- 12 سبتمبر 2007
- 1,826
- 14
- 0
- الجنس
- ذكر
بسم الله الرحمـــــــــــــن الرحيم
قال أستاذي :
هذه قصّةُ فِراقٍ واقعيّةٌ بَاكيةٌ خططتُها في هذِهِ السّاحةِ قبلَ عامٍ أو أقلّ قليلاً ، ثمّ قدّر اللهُ عزّ وجلّ وضَاعَتْ مِن أرشيفِ الساحةِ ، ومِن أرشيفِ حاسُوبي ، فبحثتُ عنها كثيراً ولكنّني لم أهتدِ إليها سبيلاً .
ثمّ أرادُ الله عزّ وجلّ أن أجدَها اليوم في دِهليزٍ مِن دهالِيزِ مُستنداتٍ قديمةٍ لي ، فعَادت بيَ الذكرى ، وهاجَت بيَ الأحزانُ ، فآثَرتُ نَشرَها مَرةً أخرى ، عِبرةً وادّكاراً .
إليكُمُــــــــــــــــــوهَا ..
رُغمَ تَقادُمِ العَهدِ ، وَتتابُع الليَالي والأيّام ِ ، إلا أنَّني لازِلتُ أستَحضِرُ في ضَميرِي تلكَ الحَادِثَةَ ، وأَتذَكّرُ ذَلِكَ المَوقِفَ ، يَتَجَدّدُ في ذِهنِي كأنّهُ بالأمسِ وَقَعَ ، ولاَ غروَ فَقَد كانَتِ أحدَاثُه تَتَسارَعُ بِشكلٍ مُلفِتٍ ، وتسيرُ في تَتَابُعٍ عَجيبٍ ، وإنْ غَابَ عَنْ ذِهني شئٌ فَلنْ تَغِيبَ أبَدَاً صُورَتُهَا فِي برَاءَتهَا وَرَشَاقَتِهَا ، وَهيَ تَقِفُ عَلَى حافّةِ الطّرِيقِ ، حِينَمَا أَقبَلتُ بسَيّارَتي نَحوَهَا، وَهيَ تَرتَجِفُ خَوفا ، تَكَادُ لِمَا بِهَا تَسقُطُ عَلَى الأرْضِ ، كُنْتُ كُلّمَا اقتَرَبتُ مِنْهَا زَادَ خَوْفُهَا وَوَجَلُهَا ، لاحَظْتُ ذَلِكَ حِيْنَ رأيتُهَا تُحَاولُ الابتِعَادَ ، وتُشيح بِوَجهِهَا عَنّي ، وَمَا زَالَت تَبتَعدُ وأنَا أقتَربُ حَتّى أَوقَفتُ عَجَلاتِ سَيّارَتِي بِجِوَارِهَا تمَاماً، نَظَرْتُ إليْهَا مِنَ النّافِذةِ فإذَا الرّعبُ قَد بَلَغ مِنهَا مَبلَغَهُ ، وَوَصَلَ مُنْتَهَاهُ ، تَنظُرُ إليّ بِسُرعةٍ ثمّ تَصرِفُ بَصَرَها يَمِيْنَاً وَشِمَالاً ، وكأنّهَا تَخَافُ أن يَرَاهَا أحدٌ مِنْ أهْلِهَا عَلى تِلكَ الحَالِ .
لَمْ يَكُنْ لَدَيّ مِنَ الوَقتِ مُتّسَعٌ للتّفْكِيرِ ، أوْ مُشَاوَرَتِها حَولَ إمْكَانيّةِ صُعُوْدِهَا مَعِيَ ، فالتّوتّرُ والقَلَق يَخْنُقانِ تِلكَ الثَوَاني السّرِيعَةِ ، وَحَالُهَا لا ينُبِئُ أَنّهَا سَتَفعَلُ ذَلكَ بِمَحْضِ إِرَادَتِهَا ، واضْطِرَابُهَا وإنْ لمْ تُفْصِحْ يَدُلّ أنّهَا نَادِمَةٌ عَلى اللّقاءِ ، وأنّهَا تُفَضّلُ الانْصِرَافَ ، وأمَامَ هَذّا الوَضعِ مَا كَانَ ليَ مِنْ بُدّ إلاّ أنْ أتَصَرّفَ بِسُرعَةٍ وَحِكْمَةٍ ، فَتَرَجّلتُ مِنْ سَيّارَتي ، وَتَوجّهتُ نَحْوَهَا ، وَقَبْلَ أنْ أدْخُلَ مَعَهَا في حَدِيثٍ أو مُفاصَلاتٍ ، حَمَلتُهَا بِسُرعَةٍ دَاخِلَ السّيارَةِ ، وَأغلَقتُ البَابَ بإحْكَامٍ .
جَلَسْتُ خَلفَ المِقوَدِ والتَقَطْتُ أنفَاسِي ، لَحَظاتٌ سَرِيعَةٌ مِنَ الخَوفِ والوَجَل ، وَثَوانٍ مَعْدُودَةٍ مِنَ الصّمْتِ المُتَبَادَلِ سَادَتِ المَوْقِفَ ، لَمْ يَقطَعهَا سِوَى صَوتُ المُحرّكِ عِندَمَا أَدَرْتُهُ اسْتِعداداً للانطِلاَقِ ، تَحَرّكَتْ بِنَا السّيارَةُ وَهِيَ بِجِوَارِي صَامِتَةً وَجِِلَةٍ ، لا تَنطِقُ بِكَلِمَةٍ ، وَلا تَنبسُ بِبِنتِ شَفَة ، وَكَأنمّا عَقَدَ الَخوفُ لِسَانَها ، وَجَمّدَ مَشَاعِرَهَا ، تَوَقعتُ أنْ تُحَاوِلَ الهَرَبَ أو المُقَاوَمَةَ ، أو عَلى الأقلِّ تَصِيح أوْ تَستَغيث ، وَلَكنّ شيئاً مِن ذلكَ لَم يَكُن ، وَإنّمَا ظَلّتْ طِوَالَ الطّرِيقِ وَاجِمَةً تَنظُرُ إليّ بِعَينَينِ دَامِعَتَينِ ، أَحسَنَ اللهُ خَلقَهُمَا ، وَأبدَعَ صُنعَهُمَا ، كَأنّما أَقرَأُ فِيهِمَا حَدِيثَ رُوحٍ مُشفِقَةٍ ، وَنجَوَى قَلبٍ خائِفٍ .
فَضّلتُ أنْ لا أفتَحَ مَعَهَا حَدِيثَا ، قَدْ يُثِيرُ أَشْجَانَها ، أو يُضَاعِفُ أحزَانَهَا ، وَاكتَفَيتُ بِاسترَاقِ النّظَرِ إِليهَا كُلّمَا سَنَحَتْ بَذَلكَ فُرْصَةٌ ، وَتَأمُّلِ بَدِيعِ مَا حَبَاهَا اللهُ بِهِ ، مِنْ جَمَالِ خَلْقٍ ، وَحُسْنِ قِوَامٍ ، فِي جَوًّ مُطْبِقٍ مِنَ الصّمْتِ والهُدُوءِ ، أسْمَعُ مِنْ خِلاَلِهِ رَجْعَ أنْفَاسِهَا ، وَدَقّاتِ قَلبِهَا ، وَبَقِينَا عَلى هَذِهِ الحَالِ حَتّى وَصَلنَا حَيثُ الَمكَانُ الذيْ سَنَنْزِلُ فِيهِ ، وَهُنَاكَ تَرَجّلتُ مِنْ سَيّارَتِي ، وَتَوَجّهْتُ إلى البَابِ الُمجَاوِرِ لهَا ، وَبَادَلتُهَا نَظَرَاتٍ مِنَ الحَيْرَةِ وَالوَجَلِ ، ثُمّ أَخَذْتُ بِيَدَيْهَا حَتّى نَزَلَتْ ، وَكَانَ فِي انتِظارِنا أَحدُ المَسئُولِينَ عَنِ استِقبَالِنا وَالاهتِمَامِ بِشَأنِنَا ، حَيثُ رَحّبَ بِي أَجمَلَ تَرحِيبٍ ، وَرَافَقَني إلى الدّاخِلِ .
ولمّا وَلَجْنَا مَلأَتْ نَوَاظِرَنَا مَقصُورَةٌ وَاسِعَةٌ ، لا تَكَادُ تَرَى أطْرَافَهَا لاتّساعِهَا ، بِهَا مَدَاخِلُ وَبَوّابَاتٌ ، وبِجِوَارِ كُلّ مَدْخَلٍ نَافِذَةٌ زُجَاجِيّةٌ صَغِيرَةُ ، تَوَجّهْتُ إلى أحدِ هذهِ المدَاخِل وَهِيَ بِرِفقَتِي ، خَطوُهَا لا يُفَارِقُ خَطْوِي ، فَأدخَلتُهَا قَبلِي ، وَلمّا حَاوَلتُ الدُخولَ مَعَهَا ، نَادَاني أَحدُ العَامِلِينَ هُنَاكَ ، وَقَالَ : يَا أَخُ . لَو سَمَحتَ انتَظِر ! لاَ يُمكِنَكَ الدّخُولُ مِنْ هُنَا !!
تَفَاجَأتُ جِدّا ، فَلَم أكُنْ أتَوَقعُ أنّ الأمورَ سَتَؤولُ إلى هَذِهِ الحَالِ ، ولا أنّنَا سَنفتَرقُ بِهَذِهِ السُرعَةِ ، أو أنني سأفقِدُهَا بِهذهِ البَسَاطَةِ ، خَاصّةً وَأنّني أرَى بِالدّاخِلِ مَجمُوعةً مِنَ النّاسِ استَطَاعُوا الدُخُولَ ، فَلِمَاذَا أُمنَعُ أنا بِالذّاتِ ؟
حَاوَلتُ أنْ أتفَاهَمَ مَعَهُ ، وَلَكِنْ دُونَ جَدوَى ، فلمّا استيئستُ مِنَ الدُخُولِ مَعَهَا ، ذَهبتُ أنْظُرُ عَبر إحدَى النّوَافِذِ الزّجَاجِيّة ، لَعلّي أظفَرُ بِرُؤيَتِهَا ، وأطمَئنّ عَليهَا ، أجَلتُ نَظَري في أرجاءِ المَقصُورَةِ الوَاسِعَةِ ، فرَأيتُها وَقَد ذَهَبَتْ بَعيداً بعيدَاً ، قَدْ تَملّكَهَا الخَوفُ تَمَاماً ، تَسِيرُ لِوَحدِهَا وتَنظُرُ هُنَا وَهُنَاكَ ، وَكَأنّهَا تَبحَثُ عَنّي ، ثُمّ حَانَتْ مِنهَا التِفَاتَةٌ بَرِيئَةٌ فَوَقَعَتْ عَينَايَ بِعَيْنَيْهَا ، فَارْتَجَفَ قَلبِي ، وَاضطَرَبَتْ مَشَاعِرِي ، وَكِدْتُ لَولا بُعدَهَا عَنّي أنْ أُنَادِيهَا بِأعْلَى صَوْتِي.
لَحَظَاتٌ مِنَ النّظَراتِ المُتَبَادلةِ ، كانَتْ أقصَرَ بكثيرٍ مِنَ نَظَراتِنَا الأولى ، ولكنّها كانتْ تَحمِلُ مِنَ المَعَاني أضعافَ أضعافَ ، وتُوصِلُ مِنَ المَشاعِرِ مَا تَعجَزُ عَن وَصفِهِ الكَلِمات ، وَهَل تستَطِيعُ الكلماتُ أن تَصفَ معنَى الفِراقِ الذي لا لِقاءَ بَعدَهُ ؟؟
لَم يَقطَع حَبلَ تِلكَ المَعَاني والمَشَاعِرِ إلاّ أحدُ العَامِلينَ فِي تِلكَ المَقصُورَةِ حينَ مدّ يَدَهُ إليْهَا ، وأخذَ بِرَقَبَتِهَا ، وأضجَعَهَا عَلَى جَنْبِهَا الأيسَرِ ، ثمّ وَجّهَهَا للقِبْلَةِ ، ثُمّ قالَ : بِسمِ الله واللُه أكبَرُ ..
ثمّ انقَطَع الاتّصَالُ !!
قال أستاذي :
هذه قصّةُ فِراقٍ واقعيّةٌ بَاكيةٌ خططتُها في هذِهِ السّاحةِ قبلَ عامٍ أو أقلّ قليلاً ، ثمّ قدّر اللهُ عزّ وجلّ وضَاعَتْ مِن أرشيفِ الساحةِ ، ومِن أرشيفِ حاسُوبي ، فبحثتُ عنها كثيراً ولكنّني لم أهتدِ إليها سبيلاً .
ثمّ أرادُ الله عزّ وجلّ أن أجدَها اليوم في دِهليزٍ مِن دهالِيزِ مُستنداتٍ قديمةٍ لي ، فعَادت بيَ الذكرى ، وهاجَت بيَ الأحزانُ ، فآثَرتُ نَشرَها مَرةً أخرى ، عِبرةً وادّكاراً .
إليكُمُــــــــــــــــــوهَا ..
رُغمَ تَقادُمِ العَهدِ ، وَتتابُع الليَالي والأيّام ِ ، إلا أنَّني لازِلتُ أستَحضِرُ في ضَميرِي تلكَ الحَادِثَةَ ، وأَتذَكّرُ ذَلِكَ المَوقِفَ ، يَتَجَدّدُ في ذِهنِي كأنّهُ بالأمسِ وَقَعَ ، ولاَ غروَ فَقَد كانَتِ أحدَاثُه تَتَسارَعُ بِشكلٍ مُلفِتٍ ، وتسيرُ في تَتَابُعٍ عَجيبٍ ، وإنْ غَابَ عَنْ ذِهني شئٌ فَلنْ تَغِيبَ أبَدَاً صُورَتُهَا فِي برَاءَتهَا وَرَشَاقَتِهَا ، وَهيَ تَقِفُ عَلَى حافّةِ الطّرِيقِ ، حِينَمَا أَقبَلتُ بسَيّارَتي نَحوَهَا، وَهيَ تَرتَجِفُ خَوفا ، تَكَادُ لِمَا بِهَا تَسقُطُ عَلَى الأرْضِ ، كُنْتُ كُلّمَا اقتَرَبتُ مِنْهَا زَادَ خَوْفُهَا وَوَجَلُهَا ، لاحَظْتُ ذَلِكَ حِيْنَ رأيتُهَا تُحَاولُ الابتِعَادَ ، وتُشيح بِوَجهِهَا عَنّي ، وَمَا زَالَت تَبتَعدُ وأنَا أقتَربُ حَتّى أَوقَفتُ عَجَلاتِ سَيّارَتِي بِجِوَارِهَا تمَاماً، نَظَرْتُ إليْهَا مِنَ النّافِذةِ فإذَا الرّعبُ قَد بَلَغ مِنهَا مَبلَغَهُ ، وَوَصَلَ مُنْتَهَاهُ ، تَنظُرُ إليّ بِسُرعةٍ ثمّ تَصرِفُ بَصَرَها يَمِيْنَاً وَشِمَالاً ، وكأنّهَا تَخَافُ أن يَرَاهَا أحدٌ مِنْ أهْلِهَا عَلى تِلكَ الحَالِ .
لَمْ يَكُنْ لَدَيّ مِنَ الوَقتِ مُتّسَعٌ للتّفْكِيرِ ، أوْ مُشَاوَرَتِها حَولَ إمْكَانيّةِ صُعُوْدِهَا مَعِيَ ، فالتّوتّرُ والقَلَق يَخْنُقانِ تِلكَ الثَوَاني السّرِيعَةِ ، وَحَالُهَا لا ينُبِئُ أَنّهَا سَتَفعَلُ ذَلكَ بِمَحْضِ إِرَادَتِهَا ، واضْطِرَابُهَا وإنْ لمْ تُفْصِحْ يَدُلّ أنّهَا نَادِمَةٌ عَلى اللّقاءِ ، وأنّهَا تُفَضّلُ الانْصِرَافَ ، وأمَامَ هَذّا الوَضعِ مَا كَانَ ليَ مِنْ بُدّ إلاّ أنْ أتَصَرّفَ بِسُرعَةٍ وَحِكْمَةٍ ، فَتَرَجّلتُ مِنْ سَيّارَتي ، وَتَوجّهتُ نَحْوَهَا ، وَقَبْلَ أنْ أدْخُلَ مَعَهَا في حَدِيثٍ أو مُفاصَلاتٍ ، حَمَلتُهَا بِسُرعَةٍ دَاخِلَ السّيارَةِ ، وَأغلَقتُ البَابَ بإحْكَامٍ .
جَلَسْتُ خَلفَ المِقوَدِ والتَقَطْتُ أنفَاسِي ، لَحَظاتٌ سَرِيعَةٌ مِنَ الخَوفِ والوَجَل ، وَثَوانٍ مَعْدُودَةٍ مِنَ الصّمْتِ المُتَبَادَلِ سَادَتِ المَوْقِفَ ، لَمْ يَقطَعهَا سِوَى صَوتُ المُحرّكِ عِندَمَا أَدَرْتُهُ اسْتِعداداً للانطِلاَقِ ، تَحَرّكَتْ بِنَا السّيارَةُ وَهِيَ بِجِوَارِي صَامِتَةً وَجِِلَةٍ ، لا تَنطِقُ بِكَلِمَةٍ ، وَلا تَنبسُ بِبِنتِ شَفَة ، وَكَأنمّا عَقَدَ الَخوفُ لِسَانَها ، وَجَمّدَ مَشَاعِرَهَا ، تَوَقعتُ أنْ تُحَاوِلَ الهَرَبَ أو المُقَاوَمَةَ ، أو عَلى الأقلِّ تَصِيح أوْ تَستَغيث ، وَلَكنّ شيئاً مِن ذلكَ لَم يَكُن ، وَإنّمَا ظَلّتْ طِوَالَ الطّرِيقِ وَاجِمَةً تَنظُرُ إليّ بِعَينَينِ دَامِعَتَينِ ، أَحسَنَ اللهُ خَلقَهُمَا ، وَأبدَعَ صُنعَهُمَا ، كَأنّما أَقرَأُ فِيهِمَا حَدِيثَ رُوحٍ مُشفِقَةٍ ، وَنجَوَى قَلبٍ خائِفٍ .
فَضّلتُ أنْ لا أفتَحَ مَعَهَا حَدِيثَا ، قَدْ يُثِيرُ أَشْجَانَها ، أو يُضَاعِفُ أحزَانَهَا ، وَاكتَفَيتُ بِاسترَاقِ النّظَرِ إِليهَا كُلّمَا سَنَحَتْ بَذَلكَ فُرْصَةٌ ، وَتَأمُّلِ بَدِيعِ مَا حَبَاهَا اللهُ بِهِ ، مِنْ جَمَالِ خَلْقٍ ، وَحُسْنِ قِوَامٍ ، فِي جَوًّ مُطْبِقٍ مِنَ الصّمْتِ والهُدُوءِ ، أسْمَعُ مِنْ خِلاَلِهِ رَجْعَ أنْفَاسِهَا ، وَدَقّاتِ قَلبِهَا ، وَبَقِينَا عَلى هَذِهِ الحَالِ حَتّى وَصَلنَا حَيثُ الَمكَانُ الذيْ سَنَنْزِلُ فِيهِ ، وَهُنَاكَ تَرَجّلتُ مِنْ سَيّارَتِي ، وَتَوَجّهْتُ إلى البَابِ الُمجَاوِرِ لهَا ، وَبَادَلتُهَا نَظَرَاتٍ مِنَ الحَيْرَةِ وَالوَجَلِ ، ثُمّ أَخَذْتُ بِيَدَيْهَا حَتّى نَزَلَتْ ، وَكَانَ فِي انتِظارِنا أَحدُ المَسئُولِينَ عَنِ استِقبَالِنا وَالاهتِمَامِ بِشَأنِنَا ، حَيثُ رَحّبَ بِي أَجمَلَ تَرحِيبٍ ، وَرَافَقَني إلى الدّاخِلِ .
ولمّا وَلَجْنَا مَلأَتْ نَوَاظِرَنَا مَقصُورَةٌ وَاسِعَةٌ ، لا تَكَادُ تَرَى أطْرَافَهَا لاتّساعِهَا ، بِهَا مَدَاخِلُ وَبَوّابَاتٌ ، وبِجِوَارِ كُلّ مَدْخَلٍ نَافِذَةٌ زُجَاجِيّةٌ صَغِيرَةُ ، تَوَجّهْتُ إلى أحدِ هذهِ المدَاخِل وَهِيَ بِرِفقَتِي ، خَطوُهَا لا يُفَارِقُ خَطْوِي ، فَأدخَلتُهَا قَبلِي ، وَلمّا حَاوَلتُ الدُخولَ مَعَهَا ، نَادَاني أَحدُ العَامِلِينَ هُنَاكَ ، وَقَالَ : يَا أَخُ . لَو سَمَحتَ انتَظِر ! لاَ يُمكِنَكَ الدّخُولُ مِنْ هُنَا !!
تَفَاجَأتُ جِدّا ، فَلَم أكُنْ أتَوَقعُ أنّ الأمورَ سَتَؤولُ إلى هَذِهِ الحَالِ ، ولا أنّنَا سَنفتَرقُ بِهَذِهِ السُرعَةِ ، أو أنني سأفقِدُهَا بِهذهِ البَسَاطَةِ ، خَاصّةً وَأنّني أرَى بِالدّاخِلِ مَجمُوعةً مِنَ النّاسِ استَطَاعُوا الدُخُولَ ، فَلِمَاذَا أُمنَعُ أنا بِالذّاتِ ؟
حَاوَلتُ أنْ أتفَاهَمَ مَعَهُ ، وَلَكِنْ دُونَ جَدوَى ، فلمّا استيئستُ مِنَ الدُخُولِ مَعَهَا ، ذَهبتُ أنْظُرُ عَبر إحدَى النّوَافِذِ الزّجَاجِيّة ، لَعلّي أظفَرُ بِرُؤيَتِهَا ، وأطمَئنّ عَليهَا ، أجَلتُ نَظَري في أرجاءِ المَقصُورَةِ الوَاسِعَةِ ، فرَأيتُها وَقَد ذَهَبَتْ بَعيداً بعيدَاً ، قَدْ تَملّكَهَا الخَوفُ تَمَاماً ، تَسِيرُ لِوَحدِهَا وتَنظُرُ هُنَا وَهُنَاكَ ، وَكَأنّهَا تَبحَثُ عَنّي ، ثُمّ حَانَتْ مِنهَا التِفَاتَةٌ بَرِيئَةٌ فَوَقَعَتْ عَينَايَ بِعَيْنَيْهَا ، فَارْتَجَفَ قَلبِي ، وَاضطَرَبَتْ مَشَاعِرِي ، وَكِدْتُ لَولا بُعدَهَا عَنّي أنْ أُنَادِيهَا بِأعْلَى صَوْتِي.
لَحَظَاتٌ مِنَ النّظَراتِ المُتَبَادلةِ ، كانَتْ أقصَرَ بكثيرٍ مِنَ نَظَراتِنَا الأولى ، ولكنّها كانتْ تَحمِلُ مِنَ المَعَاني أضعافَ أضعافَ ، وتُوصِلُ مِنَ المَشاعِرِ مَا تَعجَزُ عَن وَصفِهِ الكَلِمات ، وَهَل تستَطِيعُ الكلماتُ أن تَصفَ معنَى الفِراقِ الذي لا لِقاءَ بَعدَهُ ؟؟
لَم يَقطَع حَبلَ تِلكَ المَعَاني والمَشَاعِرِ إلاّ أحدُ العَامِلينَ فِي تِلكَ المَقصُورَةِ حينَ مدّ يَدَهُ إليْهَا ، وأخذَ بِرَقَبَتِهَا ، وأضجَعَهَا عَلَى جَنْبِهَا الأيسَرِ ، ثمّ وَجّهَهَا للقِبْلَةِ ، ثُمّ قالَ : بِسمِ الله واللُه أكبَرُ ..
ثمّ انقَطَع الاتّصَالُ !!