة؛ لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن يبقى الأمر فيه نظر؛ لأننا لانزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل، هو جيد أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئت، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع، والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:

1ـ عالم رزقه الله علماً وفهماً.

2ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحر.

3ـ عامي لا يدري شيئاً.

أما الأول:

فإنه له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس لأنه مأمور بذلك، قال تعالى: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم). (النساء، الآية:83). وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.

أما الثاني:

الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم لأنه قد يخطئ وقد لا يصل علمه إلى شيء خصص ما كان عاماً، أو قيد ما كان مطلقاً، أو نسخ ما يراه محكماً. وهو لا يدري بذلك.

أما الثالث:

وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء:الآية7) وفي آية أخرى: (إن كنتم لا تعلمون*بالبينات والزبر) (النحل، الآيتان:43-44) . فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن من يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه: إنه عالم فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم

والمفضول قد يوفق للعمل في مسألة معينة، ولا يوفق من هل أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟

فمنهم من يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى في أمور الطب فكذلك هنا، لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علماً إذ لا فرق.

ومنهم من يرى: أن في ذلك ليس بواجب لأن من هو أقوى علماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.

والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.

وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولا سيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم.

فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء"(128) .

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة وهو من علم الحق فحكم به"(129) . كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لا سيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.

وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمن سئل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار، مستنبطاً من قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105) ( واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما) . (النساء، 106) . لأن الإكثار من الأستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به). (المائدة، الآية:13) .

وقد ذكر الشافعي أنه قال:

شكوت إلى وكيع سوءَ حفظي ^^^ فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلـم بأن العلـم نـور ^^^ ونـور الله لا يؤتاه عـاصي

فلا جرم حينئذ أن يكون الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء.

وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول المثبت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.

والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً.


وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



(115) البخاري، كتاب الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة.


(116) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الطلاق، آية: 4. ومسلم، كتاب الطلاق، باب:انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.



(119) البخاري، كتاب التيمم، باب: التيمم ضربة، ومسلم، كتاب الحيض، باب: التيمم.


(120) أخرجه الإمام أحمد جـ6 ص210، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القُبلة، والترمذي، كتاب الطهارة ، باب: الوضوء من القبلة، وابن ماجة، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القبلة، والنسائي، كتاب الطهارة، باب: ترك الوضوء من القبلة، والدار قطني جـ1 ص138، والبيهقي جـ1 ص125.

(121) البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: المبادرة بالغزو.


(122) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل.




(125) حديث صلاة التسبيح تقدم تخريجه رقم (55).

(126) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص39، والترمذي، كتاب الأطعمة، باب: ذكاة الجنين، وابن ماجة، كتاب الذبائح، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والدارمي، كتاب الأضاحي، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والبيهقي، جـ 9 ص335، والحاكم في "المستدرك" جـ4 ص127، والطبراني في الكبير، جـ 4 ص192، وابن أبي شيبة في المصنف جـ14 ص179، والهيثمي في "المجمع" جـ4 ص35، وأبو نعيم في "الحلية" جـ7 ص92، وابن حبان(1077). قال الحاكم"صحيح على شرط مسلم"،ووافقه الذهبي. وقال الزيلعي في "نصب الراية" جـ4 ص190:"ورجاله رجال الصحيح، وليس فيه غير ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع، فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في "الضعفاء" وروى له هذا الحديث، وصححه الألباني في "الإرواء" جـ8 ص14.

(127) أخرجه البخاري، كتاب الذبائح، باب: التسمية على الذبيحة، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر.



(129)أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب: في القاضي يخطئ بلفظ:"القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" قال أبو داود:" وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة". وأخرجه الترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، بلفظ:" القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار. وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة".وأخرجه ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق، والبغوي في "شرح السنة" جـ10 ص94، والبيهقي جـ10 ص116 ، ص117، والطبراني في "المعجم الكبير" جـ2 ص5، والحاكم في "المستدرك" جـ4 ص91، وقال:"حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. قال الهيثمي:"رجاله ثقات".



 

المالكي المصري

عضو كالشعلة
5 أكتوبر 2009
432
4
0
الجنس
ذكر

محمد أبو يوسف

عضو شرف
عضو شرف
28 نوفمبر 2005
2,415
11
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
مصطفى إسماعيل
رد: الخلاف (أنواعه وأسبابه), والموقف من مسائل الخلاف

جزاك الله خيرا أخي المالكي المصري و زادك الله حرصا و وتوفيقا
 

المالكي المصري

عضو كالشعلة
5 أكتوبر 2009
432
4
0
الجنس
ذكر
رد: الخلاف (أنواعه وأسبابه), والموقف من مسائل الخلاف

وإياك أخي الكريم, أسأل الله لك الإعانة على كل خير.
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع