إعلانات المنتدى


كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

القاسمية 26

مزمار داوُدي
2 أغسطس 2010
6,454
202
63
الجنس
أنثى
كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

تفسير سورة الذاريات

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) شرح الكلمات :
{ والذاريات ذروا } : أي الرياح تذروا التراب وغيره ذروا .
{ فالحاملات وقرا } : أي السحب تحمل الماء .
{ فالجاريات يُسرا } : أي السفن تجري على سطح الماء بسهولة .
{ فالمقسمات أمرا } : أي الملائكة تقسم بأمر ربها الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد .
{ إن ما توعدون لصادق } : أي إن ما وعدكم به ربكم لصادق سواء كان خيراً أو شراً .
{ وإن الدين لواقع } : أي وأن الجزاء بعد الحساب لواقع لا محالة .
{ والسماء ذات الحبك } : أي ذات الطرق كالطرق التي تكون على الرمل والحبك جمعُ حبيكة .
{ إنكم لفي قول مختلف } : أي يا أهل مكة لفي قول مختلف أي في شأن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم من يقول القرآن سحر وشعر وكهانة ومنهم من يقول النبي كاذب أو ساحر أو شاعر .
{ يؤفك عنه من أفك } : أي يصرف عن النبي والقرآن من صُرف .
{ قتل الخراصون } : أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب .
{ الذين هم في غمرة ساهون } : أي في غمرة جهل تغمرهم ساهون أي غافلون عن أمر الآخرة .
{ يسألون أيان يوم الدين } : أي يسألون النبي صلى الله عليه وسلم سؤال استهزاء متى يوم القيامة؟ وجوابهم يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون فيها .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والذاريات } هذا شروع في قسم ضخم أقسم الله تعالى به وهو الذاريات ذروأ أي الرياح تذروا التراب وغيره من الأشياء الخفيفة { فالحاملات وقرأ } أي السحب تحمل الماء { فالجاريات يسرا } أي السفن تجري على سطح الماء { فالمقسمات أمرا } أي الملائكة تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بأمر بها كل هذا قسم أقسم الله به وجوابه { إنما توعدون } أيها الناس من البعث والجزاء بالنعيم المقيم أو بعذاب الجحيم لصادق وإن الدين أي الجزاء العادل لواقع أي كائن لا محالة . وقوله { والسماء ذات الحبك } هذا قسم آخر أي ذات الطرق كالتي على الرمل جمع حبيكة بمعنى طريقة { إنكم لفي قول مختلف } هذا جوا بالقسم فمنكم من يقول محمد ساحر ومنكم من يقول كاذب أو كاهن . ومنكم من يقول في القرآن سحر وشعر كهانة وقوله تعالى { يؤفك عنه من أفك } أي يصرف عن القرآن ومن نزل عليه من أفك أي صرف بقضاء الله وقدره . وقوله تعالى { قتل الخراصون } أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب والظن الذين هم في غمرة جهل تغمرهم ساهون أي غافلون عن أمر الآخرة وما لهم فيه من عذاب لو شاهدوه ما ذاقوا طعاماً ولا شراباً لذيذاً .
وقوله تعالى يسألون أيّان يوم الدين أي متى قيام الساعة ومجيئها وهم في هذا مستهزئون ساخرون وجوابهم في قوله تعالى يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون ويقال لهم ذوقوا فتنكم أي عذابكم هذا الذي كنتم به تستعجلون أي تطالبون به رسولنا بتعجيله لكم استخفافا وتكذيبا منكم .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء حيث أقسم تعالى على ذلك .
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر في قوله يؤفك عنه من أفك .
3- لعن الله الخراصين الذين يقولون بالخرص والكذب ويسألون استهزاء وسخرية لا طلبا للعلم والمعرفة للعمل .
(4/139)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) شرح الكلمات :
{ إن المتقين في جنات وعيون } : أي إن الذين اتقوا ربهم في بساتين وعيون تجري خلال تلك البساتين والقصور التي فيها كقوله تجري من تحتها الأنهار .
{ آخذين ما آتاهم ربهم } : أي آخذين ما أعطاهم ربهم من الثواب .
{ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } : أي كانوا قبل دخولهم الجنة محسنين في الدنيا أي في عبادة ربهم وإلى عباده .
{ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } : أي كانوا في الدنيا يحيون الليل ولا ينامون فيه إلا قليلا .
{ وبالأسحار هم يستغفرون } : أي وفي وقت السحور وهو السدس الأخير من الليل يستغفرون يقولون ربنا اغفر لنا .
{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } : أي للذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لتعففه وهذا الحق أوجبوه على أنفسهم زيادة على الزكاة الواجبة .
{ وفي الأرض آيات للموقنين } : أي من الجبال والأنهار والأشجار للبعث والموجبة للتوحيد للموقنين أما غير المؤمنين فلا يرون شيئا .
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون } : أي آيات من الخلق والتركيب والاسماع والابصار والتعقل والتحرك أفلا تبصرون لك فتستدلون به على وجود الله وعلمه وقدرته .
{ وفي السماء رزقكم وما توعدون } : أي الأمطار التي بها الزرع والنبات وسائر الأقوات وما توعدون من ثواب وعقاب إن كل ذلك عند الله في السماء مكتوب في اللوح المحفوظ .
{ فورب السماء والأرض إنه لحق } : إنه لحق أي ما توعدون لحق ثابت .
{ مثل ما أنكم تنطقون } : أي إن البعث لحق مثل نطقكم فهل يشك أحد في نطقه إذا نطق والجواب لا يشك فكذلك ما توعدون من ثواب وعقاب .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي كذب بها المشركون في مكة فقال تعالى { إن المتقين في جنات وعيون } أي إن الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك الواجبات ولا بفعل المحرمات هؤلاء يوم القيامة في بساتين وعيون تري في تلك البساتين وقوله { آخذين ما آتاهم ربهم } أي ما أعطاهم ربهم من ثواب هو نعيم مقيم في دار السلام . ثم ذكر تعالى مقتضيات هذا العطاء العظيم والثواب الجزيل فقال { إنهم كانوا قبل } دخولهم الجنة { محسنين } في الدنيا فأحسنوا نياتهم وأعمالهم اخلصوها لله ربهم وأتَوا بها وفق ما ارتضاه وشرعه لعباه زيادة ولا نقصان كما أحسنوا إلى عباده ولم يسيئوا إليهم بقول ولا عمل هذا موجب وآخرأتهم { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أي لا ينامون من الليل إلا قليلاً إذا أكثر الليل يقضونه في الصلاة وهو التهجد وقيام الليل وبالأسحار أي وفي السدس الاخير من الليل هم يستغفرون أي يقولون ربنا اغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار وثالث { وفي أموالهم حق للسائل } والمحروم أي وزيادة على الزكاة المفعروضة في كل مال بلغ النصاب فإنهم أوجبوا على أنفسهم في أموالهم حق يبذلونه للسائل الذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لحيائه وعفته .
(4/140)

هذه موجبات العطاء الكريم الي أعطاهم ربهم من النعيم المقيم في جنات وعيون . وقوله تعالى { وفي الأرض آيات للموقنين } أي وفي ما خلق في الأرض من مخلوقات من جبال وأنهار وزروع وضروع وأنواع الثمار ، وإنسان وحيوان آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وكلها موجبة له التوحيد ومقررة لقدرته على البعث الآخر والجزاء وكون هذه الآيات للموقنين مبني على أن المؤقنين ذووا بصائر وإراك لما يشاهدون في الكون فكلما نظروا إلى آية في الكون ازداد إيمانهم وقوى فبلغوا اليقين فيه فأصبحوا أكثر من غيرهم في الاهتداء والانتفاع بكل ما يسمعون ويشاهدون . وقوله تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } أي وفي أنفسكم أيها الناس من الدلائل والبراهين المتمثلة في خلق الإِنسان وأطواره التي يمر بها من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى طفل إلى شاب فكهل وفي إدراكه وسمعه وبصره ونطقه إنها آيات أخرى دالة على وجود الله وتوحديه وقدرته على البعث والجزاء وقوله { أفلا تبصرون } توبيخ لأهل الغفلة والاعراض عن التفكير والنظر إذ لو نظروا بأبصارهم متفكرين ببصائرهم لاهتدوا إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء . وقوله تالى وفي السماء رزقكم وما توعدون أي يخبر تعالى عباده أن رزقهم في السماء يريد تدبير الأمر في السماء والأمطار التي هي سبب كل الثمار والحبوب وسائر الخضر والفواكه التي هي غذاء الإِنسان في السماء وقوله وما توعدون من خير وشر من رحمة وعذاب الكل في السماء إذ الأمر لله وهو يحكم بالرحمة والعذاب على من يشاء وكتاب المقادير الذي كتب فيه كل شيء هو وفي السماء . وقوله تعالى { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون هذا قسم منه تعالى أقسم فيه بنفسه على أن البعث والجزاء يوم القيامة حق ثابت واجب الوقوع كائن لا محالة إذا كنا لا نشك في نطقنا إذا نطقنا أن ما نقوله ونسمعه لا يمكن أن يكون غير ما نطقنا به وسمعناه فكذلك البعث الآخر واقع لا محالة .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- بيان ما للمتقين من نعيم مقيم في الدار الآخرة .
2- بيان صفات المتقين من التهجد بالليل والاستغفار في آخره والانفاق في سبيل الله .
3- بيان أن في الأرض كما في الأنفس آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله على البعث والجزاء .
4- بيان أن في السماء رزق العباد فلا يطلب إلا من الله تعالى وأن ما نُوعَدُ من خير وشر أمره في السماء ومنها ينزل بأمره تعالى فليكن طلبنا الخير من الله دائما وتعوذنا من الشر بالله وحده .
(4/141)

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) شرح الكلمات :
{ هل أتاك حديث } : أي قد أتاك يا نبيّنا حديث أي كلام .
{ ضيف ابراهيم المكرمين } : أي جبريل وميكائيل وإسرافيل أكرمهم إبراهيم الخليل .
{ وقالوا سلاما } : أي نسلم عليك سلاما .
{ قال سلام قوم منكرون } : أي عليكم سلام أنتم قوم منكرون أي غير معروفين .
{ فراغ إلى إهله فجاء بعجل سمين } : أي عدل ومال إلى أهله فجاء بعجل سمين حنيذ .
{ فقال ألا تأكلون } : أي فأمسكوا عن الأكل فقال لهم ألا تأكلون .
{ فأوجس منهم خيفة } : أي فأضمر في نفسه خوفا منهم .
{ بغلام عليم } : أي بولد يكون ذا علم كبير غزير .
{ فاقبلت امرأته في صرَّة } : أي في رنّة وصيحة .
{ فصكت وجهها } : أي لطمت وجهها أي ضربت بأصابعها جبينها متعجبة .
{ وقالت عجوز عقيم } : أي كبيرة السن وعقيم لم يولد لها قط .
{ قالوا كذلك قال ربك } : أي قالت الملائكة لها كالذي قلنا لك قال ربك .
{ إنه هو الحكيم العليم } : أي انه هو الحكيم في تدبيره وتصريفه شؤون عباده . العليم بما يصلح للعبد وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه .
معنى الآيات :
قوله تعالى { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } هذا الحديث يشتمل على موجز قصة قد ذكرت في سورة هود والحجر والمقصود منه تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إن مثل هذا القصص لا يتم لأُميِّ لا يقرأ ولا يكتب إلا من طريق الوحي كما أنه يحمل في نهايته التهديد بالوعيد لمشركي قريش المصرين على الكفر والتكذيب والإِجرام الكبير إذ في نهاية القصة يسأل ابراهيم الملائكة قائلا فما خطبكم أيها المرسولن فيجيبون قائلين إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين أي لتدميرهم وإهلاكه من أجل إجرامهم ، وقريش في هذا الوقت مجرمة مستحقة للعذاب كما استحقه إخوان لوط . فقوله تعالى في خطاب رسوله هل أتاك حديث ضيف إبراهيم الخليل وهم ملائكة في صورة رجال من بينهم جبريل وميكائيل وإسرافيل إذ دخلوا عليه أي على ابراهيم وهو في منزله فسلموا عليه فرد السلام ثم قال أنتم قوم منكرون أي لا نعرفكم بمعنى أنكم غرباء لستم من أهل هذا البلد فلذا سارع في إكرامهم فراغ إلى أهله أي عدل ومال إلى أهله فعمد إلى عجل سمين من أبقاره وكان ماله يومئذ البقر فشواه بعد ذبحه وسلخه وتنظيفه .
فقربه إليهم وكأنهم أسمكوا عن تناوله فعرض عليهم الأكل عرضا بقوله ألا تأكلون فقالوا إنا لا نأكل طعاما إلا بحقه . فقال إذاً كلوه بحقه ، فقالوا وما حقه؟ قال أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدا الله في آخره أي تقولون بسم الله في البدء والحمد لله في الختم فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقال له حقٌ للرجل أن يتخذه ربه خليلا ولما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة أي خوفا أي شعر بالخوف في نفسه منهم لعدم أكلهم لأن العادة البشرية وهي مستمرة إلى اليوم إذا أراد المرء بأخيه سوءاً لا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام ، ولا يأكل طعامه هذا حكم غالبي وليس عاما .
(4/142)

قالوا لا تخف وبشروه بغلام وأعلموه أنهم مرسلون من ربه إلى قوم لوط لإِهلاكهم من أجل اجرامهم وبشروه بغلام يولد له ويكبر ويولد له فالأول اسحق والثاني يعقوب كما جاء في سورة هود فبشرناه باسحاق ومن وراء اسحق يعقوب وقوله { فأقبلت امرأته في صرة } أخذت في رنّة لما سمعت البشرى فصكت أي لطمت وجهها بأصابع يدها متعجبة وهي تقول أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إنّ هذا لشيءعجيب إذ كان عمرها تجاوز التسعين وعمر ابراهيم تجاوز المئة وكان عقيما لا تلد قط فلذا قالت عجوز كيف ألد يا للعجب؟ فأجابها الملائكة قائلين هكذا قال ربك فاقبلي البشرى واحمديه واشكريه . إنه تعالى هو الحكيم في تصرفاته في شؤون عباده العليم بما يصلح لهم وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه ولا يعترض عليه .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية .
2- فضيلة ابراهيم أبي الأنبياء وإما الموحدين .
3- وجوب إكرام الضيف .
4- الخوف الفطري عند وجود أسبابه لا يقدح في العقيدة ولا يعد شركا .
(4/143)

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) شرح الكلمات :
{ قال فما خطبكم أيها المرسلون } : أي ما شأنكم أيها المرسلون .
{ إلى قوم مجرمين } : أي إلى قوم كافرين فاعلين لأكبر الجرائم وهي إتيان الفاحشة .
{ حجارة من طين } : أي مطبوخ بالنار .
{ مُسَوَّمةً } : أي معلمة على كل حجر اسم من يرمى به .
{ للمسرفين } : أي المبالغين في الكفر والعصيان كإتيان الذكران .
{ غير بيت من المسلمين } : وهو بيت لوط وَابْنَتَيْهِ ومن معهم من المؤمنين .
{ وتركنا فيها آية } : أي بعد إهلاكهم تركنا فيها علامة على إهلاكهم وهى ماء أسود مُنتنٌ .
{ للذين يخافون العذاب الأليم } : أي عذاب الآخرة فلا يفعلون فعلهم الشنيع .
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصة إبراهيم مع ضيفه من الملائكة إنه لاحظ بعد أن عرف أنهم سادات الملائكة أن مهمتهم لم تكن مقصورة على بشارته فقط بل هي أعظم فلذا سألهم قائلا : فما خطبكم أيها المرسلون؟ فأجابوه قائلين : إنا أرسلنا اي أرسلنا ربُّنا عز وجل إلى قوم مجرمين أي على أنفسهم بالكفر ، وفعل الفاحشة ، والعِلَّة من إرسالنا إليهم هي لنرسل عليهم حجارة من طين مطبوخ بالنار ، وتلك الحجارة مسومة أي معلمة عند ربك للمسرفين أي قد كتب على كل حجر اسم من يرمى به ، وذلك في السماء قبل أن تنزل إلى الأرض ، وقوله تعالى : { فأخرجنا } أي من تلك القرية وهي سدوم من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وهو بيت لوط عليه السلام وما به سوى لوط وابنتيه ومن الجائز أن يكون معهم بعض المؤمنين إذ قيل كانوا ثلاثة عشر نسمة وقوله تعالى : { وتركنا فيها آية } أي علامة على إهلاكهم وهي ماء أسود منتن كالبحيرة وتعرف الآن بالبحر الميت . وقوله { للذين يخافون العذاب الأليم } وهم المؤمنون الذي يخافون عذاب الآخرة حتى لا يفعلوا فعل قوم لوط من الكفر وإيتان الفاحشة .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- جواز تشكل الملائكة بصورة رجال من البشر .
2- التنديد بالإِجرام وفاعليه .
3- جواز الإِهلاك بالعذاب الخاص الذى لم يعرف له نظير .
4- تقرير حقيقة علمية وهي أن كل مؤمن صادق الإِيمان مُسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا حتى يحسن اسلامه بانبنائه على أركان الإِيمان الستة .
(4/144)

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) شرح الكلمات :
{ وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون } : أي فكذبه وكفر ، فأغرقناه ومن معه آية كآية سدوم .
{ بسلطان مبين } : أي بحجة ظاهرة قوية وهي اليد والعصا .
{ فتولى بركنه } : أي أعرض عن الإِيمان مع رجال قومه .
{ وقال ساحر أو مجنون } : أي وقال فرعون فى شأن موسى ساحر أو مجنون .
{ فنبذناه فى اليم } : أي طرحناهم في البحر فغرقوا أجميعن .
{ وهو مليم } : أي آتٍ بما يُلام عليه إذ هو الذى عرض جيشاً كاملاً للهلاك زيادة على ادعائه الربوبية وتكذيبه لموسى وهرون وهما رسولان .
{ وفي عاد } : أي وفي إهلاك عاد آية أي علامة على قدرتنا وتدبيرنا .
{ الريح العقيم } : أي التى لا خير فيها لأنها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهى الدبور ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وهى الريح الشرقية وأهلكت عاد بالدبور وهى الريح الغربية في الحجاز .
{ ما تذر من شيء أتت عليه } : من نفس أو مال .
{ إلا جعلته كالرميم } : أي البالى المتفتت .
{ وفي ثمود } : أي وفي إهلاك ثمود آية دالة على قدرة الله وكرهه تعالى للكفر والإِجرام .
{ إذ قيل لهم } : أي بعد عقر الناقة تمتعوا إلى انقضاء آجالكم بعد ثلاثة أيام .
{ فأخذتهم الصاعقة } : أي بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة .
{ فما استطاعوا من قيام } : أي ما قدروا على النهوض عند نزول العذاب بهم .
{ وقوم نوح من قبل } : أي وفي إهلاك قوم نوح بالطوفان آية وأعظم آية .
معنى الآيات :
قوله تعالى : { وفى موسى } الآية إنه تعالى لما ذكر إهلاك قوم لوط وجعل في ذلك آية دالةً على قدرته وعلامةً تدل العاقل على نقمة تعالى ممن كفر به وعصاه ذكر هنا في هذه الآية التسع من هذا السياق أربع آيات أخرى ، يهتدى بها أهل الإِيمان الذين يخافون يوم الحساب فقال عز من قائل : وفي موسى بن عمران نبى بنى إسرائيل إذ أرسلناه إلى فرعون ملك القبط بمصر { بسطان مبين } أب بحجة قوية ظاهرة قوة السلطان وظهوره وهى العصا فلم يستجب لدعوة الحق فتولى بركنه أي بجنده الذي يركن إليه ويعتمد عليه ، وقال في موسى رسول الله إليه : هو ساحر أو مجنون فانتقمنا منه بعد الإِصرار على الكفر والظلم فنبذناهم أي طرحناهم في اليم البحر فهلكوا بالغرق . في هذا الصنيع الذي صنعناه بفرعون لما كذب آيةٌ من أظهر الآيات .
وقوله تعالى : { وفي عاد } حيث أرسلنا إليه أخاهم هوداً فدعاه الى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } التي لا تحمل مطرباً ولا تلقح شجراً ما تذر من شيء أتت عليه أي مرت به من أنفس أو أموال الا جعلته كالرميم البالى المتفتت في هذه الإهلاك آية من أعظم الآيات الدالة على قدرة الله الموجبة لربوبيته وعبادته والمستلزمة لقدرته تعالى على البعث الجزاء يوم القيامة .
(4/145)

وقوله تعالى { وفي ثمود } إذ أرسلنا إليهم أخاهم صالحاً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك فكذبوه وطالبوه بآية تدل على صدقه فأعطاهم الله الناقة آية فعقروها استخفافاً منهم وتكذيباً { إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } أي إلى إنقضاء الأجل الذي حدد لهلاكهم . فبدل أن يؤمنوا ويسلموا فيعبدوا الله ويوحدوه عتوا عن أمر ربهم وترفعوا متكبيرين { فأخذتهم الصاعقة } صاعقة العذاب وهم ينظرون بأعينهم الموت يتخطفهم { فما استطاعوا من قيام } من مجالسهم وهم جاثمون على الركب { وما كانوا منتصرين } فى إهلاك ثمود أصحاب الحجر آية للذين يخافون العذاب الأليم فلا يفعلون فعلهم حتى لا يهلكوا هلاكهم .
وقوله تعالى { وقوم نوح من قبل إنهم كانا قوماً فاسقين } أي وفي إرسالنا نوحاً إلى قومه وتكذيبهم إياه وإصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب ثم إهلاكنا لهم بالطوفان وانجائنا المؤمنين آية من أعظم الآيات الدالة على وجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته للعالمين ، والمستلزمة لقدرته على البعث والجزاء الذي يصر الملاحدة على أنكاره ليواصلوا فسقهم وفجورهم بلا تأنيب ضمير ولا حياء ولا خوف أو وجل .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير كل من التوحيد والنبوة والبعث لما في الآيات من دلائل على ذلك .
2- قوة الله تعالى فوق كل قوة إذ كل قوة في الأرض هو الذي خلقها ووهبها .
3- اتهام المبطلين لأهل الحق دفعاً للحق وعدم قبول له يكاد يكون سنة بشرية في كل زمان ومكان .
4- من عوامل الهلاك العتو عن أمر الله أي عدم الإِذعان لقبوله ، والفسق عن طاعته وطاعة رسله .
(4/146)

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) شرح الكلمات :
{ والسماء بنيناها بأيدٍ } : أي وبنينا السماء بقوة ظاهرة في رفع السماء وإحكام البناء .
{ وإنا لموسعون } : أي لقادرون على البناء والتوسعة .
{ والأرض فرشناها } : أي مهّدناها فجعلناها كالمهاد أي الفراش الذي يوضع على المهد .
{ فنعم الماهدون } : أي نحن أثنى الله تعالى على نفسه بفعله الخيريّ الحسن الكبير .
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين } : أي وخلقنا من كل شيء صنفين أي ذكراً وأنثى ، خيراً وشراً ، علوّاً وسفلاً .
{ لعلكم تذكرون } : أي تذكرون أن خالق الأزواج كلها هو إله فرد فلا يعبد معه غيره .
{ ففروا إلى الله } : أي إلى التوبة بطاعته وعدم معصيته .
{ إني لكم منه نذير مبين } : أي إني وأنا رسول الله إليكم منه تعالى نذير مبين بين النذارة أي أخوفكم عذابه .
{ ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر } : أي لا تعبدوا مع الله إلهاً أي معوداً آخر إذ لا معبود بحق إله هو .
{ إني لكم منه نذير مبين } : إني لكم منه تعالى نذير بين النذارة أُخوفكم عذابه إن عبدتم معه غيره .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في عرض مظاهر القدرة الإِلهية الموجبة له تعالى الربوبية لكل شيء والألوهية على كل عباده . فقال تعالى : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } فهذا أكبر مظهر من مظاهر القدرة الإِلهية إنه بناء السماء وإحكام ذلك البناء وارتفاعه وما تعلق به من كواكب ونجوم وشمس وقمر تمَّ هذا الخلق بقوة الله التى لا توازيها قوة . وقوله { وإنا لموسعون } أي لقادرون على توسعته أكثر مما هو عليه ، وذلك لسعة قدرتنا .
ومظهر ثانٍ هو فى قوله : { والأرض فرشناها فنعم الماهدون } والأرض فرشها بساطاً ومهدها مهاداً فنعم الماهدون نحن نعم الماهد الله تعالى لها إذ غيره لا يقدر على ذلك ولا يتأتى له ، وثالث مظاهر القدرة في قوله : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } فهذا لفظ عام يعم سائر المخلوقات وأنها كلها أزواج وليس فيها فرد قط . والذوات كالصفات فالسماء يقابلها الأرض ، والحر يقابله البرد ، والذكر يقابله الأنثى ، والبر يقابله البحر ، والخير يقابله الشر ، والمعروف يقابله المنكر ، فهي أزواج بمعنى أصناف كما أن سائر الحيوانات هي أزواج من ذكر وأنثى . وقوله { لعلكم تذكرون } أي خلقنا من كل شيء زوجين رجاء أن تذكروا فتعلموا أن خالق هذه الأزواج هو الله الفرد الصمد الواحد الأحد لا إله غيره ولا رب سواه فتعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه من سائر خلقه .
وقوله تعالى { ففربوا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } أي بعد أن تبين لكم أيها الناس أنه لا إله غير الله ففروا إليه تعالى إي بالإِيمان به وبطاعته وبفعل فرائضه وترك نواهيه اهبروا إلى الله يا عباد الله بالإِسلام إليه والانقياد لطاعته إنى لكم منه تعالى نذير من عقاب شديد ، ونذارتي بينة لا شك فيها وأنصح لكم أن لا تجعلوا مع الله إلهاً آخر أي معبوداً غيره تعالى تعبدونه إن الشرك به يحبط أعمالكم ويحرم عليكم الجنة فلا تدخلوها أبداً واعلموا أني لكم منه عز جل نذير مبين .
(4/147)

هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد والبعث بمظاهر القدرة الإِلهية التى لا يعجزها شيء ومظاهر العلم والحكمة المتجلية في كل شيء .
2- ظاهرة الزوجية في الكون في الذرة انهبر لها العقل الإِنساني وهي مما سبق إليه القرآن الكريم وقرره في غير موضع منه : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسه ومما لا يعلمون . فدل هذا قطعاً أن القرآن وحي الله وأن من أوحى به إليه وهو محمد بن عبد الله لن يكون إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
3- التحذير من الشرك فإنه ذنب عظيم لا يغفر إلا بالتوبة الصحيحة النصوح .
(4/148)

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) شرح الكلمات :
{ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول } : أي الأمر كذلك ما أتى الذين من قبل قومك يا محمد من رسول .
{ إلا قالوا ساحر أو مجنون } : أي اتواصت الأمم كل أمة توصى التي بعدها بقولهم للرسول هو ساحر أو مجنون ، والجواب ، لا أي لم يتواصوا بل هم قوم طاغون يجمعهم على قولهم هذا الطغيان .
{ فتول عنهم فما أنت بملوم } : أي اعرض عنهم يا رسولنا فما أنت بملوم لأنك بلغتهم فأبرأت ذمتك .
{ وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين } : أي عظ بالقرآن يا رسولنا فإن الذكرى بمعنى التذكير ينفع المؤمنين أي من علم الله أنه يؤمن .
{ وما خلقت الجن والإِنس } : أي خلقتهم لأجل أن يعبدوني فمن عبدني أكرمته ومن ترك عبادتي أهنته .
{ وما أريد منهم من رزق } : أي لا لي ولا لأنفسهم ولا لغيرهم .
{ وما أريد أن يطعمون } : أي لا أريد منهم ما يريد أربابُ العبيد من عبيدهم هذا يجمع المال وهذا يعد الطعام ، فالله هو الذي يرزقهم .
{ ذو القوة المتين } : أي صاحب القوة المتين الشديد الذي لا يعجزه شيء .
{ ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } : أي نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذي ماتوا على الكفر .
{ فلا يستعجلون } : أي فلا يطالبوني بالعذاب فإن له موعداً لا يُخْلَفونه .
{ من يومهم الذي يوعدون } : أي يوم القيامة .
معنى الآيات :
بعد عرض تلك الأدلة المقررة للتوحيد والبعث والمسلتزمة للرسالة المحمدية والمشركون ما زالوا في إصرارهم على الكفر والتكذيب قال تعالى مسلياً رسوله مخففاً عنه ما يجده من إعراضٍ ، وتكذيب : { كذلك } أي الأمر والشأن كذلك وهو أنه ما أتى الذين من قبلهم أي من قبل قومك من رسول الا قالوا فيه هو ساحر أو مجنون كما قال قومك لك اليوم . ثم قال تعال : { اتواصوا به } أي بهذا القول كل أمة توصى التي بعدها بأن تقول لرسولها : ساحر أو مجنون . بل هم قوم طاغون أي لم يتواصوا به وإنما جمعهم على هذا القول الطغيان الذي هو وصف عام لهم فإن الطاغي من شأنه ان ينكر ويكذب ويتهم بأبعد أنواع التهم والحامل له على ذلك طغيانه . وما دام الأمر هكذا فتول عنهم يا رسولنا أي أعرض عنهم ولا تلتفت إلى أقوالهم وأعمالهم فما أنت بملوم في هذا القول لأنك قد بلغت رسالتك وأديت أمانتك ولا يمنعك هذا التولى عنهم أن تذكر أي عِظْ بالقرآن بل وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين الذي علم الله تعالى أنهم يؤمنون ممن هم غير مؤمنين الآن كما تنفع المؤمنين حالياً بزيادة إيمانهم وصبرهم على طاعة الله ربهم .
وقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون } أي لم يخلقهما للهو ولا للعب ولا لشيء وإنهما خلقهما ليعبدوه بالإِذعان والتسليم لأمر ونهيه .
(4/149)

وقوله تعالى { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } أي إن شأني معهم ليس كشأن السادة مالكي العبيد الذين يتعبدونهم بالقيام بحاجاتهم . هذا يجمع الماء وهذا يُعِدَ الطعام بل خلقتهم ليعبدوني أي يوحدوني في عبادتي ، إذ عبادتهم لي مع عبادة غيري لا أقبلها منهم ولا إثيبهم عليها بل أعذبهم على الطاعة حيث عبدوا من لا يستحق أن يعبد من سائر المخلوقات .
وقوله تعالى : { إن الله هو الرازق ذو القوة المتين } قرر به غناه عن خلقه ، وأعلم أنه ليس فى حاجة الى أحدٍ وذلك لغناه المطلق ، وقدرته التى لا يعجزها فى الأرض ولا فى السماء شيء .
وقوله فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم أي إذا عرفت حال من تقدم من قوم عاد وثمود وغيرهم فإن لهؤلاء المشركين ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم أي نصيباً من العذاب وعبر بالذنوب التي هي الدلو الملأى بالماء عن العذاب لأن العذاب يصب عليهم كما يصب الماء من الدلو ولأن الدلاء تأتى واحداً بعد واحد فكذلك . الهلاك يتم لأمة بعد أمة حتى يسقوا كلهم مرّ العذاب ، وقوله { ولا يستعجلون } أي ما هناك حاجة بهم الى استعجال العذاب فإنه آت في إبّانه ووقته المحدد له لا محالة . وقوله تعالى { فويل للذين كفروا } أي بالله ولقائه والنبي وما جاء به ويل لهم من يومهم الذي يوعدون أي العذاب الشديد له من يومهم الذي أوعدهم الله تعالى به وهو يوم القيامة والويل وادٍ في جهنم يسي بصديد أهل النار والعياذ بالله .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سنة بشرية وهي التكذيب والاتهام بالباطل وقلب الحقائق لكل من جاءهم يدعوهم إلى خلاف مألوفيهم وما اعتادوه من باطلٍ وشرٍ فيدفعون بالقول فإذا أعياهم ذلك دفعوا بالفعل وهى الحرب والقتال .
2- بيان أن طغيان النفس يتولد عنه كل شر والعياذ بالله .
3- مشروعية التذكير ، وانه ينتفع به مَنْ أراد الله إيمانه ممن لم يؤمن ، ويزداد به إيمان المؤمنين الحاليين .
4- بيان علة خلق الإِنس والجن وهي عبادة الله وحده .
5- بيان غنى الله تعالى عن خلقه ، وعدم احتياجه اليهم بحال من الأحوال .
6- توعد الرب تبارك وتعالى الكافرين وأن نصيبهم من العذاب نازل بهم لا محالة .
(4/150)
 

القاسمية 26

مزمار داوُدي
2 أغسطس 2010
6,454
202
63
الجنس
أنثى
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

تفسير سورة الطور

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) شرح الكلمات :
{ والطور } : أي والجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام .
{ وكتاب مسطور } : أي وقرآن مكتوب .
{ في رق منشور } : أي في جلد رقيق أو ورق منشور .
{ والبيت المعمور } : أي بالملائكة يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون ابداً
{ والسقف المرفوع } : أي السماء التي هي كالسقف المرفوع للأرض .
{ والبحر المسجور } : أي المملوء المجموع ماؤه بعضه فى بعض .
{ يوم تمور السماء موراً } : أي تتحرك وتدور .
{ في خوض يلعبون } : أي في باطل يلعبون أي يتشاغلون بكفرهم .
{ يدعون الى نار جهنم دعا } : أي يدفعون بعنف دفعاً .
{ افسحر هذا } : أي العذاب الذي ترون كما كنتم تقولون في القرآن .
{ أم أنتم لا تبصرون } : أي أم عدمتم الأبصار فأنتم لا تبصرون .
{ اصلوها } : أي اصطلوا بحرها .
{ فاصبروا أو لا تصبروا } : أي صبركم وعدمه عليكم سواء .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور } هذه خمسة أشياء عظام أقسم الله تعالى بها ، وبالتتبع لما يقسم الله تعالى به يُرى أنه إذا أقسم بشيء إنما يقسم به إما لكونه مظهراً من مظاهر القدرة الإِلهية ، كالسماء مثلا ، وإما لكونه معظما نحو لعمرك إِذْ هو إقسام بحياة النبي صلى الله عليه وسلم . وإما لكونه ذا فائدة للإِنسان ونفع خاص به كالتين والزيتون وقوله تعالى { والطور } وهو جيل الطور الذي كلم تعالى عليه موسى وهو مكان مقدس ، وقوله { وكتاب مسطور في رق منشور } أي منشور في ورق أو جلد رقيق وهو التوراة أو القرآن والإِقسام به لما فيه من حرمة وقدسية عند الله تعالى ، والبيت المعمور وهو بيت في السماء تغشاه الملائكة كل يوم وتعمره بالعبادة وهو بحيال الكعبة بحيث لو وقع لوقع فوقها والسقف المرفوع وهو السماء وهي كالسقف للأرض وهي مظهر من مظاهر قدرة ا لله تعالى وعلمه ومثلها البحر والمسجور أي المملوء بكميات المياه الهائلة فإنه مظهر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإِلهية هذا القسم الضخم جوابه أو المقسم عليه هو قوله إِن عذاب ربك يا رسولنا لواقع ماله من دافع ليس له من دافع يدفعه أبداً ، وإن له وقتاً محدداً يقع فيه ، وعلامات تدل عليه وهي قوله تعالى { يوم تمور السماء موراً } أي تتحرك بشدة وتدور وتسير الجبال سيراً فتكون كالهباء المنبث هنا وهناك فويل يومئذ للمكذبين والويل واد فى جهنم مملوء بقيح وصديد أهل النار ، والمكذبون هم الكافرون بالله وبما جاءت به رسله عنه من أركان الإِيمان وقواعد الإِسلام وقوله : { الذين هم في خوص يلعبون } أي في باطلهم وكفرهم يتشاغلون به عن الإِيمان الحق العمل الصالح المزكى للنفس المطهر لها . وقوله { يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً } أي يوم يدفعون بشدة وعنف الى جهنم ويقال لهم توبيخاً وتقريعاً لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أخبرونا : أفسحر هذا أي العذاب الذي أنتم فيه الآن تعذبون أم أنتم لا تبصرون فلا تعاينونه . ويُقال لهم ايضا تبكيتاً وتقريعاً فاصبروا على عذاب النار أو لا تصبر سواء عليكم اي صبركم وعدمه عليكم سواء . إنما تجزون ما كنتم تعلمون أي في الدنيا من الشرك والمعاصى .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير البعث والجزاء .
2- لله تعالى ان يقسم بما يشاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير الله تعالى .
3- عرض سريع لأهوال القيامة وأحوال المكذبين فيها .
4- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل .
(4/151)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) شرح الكلمات :
{ إن المتقين } : أي الذين اتقوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم فأدوا الفرائض .
واجتنبوا النواهي .
{ فاكهين } : أي متلذذين بأكل الفاكهة الكثيرة التى آتاهم ربهم .
{ ووقاهم عذاب الجحيم } : أي وحفظهم من عذاب الجحيم عذاب النار .
{ على سرر مصفوفة } : أي بعضها الى جنب بعض .
{ وزوجناهم بحور عين } : أي قرناهم بنساء عظام الأعين حِسانها .
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى حال أهل النار ذَكر حال أهل الجنة وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي أمتاز به القرآن الكريم فقال تعالى مخبراً عن حال أهل الجنة : { إن المتقين } أي الذين اتقوا في الدنيا الشرك والمعاصي { في جناتٍ } أي بساتين ونعيم مقيم يحوى كل ما لذّ وطاب مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين . فاكهين بما آتاهم ربُّهم أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة الموصوفة بقول الله تعالى : لا معطوعة ولا ممنوعة . { ووقاهم عذاب الجحيم } أي حفظهم من عذاب النار .
ويقال لهم : { كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون } أي بسبب ما كُنتم تعملونه من أعمال البر والإِصلاح بعد الفرائض واجتناب الشرك والمعاصي . وقوله { متكئين } أي حال كونهم وهم في نعيمهم متكئين على سرر مصفوفة قد صُف بعضها الى جنب بعض . وقوله تعالى { وزوجناهم بحور عين } أي قرناه بزوجات من الحور العين والحور جمع حوراء وهي التي يغلب بياض عينها على سوادها والْعِين جمع عَينْاء وهى الواسعة العينين . جعلنا الله ممن يُزوجّون بهن إنه كريم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضل التقوى وكرام أهلها .
2- بيان منة الله وفضله على أهل الإِيمان والتقوى وهم أولياء الله تعالى .
3- مشروعية الدعاء بكلمة هنيئا لمن أكل أو شرب ائتساء بأهل الجنة .
4- الإِيمان والأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لأن الجنة أغلى من عمل الانسان ، وانما العمل الصالح يزكى النفس فيؤهل صاحبها لدخول الجنة فالباء في قوله { بما كنتم تعملون } سببية وليست للعوض كما في قولك بعتك الدار بألف مثلا .
(4/152)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) شرح الكلمات :
{ والذين آمنوا } : أي حق الإِيمان المستلزم للإِسلام والإِحسان .
{ واتبعتهم ذريتهم بإيمان } : أي كامل مستوفٍ لشرائطه ومنها الإِسلام .
{ ألحقنا بهم ذريَّتَهُم } : أي وإن لم يعملوا عملهم بل قصروا في ذلك .
{ وما ألتناهم من عملهم من شيء } : أي وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئاً .
{ كل امرىء بما كسب رهين } : أي كل إنسان مرهون أي محبوس بكسبه الباطل .
{ يتنازعون فيها كاساً } : أي يتعاطون بينهم فيها أي في الجنة كأساً من خمر .
{ لا لغو فيها ولا تأثيم } : أي لا يقع لهم بسبب شربها لغو وهو كل كلام لا خير فيه ولا إثم .
{ ويطوف عليهم غلمان } : أي ويدور بهم خدم لهم .
{ كأنهم لُؤلُؤ مكنون } : أي مَصونْ .
{ وأقبل بعضهم على بعض } : أي يسأل بعضهم بعضاً عما كانوا عليه في الدنيا وما وصلوا إليه في الآخرة .
{ قالوا إنا كنا قبل } : أي قالوا مشيرين الى علة سعادتهم إنا كنا قبل أي في الدنيا .
{ فى أهلنا مشفقين } : أي بين أهلنا وأولادنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله تعالى .
{ فمن الله علينا } : أي بالمغفرة .
{ ووقانا عذاب السموم } : أي وحفظنا من عذاب النار التي يدخل حرها في مسام الجسم .
{ إنا كنا ندعوه } : أي في الدنيا نعبده موحدين له .
{ إنه هو البر الرحيم } : أي المحسن الصادق في وعده الرحيم العظيم الرحمة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر افضال الله تعالى وإنعامه على أوليائه في الجنة إذ قال تعالى : { والذين آمنوا } أي حق الإِيمان الذي هو عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان واتبعتهم ذريتهم بإيمان كامل صحيح إلا أنهم لم يبلغوا من الأعمال الصالحة ما بلغه آباؤهم ألحقنا بهم ذريتهم لتقر بذلك أعينهم وتعظم مسرتهم وتكمل سعادتهم باجتماعهم مع ذريتهم . وقوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي وما نقصنا الآباء من عملهم الصالح من شيء بل وفيناهموه كاملاً غير منقوص ورفعنا إليه ابناءهم بفضلٍ منا ورحمة . وقوله تعالى : { كل امرىء بما كسب رهين } إخبار منه تعالى أن كل نفس عنده يوم القيامة مرتهنة بعملها تجزى به إلا أنه تعالى تفضل على أولئك الآباء فرفع الى درجاتهم أبناءهم تفضيلا واحسانا . وقوله عز وجل : { وأمددناهم } أي الآباء والأبناء من سكان الجنة بفاكهة ولحم مما يشتهون من اللحمان . هذ اطعامهم أما الشراب فإنهم يتنازعون أي يتعاطون في الجنة كأساً من خمر لا لغو فيها . أي لا تسبب هذياناً من الكلام إذ اللغو الكلام الذي لا فائدة منه . وقوله : { ولا تأثيم } أي وليس في شربها إثم وقوله تعالى : { ويطوف عليهم غلمان } أي خدم لهم كأنهم في جمالهم وحسن منظرهم لؤلؤ مكنون في أصدافه .
وقوله تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } أي عما كان لهم في الدنيا ، وما انتهوا إليه في الآخرة من هذا النعيم المقيم .
(4/153)

وقالوا مشيرين الى سبب نعيمهم في الآخرة إنا كنا أي في الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب ربنا فترتب على ذلك أن منَّ الله علينا بدخول الجنة ووقانا عذاب السموم الذي هو عذاب النار الذي ينفذ الى المسام والعياذ بالله تعالى . إنا كنا من قبل أي في الدنيا قبل الآخرة ندعوه ونتضرع إليه أن يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة إنه هو تالى البر بأولياءه الريحم بعباده المؤمنين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وصف كامل لأهل الجنة وهو تقرير في نفس الوقت للبعث والجزاء ما يكون فيه .
2- فضل الإِيمان وكرامة أهله عند الله بإلحاق الابناء قليل العمل الصالح بآبائهم الكثيري العمل الصالح .
3- تقرير قاعدة أن المرء يوم القيامة يكون رهين كسبه لا يفكه الا الله عز وجل فمن استطاع ان يفك رقبته فليفعل وذلك بالإِيمان والإِسلام والإِحسان .
4- فضيلة الإِشفاق في الدنيا من عذاب الآخرة .
5- فضل الدعاء والتضرع الى الله تعالى .
(4/154)

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) شرح الكلمات :
{ فذكر فما أنت بنعمة ربك } : أي فذكر بالقرآن وعظ من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم فلست بنعم ربك عليك بالعقل وكمال الخلق والوحى إليك .
{ بكاهن ولا مجنون } : أي بمتعاطٍ للكهانة فتخبر عن الغيب بواسطة رئي من الجنة ولا أنت بمجنون .
{ نتربص به ريب المنون } : أي تنظر به حوادث الدهر من موت وغيره .
{ أم تأمرهم أحلامهم بهذا } : أي أتأمرهم احلامهم أي عقولهم بهذا وهو قولهم إنك كاهن ومجنون لم تأمرهم عقولهم به .
{ أم هم قوم طاغون } : أي بل هم قوم طاغون متجاوزون لكل حد تقف عنده العقول .
{ أم يقولون تقوله؟ } : أي اختلق القرآن وكذبه من تلقاء نفسه .
{ فليأتوا بحديث مثله } : أي فليأتوا بقرآن مثله يختلقونه بأنفسهم .
{ إن كانوا صادقين } : أي في أن محمداً صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن .
معنى الآيات :
بعد ذلك العرض لأحوال أهل النار وأهل الجنة فلم يبق الا التذكير يا رسولنا فذكر أي قومك ومن تصل اليهم كلمتك من سائر النار بالقرآن وما يحمل من وعد ووعيد؛ وما يدعو إليه من هدىً وطريق مستقيم ، فما أنت بنعم ربك أي بما أولاك ربك من رجاحة العقل وكمال الخلق وكرم الفعال وشرقف النبوة بكاهن تقول الغيب بواسطة رئيّ من الجن ، ولا مجنون تخلط القول وتقول بما لا يفهم عنك ولا يعقل .
وقوله تعالى : { أم يقولون شاعر نتربَّصُ به ريب المنون } أي بل يقولون هو شاعر كالنابغة وزهير نتربص به حوادث الدهر حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء ولا ندخل معه في خصومة وجدل قد يغلبنا . وقوله تعالى قل تربصوا أي ما دمتم قد رأيتهم التربص بي فتربصوا فإني معكم من المتربصين ، وقوله تعالى : { أم تأمرهم أحلامهم بهذا } والاستفهام للنفي والتوبيخ والجواب لم تأمرهم عقولهم بهذا بل هم قوم طاغون أي إن طغيانهم هو الذي يأمرهم بما يقولون ويفعلون من الباطل والشر والفساد وقوله أم يقولون تقوَّله والجواب وإن قالوا تقوله فإن قولهم لم ينبع من عقولهم ولم يصدر من أحلامهم بل عن كفرهم وتكذيبهم بل لا يؤمنون ، والدليل على صحة ذلك تحدى الله تعالى لهم بالإِتيان بحديث مثله وعجزهم عن ذلك فلذا هم لا يعتقدون ولا يرون أن الرسول تقول القرآن من عنده ، وإنما لما لم يؤمنوا به لا بد أن يقولوا كلمة يدفعون بها عن أنفسهم فقالوا تقوله فقال تعالى { بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله } أي مثل القرآن { إن كانوا صادقين } في قولهم إن الرسول تقوله .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب التذكير والوعظ والارشاد على أهل العلم بالكتاب والسنة لأنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فى أمته .
2- ذم الكهانة بل حرمتها لأنها من أعمال الشياطين ، والكاهن من يقول بالغيب .
3- ذم الطغيان فانه منبع ل شر ومصدر كل فتنة وضلال .
4- حرمة الكذب مطلقا وعلى الله ورسوله بخاصة لما ينشأ عنه من فساد الدين والدنيا .
(4/155)

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) شرح الكلمات :
{ أم خلقوا من غير شيء؟ } : أي من غير خالقٍ خلقهم وهذا باطل .
{ أم هم الخالقون؟ } : أي لأنفسهم وهذا محال إذا الشيىء لا يسبق وجوده .
{ أم خلقوا السموات والأرض؟ } : أي لم يخلقوهما لأن العجز عن خلق أنفسهم دال على عجزهم عن خلق غيرهم .
{ بل لا يوقنون } : أي أن الله خلقهم وخلق السموات والأرض كما يقولون إذ لو كانوا موقنين لما عبدوا غير الله ولآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم .
{ أم عندهم خزائن ربك } : أي من الرزق والنبوة وغيرهما فيخصوا من شاءوا بذلك من الناس .
{ أم هم المسيطرون } : أي المتسلطون الغالبون فيتصرفون كيف شاءوا .
{ أم لهم سلم يستمعون فيه } : أي ألهم مرقىً الى السماء يرقون فيه فيسمعون كلام الملائكة فيأتون به ويعارضون الرسول في كلامه .
{ فليأتوا بسلطان مبين } : أي بحجة بينة تدل على صدقه وليس لهم في ذلك كله شيء .
{ أم له البنات ولكم المبنون؟ } : أي ألهُ تعالى البنات ولكم البنون إن أقوالكم كلها من هذا النوع لا واقع لها أبداً إنها افتراءات .
{ أم تسأهلم أيها الرسول أجراً؟ } : أي على إبلاغ دعوتك .
{ فهم من مغرم مثقلون } : أي فهم من فداحة الغرم مغتمون ومعبون فكرهوا ما تقول لذلك .
{ أم عندهم الغيب فهم يكتبون } : أي علمٍ الغيب فهم يكتبون منه لينازعوك ويجادلوك به .
{ أم يريدون كيداً } : أي مكراً وخديعة بك وبالدين .
{ فالذين كفروا هم المكيدون } : أي فالكافرون هم المكيدون المغلوبون .
{ أم لهم إله غير الله } : أي ألهم معبود غير الله والجواب : لا .
{ سبحان الله عما يشركون } : أي تنزه الله عما يشركون به من أصنام وأوثان .
معنى الآيات :
بعد أن أمر تعالى رسوله بالتذكير وأنه أهل لذلك لما أفاض عليه من الكمالات وما وهبه من المؤهلات . أخذ تعالى يلقن رسوله الحج فيذكر له باطلهم موبخاً به ثم يدمغه بالحق في أسلوب قرآني عجيب لا يقدرعليه الا الله سبحانه وتعالى . ومنه قوله : { أم خلقوا من غير شيء } أي أخلقوا من غير خالق { أم هم الخالقون } والجواب لم يُخلقوا من غير خالق ، ولا هم خلقوا أنفسهم إذ الأول باطل فما هناك شيء موجود وجد بغير مُوجد؟! والثاني محال؛ إن المخلوق لا يوجد قبل أن يخلق فكيف يخلقون أنفسهم وهم لم يخلقوا بعد؟ّ ويدل على جهلهم وعمي قلوبهم ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أنه ذكر أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في شأن فداء الأسرى سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور قال فلما بلغ في القراءة عند هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } كاد قلبي يطير .
سمعها وهو مشرك فكانت سبباً في إسلامه فلو فتح القوم قلوبهم للقرآن لأنارها واسلموا في أقصر مدة .
(4/156)

وقوله تعالى : { أم خلقوا السموات والأرض } والجواب : لا ، إذ العاجز عن خلق ذبابة فما دون عن خلق السموات والأرض وما فيهما أعجز . وقوله تعالى { بل لا يوقنون } أن الله هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض فقولهم عند سؤال من خلقهم : الله ، وعن خلق السموات والأرض : الله لم يكن عن يقين إذ لو كان عن يقين منهم لما عبدوا الأصنام ولما أنكروا البعث ولما كذبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { أم عندهم خزائن ربك } أي من الأرزاق والخيرات والفواضل والفضائل فيخصوا من شاءوا منها ويحرموا من شاءوا والجواب ليس لهم ذلك فلم إذاً ينكرون على الله ما أتى رسوله من الكمال والإفصال؟ أم هم المسيطرون أي الغالبون القاهرون المتسلطون فيتصرفون كيف شاءوا في الملك؟ والجواب : لا ، إذاً فلم هذا التحكم الفاسد .
وقوله تعالى : { أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطانٍ مبين } أي ألهم مرقى يرقون فيه إلى السماء فيستمعون الى الملائكة فيسمعون منهم ما يمكنهم ان ينازعوا فيه رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم مستمعهم بحجة واضحة ظاهرة على دعواه ومن أين له ذلك وقد حجبت الشياطين عن ذلك فكيف بغير الجن والشياطين .
وقوله : { أم له البنات ولكم البنون } أي لله تعالى البنات ولكم البنون إن جميع ما تقولونه من هذا النوع هو كذب ساقط بارد ، وافتراء ممقوت ممجوج إن نسبتهم البنات لله كافية في رد كل ما يقولون ومبطلة لكل ما يدعون فإنهم كذبة مفترون لا يتورعون عن قول ما تحيله العقول ، تتنزه عنه الفُهثوم . وقوله : { أم تسألهم أجرا من مغرم مثقلون } أي أتسألهم يا رسولنا عما تبلغهم عنا أجراً فهم لذلك مغتمون ومتعبون فلا يستطيعون الإِيمان بك ولا يقدرون على الأخذ عنك .
وقوله : { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } أي أعندهم علم الغيب فهم منهمكون في كتابته لينازعوك فيما عندك ويحاجوك بما عندهم ، والجواب من أين لهم ذلك ، وقوله : { أم يريدون كيداً } أي أيريدون بك وبدينك كيداً؛ ليقتلوك ويبطلوا دينك فالذين كفروا هم المكيدون ولست أنت ولا دينك . ولم يمض عن نزول هذه الآيات طويلُ زمن حتى هلك أولئك الكائدون ونصر الله رسوله وأعز دينه والحمد لله رب العالمين .
وقوله : { أم لهم إله غير الله } أي ألهم إلهٌ أي معبود غير الله يعبدونه والحال أنه لا إله إلا الله { فسبحان الله عما يشركون } أي تنزه الله وتقدس عما يشركونه به من أصنام وأوثان لا تسمع ولا تبصر فضلا عن أن تضر أو تنفع .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد بذكر دلائله .
2- تقرير النبوة المحمدّية .
3- تسفيه أحلام المشركين .
4- عدم مشروعية أخذ أجرٍ على إبلاغ الدعوة .
5- لا يعلم الغيب إلا الله .
6- صدق القرآن في أخباره آية أنه وحي الله وكلامه صدقاً وحقاً إنه لم يمض إلا قليل من الوقت أي خمسة عشر عاماً حتى ظهر مصداق قول الله تعالى فالذين كفروا هم المكيدون .
(4/157)

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) شرح الكلمات :
{ وإن يروا كسفا من السماء : أي وإن يَرَ هؤلاء المشركون قطعة من السماء تسقط ساقطا } عليهم .
{ يقولوا سحاب مركوم } : أي يقولوا في القطعة سحاب متراكم يمطرنا ولا يؤمنوا .
{ فذرهم حتى يلاقوا يومهم : أي فاتركهم إذاً يجاحدون ويعاندون حتى يلاقوا يومهم فيه يصعقون } الذي فيه يصعقون وهو يوم موتهم .
{ يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا : أي اتركهم الى ما ينتظرهم من العذاب ما داموا مصرين ولا هم ينصرون } على الكفر وذلك يوم لا يغنى عنهم مكرهم بك شيئاً من الإِغناء .
{ وإن للذين ظلموا عذاباً دون : أي وإن لهؤلاء المشركين الظلمة عذاباً في الدنيا دون ذلك } عذاب يوم القيامة وهو عذاب القحط سبع سنين وعذاب القتل في بدر .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } : أي أن العذاب نازلهم بهم في الدنيا قبل يوم القيامة .
{ واصبر لحكم ربك } : أي بإمهالهم ولا يضق صدرك بكفرهم وعنادهم وعدم تعجيل العذاب لهم .
{ فإنك بأعيننا } : أي بمرأىً منا نراك نحفظك من كيدهم لك ومكرهم بك .
{ وسبح بحمد ربك حين تقوم } : أي واستعن على الصبر بالتسبيح الذي هو الصلوات الخمس والذكر بعدها والضراعة والدعاء صباح مساء .
معنى الآيات :
يذكر تعالى من عناد المشركين أنهم لو رأوا العذاب نازلاً من السماء فى صورة قطعة كبيرة من السماء ككوكب مثلا لا أذعناو ولا آمنوا بل قالوا في ذلك العذاب سحاب مركوم الآن يسقى ديارنا فنرتوي وترتوي أراضينا وبهائمنا . إذاً فلما كان الأمر هكذا فذرهم يا رسولنا في عنادهم وكفرهم حتى يلاقوا وجهاً لوجه يومهم الذي فيه يصعقون أي يموتون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم يصرون . فيذهب كيدهم ولا يجدون له أي أثر بحيث لا يغنى عنهم أدنى إغناء من العذاب النازل بهم ولا يجدون من ينصرهم ، وذلك يوم القيامة .
وقوله تعالى : { وإن للذين ظلموا } أي أنفسهم أي بالكفر والتكذيب والشرك والمعاصى عذاباً دون ذلك المذكور من عذاب يوم القيامة وهو ما أصابهم به من سِنِي القحط والمجاة وما أنزله بهم من هزيمة في بدر حيث قتل صناديدهم وذلوا وأهينوا ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك ، ولو علموا لما أصروا على العناد والكفر .
وقوله تعالى : واصبر لحكم ربك وقضائه بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين ، ولا تخف ولا تحزن فإنك باعيننا أي بمرأىً منا نراك ونحفظك ، وجمع لفظ العين . على أعين مراعاة لنون العظمة وهو المضاف إليه « بأعيننا » .
وقوله { وسبح بحمد ربك } أي قل سبحان الله وبحمده حين تقوم من نومك ومن مجلسك ومن الليل ايضاً فسبحه بصلاة المغرب والعشاء والتهدد وكذا إدبار النجوم أي بعد طلوع الفجر فسبح بصلاة الصبح وغيرها .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان عناد كفار قريش ومكابرتهم فى الحق ومجاحدتهم فيه .
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وهى للدعاة بعده أيضا .
3- تقرير وخامة عاقبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة .
4- وجوب الصبر على قضاء الرب وعدم الجزع .
5- مشروعيةالتسبيح عند القيام من النوم بنحو : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يُحيى ويُميت وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذى أحيانى بعدما أماتنى وإليه النشور .
(4/158)

 

القاسمية 26

مزمار داوُدي
2 أغسطس 2010
6,454
202
63
الجنس
أنثى
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

تفسير سورة النجم

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) شرح الكلمات :
{ والنجم إذا هوى } : أي والثريا إذا غابت بعد طلوعها .
{ ما ضل صاحبكم } : اي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهدى .
{ وما غوى } : أي وما لابس الغى وهو جهل من اعتقاد فاسد .
{ وما ينطق عن الهوى } : أي عن هوى نفسه أي ما يقوله عن الله تعالى لم يصدر فيه عن هوى نفسه .
{ إن هو الا وحي يوحى } : أي ما هو إلا وحى إلهي يوحى إليه .
{ علّمه شديد القوى } : أي علمه ملك شديد القوى وهو جبريل عليه السلام .
{ ذو مِرَّةِ } : أي لسلامة فى جسمه وعقله فكان بذلك ذا قوة شديدة .
{ فاستوى وهو بالافق الاعلى } : أي استقر وهو بأفق الشمس عند مطلعها على صورته التى خلقه الله عليها فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وكان بجياد قد سد الأفق الى المغرب وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من جبريل أن يريه نفسه فى صورته التي خلقه الله عليها .
{ ثم دنا فتدلى } : أي وقرب منه فتدلى أى زاد فى القرب .
{ فكان قاب قوسين أو أدنى } : أي فكان فى القرب قاب قوسين أي مقدار قوسين .
{ فأوحى الى عبده ما أوحى } : أي فأوحى الله تعالى إلى عبده جبريل ما أوحاه جبريل الى النبي صلى الله عليه وسلم .
{ ما كذب الفؤاد ما رأى } : أي ما كذب فؤاد النبي ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه السلام .
{ أفتمارونه على ما يرى } : أي أفتجادلونه أيها المشركون على ما يرى من صورة جبريل .
{ ولقد رأه نزلة أخرى } : أي على صورته مرة أخرى وذلك فى السماء ليلة أسرى به .
{ عند سدرة المنتهى } : وهي شجرة نبق عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة .
{ عندها جنة المأوى } : أي تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين أولياء الله .
{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } : أي من نور الله تعالى ما يغشى .
{ ما زاغ البصر وما طغى } : أي ما مال بصر محمد يميناً ولا شمالاً ، ولا ارتفع عن الحد الذي حدد له .
{ لقد رآى من آيات ربه الكبرى } : أي رأى جبريل في صورته ورأى رفرفاً أخضر سد أفق السماء .
معنى الآيات :
قوله تعالى { والنجم } إلى قوله { من آيات ربه الكبرى } يقرر به تعالى نبوة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد أقسم بالنجم إذا هوى وهو نجم الثريا إذا غاب عن الأفق على أنه ما ضل محمد صاحب قريش الذي صاحبته منذ ولادته ولم يغب عنها ولم تغب عنه مدة تزيد على الأربعين سنة فهى صحبة كاملة ما ضل عن طريق الهدى وهم يعرفون هذا ، وما غوى أيضاً أية غواية وما لابسه جهل في قول ولا عمل فغوى به . وما ينطق بالقرآن وغيره مما يقوله ويدعو إليه عن هوى نفسه كما قد يقع من غيره من البشر إن هو إلا وحى يوحى أي ما هو أي الذي ينطق به ويدعو إليه ويعمله إلا وحي يُوحى إليه .
(4/159)

علمه إياه ملك شديد القوى ذو مرة أي سلامة عقل وبدن فكان بذلك قوياً روحياً وعقلياً وذاتياً وهو جبريل عليه السلام وقوله : { فاستوى } أي جبريل { وهو بالأفق الأعلى } ومعنى استوى استقر { ثم دنى فتدلى } أي تدلى فدنا أي قرب شيئاً فشيئاً حتى كان من الرسول صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي قدر قوسين والقوس معروف آلة للرمي { أو ادنى } أي من قاب قوسين .
وقوله تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } أي فَأَوْحى الله تعال إلى جبريل ما أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } أي ما كذب فؤادُ محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه محمد ببصره وهو جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها ذات الستمائة جناح طول الجناح ما بين المشرق والمغرب . وقوله تعالى : { أَفتمارونه على ما يرى } هذا خطاب للمشركين المنكرين لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ينكر تعال ذلك عليهم بقوله { أفتمارونه } أي تجادلونه وتغالبونه أيها المشركون على ما يرى ببصره . { ولقد رآه نزلة أخرى } أي مرة اخرى { عند سدرة المنتهى } وذلك ليلة أسرى به صلى الله عليه وسلم ، ووصفت هذه السدرة وهي شجرة النبق بأن أوراقها كآذان الفيلة وأن ثمارها كغلال هجر قال فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيَّرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها ، وسميت سدرة المنتهى لانتهاء علم كل عالم من الخلق إليها أو لكونها عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة ، وقوله { عندها جنة المأوى } أي الجنة التى تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء ، والمتقين أولياء الله تعالى .
وقوله تعالى : { إذ يغشى السدرة ما يغشى } أي من نور الله تعالى ، والملائكة من حب الله مثل الغربان حين تقفز على الشجرة كذلك روى ابن جرير الطبري . وقوله { ما زاغ البصر وما طغى } أي ما مال بصر محمد يميناً ولا شمالاً ولا ارتفع فوق الحد الذي حدد له . { ولقد رأى من آيات ربه الكبرى } أي رأى جبريل في خلقه الذي يكون فيه في السماء ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق ورأى من عجائب خلق الله ومظاهر قدرته وعلمه ما لا سبيل إلى إدراكه والحديث عنه .
هداية الآيات
من هداي الآيات :
1- تقرير النبوة لمحمد وإثباتها بما لا مجال للشك والجدال فيه .
2- تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن القول بالهوى أو صدور شيء من أفعاله أو أقواله من اتباع الهوى .
3- وصف جبريل عليه السلام .
4- إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل وعلى صورته التي يكون في السماء عليها مرتين .
5- تقرير حادثة الإِسراء والمعراج وإثباتها للنبي صلى الله عليه وسلم .
6- بيان حقيقة سدرة المنتهى .
(4/160)

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) شرح الكلمات :
{ أفرأيتم اللات والعزى } : أي أخبروني عن أصنامكم التى اشتققتم لها أسماء من أسماء الله وأنثتموها .
{ ومناة الثالثة الأخرى } : وجعلتموها بناتٍ لله ، افتراء على الله وكذبا عليه .
{ ألكم الذكر وله الأنثى } : أي أتزعمون أن لكم الذكر الذى ترضونه لأنفسكم ولله الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم .
{ تلك إذاً قسمة ضيزى } : أي قسمتكم هذه إذاً قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة ناقصة غير تامة .
{ إن هي إلا أسماء سميتموها } : أي ما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى إلا أسماء لا حقيقة لها .
{ أنتم وآباؤكم } : أي سميتموها بها أنتم وآباؤكم .
{ ما أنزل الله بها من سلطان } : أي لم ينزل الله تعالى وحياً يأذن في عبادتها .
{ إن يتبعون إلا الظن } : أي ما يتبع المشركون في عبادة أصنامهم إلا الظن والخرص والكذب .
{ وما تهوى الأنفس } : أي وما يتبعون الا ما تهواه نفوسهم وما تميل إليه شهواتهم .
{ أم للإنسان ما تمنى } : أي بل أللإِنسان ما تمنّى والجواب لا ليس له كل ما يتمنى .
{ فلله الآخرة والأولى } : اي إن الآخرة والأولى كلاهما لله يهب منهما ما يشاء لمن يشاء .
{ وكم من ملك في السموات } : أي وكثير من الملائكة في السموات .
{ لا تغنى شفاعتهم شيئا } : أي لو أرادوا أن يشفعوا لاحد حتى يكون الله قد أذن لهم ورضى للمسموح له بالشفاعة .
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى مظاهر قدرته وعظمته وعمله وحكمته في الملكوت الأعلى جبريل وسدرة المنتهى وما غشاها من نور الله وما أرى رسوله من الآيات الكبرى ، خاطب المشركين بقوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } أي أعميتم فرأيتم هذه الأصنام أهلاً لأن تسوَّى بمن له ملكوت السموات والأرض وعبدتموها معه على حقارتها ودناءتها ، وأزددتم عمىً فاشتقتتم لها من أسماء الله تعالى أسماء فمن العزيز اشتققتم العُزى ومن الله اشتققتم اللات ، وجعلتموها بنات لله افتراء على الله بزعمكم أنها تشفع لكم عند الله ، أخبرونى ألكم الذكر لأنكم تحبون الذكران وترضون بهم لأنفسكم ، وله الأنثى لأنكم تكرهونها ولا ترضون بها لانفسكم ، إذا كان الأمر على ما رأيتم فإنها قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة وناقصة غير تامة فكيف ترضونها لمن عبدتم الأصنام من أجل التوسل بها إليه لقضى حوائجكم؟ إن هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم . إن أصنامكم أيها المشركون لا تعدو كونها أسماء لآلهة لا وجود لها ولا حقيقة في عالم الواقع إذ لا إله إلا الله ، أما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فلم تكن آلهة تحيى وتميت وتعطى وتمنع وتضر وتنفع . إن هي أي ما هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان أي لم ينزل بها وحياً يأذن بعبادتها . وهنا التفت الجبار جل جلاله في الخطاب عنهم وقال { إنْ يتَّبعون إلاَّ الظن } أي إن هؤلاء المشركين ما يتبعون في عبادة هذه الأصنام إلاَّ الظن ، فلا يقين لهم في صحة عبادتها .
(4/161)

كما يتبعون في عبادتها { وما تهوى الأنفس } أي هوى أنفسهم { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } فبيَّن لهم الصراط السوى فأعرضوا عنه وهو لحق من ربهم . وتعلقوا بالأمانى الكاذبة وأن أصنامهم تشفع لهم ، أم للانسان ما تمنى والجواب ليس له ما تمنى ، إذ لله الآخرة والأولى يعطى منها ما يشاء ويمنع ما يشاء وكم من ملك فى السماوات لا يعدون كثرة لا تغنى شفاعتهم شيئاً من الإِغناء ولو قلّ إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء أن يشفع من الملائكة وغيرهم ، ويرضى عن المشفوع له ، وإلاّ فلا شافع ولا شفاعة تنفع عند الله الملك الحق المبين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التنديد بالشرك والمشركين وتسفيه أحلامهم لعبادتهم اسماء لا مسميات لها فى الخارج إذ تسمية حجراً إلهاً لن تجعله إلهاً .
2- بيان أن المشركين في كل زمان ومكان ما يتبعون في عبادة غير الله إلا أهواءهم .
3- بيان أن الانسان لا يعطى بأمانيه ، ولكن بعمله وصدقه وجده فيه .
4- بيان أن الدنيا كالآخرة لله فلا ينبغي أن يُطلب شيء منها إلا من الله مالكها .
5- كل شفاعة تُرجى فهى لا تحقق شيئاً الا بتوفر شرطين الأول أن يأذن الله للشافع فى الشفاعة الثانى أن يكون الله قد رضي للمشفوع له بالشفاعة والخلاصة هى : الإِذن للشافع والرضا عن المشفوع .
(4/162)

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) شرح الكلمات :
{ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } : أي إن الذين لا يؤمنون بالبعث والحياة الآخرة .
{ ليسمون الملائكة تسمية : أي ليطلقون على الملائكة اسماء الإِناث إذ قالوا بنات الله .
الأنثى } { وما لهم به من علم } : أي وليس لهم بذلك علم من كتاب ولا هدى من نبي ولا عقل سوى .
{ إن يتبعون إلا الظن } : أي في تسميتهم الملائكة إناثاً إلا مجرد الظن ، والظن لا تقوم به حجة ولا يعطى به حق .
{ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } : أي القرآن وعبادتنا .
{ ولم يرد إلا الحياة الدنيا } : ولم يرد من قوله ولاعمله إلا ما يحقق رغائبه من الدنيا .
{ ذلك مبلغهم من العلم } : أي ذلك الطلب للدنيا نهاية علمهم إذ آثروا الدنيا على الآخرة .
معنى الآيات :
لما ندد تعالى بالمشركين الذين جعلوا من الأصنام والأوهام والأمانى آلهة وجادلوا دونها وجالدوا ذكر ما هو علة ذلك التخبط والضلال فقال : { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } دار السعادة الحقة أو الشقاء { ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } فلو آمنوا بالآخرة لما سموا الملائكة بنات الله لأن المؤمن بالآخرة يحاسب نفسه على كل قول وعمل له تبعة يخشى أن يؤخذ بها بخلاف الذي لا يؤمن بالآخرة فإنه يقول ويفعل ما يشاء لعدم شعوره بالمسئولية والتبعة التى قد يؤخذ بها فيهلك ويخشى كل شيء وهو تعليل سليم حكيم .
وقوله تعالى : { وما لهم به من علم } أي ليس لهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله أي علم يعتد به إن يتبعون فيه إلا الظن والظن أكذب الحديث ، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً وبناء على هذا أمر الله تعالى رسوله أن يعرض عمن تولى منهم عن الحق بعد معرفته وعن الهدى بعد مشاهدته فقال تعالى { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } أي القرآن والإِيمان والتوحيد والطاعة ، ولم يرد بقوله وعمله واعتقاده إلا الحياة الدنيا إذ هو لا يؤمن بالآخرة فلذا هو قد كيَّف حياته بحسب الدنيا فكل تفكيره في الدنيا ، وكل عمله لها فيصبح بذلك أشبه بالآلة منه بالحيوان . وتصبح الحياة معه عقيمة الفائدة فلذا يجب الإِعراض عنه وتركه إلى أن يأذن الله فيه بشيء .
وقولهتعالى { ذلك مبلغهم من العلم } أي هذا الطلب للدنيا هوما انتهى إليه علمهم فلذا هم آثروها عن الآخرة التي لم يعلموا عنها شيئاً .
وقوله تعالى في خطاب رسوله { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم منك ومن غيرك بمن ضل عن سبيله قدراً وأزلاً فضل في الحياة الدنيا أيضاً ، وهو أعلم بمن اهتدى ، قضاء وقدراً وواقعاً في الحياة الدنيا وسيجزى كلاً بما عمل من خير أو شر فلا تأس يا رسولنا ولا تحزن وفوّض الأمر إلينا فإنا عالمون ومجازون كل عامل بما عمل في دار الجزاء .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- أكثر الأمراض مردها إلى قلب لا يؤمن بالآخرة .
2- أكثر الفساد في الأرض هو نتيجة الجهل وعدم العلم اليقيني .
3- التحذير من الماديين فإنهم شر وخطر وواجب الإِعراض عنهم لأنهم شر الخليقة .
(4/163)

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) شرح الكلمات :
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } : أي خلقاً وملكاً وتصرفاً .
{ ليجزى الذين أساءوا بما : ليعاقب الذين أساءوا بما عملوا من الشرك والمعاصي .
عملوا } { ويجزى الذين احسنوا : ويثيب الذين أحسنوا في إيمانهم وعملهم الصالح بالحسنى } بالجنة .
{ الذي يجتبون كبائر الإِثم } : أي يتجنبون كبائر الذنوب وهو كل ذنب وُضع له حد أو لعن فاعله أوتُوعد عليه بالعذاب في الآخرة .
{ والفواحش الا اللمم } : أي الذنوب القبيحة كالزنا واللواط وقذف المحصنات والبخل واللمم صغائر الذنوب التى تكفر باجتناب كبائرها .
{ هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض } : أي خلق أباكم آدم من تراب الأرض .
{ وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } : أي وأنتم في أرحام أمهاتكم لم تولدوا بعد .
{ فلا تزكوا أنفسكم } : أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإِعجاب .
{ هو أعلم بمن اتقى } : أي منكم بمن اتقى منكم وبمن فجر فلا حاجة الى ذكر ذلك منكم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تقرير ربوبيته تعالى المطلقة لكل شيء إذ تقدم في السياق قوله تعالى : { فلله الآخرة والأولى } وهنا قال عز من قائل { ولله ما في السموات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً فهو يهدى من يشاء ويضل من يشاء هداية تابعة لحمة وإضلال كذلك يدل عليه قوله تعالى { ليجزي الذين أساءوا } أي إلى أنفسهم بما عملوا من الشرك والمعاصى يجزيهم بالسوء وهي جهنم { ويجزى الذين أحسنوا } إلى أنفسهم فزكوها وطهروها بالإِيمان والعمل الصالح يجزيهم بالحسنى التى هي الجنة وقوله { الذي يجتنبون كبائر الإِثم والفواحش } بيّن فيه وجه إحسان المحسنين إلى أنفسهم حين طهروها بالإِيمان وصالح الأعمال ولم يلوثوها بأوضار كبائر الإِثم من كل ما تُوعد فاعله بالنار أو بلَعْنٍ أو إقامة حدٍ ، أو غضب الرب .
والفواحش من زنا ولواط وبخل وقوله { إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة } أي لكن اللمم يتجاوز عنه وهو ما ألم به المرء وتاب منه أو فعله في الجاهلية ثم أسلم ، وما كان من صغائر الذنوب كالنظرة والكلمة والتمرة . وقد فسر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم « إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه . فمغفرة الله واسعة تشمل كل ذنب تاب منه فاعله كما تشمل كل ذنب من الصغائر » .
وقوله تعالى { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } أعلم بضعفنا وغرائزنا وحاجاتنا وعجزنا مِنّا نحن بأنفسنا ولذا تجاوز لنا عن اللمم الذي نُلِمُّ به بحكم العجز والضعف ، فله الحمد والمنة ، وقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } ينهى الرب تعالى عباده المؤمنين عن تزكية المرء نفسه بإدعاء الكمال والطهر الأمر الذي كون فخراً وإعجاباً والإِعجاب بالنفس محبط للعمل كالرياء والشرك فقوله { فلا تزكوا أنفسكم } أي لا تشهدوا عليها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصى وقوله { هو أعلم بمن اتقى } أي ان الله أعلم بمن اتقى منكم ربه فخاف عقابه فأدى الفرائض واجتنب المحرمات منا ومن المتقى نفسه فلذا لا تمدحوا أنفسكم له فإنه أعلم بكم من أنفسكم .
(4/164)

هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء وهي مستلزمة لإِلوهيته .
2- تقرير حرية إرادة الله يهدى من يشاء ويضل ويعذب نم شاء ويرحم إلا أن ذلك تابع لحكم عالية .
3- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل .
4- تقرير قاعدة أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر .
5- حرمة تزكية النفس وهى مدحها والشهادة عليها بالخير والفضل والكمال التفوق .
(4/165)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) شرح الكلمات :
{ أفرأيت الذي تولى } : أي عن الإِسلام بعد ما قارب أن يدخل فيه .
{ أعطى قليلاً وأكدى } : أي أعطى من زعم أنه يتحمل عنه عذاب الآخرة أعطاه ما وعده من المال ثم منع .
{ أعنده علم الغيب فهو يرى } : أي يعلم أن غيره يتحمل عنه العذاب والجواب لا .
{ أم لم ينبأ بما فى صحف : أي أم بل لم يخبر بما ورد فى الصحف المذكورة وهي موسى وابراهيم الذي وفى } التوراة وعشر صحف كانت لابراهيم عليه السلام .
{ ألا تزر وازرة وزر أخرى } : أي أنه لا تحمل نفس مذنبة ذنب غيرها .
{ وأنَّ ليس للانسان الا ما سعى } : أي من خير وشر ، وليس له ولا عليه من سَعي غيره شيء .
{ وأن سعيه سوف يرى } : أي يُبصَر يوم القيامة ويراه بنفسِهِ .
{ ثم يجزاء الجزاء الأوفى } : أي الأكمل التام الذي لا نقص فيه .
{ إن الى ربك المنتهى } : أي المرجع والمصير إليه ينتهى أمر عباده بعد الموت ويجازيهم .
{ وأنه أضحك وأبكى } : أي أفرح من شاء فأضحكه ، وأحزن من شاء فأبكاه .
{ وإنه أمات وأحيا } : أمات في الدنيا وأحيا في الآخرة .
{ وإنه خلق الزوجين } : أي الصنفين الذكر والأنثى .
{ من نطفة إذا تمنى } : أي من منى إذاتمنى تُصبُّ فى الرحم .
{ وأن عليه النشأة الأخرى } : أي الخلقة الثانية للبعث والجزاء .
{ وأنه هو أغنى واقنى } : أي وأنه هو وحده أغنى بعض الناس بالكفاية ، واقنى بعض الناس بالمال المقتنى المدخر للقنية .
{ وأنه هو رب الشعرى } : أي خالقها ومالكها وهى كوكب خلق الجوزاء عبده المشركون .
{ وأهلك عادا الأولى } : أي قوم هود عليه السلام .
{ وثمودا فما أبقى } : أي أهلكها أيضا فلم يبق منهم أحداً وهم قوم صالح .
{ وقوم نوح من قبل } : أي وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم لوط .
{ والمؤتفكة أهوى } : أي وقرى قوم لوط اسقطها بعد رفعها الى السماء مقلوبة إلى الأرض إذ الائتفاك الانقلاب .
{ فغشاها ما غشى } : أي بالعذاب ما غشى حيث جعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل .
معنى الآيات :
إن هذه الآيات ترسم صورة لقرشي جاهل هو الوليد بن المغيرة إذ قدر له أن استمع الى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهش لها ودعاه الرسول فأسلم أو أوشك أن يسلم فعلم به أحد المشركين من شياطينهم فجاءه فعيره بإسلامه وترك دين آبائه فاعتذر له الوليد بأنه يخاف عذاب الله فقال له الشيطان القرشي وكان فقيراً والوليد غنياً أعطنى كذا من المال شهرياً أو اسبوعياً أو سنوياً وأنا اتحمل عنك العذاب الذي تخافه وعد إلى دينك واثبت عليه فوافق الوليد على العرض وأخذ يعطيه المال . ثم أكدى أي قطع عنه ما كان يعطيه ومنعه . فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً وتحذيراً لكل من تبلغه ويقرأها أو تقرأ عليه فقال تعالى في أسلوب حمل فيه السامع على التعجب : { أفرأيت الذي تولي } أي عن الإسلام بعد أن قارب الوصول إليه والدخول فيه .
(4/166)

{ وأعطى قليلاً } أي من المال للشيطان المشرك الذي اتفق معه على أن يتحمل عليه العذاب مقابل مال يعطيه إياه أقساطاً . { وأكدى } أي قطع ومنع لأن الذي يحفر بئراً في أرض أحياناً تصادفه كدية من الأرض الصلبة يعجز عن الحفر فينقطع عن الحفر ويمتنع كذلك الوليد اعطى ثم امتنع وهو معنى اكدى أي انتهى الى كدية من الأرض الصلبة .
وقوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يرى } أي أن المرء في امكانه أن يتحمل عذاب غيره يوم القيامة والجواب لا علم غيب عنده لا من كتاب ولا من سنة ، أم لم ينبأ بما في صحف موسى وهي التوراة وابراهيم الذي وفي لربه في كل ما عهد به إليه من ذبح ولده حيث تله للجبين ليذبحه ، ومن بناء البيت والهجرة والختان بالقدوم إلى غير ذلك من التكاليف الشاقة . أي ألم ينبأ أي يخبر هذا الرجل الجاهل بما في صحف موسى بن عمران نبي إسرائيل وإبراهيم أبو الأنبياء ثم بين تعالى ما تضمنته تلك الصحف من علم فقال :
* ألا تزر وازرة وزر أخرى أن لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى .
* وأن ليس للإِنسان من ثواب يوم القيامة إلا ما سعى في تحصيله بنفسه وهذا لا يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح « إذا مات ابن آدم انقطع مله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به » إذ هذه الثلاثة أمور من عمل الإِنسان وسعيه الولد انجبه ورباه * وأن سعيه أى عمله في الدنيا من خير وشر سوف يرى علانية ويجزى به خيراً أو شراً والجزاء الأوفى أي الأكمل الأتم .
* وأن إلى ربك المنتهى أي إليه تصير أمور عباده بعد الموت ويحكم فيها ويجزيهم بها .
* وأنه هو أضحك وأبكى أي أفرح من شاء وأحزن فضحك الفرح وبكى الحزن . أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار . زيادة على من أفرح في الدنيا ومن أحزن .
* وأنه أمات وأحيا عند نهاية أجل العبد وأحياه في قبره ويوم نشره وحشره وأحيْا بالإِيمان وأمات بالكفر وأمات بالقحط وأحيا بالمطر .
* وأنه خلق الزوجين أي الصنفين الذكر والأنثى من سائر الحيوانات من نطفة أي قطرة المنى إذا تمنى أى تصب في الأرحام .
* وأن عليه تعالى النشأة الأخرى أي هو الذي يقوم بها فيحيي الخلائق بعد موتهم يوم القيامة . * وأنه هو أغنى وأقنى أي أغنى بعض الناس فسد حاجاتهم وكفاهم مؤونتهم ، وأقنى آخرين أعطاهم مالاً كثيراً فاقتنوه قنيةً .
(4/167)

* وأنه هو رب الشعرى ذلك الكوكب الذي يطلع خلف الجوزاء فالله خالقه ومالكه ومسخره وقد عبده الجاهلون واتخذوه رباً وإلهاً وهو مربوب مألوه .
* { وأنه أهلك عاداً الأولى } قوم هود أرسل عليهم ريحاً صرصراً ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم ، عاد تلك الأمة القائلة من أشد منا قوة دمر الله عليهم فاهلكم أجمعين .
*وثمودا فما أبقى أي وأهلك ثمود قوم صالح بالحجر فما أبقى منهم أحداً .
* وقوم نوح من قبل عاد وثمود أهلكهم إنهم كانوا هم أظلم من غيرهم وأطغى .
* والمؤتفكة أي قرى قوم لوط سدوم وعموره أهلكهم فرفع تلك القرى الى عنان السماء ثم أهوى بها الى الأرض وأرسل عليهم حجارة من طين من سجيل فغشى تلك المدن من العذاب الأليم ما غشى عذاب يعجز الوصف عنه هذا هو الله رب العالمين الذي اتخذ الجهال له أنداداً فعبدوها معه .
هذا هو الله الإِله الحق الذي اتخذ الناس من دونه آلهة لاتعلم ولا تحكم ولا تقدر .
هذا هو الله العزيز المنتقم لأوليائه من أعدائه يشقي عبداً عاداه ويسعد آخرة والاه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرر ربوبية الله تعالى وإثبات ألوهيته بالبراهين والحجج التى لا ترد بحال .
2- تقرير عدالة الله تعالى في حكمه وقضائه .
3- مظاهر قدرة الله تعالى علمه وحكمته .
4- تقرير حقيقة علمية وهي أن العمل الذي يزكى النفس أو يُدنسها هو ذاك الذي يباشره المرء بنفسه وباختياره وقصده ونيته .
5- تحذير الظلمة والطغاة من أهل الكفر والشرك من أن يصيبهم ما أصاب غيرهم من الدّمار والخسران .
(4/168)

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) شرح الكلمات :
{ فبأيى آلاء ربك } : أي فبأيِّ أَنْعمُ ربك عليك وعلى غيرك أيها الإِنسان .
{ تتمارى } : أي تتشكك أو تكذب .
{ هذا نذير من النذر الأولى } : أي هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم من النذر الأولى أي رسول مثل الرسل الأولى الذين ارسلوا الى أقوامهم .
{ أزفت الآزفة } : أي قربت القيامة ووصفت بالقرب لقربها فعلاً .
{ ليس لها من دون كاشفة } : أي ليس لها أي للقيامة من دون الله نفس كاشفة لها مظهرة لوقتها ، إذ لايجليها لوقتها الا الله سبحانه وتعالى .
{ أفمن هذا الحديث } : أي القرآن .
{ تعجبون وتضحكون } : أي تعجبون تكذيباً به ، وتضحكون سخرية منه كذلك .
{ وأنتم سامدون } : أي لاهون مشتغلون بالباطل من القول كالغناء والعمل كعبادة الأصنام والأوثان .
{ فاسجدوا لله } : أي الذي خلقكم ورزقكم وكلأكم ولا تسجدوا للأصنام .
{ واعبدا } : أي وذلو لله واخضعوا له تعظيماً ومحبة ورهبة فإنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره .
معنى الآيات : بعد ذلك العرض العظيم لمظاهر القدرة والعلم والحكمة وكلها مقتضية للربوبية والألوهية لله سبحانه وتعالى خاطب الله تعالى الإِنسان فقال { فبأي آلاء ربك } أي بعد الذي عرضنا عليك في هذه السورة من مظاهر النعم والنقم وكلها في الباطن نعم فبأي آلاء ربك تتمارى أي تشكك أو تكذب ، وكلها ثابتة أمامك لا تقدر على إنكارها واخفائها بحال من الأحوال .
قم قال تعال : { هذا نذير من النذر الأولى } يشير الى أحد أمرين إمّا إلى ما في هذه السورة والقرآن كله من نذر أو إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكلا الأمرين حق القرآن نذير ومحمد نذير من النذر الأولى التى سبقته وهم الرسل ، أو ما خوَّفت به الرسل أقوامها من عذاب الله تعالى العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة . ألا فاحذروا أيها الناس عاقبة إعراضكم .
وقوله تعالى : { ازفت الآزفة } يخبر تعالى أن القيامة قد آن أوانها وحضرت ساعتها إنها لقريبة جداً . ليس لها من دون الله نفس كاشفة تكشف الستار عنها وتظهرها بل تبقى مستورة لحكمة إلهية حتى تفاجأ بها البشرية وويل يومئذ للمكذبين .
وقوله تعالى توبيخاً للمشركين والمكذبين : { أفمن هذا الحديث } أي غفلتم كل هذه الغفلة فتعجبون من هذا الحديث الإِلهي والكلام الرباني وهو القرآن . { وتضحكون } كأن قلوبكم أصابها الموت . ولا تبكون على أنفسكم وقد بعتموها للشيطان ليقدمها إلى نار جهنم حطباً ، وأنتم سامدون ساهون لاهون تُغنون وتلعبون . ويلكم أنقذوا أنفسكم فاسجدوا لله واعبدوا ، فإنه لا نجاة لكم من العذاب الأليم إلا بالاطراح بين يديه اسلاماً له وخضوعاً . تعبدونه بتوحيده في عبادته ، وتسلمون له قلوبكم ووجوهكم فلا يكون لكم غير الله مألوها ومعبوداً تعظمونه وتحبونه وتتقربون إليه بفعل محابه وترك مكاره .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان قرب الساعة وخفاء ساعتها عن كل خلق الله حتى تأتى بغتة .
2- ذمّ الضحك مع الانغماس في الشهوات .
3- الترغي في البكاء من خشية الله .
4- كراهية الغناء واللهو واللعب .
5- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية لمن يتلوها ولمن يستمع لها ، وهي من عزائم السجدات في القرآن الكريم ، ومن خصائص هذه السجدة أن المشركين سجدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة كما في الصحيح .
(4/169)

 

القاسمية 26

مزمار داوُدي
2 أغسطس 2010
6,454
202
63
الجنس
أنثى
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

تفسير سورة القمر

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) شرح الكلمات :
{ اقتربت الساعة وانشق القمر } : أي قربت القيامة ، وانفلق القمر فلقتين على جبل أبي قبيس .
{ وإن يروا آية يُعرضوا } : أي وإن ير كفار قريش آية أي معجزة يعرضوا عنها ولا يلتفتوا إليها .
{ ويقولوا سحر مستمر } : أي هذا سحر مستمر أي قوى من المرّة أو دائم غير منقطع .
{ وكل أمر مستقر } : أي وكل من الخير أو الشر مستقر باهله في الجنة أو في النار .
{ ولقد جاءهم من الأنباء } : أي من أنباء الأمم السالقة ما قصه القرآن .
{ مافيه مزدجر } : أي جاءهم من الأخبار ما فيه ما يزجرهم عن التكذيب والكفر .
{ حكمة بالغة } : أي الذي جاءهم من الأنباء هو حكمة بالغة أي تامة .
{ فما تغن النذر } : أي عن قوم كذبوا واتبعوا أهواءهم لا تغن شيئاً .
{ يوم يدعو الداع إلى شيء نكر } : أي يدع الداع إلى موقف القيامة .
{ يخرجون من الاجداث } : أي من القبور . { مهطعين الى الداع } : أي مسرعين إلى نداء الداع .
{ هذا يوم عسر } : أي صعب شديد .
معنى الآيات :
قوله تعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر } يخبر تعالى أن ساعة نهاية الدنيا وفنائها وقيام القيامة قد اقتربت ، وأن القمر قد انشق معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة ، وانشقاق القمر كان بمكة حيث طالبت قريش النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة تدل على نبوته فسأل الله تعالى انشقاق القمر فانشق فلقتين على جبل أبي قبيس فلقة فوق الجبل وفلقة وراء فشاهدته قريش ولم تؤمن وهو معنى قوله تعالى : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي هذا سحر قوى شديد . قال تعالى { وكذبوا } أي رسولنا وما جاءهم به من التوحيد والوحى واتبعوا في هذا التكذيب أهواءهم لا عقولهم ولا ما جاء به رسولهم . وقوله تعالى { ولقد جاءهم من الأنباء } أي من أخبار الأمم السابقة وكيف أهلكها الله بتكذيبها رسلها وإصرارها على الشرك والكفر ، وذلك في القرآن الكريم ما فيه مزدجر أي جاء من الأخبار الواعظة المذكرة من قصص الأنبياء مع أممهم ما فيه زاجر عن التكذيب والمعاصى هو حكمة بالغة تامة ، والحكمة القول الذي يمنع صاحبه من التردى والهلاك بصرفه عن أسباب ذلك .
وقوله تعالى { فما تغن النذر } أي عن قوم كذبوا بالحق لما جاءهم واتبعوا أهواءهم ولم يتبعوا هدى ربهم ولا عقولهم . إذاً فتول عنهم يا رسولنا واتركهم إلى حكم الله فيهم . وقوله : { يوم يدعو الداع الى شيء نكر } أي اذكر يا رسولنا يوم يدعوا الداع إلى شيء نكر وهو موقف القيامة خشعاً أبصارهم وكل أجسامهم وانما ذكرت الأبصار لأنها أدل على الخشوع من سائر الأعضاء { يخرجون من الأجداث } أي القبور جمع جدث وهو القبر كأنهم جراد منتشر في كثرتهم وتفرقهم وانتشارهم مهطعين الى الداع أي مسرعين الى داع الله الى ساحة الموقف وفصل القضاء . يومئذ يقول الكافرون هذا يوم عَسِر وهو كذلك عسير شديد العسر ولكن على المؤمنين يسير غير عسير . كما قال تعالى فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير مفهومه أنه على المؤمنين يسير .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- ذكر بعض علامات الساعة . كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر معجزة له صلى الله عليه وسلم .
3- التنديد باتباع الهوى ، والتحذير منه فإنه مهلك .
4- عدم جدوى النذر لمن يتنكر لعقلة ويتبع هواه .
(4/170)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) شرح الكلمات :
{ فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون } : أي كذبوا نوحا عبد الله ورسوله وقالوا هو مجنون .
{ وازدجر } : أي انتهروه وزجروه بالسب والشتم .
{ فدعا ربه اني مغلوب فانتصر } : أي فسأل ربه قائلاً رب إني مغلوب فانتصر أي لي .
{ بماء منهمر } : أي منصب انصبابا شديداً .
{ وفجرنا الأرض عيوناً } : اي تنبع نبعاً .
{ فالتقى الماء } : أي ماء السماء وماء الأرض .
{ على أمر قد قدر } : أي في الأزل ليغرقوا به فيهلكوا .
{ وحملناه على ذات ألواح ودسر } : أي حملنا نوحاً على سفينة ذات ألواح ودسر وهو ما يدسر به الألواح من مسامير وغيرها . واحد الدسر دسار ككتاب .
{ تجرى بأعيننا } : أي بِمرأىً منا أي محفوظة بحفظنا لها .
{ جزاء لمن كان كفر } : أي أغرقناهم انتصاراً لمن كان كفر وهو نوح كفروا نبوته وكماله
{ ولقد تركناها } : أي إغراقنا لهم على الصورة التى تمت عليها .
{ آية } : أي لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر الى اليوم .
{ فهل من مدّكر } : أي معتبر ومتعظ بها .
{ فكيف كان عذابى ونذر } : أي ألم يكن واقعاً موقعه .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } : أي سهلناه للحفظ ، وهيأناه للتذكير .
{ فهل من مدّكر } : أي فهل من متعظ به حافظ له متذكر .
معنى الآيات :
قوله تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح } يخبر تعالى مسليا رسوله مخوفاً قومه فيقول { كذبت قبلهم } أي قب لقريش قومنوح وهو أول رسول أرسل الى قوم مشركين فكذبوا عبدنا رسولنا نوحاً كذبوه في دعوة التوحيد كذبوه في دعوة الرسالة ، ولم يكتفوا بتكذيبه فقالوا مجنون أي هو مجنون { وازدجر } أي انتهروه وزجروه ببذيء القول وسيّىء الفعل فدعا أي نوح ربه قائلا { أني مغلوب فانتصر } لي يا ربي ، فاستجاب الله تعالى له ففتح أبواب السماء بماء منهمر أي منصب انصباباً شديداً ، وفجرنا الأرض عيوناً نابعة من الأرض فالتقى الماء النازل من السماء والنابع من الأرض { على أمر قد قدر أي قدره الله في الأزل وقضى بأن يهلكهم بماء الطوفان وقوله تعالى { وحملناه على ذات ألواح ودسر } والدسر جمع واحده دسار ككتاب وكتب وهو ما تُدْسَرُ به الألوح من مسامير وغيرها وقوله تعالى { تجرى } وهي حاملة لعوالم شتى { بأعيننا } أي بمرأىً منّا محفوظة بحفظنا لها وقوله { جزاء لمن كان كفر } أي أغرقناهم انتصاراً لعبدنا نوح وجزاء له على صبره مع طول الزمن لقد أقام فيهم ألف سنة الا خمسين عاماً . وقوله { ولقد تركناها آية } أي تلك الفعلة التي فعلنا بهم وهي إغراقنا لهم تركناها آية للاعتبار لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم .
وقوله تعالى { فهل من مدّكر } أي معتبر ومتعظ بها . وقوله { فكيف كان عذابى ونذر } ألم يكن واقعاً موقعه؟ بلى . وقوله تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكر . فهل من مدّكر؛ أي فهل من متعظ به افظ له والاستفهام للأمر أي فاتعظوا به واحفظوه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- تحذير قريش من الاستمرار في الكفر والمعاندة .
3- تقرير حادثة الطوفان والتي لا ينكرها الا سفيه لم يحترم عقله .
4- فضل الله على هذه الأمة بتسهيل القرآن للحفظ والتذكر .
(4/171)

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) شرح الكلمات :
{ كذبت عاد } : أي نبيها هوداً عليه السلام فلم تؤمن به ولا بما جاء به .
{ فكيف كان عذابي ونذر } : أي فكيف كان عذابي الذي أنزلته بهم وإنذارى لهم كان أشد ما يكون .
{ إنا أرسنا عليهم ريحا صرصراً } : أي ريحا عاتية ذات صوت شديد .
في يوم نحس مستمر : أي في يوم نحسٍ أي شؤم مستمر دائم الشؤم قوِيَّة حتى هلكوا .
{ تنزع الناس كأنهم أعجاز } : أي تقتلعهم من الحفر التى اندسوا فيها وتصرعهم فتدق رقابهم .
{ نخل منقعر } : منفصلة أجسامهم كأنهم والحال كذلك أعجاز أي أصول نخل منقلع .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } : أي سهلنا القرآن للحفظ والتذكير والتذكر به .
{ فهل من مدّكر } : أي تذكروا يا عباد الله بالقرآن فإن منزله سهَّله للتذكير .
معنى الآيات : قوله تعالى { كذبت عادٌ } هذا القصص الثاني في هذه السورة يذكر بإيجاز تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً لقومه المكذبين وذكرى للمؤمنين فقال تعالى كذبت عاد أي قوم هود كذبوا رسول الله هوداً عليه السلام وكفرا بما جاءهم به من التوحيد والشرع وقالوا ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأرسل تعالى عليهم ريحاً صرصراً ذات صوت شديد في يوم نحس وكان مساء الأربعاء لثمان خلون من شهر شوال مستمر بشدة وقوم وشؤم عليهم مدة سبع ليال وثمانية أيام تنزع تلك الريح الناس وقد دخلوا حفراً تحصنوا بها فتنزعهم منها نزعاً وتخرجهم فتصرعهم فتدق رقابهم فتنفصل عن أجسادهم فيصيرون والحال هذه لطول أجسامهم كأنهم أعجاز نخل منقعر أي إنه كان كأشد ما يكون لعذاب والإِنذار . وقوله تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي سهلناه وهيأناه بفضل منا ورحمة للحفظ ولولا هذا التسهيل ما حفظه أحد ، وهيئناه للتذكر به . فهل من مذكر أي من متذكر والاستفهام للأمر كأنما قال : فاحفظوه وتذكروا به .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان عقوبة المكذبين لرسول الله وما نزل بهم من العذاب في الدنيا قبل الآخرة .
2- بيان أن قوة الانسان مهما كانت أمام قوة الله تعالى هي لا شيء ولا ترد عذاب الله بحال .
3- بيان تسهيل الله تعالى كتابه للناس ليحفظوه ويذكروا به ، ويعملوا بما جاء فيه ليكملوا ويسعدوا في الحياتين .
(4/172)

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) شرح الكلمات :
{ كذبت ثمود بالنذر } : أي كذبت قبيلة ثمود وهم قوم صالح بالحجر من الحجاز بالرسل لأن النذر جمع نذير وهو الرسول كما هو هنا .
{ فقالوا أبشر منا واحداً نتبعه } : أي كيف نتبع بشراً واحداً منا إنكاراً منهم للايمان بصالح عليه السلام .
{ إنا إذاً لفى ضلال وسعر } : أي إنا إذا اتبعناه فيما جاء به لفي ذهاب عن الصواب وجنون .
{ أألقى عليه الذكر من بيننا } : أي لم يوح إليه من بيننا أبداً وإنما هو كذاب أشر .
{ بل هو كذاب أشر } : أي فيما ادّعى أنه ألقى إليه من الوحي أشرٌ بمعنى متكبر .
{ ستعلمون غدا } : أي في الآخرة .
{ من الكذاب الأشر } : وهو هم المعذبون يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم .
{ إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم } : أي إنا مخرجوا الناقة من الصخر ومرسلوها لهم محنة .
{ فارتقبهم واصطبر } : أي انتظر وراقب ماذا يصنعون وما يصنع بهم ، واصبر على أذاه .
{ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } : أي ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة فيوم لها ويوم لهُم .
{ كل شرب محتضر } : أي كل نصيب من الماء يحضره قومه المختصون به الناقة أو ثمود .
{ فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } : أي فملوا ذلك الشرب وسئموا منه فنادوا صاحبهم وهو قدار بن سالف ليقتلها فتعاطى السيف وتناوله فعقر الناقة أي قتلها .
{ إنا أرسنا عليهم صيحة واحدة } : هي صيحة صباح السبت فهلكوا .
{ فكانوا كهشيم المحتظر } : أي صاروا بعد هلاكهم وتمزق أجسادهم كهشيم المحتظر وهو الرجل يجعل في ظهيرة غنمه العشب اليابس والعيدان الرقيقة يحظر بها لغنمه ويحفظها من البرد والذئاب .
معنى الآيات :
قوله تعالى { كذبت ثمود بالنذر } هذا القصص الموجز الثالث وهو قصص ثمود قوم صالح فقال تعال في بيانه { كذبت ثمود بالنذر } أي التى أنذرها نبيها صالح وهي ألوان العذاب كما كذبته فيما جاء به من الرسالة فقالوا في تكذيبهم له عليه السلام : { أبشراً منا واحدا نتبعه } أي كيف يتم ذلك منا ويقع؟ عجبٌ هذا إنا إذاً لفي ضلال وسعر إنا إذا اتبعناه وهو واحد لا غير ومنا أيضا فهو كغيره من أفراد القبيلة لفى بعد عن الصواب وذهاب عن كل رشد ، وسعر أي وجنون أيضا ، وقالوا مستنكرين متعجبين { أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذَّاب أشر } أي متكبر .
قال تعالى رداً عليهم سيعلمون غدا يوم ينزل بهم العذاب ويوم القيامة أيضا من الكذاب الأشر أصالح أم هم ، لن يكونوا إلا هم فهم الذين أخذتهم الصحية فأصحبوا في ديارهم جاثمين .
وقوله تعالى : { إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم } أي كما طلبوا إذا قالوا لصالح إن كنت رسول الله حقا فسله يخرج لنا من هذه الصخرة في هذا الجبل ناقة فقام يصلى ويدعوا وما يزال يصلى ويدعو حتى تمخض الجبل وخرجت منه ناقة عشراء آية في القوة والجمال ، وقال لهم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم أليم .
(4/173)

ومعنى فتنة لهم أي امتحاناً واختباراً لهم هل يمؤمنون أو يكفرون ، ولذا قال تعالى لصالح فارتقبهم واصطبر أي انظر إليهم وراقبهم من بُع واصطبر على أذاهم . ونبئهم أي أخبرهم بأمرنا أن الماء ماء بئرهم الذي يشربون منه قسمة بينهم أي مقسوم بينهم للناقة يوم وللقبيلة يوم ، وقوله كل شرب محتضر أي كل نصيب خاص بصاحبه يحضره دون غيره . وما تشربه الناقة من الماء نحيله إلى لبن خالص وتقف عند كل باب من أبواب المدينة ليحلبوا من لبنها وطالت المدة وملوا اللبن والسعادة فنادوا صاحبهم غدار بن سالف عاقر الناقة فتعاطى السيف وتناوله وعقرها بضرب رجليها بالسيف ثم ذبحها . وقوله تعالى { فكيف كان عذابي } الذي أنزلته بهم بعد عقر الناقة كيف كان إنذارى لهم أما العذاب فقد كان إليما وأما الإنذار فقد كان صادقاً ، والويل للمكذبين . وهذا بيانه قال تعالى { إنا أرسلنا عليهم صحية واحدة } هي صيحة جبريل عليه السلام فانخلعت لها قلوبهم فاصبحوا في ديارهم جاثمين { كهشيم المحتظر } أي ممزقين محطمين مبعثرين هنا وهنا كحطب وخشب وعشب الحظائر التي تجعل للأغنام .
وقوله تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر } يدعو الله تعالى هذه الأمة الى كتابه قراءة وحفظاً وتذكراً فإِنه مصدر كمالهم وسعادتهم لا سيما وقد سهله وهيأه لذلك . ولا يهلك على الله الا هالك .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله في إهلاك المكذبين .
2- بيان أن الآيات لا تستلزم الإِيمان والا فآية صالح من أعظم الآيات ولم تؤمن بها قو ثمود .
3- أشقى أمة الإِسلام عقبة بن أبي مُعيط الذي وضع سلى الجزور على ظهره الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلى حول الكعبة ، وعاقر ناقة صالح غدار بن سالف ما جاء في الحديث .
4- دعوة الله الى حفظ القرآن والتذكير به فإنه مصدر الإِلهام والكمال والإِسعاد .
(4/174)

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) شرح الكلمات :
{ كذبت قوم لوط بالنذر } : كذبت قوم لوط بالنذر التى أنذرهم بها وخوفهم منها لوط عليه السلام .
{ إنا أرسلنا عليهم حاصبا } : أي ريحاً ترميهم بالحصباء وهي الحجارة الصغيرة فهلكوا .
{ إلا آل لوط نجيناهم بسحر } : أي بِنتاهُ وهو معهم نجاهم الله تعالى من العذاب حيث غادروا البلاد قبل نزول العذاب بها .
{ نعمة من عندنا } : أي إنعاماً منا عليه ورحمة منا بهم .
{ كذلك نجزى من شكر } : أي مثل هذا الجزاء بالنجاة من الهلاك نجزى من شكرنا بالإِيمان والطاعة .
{ ولقد أنذرهم بطشتنا } : أنذرهم لوط أي خوفهم أخذتنا إياهم بالعذاب .
{ فَتَمَارَؤاْ بالنذر } : أي فتجادلوا وكذبوا بالنذر التي أنذرهم بها وخوفهم منها .
{ ولقد روادوه عن ضيفه } : أي أن يخلى بينهم وبين ضيفه وهم ملائكة ليخبثوا بهم .
{ فطمسنا أعينهم } : أي ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فكانت كباقى وجوههم .
{ ولقد صبحهم بكرة عذابٌ : أي نزل بهم بكرة صباحاً عذاب مستقر لا يفارقهم أبداً مستقر } هلكوا به في الدنيا ويصحبهم في البرزخ ويلازمهم في الآخرة .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } : أي سهلناه للحفظ والتذكير به والعمل بما فيه .
{ فهل من مدّكر؟ } : أي من متذكر فيعمل بما فيه فينجو من النار ويسعد في الجنة .
{ ولقد جاء آل فرعون النذر } : أي قوم فرعون الإِنذارات على لسان موسى وهرون عليهما السلام .
{ كذبوا بآياتنا كلها } : أي فلم يؤمنوا بل كذبوا بآياتنا التسع التى آتيناها موسى .
{ فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } : أي فأخذناهم بالعذاب وهو الغرق أخذ قوى مقتدر على كل شيء لا يعجزه شيء .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر موجز لقصص عدد من الأمم السابقة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمشركين المصرين على الشرك بالله والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانذاراً لأهل الشرك والمعاصى في كل زمان ومكان فقال تعالى { كذبت قوم لوط } وهم أهل قرى سدوم وعمورة كذبوا رسولهم لوطاً بن أخى إبراهيم عليه السلام هاران . كذبوا بالنذر وهى الآيات التى أنذرهم لوط بها وخوفهم من عواقبها .
وقوله تعالى : { إنا أرسلنا عليهم حاصبا } أي لما كذبوا بالنذر وأصروا على الكفر وإتيان الفاحشة ارسلنا عليهم حاصباً ريحاً تحمل الحصباء الحجارة الصغيرة فأهلكناهم بعد قلب البلاد بجعل عاليها سافلها . وقوله تعالى { إلا آل لوط نجيناهم بسحر } والمراد من آل لوط لوط ومن آمن معه من ابنتيه وغيرهما نجاهم الله تعالى بسحر وهو آخر الليل . وقوله { نعمة من عندنا } أي كان انجاؤهم إنعاماً منا عليهم ورحمة منا بهم . وقوله تعالى { كذلك نجزى من شكر } أي كهذا الإِنجاء أي من العذاب الدنيوي نجزى من شكرنا فآمن بنا وعمل صالحاً طاعة لنا وتقربا إلينا وقوله تعالى : { ولقد أنذرهم بطشتنا } أي إننا لم نأخذهم بظلم منا ولا بدون سابق إنذار منا لا ، لا بل أخذناهم بظلمهم ، وبعد تكرر إنذارهم ، فكانوا إذا أنذروا تماروا بما أنذروا فجادلوا فيه مستهزئين مكذبين ، ومن أعظم ظلمهم أنهم راودوا لوطاً عن ضيفه من الملائكة وهم في صورة بشر ، فلما راودوه عنهم ليفعلوا الفاحشة ضربه جبريل بجناحه فطمس أعينهم فأصبحت كسائر وجوههم لا حاجب ولا مقلة ولا مكان للعين بالكلية وقولنا لهم فذوقوا عذابي ونذري أي لأولئك الذين راودوا لوطاً عن ضيفه .
(4/175)

أما باقى الأمة فهلاكهم كان كما أخبر تعالى عنه بقوله : { ولقد صحبهم بكرة } أي صباحاً { عذابٌ مستقر } أي دائم لهم ملازم لا يفارقهم ذاقوه في الدنيا موتاً وصاحبهم برزخاً ويلازمهم في جهنم لا يفارقهم .
وقلنا لهم فذوقوا عذابي ونذر حيث كنتم تمارون وتستهزئون وقوله تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكرى } أي القرآن للحفظ وسهلناه للفهم والاتعاظ به والتذكر فهل من مدّكر أي فهل من متذكر تعظ معتبر فيقبل على طاعة الله متجنباً معاصيه فينجو ويسعد وقوله تعالى : { ولقد جاء آل فرعون النذر } أي قوم فرعون من القبط وجنده منهم كذلك جاءتهم النذر على لسان موسى وأخيه هارون فكذبوا وأصروا على الكفر والظلم ، وكذب بآيات الله كلها وهى تسع آيات آتاها الله تعالى موسى أولها العصا وآخرها انفلاق البحر فبسبب ذلك أخذناهم أخذ عزيز غالب لا يمانع في مراده مقتدر لا يعجزه شيء فأغرقناهم أجمعين .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته بالتزام وتقرير التوحيد وإثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم . إذ أفعال الله العظيمة من إرسال الرسل والأخذ للظلمة الكافرين بأشد أنواع العقوبات من أجل أن الناس لم يعبدوا ولم يطيعوا دال على ربوبيته وألوهيته ، وقص هذا القصص من أميّ لم يقرأ ولم يكتب دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
2- بيان جزاء الشاكرين لله تعالى بالإِيمان به وطاعته وطاعة رسله .
3- مشروعية الضيافة وإكرام الضيف ، وفي الحديث : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .
- تيسير القرآن وتسهيله للحفظ والاتعاظ والاعتبار .
(4/176)

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) شرح الكلمات :
{ أكفاركم خير من أولئكم } : أي أكفاركم يا قريش خير من أولئكم الكفار المذكورين من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وملائه؟ فلذا هم لا يعذبون .
{ أم لكم براءة في الزبر } : أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الزبر أي الكتب الإِلهية .
{ أم يقولون نحن جميع منتصر } : أي يقولون أي كفار قريش نحن جميع أي جمع منتصر على محمد وأصحابه .
{ سيهزم الجمع ويولون الدبر } : أي سيهزم جمعهم ويولون الدبر هاربين منهزمين وكذلك كان في بدر .
{ بل الساعة موعدهم } : أي الساعة موعدهم بالعذاب والمراد من الساعة يوم القيامة .
والساعة أدهى وأمر : أي وعذاب الساعة وأهوالها أي هي أي أعظم بلية وأمر أي أشد مرارة من عذاب الدنيا قطعاً .
معنى الآيات :
يقول تعالى مبكتا مشركي قريش مؤنباً إياهم وهم الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم يقول الله تعالى لهم : { أكفاركم } يا قريش خير من كفار الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فلذا هم آمنون من العذاب الذي نزل بكفارة الآخرين ، أم لكم براءة من العذاب جاءت في الكتب مسطورة اللَّهم لا ذا ولا ذاك ما كفاركم بخير من أولئكم ، وليس لكم براءة في الزبر ، وإنما أنتم ممهلون فإما أن تتوبوا وأما أن تؤخذوا .
وقوله تعالى عنهم { أم يقولون نحن جميع } أي جمع منتصر على كل من يحاربنا ويريد أن يفرق جمعنا نعم قالوا هذا ، ولكن سيهزم الجمع ويولون الدبر ، وقد تم هذا في بدر بعد سنيات ثلاث أو أربع وهزم جمعهم في بدر وولوا الأدبار هاربين الى مكة .
وقوله تعالى { بل الساعة موعدهم } أي الساعة التى ينكرونها ويكذبون بها هي موعد عذابهم الحق أما عذاب الدنيا فهو ليس شيء إذا قيس بعذاب الآخرة . { والساعة أدهى } أي أعظم بلية وأكبر داهية تصيب الإِنسان وعذابها ، { وأمر } أي وعذابها أمر من عذاب الدنيا كله .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان حقيقة يغفل عنها الناس وهي أن الكفر كله واحد ومورد للهلاك .
2- لا قيمة أبداً لقوة الإِنسان إزاء قوة الله تعالى .
3- صدق القرآن في إخباره بغيب لما يقع ووقع كما أخبر وهو أية انه وحي الله وكلامه .
4- القيامة موعد لقاء البشرية كافة بحيث لا يتخلف عنه أحد .
(4/177)

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) شرح الكلمات :
{ إن المجرمين في ضلال : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي في وسعير } ضلال في الدنيا ونار مستعرة في الآخرة .
{ ذوقوا مسَّ سقر } : أي يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم ذوقوا مس سقر جهنم .
{ إنا كل شيء خلقناه بقدرٍ } : أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فهو يقع كما كتب كمية وصورة وزمانا ومكاناً لا يتخلف في شيء من ذلك .
{ وما أمرن الا واحدة } : أي وما أمرنا إذا أردنا خلق شيء إلا أمرةً واحدة فيتم وجوده .
{ كلمح بالبصر } : الشيء بسرعة كلمح البصر وهو النظر بعجلة .
{ ولقد أهلكنا اشياعكم } : أي ولقد أهلكنا أمثالكم أيها المشركون من الأمم السابقة .
{ فهل من مدّكر؟ } : أي فاذكروا واتعظوا بهذا خيراً لكم من هذا الإِعراض .
{ وكل شيء فعلوه في الزبر } : أي وكلما فعله العباد هو مسجل في كتب الحفظة من الملائكة .
{ وكل صغيرة وكبيرة مستطر } : أي وكل صغير وكبير من سائر الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ مستطر مكتوب .
{ إن المتقين في جنات ونهر } : ان الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره في جنات يشربون من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل المصفى .
{ في مقعد صدق } : أي في مجلس حق لا لغو به ولا تأثيم .
{ عند مليك مقتدر } : عند مليك أي ذي ملك وسلطا مقتدر على ما يشاء وهو لله جل جلاله .
معنى الآيات :
قوله تعالى { إن المجرمين في ضلال وسعر } يخبر تعالى عن حال المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك وغشيان الذنوب يخبر تحذيراً وإنذاراً بأن المجرمين في ضلال في حياتهم الدنيا ، وسعر ونار مستعرة متأججة يوم القيامة يوم يسحبون في النار في وجوههم يقال له ذوقوا تهكماً بهم مسّ سقر تذوقوا العذاب ، وسقر طبق من أطباق جهنم وباب من أبوابها وقوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } إعلام منه تعالى عن نظام الكون الذي خلقه تعالى وهو أن كل حادث يحدث في هذا العالم قد سبق به علم الله وتقديره له فحَدَّد ذاته وصفاته وأعماله ومآله إلى جنة أو إلى نارٍ ، إن كان انسانا أو جانا وليس هناك شيء يحدث بدون تقدير سابق له وعلم تام به قبل حدوثه .
وقوله تعالى : { وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر } يخبر تعالى عن قدرته كما أخبر عن علمه بأنه تعالى إذا أراد إيجاد شيء في الوجود لم يزد على أمرٍ واحد وهو كن فإذا بالمطلوب يكون كما أراد تعالى أزلاً أن يكون ، وبسرعة كسرعة لمح البصر الذي هو نظرة سريعة .
وقوله تعالى وهو يخاطب مشركي قريش { ولقد أهلكنا أشياعكم } أي أمثالكم في الكفر والعصيان أي من الأمم السابقة { فهل من مدكر } أي متذكر متعظ معتبر قبل فوات الوقت وحصول المكروه من العذاب في الدنيا وفي الآخرة .
(4/178)

وقوله تعالى { وكل شيء فعلوه } أي أولئك المشركون { هو في الزبر } أي في كتب الحفظة من الملائكة الكرام الكتابين ، وكل صغير وكبير من أعمالهم وأعمال غيرهم بل كل حادثةٍ في الأكوان هي مسطرة في اللوح المحفوظ كتاب المقادير .
وقوله تعالى { إن المتقين في جنات ونهر } هذا الإِخبار يقابل الإِخبار الأول أن المجرمين في ضلال وسعر فالأول إعلام وتحذير وترهيب وهذا إخبار وبشرى وترغيب حيث أخبر أن المتقين الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره إنهم في جنات بستين ذات قصور وحور ، وأنهار وأشجار هم جالسون في مقعد صدق في مجلس حق لا لغو يسمع فيه ولا تأثيم يلحق جالسه عند مليك أي ذي ملك وسلطان مقتدر على فعل كل ما يريده سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان مصير المجرمين وضمنه تخويف وتحذير من الإِجرام الموبق للإِنسان .
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
3- تقرير أن اعمال العباد مدونة في كتب الكرام الكاتبين لا يترك منها شيء .
4- تقرير أن كل صغيرة وكبيرة من أحداث الكون هي في كتاب المقادير اللوح المحفوظ .
5- بيان مصير المتقين مع التغريب في التقوى إذ هي ملاك الأمر وجماع الخير .
6- ذكر الجوار الكريم وهو مجاورة الله رب العالمين في الملكوت الأعلى في دار السلام .
(4/179)

 

القاسمية 26

مزمار داوُدي
2 أغسطس 2010
6,454
202
63
الجنس
أنثى
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

تفسير سورة الرحمن

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) شرح الكلمات :
{ الرحمن } : اسم من أسماء الله تعالى .
{ علم القرآن } : أي علم من شاء من عباده القرآن .
{ خلق الإِنسان } : آدم كما خلق ذريته أيضاً .
{ علمه البيان } : أي علم آدم البيان الذي هو النطق والإِعراب عما في النفس بلغة من اللغات كل هذا تعليم الله عز وجل ولولا الله ما نطق إنسان .
{ الشمس والقمر بحسبان } : أي يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما .
{ والنجم والشجر يسجدان } : النجم ما لا ساق من النبات ، والشجر ما له ساق يسجدان يخضعان لله تعالى بما يريد منهما في طواعية كالسجود من المكلفين .
{ والسماء رفعها } : أي فوق الأرض وأعلاها .
{ ووضع الميزان } : أي أثبت العدل بين العباد أمر به وألهم صنع آلته .
{ الا نطغوا في الميزان } : أي لأجل أن لا تجوروا في الميزان وهو ما يوزن به من آلات .
{ وأقيموا الوزن بالقسط } : أي لا تنقصوا الموزون الذي تزنونه بل وفوه .
{ والأرض وضعها للانام } : أي أثبتها وخفضها كما رفع السماء وأعلاها للأنام لحياة الأنام عليها وهم الإِنس والجن والحيوان وكل ذي روح .
{ فيها فاكهة والنخل ذات : أي في الأرض فاكهة وهي كل ما يتفكه به الإِنسان من الأكمام } أنواع الفواكه الكثيرة ، والنخل ذات الأكمام وهي أوعية طلعها .
{ والحب ذو العصف } : أي وفي الأرض الحب من بُرٍّ وشعير وعصفه تبنه .
{ والريحان } : نبت معروف ، والمراد به أنواع الرياحين المشمومة ذات الريح الطيّب .
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } : أي فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإِنس تكذبان وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى . والجواب لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد .
معنى الآيات :
قوله تعالى { الرحمن علم القرآن } يُخبر تعالى أنه هو الرحمن الذي علم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم القرآن لا كما يقول المبطلون إنما يعلمه بشر . الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء وهي متجلية ظاهرة فيما يعدد من آلاء ونعم . منها خلقه الإِنسان آدم وذريته ، وتعليمهم البيان وهو النطق والإِبانة عما في نفوسهم . { الشمس والقمر بحسبان } يجريان لإِفادة الناس في معرفة أوقات عبادتها ، وآجال ديونهم وهي مظاهر الرحمة ، { والنجم والشجر يسجدان } والنجم غذاء بهائمكم والشجر فيه فاكهتكم وبعض غذائكم { يسجدان } خضوعاً لله بما أراد منهما لا يعصيان كما يعصي الثقلان . والسماء رفعها عن الأرض ولم يلصقها بالأرض إنعاماً منه على الثقلين في رفعها وتزيينها بكواكبها وشمسها وقمرها ، { ووضع الميزان } أي العدل حيث أمر به وألهم وضع آلهه وغرز في النفوس حبه والرغبة فيه ، من أجل ألا تجوروا في الميزان . { وأقيموا الوزن بالقسط } بالعدل ، { ولا تخسروا الميزان } أي لا تنقصوه إذا وزنتم بل وفوه كل هذا إنعام وألوان من رحمات الرحمن . والأرض وضعها للأنام أي أثبتها وخفضها ودحاها لحياة الأنام ، وهم الإِنس والجان والحيوان ، { فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام } أي أوعية الطلع ، والحب البر والشعير ذو العصف أي التبين والريحان هذه أنواع الطعام للإِنسان والحيوان طعام وفاكهة وريحان كل هذه مظاهر الرحمة التي أفاضها الرحمن .
(4/180)

{ فبأي آلاء ربكما } يا معشر الجن والإِنس { تكذبان } . لا بشيء من نِعمك ربّنا نكذب فلك الحمد .
هداية الآيات
من هداية الآيات : 1- الرحمن مثل اسم الله لا يصح أن يطلق على غير الرب تبارك وتعالى ، فقال فلان عزيز أو رحيم أو عليم أو حكيم ، ولكن لا يقال رحمان ، كما لا يقال إله أو الإِله أو الله .
2- ورد في الصحيح في فضل تعلم القرآن قوله صلى الله عليه وسلم « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » .
3- وجوب إقامة العدل والتواصي به ، ومراقبة الموازين لدى التجار وإصلاح فسادها .
4- وجبو شكر الله على آلائه .
5- استحباب قول لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد عند سماع قراءة فبأي آلاء ربكما تكذبان .
6- مشروعية تعلم علم الفلك لمعرفة القبلة ومواقيت الصلاة والصيام والحج .
(4/181)

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) شرح الكلمات :
{ خلق الإِنسان من صلصال : أي خلق آدم من طين يابس يسمع له صلصلة كالفخار كالفخار } وهو ما طبخ من الطين .
{ وخلق الجان من مارج من نار } : أي أبا الجن م لهب النار الخالص من الدخان وهو مختلط احمر وازرق واصفر .
{ رب المشرقين ورب المغربين } : أي مشرق الشتاء ، مشرق الصيف أي مطلع طلوع الشمس فيهما . وكذا المغربين في الصيف والشتاء .
{ مرج البحرين يلتقيان } : أي أرسل البحرين العذب والملح يلتقيان في رأي العين .
{ بينهما برزخ لا يبغيان } : أي بينهما حاجز لا يبغى أحدهما على الآخر فيختلط به .
{ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } : أي يخرج من مجموعها الصادق بأحدهما وهو الملح اللؤلؤ والمرجان وهو خرز أحمر ، وهو صغار اللؤلؤ .
{ وله الجوار المنشأت في : أي السفن المحدثات في البحر كالأعلام أي كالجبال البحر كالأعلام } عظماً وارتفاعاً .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر ما أفاض الرحمن جل جلاله من رحمته التي وسعت كل شيء من آلاء ونعم لا تحصى ولا تعد ولا تحصر فقال تعالى { خلق الإِنسان } أي الرحمن الذي تجاهله المبطلون وقالوا : وما الرحمن . الرحمن الذي خلق الإِنسان آدم أول إنسان خلقه ومن أي شيء خلقه { في صلصال } أي من طين ذي صلصلة وصوت { كالفخار } خلق الإِنسان ، وخلق الجان وهو عالم كعالم الإِنسان خلق أصله من مارج وهو مرج واختلط من لهب النار . فبأي يا معشر الجن والإِنس { آلاء ربكما تكذبان } إنها نعم تفوق عد الإِنسان مَنْ رب المشرقين ورب المغربين من خلقهما من ملكهما من سخرهما لفائدة الإِنسان؟ إنه الرحمن فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ لا بشىء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد . الرحمن مرج البحرين الملح والعذب أرسلهما على بعضهما فمرجا . كأنهما اختلطا إذا جعل بينهما برزخاً حاجزاً فهما لا يبغيان فلا يختلط أحدهما بالثاني ، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يُخرج منهما اللؤلؤ والمرجان من خلق في مجموع البحرين اللؤلؤ والمرجان وهما خرز أبيض وأحمر وأخضر ولفائدة من خلقهما الرحمن؟ انها لفائدة الإِنسان إذاً هما نعمة ورحمة من رحمات الرحمن { فبأي آلاء ربكما تكذبان } { وله الجوار } أي للرحمن الجوار المنشآت المصنوعات في البحر في أحواض السفن كالأعلم علواً وارتفاعا تظهر في البحر كما تظهر الجبال في البر لمصلحة من خلقها الرحمن لمصلحة الإِنسان فهي إذاً رحمة الرحمن ونعمته على الإِنسان فبأي آلاء ربكما يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ اقروا واعترفوا واشكروا الرحمن .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أصل خلق الإِنسان والجان فالأول من طين لازب ذي صلصال كالفخار والثاني من مارج من نار وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خلق الملائكة كان من نور . 2- معرفة مطالع الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف وهما مطلعان ومغربان .
3- معرفة صناعة اللؤلؤ والمرجان ، والسفن التى هى في البحر كالجبال علواً وظهوراً .
4- وجوب شكر الرحمن على إنعامه على الإِنس والجان .
(4/182)

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) شرح الكلمات :
{ كل ما عليها فان } : أي كل من على الأرض من إنسان وحيوان وجان فانٍ أي هالك .
{ ويبقى وجه ربك } : أي ذاته ووجه سبحانه وتعالى .
{ ذو الجلال والإِكرام } : أي العظمة والإِنعام على عباده عامة والمؤمنين بخاصة .
{ يسأله من في السموات : أي يسألونه حاجاتهم التى تتوقف عليها حياتهم من الرزق والأرض } والقوة على العبادة . والمغفرة للذنب ، والعزة من الرب .
{ كل يوم هو في شأن } : أي كل وقت هو في شأن : شؤون يبديها وفق تقديره لها يرفع أقواماً ويضع آخرين .
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان } : أي لحسابكم ومجازاتكم بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا ونجزى كلاً بما عمل .
{ إن استطعتم أن تنفذوا } : أي إن قدرتم على أن تخرجوا .
{ من أقطار السموات والأرض } : أي من نواحى السموات والأرض .
{ فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان } : أي فاخرجوا . لا تنفذون إلا بقوة ولا قوة لكم وهذا تعجيز لهم .
{ يرسل عليكما شواظ من نار } : أي من لهب النار الخالص الذى لا دخان فيه .
{ ونحاس } : أي دخان لا لهب فيه ، ولا يبعد أن يكون نحاساً مذاباً .
{ فلا تنتصران } : أي لاتمتنعان من السوق الى المحشر .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم ي ذكر أيادى الرحمن الرحيم قال عز من قائل { كل من عليها فان } كل من على الأرض من إنسان وجانٍ وذي روح وحيوان فانٍ : هالك ، لا تبقى له روح ولا ذات ، { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام } حىٌّ لا يموت والإِنس والجن يموتون فبأي آلاء ربكما تكذبان أَبنعمة إيجادكما وإمدادكما بالأرزاق والخيرات طوال الحياة أم بنعمة أنهاء أتعابكما وتكاليفكما أم بإِهلاك أعدائكما ، وإدنائكما من النعيم المقيم في جنات النعيم ، قولوا خيراً لكم لا بشىء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد . وقوله { يسأله من في السموات والأرض } أي يطلبونه بلسان القال أو الحال ما هم فى حاجة إليه مما يحفظ وجودهم ويغفر ذنوبهم وقوله تعالى { كل يوم هو في شأن } أي لا يفرغ الدهر كلّه يدبر أمر السماء والأرض يرفع ويضع آخرين .
وقوله الرحمن { سنفرغ لكم أيها الثقلان } من الإِنس والجن فنحاسبكما ونجزيكما محسنكما بالإِحسان وسيئكما بالسوء والخسران ، وهذا يوم تقومان للرحمن ، حفاة عراة وتقفان بين يديه للحكم فيكما والقضاء بينكما فبأي آلاء ربكما تكذبان أبالعدل في الحكم بينكما أم بإسعاد صالحيكما واشقاء مجرميكما .
وقوله الرحمن { يا معشر الجن والإِنس إن استطعتم أنْ تنفذوا } أي تخرجوا { من أقطار السموات والأرض } أي من جوانبهما وأطرافهما { فانفذوا } أي اخرجوا هاربين من قضائى وحكمى لكما وعليكما لا تنفذون إلا بقوة قاهرة غالبة ولا قوة لكم ولا سلطان هكذا يتحداهما الرحمن وهم يساقون الى ساحة فصل القضاء فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبنعمة احيائكما بعد موتكما أم بنعمة إكرام صلحائكما وإهانة فاسديكما وهي العدالة التي لا رحمة ولا نعمة في الحياة الدنيا تساويهما . وقوله تعالى { يرسل عليكما شواظ } أي لهب النار الخالص من الدخان ، ونحاس وهو دخان خالص فلا تنتصران هذا إن أردتما الفرار من عدالتي وعدم الإِذعان لقضائي وحكمي فيكما . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبعظمة ربكم وقوة سلطانه أم برحمة مولاكم ولطفه بكم الله لا شيء من آلائك نكذب ربنا ولك الحمد .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان جلال الله وعظمته وقوة سلطانه .
3- بيان عجز الخلائق امام خالقها عز وجل .
4- وجوب حمد الله تعالى وشكره على السراء والضراء .
(4/183)

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) شرح الكلمات :
{ فاذا انشقت السماء } : أي انفتحت أبواب لنزول الملائكة الى الأرض لتسوق الخلائق الى المحشر .
{ فكانت وردة كالدهان } : أي السماء محمرة احمرار الأديم أو الفرس الأحمر وذابت فكانت كالدهان في صفائها وذوبانها .
{ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس } : أي يوم يخرجون من قبورهم لا يسألون عن ذنوبهم لما لهم من علامات كاسوداد الوجوه وبياضها ، ويسألون عند الحساب .
{ يعرف المجرمون بسيماهم } : أي سواد الوجوه وزرقة العيون .
{ ولا جان } : لهم من علاما كاسوداد الوجوه وبياضها ، ويسألون عند الحساب .
{ يعرف المجرمون بسيماهم } : أي سواد الوجوه وزرقة العيون .
{ فيؤخذ بالنواصي والأقدام } : أي تضم ناصية المجرم الى قدميه ويؤخذ فيلقى في جهنم .
{ هذه جهنم التي يكذب بها } : أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون في الدنيا .
{ المجرمون } : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي .
{ يطوفون بينها وبين حميم آن } : أي يسعون مترددين بينها وبين ماء حار قد انتهت حرارته إلى حد لا مزيد عليه وهو الحميم الآن يُسقونه إذا عطشوا واستغاثوا يطلبون الماء لإِراواء غلتهم العطشة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال القيامة وأهال الموقف فقال جل جلاله وعظم سلطانه : { فإذا انشقت السماء } أي تفتحت لنزول الملائكة فكانت أبواباً بعد أن احمرت وتغيرت زرقتها لحمرة كحمرة الأديم الاحمر أو الفرس الأحمر أو الوردة الحمراء كل ذلك صالح لتشبيه لونها به واذبت فكانت كالدهان كما جاء وصفها في سورة المعارج يوم تكون السماء كالمهل . وهو دِرْديّ الزيت وعكره . فيومئذ أي يوم إذ يقع هذا يعظم الكرب ويشتد البلاء ويخرج الناس من قبورهم لا يسأل عن ذنبه إنس لا جان أي انسىً ولا جنى فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وقوله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم } أي باسوداد وجوههم وزرقة أعينهم فيؤخذ بالنواصى والأقدام أي فيجمع الملك المكلف الإِنس أو الجن المجرم بين ناصيته وقدميه ويأخذه فيرمي به في نار جهنم فبأي آلاء ربكما تكذبان أبنعمة العدالة أم بنعمة إكرام المتقين الصالحين . قولوا لا بشيء من آلائك ربنا نكذبن فلك الحمد .
وقوله تعالى { هذه جهنم } أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون على أنفسهم بالشرك والمعاصى في الحياة الدنيا قال تعالى { يطوفون } أي يسعون مترددين { بينها وبين حميم آن } أي ماء حار اشتدت حرارته فبلغت حداً لا مزيد عليه يسقونه إذا استغاثوا من العطش . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ إن خزي المجرمين وتعذيبهم نعمة تُقربها الفطرة البشرية ولا يقدرها الا من ذاق طعم الخوف والعذاب الذي ينزله المجرمون بالمتقين فلذا كان تعذيبهم يوم القيامة نعمة ، كما أن هذا العرض لأحوال يوم القيامة وأهوالها نعمة إذ عليه آمن المؤمنون واتقى المتقون ، فلذا قال تعالى بعد وصفِ حال أهل النار فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان الانقلاب الكوني وخراب العالم للقيامة . 2- يبعث الناس من قبورهم ولهم علامات تميزهم فيعرف السعيد والشقي .
3- التنديد بالإِجرام وهو الشرك والظلم والمعاصي .
(4/184)

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) شرح الكلمات :
{ ولمن خاف مقام ربه جنتان } : أي ولمن خاف الوقوف بين يدي الله في عرصات القيامة فآمن واتقى جنتان .
{ ذواتا أفنان } : أي أغصان من شأنها أن تُورق وتُثمر وتمد الظل .
{ فيهما من كل فاكهة زوجان } : أي من كل ما يتفكه به من أنواع الفواكه صنفان .
{ بطائنها من استبرق } : أي بطائن الفرش من استبرق وهو ما غلظ من الديباج والظهائر من السندس وهو مارقَّ من الديباج الذي هو الحرير .
{ وجنى الجنتين دان } : أي وما يُجنى من ثمار الجنة دان قريب التناول يناله القائم والقاعد .
{ فيهن قاصرات الطرف } : أي قاصرات النظر بأعينهن على أزواجهن فقط .
{ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } : أي لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان .
{ كأنهن الياقوت والمرجان } : أي كأنهن في جمالهن الياقوت في صفائه والمرجان اللؤلؤ الأبيض .
{ هل جزاء الإِحسان إلا اللإِحسان } : أي ما جزاء الإِحسان بالطاعة إِلا الإِحسان بالنعيم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في تعداد النعم وذكر أنواعها فقال تعالى { ولمن خاف مقام ربه } أي الوقوف بين يديه في ساحة فصل القضاء يوم القيامة فأطاعه بأداء الفرائض واجتناب المحرمات { جنتان } أي بستانان فبأي آلاء ربكما تكذبان إبإثابة أحدكم الذي إذا هم بالمعصية ذكر قيامه بين يدي ربه فتركها فأثابه الله بجنتين . وقوله ذواتا أفنان هذا وصف للجنتين وصف للجنتين وصفهما بأنهما ذواتا أفنان جمع فنن لون ألوان ولأشجارها أغصان من شأنها تورق وتثمر وتمد الظلال فبأي آلاء ربكما تكذبان أبهذا النعيم والإِثابة للمتقين تكذبان .
وقوله { فيهما عينان تجريان } أي في الجنتين ذواتي الأفنان عينان تجريان بالماء العذب الزلال الصافي خلال تلك القصور والأشجار فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإِنسان أبمثل هذا العطاء والإِفضال تكذبان؟ وقول الرحمن فيهما من كل فاكهة زوجان أي في تينك الجنتين من كل فاكهة من الفواكه صنفان فلا يكتفى بصنف واحد إتماماً للنعيم والتنعُّم فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإِنعام والإِكرام لأهل التقوى تكذبان؟ وقوله ما أوسع رحمته وهو الرحمن { متكئين } أي حال تنعمهم على فرش على الأرائك بطائن تلك الفرش من استبرق وهو الغليظ من الديباج أما الظواهر فهى السندس وهو مارق من الديباج . وقوله { وجنى الجنتين دان } أي وثمارها التي تجنى من أشجارها دانية أي قريبة التناول يتناولها المتقى وهو مضطجع أو قاعد أو قائم ، لا شوك فيها ولا بعد لها فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإِنعام والإِكرام تكذبان . قول الرحمن : { فيهن قاصرات الطرف } أي وفي تينك الجنتين نساء من الحور العين { قاصرات الطرف } أي العين على أزواجهن فلا ترى إلا زوجها أي فلا تنظر إلا إلى زوجها وتقول له وعزة ربي وجلاله وجماله ما أرى فى الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد لله جعلك زوجي وجعلني زوجك .
(4/185)

وقوله { لم يطمثهن } أي لم يجامعهن فيفتضهن قبل أزواجهن { إنس ولا جان } أي لم يجامع الإِنسية قبل زوجها الإِنسي إنسي ولم يجامع الجنية قبل زوجها الجني جان فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإِنعام تكذبان؟
وقوله { كأنهن الياقوت } أي في صفائهن { والمرجان } في بياضهن إذ الحوراء منهن يُرى مخُّ ساقها تحت ثيابها كا يرى الخيط أو السلك في داخل الياقوته لصفائها فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا العطاء والإِنعام تكذبان .
وقوله عظم فضله وجل عطاؤه وهو الرحمن { هل جزاء الإِحسان } أي في الإِيمان والطاعات من العبادات { إلا الإِحسان } إليه بمثل هذا النعيم العظيم الذي ذكر في هذه الآيات . فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الإِنس والجان فقولا : لا بشيء من آلاء ربنا نكذب فلك الحمد .
هداية الآيات :
من هداية الآيات :
1- فضل الخوف من الله تعالى وذلك كأنْ تعرض للعبد المعصية فيتركها خوفا من الله تعالى .
2- فضل نساء أهل الجنة في حبهن لأزواجهن بحيث لا ينظرن إلا إليهم .
3- بيان أن أفضل ألنساء في الدينا تلك التي تقصر نظرها على زوجها فتحبه ولا تحب غيره من الرجال .
4- بيان أن الجن المتقين يدخلون الجنة ولهم أزواج كما للإِنس سواء بسواء .
5- الإِشادة بالإِحسان وبيان جزائه والإِحسان هو إخلاص العبادة لله والإِتيان بها على الوجه الذي شرع أداؤها عليه ، مع الإِحسان إلى الخلق بكف الأذى عنهم وبذل الفضل لمن احتاجه منهم .
(4/186)

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) شرح الكلمات :
{ من دونهما جنتان } : أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه .
{ مدّهامتان } : أي مسودتان من شدة خُضْرتهما .
{ فيهما عينان نضاختان } : أي فارتان دائماً وأبداً تفوران بالماء العذب الزلال .
{ فيهن خيرات حسان } : أي في الجنات الأربع نساءٌ خيرات الأخلاق حسان الوجوه .
{ حور } : أي أولئك الخيرات حور أى بيض والواحدة حوراء أي بيضاء .
{ مقصورات في الخيام } : أي مستورات محبوسات على أزواجهن في الخيام والخيمة من در مجوف مضافة الى القصور ، وطول الخيمة الواحدة ستون ميلا .
{ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا : أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن بل أزواجهن في الجنة جان } أحد .
{ على رفرف خضر } : أي على وسائد أو بسط الواحدة رفرفة خضر جمع أخضر .
{ وعبقرى حسان } : أي طنافس جمع طنفسة بساط له خمل رقيق أي بسط حسان .
{ تبارك اسم ربك } : أي تقدس وكثرت بركة اسم ربك الرحمن .
{ ذي الجلال والإِكرام } : أي ذي العظمة الإِكرام لأوليائه والإِحسان إلى عباده .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى وإفضاله على عباده فقال { ومن دونهما جنتان } أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه من السابقين وهاتان لمن خاف مقام ربه من أصحاب اليمين وقد يكون العكس كذلك والله أعلم بأي الجنتين أفضل ، اللهم ارزقنا ما شئت منهما فإنا بعطائك راضون ولك حامدون شاكرون فبأي آلاء ربكما تكذبان أي بأي إنعام وإفضال تكذبان؟ وقوله تعالى : { مدّهامتان } مخضرتان الى حد الاسوداد فإن الأخضر من الأشياء إذا اشتدتْ خصرته ضربت إلى السواد ويقال فيها مدهامة فبأي آلاء ربكما تكذبان أي بأي إنعام تكذبان يا معشر الجن والإِنس { فيهما } في الجنتين { عينان نضاختان } أي فوّارتان بالماء دائماً وأبداً ، فبأي آلاء ربكما تكذبان بأي إفضال وإحسان تكذبان وقول الرحمن { فيهما } أي فى الجنتين فاكهة ونخل ورمان لفظة الفاكهة قد يعم النخل والرمان ويصبح ذكر النخل والرمان لمزيد فضيلة كذكر الصلاة الوسطى بعد ذكر الصلوات الخمس في قوله { حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى } { فبأي آلاء ربكما تكذبان } لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد . وقوله تعالى : { فيهن خيرات حسان } أي في الجنتين نساءهن خيرات جمع خيرة خيرات الأخلاق حسان الوجوه . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبمثل هذا الإِنعام والإِكرام على أولياء الرحمن تكذبان؟ { حور مقصورات في الخيام } إن أولئك الخيرات حور جمع حوراء وهي البيضاء ، والحوارء كذلك من يغلب بياض عينها سوادهما وهو من جمال النساء محبوسات في الخيام لا ينظرن الى غير أزواجهن ، والخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلا مضافة الى قصورهم . وقوله تعالى : { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن إنس ولا جان من قبل أزواجهن في الجنة فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ والجواب : لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد .
(4/187)

وقوله تعالى : { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } أي متكئين على رفرف خضر والرفرف جمع رفرفة أي على وسائد أو بُسُطٍ خَضْرٍ ، وعبقريّ حِسان أي على طنافس ذات خمل دقيق . فبأي آلاء ربكما تكذبان بنع الدنيا أم بنعم البرزخ أم بنعم الآخرة لا بشيء من آلاء ربنا نكذب .
وقوله تعالى { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام } أي تبارك اسم ربك أي تقدس وكثرت بركات اسم ربك الرحمن ذي الجلال أي العظمة والإِكرام لأوليائه وصالحى عباده .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أن نعيم الآخرة أعظم وأجل من نِعم الدنيا .
2- فضيلة التمر والرمان فلنبحث منافعهما فإن الحقيقة بنت البحث .
3- فضل المرأة المقصورة في بيتها وذم الولاجة الخراجة كما قال ابن عباس رضى الله عنهما .
4- بيان أن الجن يدخلون الجنة ويسعدون فيها .
5- البركة تنال ببسم الله الرحمن الرحيم .
 

القاسمية 26

مزمار داوُدي
2 أغسطس 2010
6,454
202
63
الجنس
أنثى
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

تفسير سورة الواقعة

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) شرح الكلمات :
{ إذا وقعت الواقعة } : أي قامت القيامة وقيل فيها الواقعة لأنها واقعة لا محالة .
{ ليس لوقعتها كاذبة } : أي نفس تكذب بها بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا .
{ خافضة رافعة } : أي مظهرة لخفض أقوام بدخولهم النار ، ولرفع آخرين بدخولهم الجنة .
{ إذا رجت الأرض رجا } : أي حركت حركة شديدة .
{ وبُسَّت الجبال بسا } : أي فِتتت تفتيتاً .
{ فكانت هباء منبثا } : أي غباراً منتشراً .
{ وكنتم أزواجاً ثلاثة } : أي في القيامة أصنافاً ثلاثة .
{ فأصحاب الميمنة } : أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم .
{ ما أصحاب الميمنة } : أي تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة .
{ وأصحاب المشأمة } : أي الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم .
{ ما أصحاب المشأمة } : أي تحقير لشأنهم بدخولهم النار .
{ والسابقون } : أي إلى الخير وهم الذين سبقوا إلى الإِيمان والطاعة في أول الدعوة .
{ السابقون } : تعظيم لشأنهم .
{ أولئك المقربون } : أي هم المقربون الذين يقربهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة .
{ في جنات النعيم } : في بساتين النعيم الدائم .
معنى الآيات :
قوله تعالى في تقرير البعث والجزاء الذي كذب به المشركون وأنكروه في إصرار وعناد { إذا وقعت الواقعة } أي إذا قامت القيامة { ليس لوقعتها كاذبة } أي نفس تكذب بها إذ يؤمن بها الجميع ، خافضة لأقوام أي مظهرة لحالهم بأنهم أهل النار ، رافعة لآخرين مظهرة لحالهم بأنهم من أهل الجنة . وقوله : { إذا رجت الأرض رجاً } أي حرّكت حركة شديدة ، { وبست الجبال بساً } أي إذا بست الجبال أي فتتت تفتيتاً { فكانت هباء منبثاً } أي غباراً منتشراً .
وقوله تعالى { وكنتم } أي أيها الناس { أزواجاً } أي أنواعاً ثلاثة : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والمقربون فأصحاب الميمنة أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ما أصحاب الميمنة أي أن شأنهم عظيم وذلك بدخولهم الجنة دار النعيم . وأصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال أي اليساريون الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم أي بمياسرهم ما أصحاب المشأمة أي شأنهم حقير وذلك بدخولهم النار . والسابقون إلى الإِيمان والطاعة في أول ظهور الدعوة السابقون هذا تعظيم لشأنهم واعلان عن فوزهم وكرامتهم في جنات النعيم وهي بساتين ذات نعيم دائم جعلنا الله منهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير البعث والجزاء في الآخرة .
2- الإِيمان والتقوى يرفعان والشرك والمعاصي يضعان ويخفضان .
3- السابقون الى الطاعات لهم فضل الاسبقية في كل زمان ومكان .
4- اليساريون هم اشقياء الدنيا والآخرة . لأنهم عندما أخذ غيرهم ذات اليمين طالبين الإِيمان والاستقامة أخذوا هم ذات الشمال طالبين الكفر والفسوق .
(4/189)

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) شرح الكلمات :
{ ثلة من الأولين } : أي جماعة من الأمم الماضية .
{ وقليل من الآخرين } : أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء هم السابقون .
{ على سرر موضونة } : أي منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر .
{ ولدان مخلدون } : أي على شكل الأولاد لا يهرمون فيخدمونهم أبداً .
{ بأكواب وأباريق } : يطوف عليهم الولدان الخدم بأكواب وهي أقداح لا عرا لها ، وأباريق لها عرا وخراطيم .
{ وكأس من معين } : أي وإناء لشرب الخمر ومعين بمعنى جارية من نهر لا ينقطع أبداً .
{ لا يصدعون } : أي لا يحصل لهم من شربها صداع .
{ ولا ينزفون } : أي ولا تذهب عقولهم يقال نزف الشارب وأنزف إذا ذهب عقله . بالسكر .
{ وفاكهه مما يتخيرون } : أي يختارون منها ما يروق لهم ويعجبهم وإن كانت كلها معجبة .
{ وحور عين } : أي ولهم نساء بيض عين أي واسعة الأعين وشديدات سواد العيون وبياضها .
{ كامثال اللؤلؤ المكنون } : أي أولئك الحور العين هن في جمالهن وصفائهن كأمثال اللؤلؤ المصون .
{ لغواً ولا تأنيما } : أي لا يسمعون في الجنة لغواً أي فاحش الكلام وما لا خير فيه ولا ما يوقع في الإِثم .
إلا قيلا سلاما سلاما : إلا قولا سلاما سلاما أي لا يسمعون الا السلام من الملائكة ومن بعضهم بعضاً .
معنى الآيات :
ما زال السياق في بيان أحوال الناس إذا قامت القيامة فذكر أنهم يصيرون أصنافاً ثلاثة أصحاب يمين وأصحاب شمال وسابقين . وهنا يقول في السابقين إنهم ثلة أي جماعة من الأولين أي من الأمم الماضية الذين أسلموا وسبقوا إلى الإِسلام مع أنبيائهم ، وقليل من الآخرين أي من هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين سبقوا الى الإِيمان والهجرة والجهاد يذكر نعيمهم فيقول وقوله تعالى : { على سرر موضونة } أي إنهم على سرر موضونة أي منسوجة ومشبكة بالذهب والجواهر ، حال كونهم متكئين عليها مقابلين لا ينظر أحدهم إلى قفا الآخر بل إلى وجهه ، { يطوف عليهم } أي للخدمة { ولدان } غلمان { مخلدون } لا يكبرون فيهرمون ولا يتغيرون بل يبقون كذلك أبداً يطوفون عليهم بأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له ، وأباريق جمع ابريق وهو إناء له عروة وخرطوم ، { وكأس من معين } والكأس هنا إناء شرب الخمر والمعين ما كان جاريا لا ينضب والمراد بكأس من نهر الخمر .
وقوله تعالى { لا يصدعون عنها } أي لا يصيبهم صداع من شربها ، ولا ينزفون أي لا تذهب عقولهم بشربها بخلاف خمر الدنيا فإنها تصيب شاربها بالصداع وذهاب العقل غالباً وقوله تعالى { وفاكهة } ويطوف عليهم الغلمان بفاكهة وهو ما يتفكه به وليس بغذاء رئيسي ومن سائر الفواكه ، ما يتخيرون أي يختارون . ولحم طير مما يشتهون أي مما تشتهيه أنفسهم .
وقوله { وحور عين } أي ولهم في الجنة حور عين يستمتعون بهن ، وأحدة الحور حوراء .
(4/190)

وهي البيضاء وواحدة العين العيناء وهو واسعة العينين والْحَوَر في العين أن يكون بياضها أكثر من سوادها وهو ضرب من الجمال ، وقوله { كأمثال اللؤلؤ المكنون } أي المصون في كِنّة أو صدفه .
يريد أنهن جميلات مصونات غير مبتذلات وقدم تقدم في الرحمن أنهن مقصورات في الخيام .
وقوله تعالى { جزاء بما كانوا يعملون } أي جزاهم ربهم جزاء بما كانوا يعملونه من الصالحات بعد الإيمان والتوحيد وترك المعاصي .
وقوله تعالى وهو من إتمام النعيم أنهم لا يسمعون في جنات النعيم ما يكدر صفو نعيمهم أو ينغص لذة حياتهم من قول بذيء سيّىء فلا يسمعون فيها أي في الجنة لغواً أي كلاماً فاحشاً ولا تأثميا وهو ما يؤثم قائله وسامعه . إلا قيلا أي قولا سلاماً سلاماً أي إلا ما كان من سلام الرب تعالى عليهم وهو أكبر نعيمهم وسلام الملائكة عليهم وسلام بعضه على بعض اللهم اجعلنا منهم قل آمين أيها القارىء واطمع فإن ربنا غفور رحيم سميع الدعاء قريب مجيب .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير البعث الجزاء بذكر أحوال الدار الآخرة .
2- بيان شيء من نعيم أهل الجنة وخاصة السابقين منهم .
3- بيان ان السابقين يكونون من سائر الأمم المسلمة .
4- بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا المحرمة .
5- تقرير قاعدة أن الجزاء من جنس العمل .
(4/191)

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) شرح الكلمات :
{ وأصحاب اليمين ما أصحاب } : هذا شروع في ذكر الزوج الثاني من الأزواج الثلاثة فذكر السابقين وما أعد لهم وهذا ذِكرٌ لأصحاب اليمين وما أعد لهم من نعيم مقيم .
{ في سدر مخضود } : في شجر السدر وثمرهُ النبق ومخضود لا شوك فيه .
{ وطلح منضود } : أي شجر موز منضود الحمل من أعلاه إلى أسفله فليس له ساق بارزة .
{ ظل ممدود } : أي دائم إذ لا شمس تنسخه وإن ظل شجرة في الجنة يسير الراكب فيه مائة سنة لا يقطعه .
{ وماء مسكوب } : أي مصبوب لا يحتاج المتنعم بأن يصبه بيده بل هو سائل في غير أخدود أو أنبوب .
{ لا مقطوعة ولا ممنوعة } : أي غير مقطوعة في زمن ، ولا ممنوعة بثمن .
{ إنا أنشأناهن انشاء } : أي الحور العين اللائي تقدم ذكرهن في قوله وحور عين .
إذْ كانت الواحدة منهن في الدنيا عجوزاً شمطاء عمشاء رمصاء فأنشأها ربها إنشاء جديداً بِكْراً تتغنج وتتعشق عرباء تتودد لزوجها وتتحبب .
{ فجعلناهن أبكاراً } : الواحدة بكر وهي التي لم تفتض بكارتها بعد وتسمى العذراء .
{ عُرباً } : الواحدة عروب وهي المتحببة الى زوجها الحسنة التبعل .
{ أتراباً } : أي مستويات في السن الواحدة يقال لها تِرابٌ والجمع اتراب .
{ لأصحاب اليمين } : وهم الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين وهم أهل الإِيمان في الدنيا والعمل الصالح فيها .
{ ثلة من الأولين } : أي من الأمم السابقة .
{ وثلة من الآخرين } : أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال الآخرة وذكر ما لكل صنف من أصناف الناس الثلاثة من سابقين وأصحاب يمين وأصحاب شمال فقال تعالى { وأصحاب اليمين } وهم الذين إذا وقفوا في عرصات القيامة أُخذ بهم ذات اليمين وهم أهل الإِيمان والتقوى في الدنيا وقوله تعالى : { ما أصحاب اليمين } تفخيم لشأنهم وإعلان عن كرامتهم ثم بيّن ذلك بقوله : { في سدر مخضود وطلح وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وفرش مرفوعة } إنهم في هذا النعيم الدائم المقيم إنهم يتفكهون بالنبق الذي هو أحلى من العسل وأنعم من الزبد شجره مخضود الشوك لا شوك به ، ويتفكهون بالطلح أي ثمره وهو الموز ، والماء المصبوب الجارى ، والفاكهة الكثيرة التي لا تقطع بالفصول الزمانية كما هي الحال في فاكهة الدنيا يوجد منها في الصيف ما لا يوجد في الشتاء مثلا ولا ممنوعة بثمن غال ولا رخيص وفي فرش مرفوعة عالية علو الدرجات التي هي فيها وقوله : { إنا أنشأناهن إنشاء } يعني الحور العين اللائي سبق في الآيات ذكرهن منهن من أنشأهن الله إنشاء لم يسبق لهن خلق ووجود ، ومنهن نساء الدنيا فقد كانت فيهن السوداء والعمشاء والرمصاء والعجوز فيعيد تعالى إنشاءهن فيجعلهن من بين الحور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون ، وقوله { فجلعناهن أبكاراً } عذارى لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان عُربا أتراباً العروب هي المتحببة الى زوجها العاشقة له المتغنجة والأتراب المتساويات في السن ، وترب الإِنسان من وُلد معه في وقت واحد فمس جلده التراب مع مس التراب جلدك وقوله لأصحاب اليمين أي أنشأ هؤلاء الحور العين لأجل أصحاب اليمين ليستمتعوا بهن .
(4/192)

وقوله { ثلة من الأولين } أي من الأمم الماضية { وثلة من الآخرين } أي من هذه الأمة المسلمة اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وادخلنا الجنة معهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان إكرام الله وإنعامه على المؤمنين المتقين .
2- بيان أن العجوز في الدنيا إذا دخلت الجنة تصير شابة حسناء حوراء عروباً .
3- تقرير أن ثمن الجنة الإِيمان والتقوى فلا دخل للحسب ولا للنسب والأول كالآخر على حد سواء فيها .
(4/193)

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) شرح الكلمات :
{ وأصحاب الشمال } : أي هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال في الموقف يوم القيامة وهم أهل الشرك والمعاصي في الدنيا .
{ في سموم } : أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسد .
{ وحميم } : أي ماء حار شديد الحرارة .
{ وظل من يحموم } : أي دخان شديد السواد .
{ لا بارد ولا كريم } : أي لا بارد كغيره من الظلال ولا كريم حسن المنظر .
{ كانوا قبل ذلك } : أي في الدنيا .
{ مترفين } : أي منعمين لا ينهضون بالتكاليف الشرعية ولا يتعبون في طاعة الله ورسوله .
{ يصرون على الحنث العظيم } : أي الذنب العظيم وهو الشرك .
{ وكانوا يقولون أئذا متنا الآن } : أي كانا ينكرون البعث الآخر .
{ لمجموعون الى ميقات يوم معلوم } : أي لوقت يوم معلوم وهو يوم القيامة .
{ أيها الضالون المكذبون } : أي الضالون عن طريق الهدى المكذبون بالبعث والجزاء .
{ من شجر من زقوم } : أي من أخبث الشجر المرّ في غاية الكراهة والبشاعة طعماً ولوناً .
{ فشاربون شرب الهيم } : أي شاربون شرب الإِبل العطاش ، إذ الهيمان العطشان والهيمى العطشى .
{ هذا نزلهم يوم الدين } : أي هذا ما أعد لهم من قرىً يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في بيان أحوال الأصناف الثلاثة التي انقسمت البشرية إليها عند خروجها من قبورها فذكر حال السابقين وحال أصحاب اليمين وذكر هنا حال أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال فقال تعالى : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } تنديد بحالهم وإعلان عن سوء عاقبتهم وما هم فيه من عذاب إنهم { في سموم } أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسم { وحميم } وهو ماء حار شديد الحرارة هذا شرابهم ، { وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } إنه دخان أسود شديد السواد { لا بارد } كغيره من الظلال { ولا كريم } أي وليس بذي حسن في منظره . وقوله تعالى { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } هذه علة جزائهم بالعذاب الأليم إنهم كانوا في الدنيا منعمين لا يصلون ولا يصومون ولا يجاهدون ولا يرابطون ، { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } أي على الإِثم العظيم أي الشرك وكبائر الإِثم والفواحش .
{ وكانوا يقولون } منكرين للعبث والجزاء جاحدين باليوم الآخر - { أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون } أي أحياء كما كنا في الدنيا { أو آباؤنا } أيضا مبعوثون كذلك والاستفهام في الموضعين للاستبعاد والإِنكار . وهنا أمر تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يرد بقوله { قل } أي قل لهم : { إن الأولين والآخرين } أي أنتم وآباؤكم من عهد آدم والآخرين منكم ومن ذريتكم الى نهاية حياة الإِنسان { لمجموعون الى ميقات يوم معلوم } أي لوقت يوم معلوم عند الله محدد باليوم والساعة والدقيقة { ثم إنكم أيها الضالون } عن سبيل الهدى المعرضون عن الحق المكذبون بالبعث لداخلون جهنم ماكثون فيها أبداً وإنكم { لآكلون من شجر من زقوم } وهو شر ثمر وأخبث ما يؤكل مرارة { فمالئون منه } بطونكم لما يصيبكم من الجوع الشديد ، { فشاربون عليه من الحميم ، فشاربون شرب الهيم } أي الماء الحار الشديد الحرارة مكثرين كما تكثر الإِبل الهيم التى أصابها العطش واشتد بها داء الهيام الذي أصابها .
(4/194)

وقوله تعالى { هذا نزلهم يوم الدين } أي هذا الذي ذكرنا من طعام الضالين المكذبين وشرابهم هو نزلهم الذي ننزلهم يوم الدين وأصل النزل ما يعد للضيف النازل من قرى : طعام وشراب وفراش .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- أصحب الشمال يدخل فيهم كل كافر وجد على وجه الأرض فإنهم في التقسيم ثلث الناس وفي الواقع هم أضعاف اضعاف السابقين واصحاب اليمين لأن أكثر الناس لا يؤمنون .
2- النديد بالترف والتنعم في هذه الحياة الدنيا فإنه يقود الى ترك التكاليف الشرعية فيهلك صاحبه لذلك طعامه وافراً وافراً وشرابه لذيذاً .
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما لا مزيد عليه من العرض والوصف لحال الناس .
(4/195)

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) شرح الكلمات :
{ نحن خلقناكم } : أي أوجدناكم من العدم .
{ فلولا تصدقون } : أي فهلا تصدقون بالبعث إذ القادر على الإِنشاء قادر على الإِعادة بعد الفناء البلى .
{ أفرأيتم ما تمنون } : أي الذي تصبونه من المنى بالجماع في أرحام نسائكم .
{ أأنتم تخلقونه } : أي بشراً أم نحن الخالقون له بشراً .
{ نحن قدرنا بينكم الموت } : أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وجعلنا لكل واحد أجلاً معيناً لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال .
{ وما نحن بمسبوقين } : أي بعاجزين .
{ على أن نبدل أمثالكم } : أي ما أنتم عليه من الخلق والصور .
{ وننشئكم فيما لا تعلمون } : أي ونوجدكم في صور لا تعلمونها وهذا تهديد لهم بمسخهم وتحويلهم إلى أبشع حيوان وأقبحه .
{ ولقد علمتم النشأة الأولى } : أي ولقد علمتم أن الذي خلقكم لكم كيف تم وكيف كان .
{ أفلا تذكرون } : فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم مرة أخرى بعد موتكم وفنائكم .
{ أفرأيتم ما تحرثون } : أي من إثارة الأرض بالمحراث وإلقاء البذر فيها .
{ أأنتم تزرعونه } : أي تنبتونه .
{ أم نحن الزارعون } : أي نحن المنبتون له يقال زَرَعَه الله أي أنبته .
{ لو نشاء لجعلناه حطاما } : أي لو نشاء لجعلنا الزرع حطاماً يابساً بعد أن أصبح سنبلاً وقارب أن يفرك فتحرمون منه .
{ فظلتم تفكهون } : أي تتعجبون في مجالسكم من الجائحة التي أصابت زرعكم .
{ إنا لمغرمون } : أي قائلين إنا لمغرمون أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته بذلناه فيه ليس لنا من حظ ولا جد أي غير محظوظين ولا مجدودين .
{ أفرأيتم الماء الذي تشربون } : أي أخبرونا عن الماء الذي تشربونه وحياتكم متوقفة عليه .
{ أأنتم انزلتموه من المزن } : أي من السحاب في السماء الى الأرض .
{ أم نحن المنزلون } : أي له إلى الأرض .
{ لو نشاء لجعلناه أجاجا } : أي ملحاً مراً لا يمكن شربه .
{ فلولا تشكرون } : أي فهلا تشكرون أي الله بالإِيمان والطاعة .
{ أفرأيتم النار التي تورون } : أي أخبرونا عن النار التي تخرجون من الشجر .
{ أأنتم انشأتم شجرتها } : أي خلقتم شجرتها كالمرخ والعفار والكلخ .
{ أم نحن المنشئون } : أي نحن المنشئون لتلك الأشجار .
{ نحن جعلناها تذكرة } : أي جعلنا تلك النار تذكرة أي تذكر بنار جهنم .
{ ومتاعاً للمقوين } : أي بُلغةً للمسافرين يتبلغون بها في سفرهم .
{ فسبح باسم ربك العظيم } : أي نزه اسم ربك عما لا يليق به كذكره بغير احترام ولا تعظيم او الاسم صلة والتقدير نزه ربك عن الشريك ومن ذلك قولك سبحان ربي العظيم .
معنى الآيات :
السياق هنا في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون وذلك بذكر الأدلة العقلية الموجبة للعلم واليقين في المعلوم المطلوب تحصيله قال تعالى { نحن خلقناكم } وأنتم معترفون بذلك إذ لمّا نسألكم من خلقكم تقولون الله . إذاً { فلولا تصدقون } أي فهلا تصدقون بالبعث والحياة الثانية إذ القادر على الخلق الأول قادر على الإعادة . وهذه أدلة قدرتنا تأملوها أولاً { أفرأيتم ما تمنون } أي أخبرونا عما تمنون أي تصبونه في أرحام نسائكم بالجماع { أأنتم تخلقونه } ولداً { أم نحن الخالقون } والجواب نحن الخالقون إذاً القادر على خلقكم بواسطة هذا الإِمناء والتكوين في الأرحام قادر على خلقكم بطريقة آخر وثانيا { نحن قدّرنا بينكم الموت } وقضينا به عليكم فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له .
(4/196)

بحيث لو طلب التقديم أو التأخير لما قدر على ذلك أليس القادر على خلقكم وإماتتكم قادر على بعثكم بلى وثالثاً { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشأكم فيما لا تعلمون } بحيث نخلقكم في صور وأشكال غير ما أنتم عليه فنخلقكم خلقاً ذميما وقبيحاً كالقردة والخنازير ، وما نحن بعاجزين عن ذلك فهل نعجز إذاً عن بعثكم بعد موتكم أحياء لنحاسبكم ونجازيكم { ولقد علمتم النشأة الأولى } كيف تمت لكم بما لا تنكرونه .
إذاً { أفلا تذكرون } فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على خلقكم ثانية مع العلم أن الإِعادة ليست بأصعب من الإِنشاء من عدم لا من وجود . ورابعاً { أفرأيتم ما تحرثون } من إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها أخبرونا أأنتم تنبتون الزرع { أم نحن الزارعون } له أي المنبتون والجواب معروفوهو أننا نحن الزارعون لا أنتم . إذاً فالقادر على إنبات الزرع قادر على إنباتكم في قبوركم على نحو إنبات الزرع وعجب الذنب هو النواة التي تنبتون منها وخامسا هو أن ذلك الزرع الذي أنبتناه لو نشاء لجعلناه بعد نضرته وقرب حصاده حطاما يابساً لا تنتفعون منه بشيء فظلتم تفكهون متعجبين من حرمانكم من زرعكم تقولون { إنا لمغرمون } أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به ثم تضربون عن قولكم ذلك إلى قول آخر وهو قولكم { بل نحن محرومون } ما لنا من حظ ولا جد فيه أي لسنا محظوظين ولا مجدودين . إن إنبات الزرع ثم حرمانكم منه بعد طمعكم من الانتفاع به مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكلها دالة على قدرته على بعثكم لمحاسبتكم ومجازاتكم على عملكم في هذه الحياة الدنيا . وسادسا الماء الذي تشربون وحياتكم متوقفة عليه أخبروني { أأنتم أنزلتموه } من السحاب { أم نحن المنزلون } والجواب نحن المنزلون لا أنتم هذا أولاً وثانياً لو نشاء لجعلنا الماء ملحاً مرّاً لا تنتفعون منه بشيء وإنا لقادرون فهلا تشكرون هذا الإِحسان منا إليكم بالإِيمان بنا والطاعة لنا . وسابعا النار التي تورون وتشعلونها أخبروني { أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون } والجواب نحن لا أنتم فالذي يوجد النار في الشجر قادر على أن يبعثكم أحياء من قبوركم ليحاسبكم على سلوككم ويجازيكم به . وقوله تعالى { نحن جعلناها } أي النار { تذكرة } لكم تذكركم بنار الآخرة فالذي أوجد هذه النار قادر على إيجاد نار أخرى لو كنتم تذكرون وجعلناها أيضاً متاعاً أي بلغة للقوين المسافرين يتبلغون بها في سفرهم حتى يعودوا إلى ديارهم .
(4/197)

فالقادر على الخلق والإِيجاد والتدبير لمصالح عباده قادر على إيجاد حياة أخرى يجزي فيها المحسنين اليوم والمسيئين إذ الحكمة تقتضي هذا وتأمر به .
وقوله تعالى { فسبح باسم ربك العظيم } بعد إقامة الحجة على منكرى البعث بالادلة العقلية امر تعالى رسوله أن سبح ربه أن ينزهه عن اللعب والعبث اللازم لخلق الحياة الدنيا على هذا النظام الدقيق ثم إفنائها ولا شيء وراء ذلك . إذ البعث والحياة الآخرة هي الغاية من هذه الحياة الدنيا فالناس يعملون ليحاسبوا ويجزوا فلا بد من حياة أكمل وأتم من هذه الحياة يتم فيها الجزاء وقد بينها تعالى وفصلها في كتبه وعلى ألسنة رسله ، وضرب لها الأمثال فلا ينكرها الا سفيه هالك .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلا .
3- بيان منن الله تعالى على عباده فى طعامهم وشرابهم .
4- وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه .
5- في النار التى توقدها عبرة ، وعظة للمتقين .
6- وجوب تسبيح الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك .
(4/198)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) شرح الكلمات :
{ فلا أقسم } : أي فأقْسِمُ ولا صلة لتقوية الكلام وتأكيد القسم .
{ بمواقع النجوم } : أي بمساقطها لغروبها وبمنازلها أيضا ومطالعها كذلك .
{ وإنه } : أي القسم بها .
{ لو تعلمون عظيم } : أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم عظم القسم .
{ إنه } : أي المتلو عليكم لقرآن كريم وهو الذي كذب به المشركون .
{ في كتاب مكنون } : أي مصون وهو المصحف .
{ لا يمسه الا المطهرون } : أي من الملائكة والأنبياء وكل طاهر غير محدث حدثا أكبر وأصغر
{ تنزيل من رب العالمين } : أي منزل من رب العالمين وهو الله جل جلاله .
{ أفبهذا الحديث } : أي القرآن .
{ أنتم مدهنون } : أي تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر .
{ وتجعلون رزقكم } : أي شكر الله على رزقكم .
{ أنكم تكذبون } : أي تكذيبكم بسقيا الله وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا .
معنى الآيات :
قوله تعالى { فلا أقسم بمواقع النجوم } أي أقسم بمواقع النجوم وهي مطالعها ومغربها وإنه أي قسمي هذا لقسم لو تعلمون أي لو كنتم من أهل العلم عظيم . لأن النجوم ومنازلها ومطالعها ومساقطها ومغاربها التي تغرب فيها أمور عظيمة في خلقها وتدبير الله فيها انه لقسم بشيىء عظيم .
والمقسم عليه هو قوله إنه أي المكذب به لقرآن كريم ، لا كما قال المبطلون شعر وسحر وكذب واختلاق { في كتاب مكنون } أي مصون { لا يمسه إلاّ المطهرون } سواء ما كان في اللوح المحفوظ أو في مصاحفنا فلا ينبغي أن يسمه إلاّ المطهرون من الأحداث الصغرى والكبرى { تنزيل من ربّ العالمين } أي منزل منه سبحانه وتعالى ولذا وجب تقديسه وتعظيمه فلا يمسه إلاّ طاهر من الشرك والكفر وسائر الأحداث .
وقوله تعالى { أفبهذا الحديث } أي القرآن أنتم مدهنون تُلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر وتجعلون رزقكم أي وتجعلون شكر الله تعالى على رزقه لكم أنكم تكذبون أي تكذيبكم بسقيا الله لكم بالأمطار وتقولون مطرنا ينوء كذا ونوء كذا .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان أن الله تعالى يقسم با يشاء من مخلوقاته ، وان العبد لا يقسم إلا بربه تعالى .
2- تقرير الوحي الإِلهي وإثبات النبوة المحمدية ، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى .
3- وجوب صيانة القرآن الكريم ، وحرمة مسه على غيره طهارة .
4- حرمة المداهنة في دين الله تعالى وهي أن يتنازل عن شيء من الدين ليحفظ شيئا من دنياه والمداراة جائزة وهي أن تنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئاً من دينه .
(4/199)

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) شرح الكلمات :
{ فلولا } : أي فهلاّ وهي للحض على العمل والحث عليه .
{ إذا بغلت الحلقوم } : أي مجرى الطعام وذلك وقت النزع .
{ وأنتم تنظرون } : أي وأنتم أيها الممرضون والعواد تنظرون إليه .
{ ونحن أقرب إليه منكم } : أي ورسلنا ملك الموت وأعوانه أقرب إلى المتحضر منكم .
{ ولكن لا تبصرون } : أي الملائكة .
{ فلولا إن كنتم غير مدينين } : أي فهلا إن كنتم غير مدينين أي محاسبين بعد الموت .
{ ترجعونها ان كنتم صادقين } : أي ترجعون الروح الى الجسم بعد وشوك مفارقتها له إن كنتم صادقين في انكم لا تبعثون ولا تحاسبون .
{ فأما إن كان } : أي الميت .
{ من المقربين } : أي من السابقين وهو الصنف الأول من الأصناف الثلاثة التي تقدمت في أول السورة .
{ فروح وريحان } : أي استراحة وريحان أي رزق حسن وجنّة نعيم .
{ وأما إن كان من أصحاب اليمين } : أي من الصنف الثاني فسلام لك يا صاحب اليمين من أصحاب اليمين . أي من اخوانك يسملون عليك فإنهم في جنات النعيم .
{ فنزل من حميم } : أي فله نزل من ماء حار شديد الحرارة .
{ وتصلية جحيم } : أي احتراق بها .
{ إن هذا لهو حق اليقين } : أي إن الذي قصصناه عليك في هذه السورة لهو حق اليقين .
{ فسبح باسم ربك العظيم } : أي نزه وقدس اسم ربك العظيم .
معنى الآيات
بعد تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن كلام الله وتنزيله عاد السياق الكريم الى تقرير البعث والجزاء فقال تعالى { فلولا إذا بلغت } أي الروح { الحلقوم } وهو مجرى الطعام { وأنتم } في ذلك الوقت { تنظرون } مريضكم وهو يعانى من سكرات الموت ، ونحن أقرب إليه منكم أي رسلنا أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون إذ لا قدرة لكم على رؤية الملائكة ما لم يتشكلوا في صورة إنسان . وقوله { فلولا إن كنتم غير مدينين } أي محاسبين بعد الموت ومجزيين بأعمالكم ترجعونها الروح بعد ما بلغت الحلقوم إن كنتم صادقين فى أنكم غير مدينين لله بأعمالكم ، أى فلا يحاسبكم عليها ولا يجزيكم بها .
وقوله تعالى { فأما إن كان } أي المحتضر من المقربين وهم السابقون { فروح وريحان } أي فإن له الاستراحة التامة من عناء تعب الدنيا وتكاليفها وريحان وهو الرزق الحسن وجنة نعيم .
وأما إن كان من أصحاب اليمين الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين فسلام لك يا صاحب اليمين من اخوانك أصحاب اليمين الذين سبقوك الى دار السلام .
وأما إن كان المحتضر من المكذبين لله ورسوله المنكرين للبعث الآخرة الضالين عن الهدى ودين الحق { فنزل من حميم } أي ضيافة على الماء الحار هذه ضيافته وتصلية جحيم أي واحتراق بالجحيم .
وقوله تعالى { إن هذا لهو حق اليقين } أي هذا الذي حدثناك به عن المحتضرين الثلاثة وما لهم وما نالهم لحق اليقين . وقوله { فسبح باسم ربك العظيم } يأمر تعالى رسوله بالتسبيح باسم ربه العظيم صح أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم
(4/200)

« اجعلوها في ركوعكم » والتسبيح التقديس والتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- بيان عجز كل الناس أمام قدرة الله تعالى .
3- ان في عجز الإنسان على رد روح المحتضر ليعيش بعد ذلك ولو ساعة دليلا على أنه لا إله إلا الله
4- بيان فضل السابقين عن أصحاب اليمين .
5- القرآن الكريم أحكامه كلها عدل وأخباره كلها صدق .
6- مشروعية قول العبد سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وهما من الكلم الطيب وكذا سبحان ربي العظيم حال الركوع .
 

القاسمية 26

مزمار داوُدي
2 أغسطس 2010
6,454
202
63
الجنس
أنثى
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

تفسير سورة الحديد

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) شرح الكلمات :
{ سبح لله ما في السموات : أي نزه الله تعالى جميع ما في السموات والأرض بلسان والأرض } الحال والقال .
{ وهو العزيز الحكيم } : أي في ملكه ، الحكيم في صنعه وتدبيره .
{ له ملك السموات والأرض } : أي يملك جميع ما في السموات والأرض يتصرف كيف يشاء .
{ يحيى ويميت } : يحيى بعد العدم ويميت بعد الإِيجاد والإِحياء .
{ وهو على كل شيء قدير } : وهو على فعل كل ما يشاء قدير لا يعجزه شيء .
{ هو الأول والآخر } : أي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء .
{ والظاهر والباطن } : أي الظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء .
{ وهو بكل شيء عليم } : أي لا يغيب عن علمه شيء ولو كان مثقال ذرة في السموات والأرض .
{ في ستة أيام } : أي من أيام الدنيا مقدرة بها أولها الأحد وآخرها الجمعة .
{ ثم استوى على العرش } : أي ارتفع عليه وعلا .
{ يعلم ما يلج في الأرض } : أي ما يدخل في الأرض من كل ما يدخل فيها من مطر وأموات .
{ وما يخرج منها } : أي من نبات ومعادن .
{ وما ينزل من السماء } : أي من رحمة وعذاب .
{ وما يعرج فيها } : أي يصعد فيها من الأعمال الصالحة والسيئة .
{ وهو معكم أينما كنتم } : أي بعلمه بكم وقدرته عليكم أينما كنتم .
{ والله بما تعملون بصير } : أي لا يخفي عليه من أعماله عباده الظاهرة الباطنة شيء .
{ والى الله ترجع الأمور } : أي مرد كل شيء الى الله خالقه ومدبره يحكم فيه بما يشاء .
{ يولج الليل في النهار } : أي يدخل جزءاً من الليل في النهار وذلك في الصيف .
{ ويولج النهار في الليل } : ويدخل جزءاً من النهار في الليل وذلك في الشتاء كما يدخل كامل أحدهما في الآخر فلا يبقى الا يبقى الا ليل أو نهار إذْ احدهما دخل في ثانيهما .
{ وهو عليم بذات الصدور } : أي ما في الصدور من المعتقدات والأسرار والنيات .
معنى الآيات :
يخبر تعالى في هذه الآيات الخمس عن وجوده وعظمته من قدرة وعلم وحكمة ورحمة وتدبيره وملكه ومرد الأمور إليه وكلها مظاهر الربوبية الموجبة للألوهية فأولا تسبيح كل شيء في السموات والأرض أي تنزيهه عن كل نقص كالزوجة والولد والشريك والوزير المعين والعجز والجهل ، ثانيا إنه تعالى العزيز ذو العزة التي لا ترام العظيم الانتقام الحكيم في تدبير ملكه فلا شيء في خلقه هو عبثٌ أو لهوٌ أو باطل ثالثا له ملك السموات والأرض ملكاً حقيقاً يتصرف كيف يشاء يهب من شاء ويمنع من شاء . رابعاً يحيى من العدم ويميت الحىّ الموجود ، خامساً هو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ولا يعجز عن شيء متى أراد الشيء وقال له كن فهو يكون لا يتخلف .
سادساً : هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء إذ له ميراث السموات والأرض .
(4/202)

سابعاً : علمه محيط بكل شيء . ثامناً : خلقه السموات والأرض في ستة أيام الدنيا ابتداء من الأحد وانتهاء بالجمعة وما مسه من لغوب ولا تعب ولا نصب ثم استوى على العرش يدبر ملكوت خلقه بالحكمة ومظاهر العدل والرحمة . تاسعاً : مع علوه وبعده من خلقه فالخلق كله بين يديه يعلم ما يلج في الأرض أي يدخل فيها من أمطار وأموات وما ينزل من السماء من مطر ورحمة وعذاب وملك وغيره ، وما يعرج أي يصعد فيها من ملك ومن عمل صالح ودعاء وخاصة دعوة المظلوم فإنها لا تحجب عن الله أبداً . وعاشراً : معية الله تعالى الخاصة والعامة فالخاصة مَعِيْتُه بنصره لأوليائه ، والعامة عِلْمُهُ بكل عباده وسائر خلقه ، وقدرته عليهم وعلمه بهم .
الحادي عشر : بصره تعالى بكل أعمال عباده فلا يخفى عليه شىء منها ليحاسبهم بها ويجزيهم عليها . الثاني عشر : له ملك السموات والأرض أي كل ما في السموات وما في الأرض من سائر الخلق هو ملك لله تعالى وحده لا شريك له فيه ولا في غيره . الثالث عشر : رد كل الأمور إليه فلا يقضى فيها غيره ولا يحكم فيها سواه والظاهر منها كالباطن . الرابع عشر : إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل لمصلحة عباده وفائدتهم إذ لولا هذا التدبير الحكيم لما صلح أمر الحياة ولا استقام هذ الوجود .
وأخيراً علمه الذي أحاط بكل شيء وتغلغل في كل خفي حتى ذات الصدور من خاطر ووسواس وهمّ وعزم ونية وإرادة فسبحانه من إله لا إله غيره ولا ربّ سواه ، بهذه المظاهر من الكمالات استحق العبادات فلا تصح العبادة لغيره ، ولا تنبغى الطاعة لسواه .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضل التسبيح وأفضله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم .
2- مظاهر القدرة والعلم والحكمة في هذه الآيات الخمس هي موجبات ربوبيته الله تعالى وألوهيته وهي مقتضية للبعث الآخر والجزاء فيه .
3- في خلقه تعالى السموات والأرض في ستة أيام وهو القادر على خلقهما بكلمة التكوين تعليم لعباده التأني في الأمور وعدم العجلة فيها لتخرج متقنة صالحة نافعة .
4- بطلان دعاء غير الله تعالى ورجاء غيره إذ له ملك السموات والأرض وليس لغيره شيء من ذلك .
5- وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه وتقوه وذلك لعلمه بظواهرنا وبواطننا وقدرته على مجازاتنا عاجلاً وآجلاً .
(4/203)

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) شرح الكلمات :
{ آمنوا بالله ورسوله } : أي صدقوا بالله ورسوله يا من لم تؤمنوا بعد واثبتوا على إيمانكم يا من آمنتم قبل .
{ وأنفقوا } : أي وتصدقوا في سبيل الله .
{ مما جعلكم مستخلفين فيه } : أي من المال الذي استخلفكم الله فيه إذ هو مال من قبلكم وسيكون لمن بعدكم .
{ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا } : أى صدقوا بالله ورسوله وتصدقوا بأموالهم المستخلفين فيها .
{ لهم أجر كبير } : أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة .
{ وما لكم لا تؤمون بالله؟ } : أي والحال أن الرسول بنفسِه يدعوكم لتؤمنوا بربكم .
{ وقد أخذ ميثاقكم } : أي على الإِيمان به وأنتم في عالم الذر حيث أشهدكم فشهدتم .
{ إن كنتم مؤمنين } : أي مريدين الإِيمان فلا تترددوا وآمنوا وأسلموا تنجوا وتسعدوا .
{ هو الذي ينزل على عبده } : أي هو الله ربكم الذي يدعوكم رسوله لتؤمنوا به ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم .
{ آيات بينات } : هي آيات القرآن الكريم الواضحات المعاني البينات الدلالة .
{ ليخرجكم من الظلمات إلى : أي ليخرجكم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإِيمان النور } والعلم .
{ وإن الله بكم لرءوف رحيم } : ويدلكم على ذلك إرسال رسوله إليكم وإنزال كتابه ليخرجكم من الظلمات إلى النور .
{ وما لكم ألا تنفقون في سبيل الله } : أي أي شيء لكم في عدم الإِنفاق في سبيل الله .
{ ولله ميراث المسوات والأرض } : أي ومن ذلك المال الذي بين أيديكم فهو عائد إلى الله فأنفقوه في سبيله يؤجركم عليه . وإلا فسيعود إليه بدون أجر لكم .
{ من قبل الفتح وقاتل } : أي لا يستوى مع من أنفق وقاتل بعد صلح الحديبية حيث عز الإِسلام وكثر مال المسلمين .
{ وكلاً وعد الله الحسنى } : أي الجنة ، والجنة درجات .
{ من ذا الذي يقرض الله } : أي بإنفاقه ماله في سبيل الله الذي هو الجهاد .
{ قرضا حسنا } : أي قرضا لا يريد به غير وجه الله تعالى .
{ فيضاعفه له } : أي الدرهم بسبعمائه درهم .
{ وله أجر كريم } : أي يوم القيامة وهو الجنة دار النعيم المقيم .
معنى الآيات :
بعد ذكر الأدلة والبراهين على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها وتقرير البعث والجزاء يوم لقائه رحمة منه ورأفة بعباده أمرهم جميعا مؤمنيهم وكافريهم بالإيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فالمؤمنون مأمورون بزيادة الإيمان والثبات عليه والكافرون مأمورون بالإِيمان والمبادرة إليه . وبما أن الآية نزلت بالمدينة بعد الهجرة وبعد صلح الحديبية فإن هذه الأوامر والتوجيهات الإِلهية تشمل المؤمنين الصادقين والمنافقين الكذبين في إيمانهم تشمل الرغبين في الإِيمان في مكة وغيرها وهم يترددون في ذلك فوجه الخطاب إلى الجميع لهدايتهم ودخولهم في رحمة الله الإِسلام بسرعة ودون تباطىء فقال تعالى { آمنوا بالله ورسوله } أي صدقوا بوحدانية الله ورسالة رسول الله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه من الأموال ، ووجه الاستخلاف أن العبد يرث لامال عمن سبقه ويموت ويتركه لمن بعده فلا يدفن معه في قبره .
(4/204)

وقوله تعالى { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة والرضوان فيها . وهذا الإِخبار يفيد تنشيط الهمم الفاترة والعزائم المترددة . وقوله : { ما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } أي أي شيء يجعلكم لا تؤمنون وفرص الإِيمان كلها متاحة لكم فإِيمانكم الفطرى صارخ في نفوسكم إذ كل من سألكم : من خلقكم؟ من خلق العالم حولكم؟ سماء وأرضا تقولون الله . وأنتم في حَرَمِهِ وحِمى بيته والرسول الكريم بين أيديكم يدعوكم صباح مساء إلى الإِيمان بربكم وقد أخذ الله ميثاقكم عليكم بأن تؤمنوا به وذلك يوم أخرجكم في صورة الذر من صلب آدم أبيكم وأشهدكم على أنفسكم فشهدتم . إذاً ما هذا التردد إن كنتم تريدون الإِيمان فآمنوا قبل فوات الأوان .
وقوله تعالى : { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات } أي إنكم تدعون إلى الإِيمان بالله الذي ينزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم آيات واضحات المعاني بينات الدلائل كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإِيمان والعلم ، فما لكم لا تؤمنون إذاً ما هذا التردد والتلكؤ يا عباد الله في الإِيمان بالله وبرسول الله ، وإن الله بكم لرءوف رحيم فاعرفوا هذا وآمنوا به ويدلكم على ذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول وتوضيح الأدلة وإقامة الحجج والبراهين .
وقوله : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } التي هي سبيل إسعادكم وإكمالكم بعد نجاتكم من العذاب في الحياتين مع العلم أن لله ميراث السموات والأرض إذ ما بأيديكم هو لله هو واهبه لكم ومسترده منكم فلم لا تنفقون منه .
وقوله تعالى { لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أي صلح الحديبية لقول الله تعالى { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } والمراد به صلح الحديبية . أي لا يستوون في الأجر والمثوبة مع من قاتل وأنفق بعد الفتح . قال تعالى { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً } من الفريقين { وعد الله الحسنى } أي الجنة { والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه إنفاقكم وقتالكم وعدمهما كما لا يخفى عليه نياتكم وما تخفون في نفوسكم فاحذروه وراقبوه خيراً لكم .
وقوله تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } أي مخلصا فيه لله طيبة به نفسه { فيضاعفه له } ربه في الدرهم سبعمائة درهم ، { وله أجر كريم } ألا وهو الجنة دار السلام .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الإِيمان بالله ورسوله وتقويته .
2- وجوب الإِنفاق في سبيل الله من زكاة ونفقة جهاد وصدقة على الفقراء والمساكين .
3- بيان لطف الله ورأفته ورحمته بعباده مما يستلزم محبته وطاعته وشكره .
4- الإِنفاق في المجاعات والشدائد والحرب أفضل منه فى اليسر والعافية .
5- الترغيب في الإِنفاق في سبيل الله بمضاعفة الأجر حتى يكون الدينار بألف دينار عند الله تعالى وما عند الله خير وأبقى ، وللآخرة خير من الأولى .
(4/205)

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) شرح الكلمات :
{ يسعى نورهم بين أيديهم : أي يتقدمهم نورهم الذي اكتسبوه بالإشيمان والعمل وبأيمانهم } الصالح بمسافات بعيدة يضيء لهم الصراط الذي يجتازونه إلى الجنة .
{ بشراكم اليوم جنات تجرى : أي تقول لهم الملائكة الذين أُعدوا لاستقبالهم من تحتها الأنهار } بشراكم .
{ ذلك هو الفوز العظيم } : أي النجاة من النار ودخول الجنة وهو الفوز العظيم الذي لا أعظم منه .
{ المنافقون المنافقات } : أي الذين كانوا يخفون الكفر فى نفوسهم ويظهرون الإِيمان والإِسلام بألسنتهم .
{ تقابس من نوركم } : أي أنظروا إلينا بوجوهكم نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق .
{ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا : أي يقال لهم استزاءً بهم ارجعوا وراءكم إلى الدنيا حيث نوراً } يطلب النور هناك بالإِيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي فيرجعون وراءهم فلم يجدوا شيئاً .
{ فضرب بينهم بسور له باب : أي فضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال له باب باطنه الذي باطنه الرحمة } هو من جهة المؤمنين الرحمة .
{ وظاهره من قلبه العذاب } : أي الذي من جهة المنافقين في عرصات القيامة العذاب .
{ ينادونهم ألم نكن معكم } : أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين ألم نكن معكم في الدنيا على الطاعات أي فنصلى كما تصلون ونجاهد كما تجاهدون وننفق كما تنفقون .
{ قالوا بلى } : أي كنتم معنا على الطاعات .
{ ولكنكم فتنتم أنفسكم } : أي بالنفاق وهو كفر الباطن وبغض الإِسلام والمسلمين .
{ وتربصتم } : أي الدوائر بالمسلمين أي كنتم تنتظرون متى يهزم المؤمنون فتعلنون عن كفركم وتعودون إلى شرككم .
{ وغركم بالله الغرور } : أي وغركم بالإِيمان بالله ورسوله حيث زين لكم الكفر وكره إليكم الإِيمان الشيطان .
{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } : أي مال تفدون به أنفسكم إذ لا مال يومئذ ينفع ولا ولد .
{ ولا من الذين كفروا } : أي ولا فدية تقبل من الذين كفروا .
{ مأواكم النار هي مولاكم } : أي مستقركم ومكان إيوائكم النار وهي أولى بكم لخبث نفوسكم .
{ وبئس المصير } : أي مصيركم الذي صرتم إليه وهو النار .
معنى الآيات :
قوله تعالى { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } هذا الظرف متعلق بقوله { ولهم أجر كريم } في آخر الآية السابقة أي لهم أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات في عرصات القيامة نورهم الذي اكتسبوه بإيمانهم وصالح أعمالهم في دار الدنيا ذلك النور يمشى أمامهم يهديهم إلى طريق الجنة ، وقد أعطا كتبهم بأيمانهم . وتقول لهم الملائكة الذي أعدوا لتلقيهم واستقبالهم بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الأنهار أي تجري الأنهار أنها رالماء واللبن والخمر والعسل من خلال الأشجار والقصور خالدين فيها ماكثين أبدا لا يموتون ولا يخرجون . قال تعالى { ذلك هو الفوز العظيم } إذ هو نجاة من النار ودخول الجنان في جوار الرحمن . وقوله تعالى { يوم يقول المنافقون والمنافقات } بدل من من قوله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات ، والمنافقون والمنافقات وهم الذي كانوا في الحياة الدنيا يخفون الكفر في أنفسهم ويظهرون الإِيمان بألسنتهم والإِسلام بجوارحهم يقولولن للذين آمنوا انظرونا أي اقبلوا علينا بوجوهكم ذات الأنوار نقتبس من نوركم أي نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق مثلكم قيل فيقال لهم استهزاء بهم { ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً } إشارة إلى أن هذا النور يطلب في الدنيا بالإِيمان وصالح الأعمال فيرجعون إلى الوراء وفوراً يضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال { له باب باطنه } وهو يلي المؤمنين فيه الرحمة { وظاهره } وهو يلي المنافقين { من قبله العذاب } فيأخذون في ندائهم ألم نكن معكم على الطاعات أيها المؤمنون فقد كنا نصلى معكم نجاهد معكم وننفق كما تنفقون فيقول لهم المؤمنون بلى أي كنتم معنا في الدنيا على الطاعات في الظاهر ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وتربصتم بنا الدوائر لتعلنوا عن كفركم وتعودوا إلى شرككم ، وارْتَبتُم أي شككتم في صحة الإِسلام وفي عقائده ومن ذلك البعث الآخر وغرتكم الأماني الكاذبة والأطماع في أن محمداً لن ينتصر وأن دينه لن يظهر ، حتَّى جاء أمر الله بنصر رسوله وإظهار دينه وغركم بالله الغرور أي بالإِيمان بالله أي بعد معاجلته لكم بالعذاب والستر عليكم وعدم كشف الستار عنكم وإظهاركم على ما أنتم عليه من الكفر الغرور أي الشيطان إذ هو الذي زين لكم الكفر وذكركم بعفو الله وعدم مؤاخذته لكم .
(4/206)

قال تعالى : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } أي فداء مهما كان ولا من الذين كفروا كذلك مأواكم النار أي محل إيوائكم وإقامتكم الدائمة النار هي مولاكم أي من يتولاكم ويضمكم في أحضانه وهي أولى بكم لخبث نفوسكم وعفن أرواحكم من جراء النفاق والكفر ، وبئس المصير الذي صرتم إليه إنه النار .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير البعث يذكر أحداثه وما يجرى فيه .
2- تقرير أن الفوز ليس ربح الشاة والبعير ولا الدار ولا البستان في الدنيا وإنما هو الزحزحة عن النار ودخول الجنان يوم القيامة هذا هو الفوز العظيم .
3- من بشائر السعادة لأهل الإِيمان قبل دخول الجنة تلقِّي الملائكة لهم وإعطاؤهم كتبهم بأيمانهم ووجود نور عال يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يتقدمهم على الصراط إلى الجنة .
4- نور يوم القيامة في وجوه المؤمنين أخذوه من الدنيا وفي الحديث : « بشرِّ المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة » .
5- بيان صفات المنافقين في الدنيا وهي إبطان الكفر في نفوسهم والتربص بالمؤمنين للانقضاض عليهم متى ضعفوا أو هزموا وأمانيهم في عدم نصرة الإِسلام . وشكهم الملازم لهم حتى انهم لم يخرجوا منه إلى أن ماتوا شاكين في صحة الإِسلام وما جاء به وأخبر عنه من وعد ووعيد .
(4/207)

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) شرح الكلمات :
{ ألم يأن للذين آمنوا } : أي ألم يحن الوقت للذين أكثروا من المزاح .
{ أن تخشع قلوبهم لذكر الله } : أي تلين وتسكن وتخضع وتطمئن لذكر الله ووعده ووعيده .
{ وما نزل من الحق } : أي القرآن وما يحويه من وعد ووعيد .
{ ولا يكونوا كالذين اوتوا : أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى في الإِعراض والغفلة .
الكتاب من قبل } { فطال عليهم الأمد } : أي الزمن بينهم وبين أنبيائهم .
{ فقست قلوبهم } : أي لعدم وجود من يذكرهم ويرشدهم فقست لذلك قلوبهم فلم تلن لذكر الله .
{ وكثير منهم فاسقون } : أي نتيجة لقساوة القلوب المترتبة على ترك التذكير والإِرشاد ففسق أكثرهم فخرج عن دين الله ورفض تعاليمه .
{ اعلموا أن الله يحيى الأرض : أي بالغيث ينزل بها وكذلك يحيى القلوب بالذكر والتذكير بعد موتها } فتلين وتخشع لذكر الله ووعد ووعيده .
{ قد بينا لكم الآيات لعلكم : أي بينا لكم الآيات لادالة على قدرتنا وعلمنا ولطفنا ورحمتنا تعقلون } رجاء أن تعقلوا تحفظوا أنفسكم مما يرديها ويوبقها .
{ إن المصدقين والمصدقات } : أي المتصدقين بفضول أموالهم والمتصدقات كذلك .
{ وأقرضوا قرضا حسنا } : أي وكانت صدقاتهم كالقرض الحسن الذي لا منة معه والنفس طيبة به وراجية من ربها جزاءه .
{ يضاعف لهم } : أي القرض الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة الى ألف ألف .
{ والذين آمنوا بالله ورسوله } : أي صدقوا بالله رباً وإلهاً وبرسله هداة ودعاة صادقين .
{ أولئك هم الصديقون } : أي الذين كتبوا عند الله صديقين وهي مرتبة شرف عالية .
{ والشهداء عند ربهم لهم : أي وشهداء المعارك في سبيل الله عند ربهم أي في الجنة لهم
أجرهم ونورهم } أجرهم العظيم ونورهم التام يوم القيامة .
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } : أي كفروا باله وتوحيده وكذبوا بالقرآن وبما حواه من الشرائع والأحكام .
{ أولئك أصحاب الجحيم } : أي أولئك البعداء هم أهل النار الذي لا يفارقونها أبداً .
معنى الآيات :
قوله تعالى { ألم يأن للذين آمنوا } أي بالله ربّاً وإلهاً وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبوعد الله ووعيده صدقا وحقا الم يحن الوقت لهم أن تخشع قلوبهم فتلين وتطمئن إلى ذكر الله وتخشع كذلك { وما نزل من الحق } في الكتاب الكريم فيعرفون ويأمرون به ويعرفون المنكر وينهون عنه إنها لموعظة إلهية عظيمة وزادها عظمة أن تنزل في أصحاب رسول الله تستبطىء قلوبهم . فكيف بمن بعدهم .
وقوله : { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } أيمن قبل البعثة المحمدية وهم اليهود والنصارى فطال عليهم الأمد وهو الزمن الطويل بينهم وبين أنبيائهم فلم يذكروا ولم يرشدوا فقست قلوبهم من أجل ذلك وأصبح أكثرهم فاسقين عن دين الله خارجين عن شرائعه لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً .
وقوله تعالى { اعلموا } أي أيها المؤمنون المصابون ببعض الغفلة فكثر مزاحهم وضحكهم { أن الله يحيي الأرض بعد موتها } يحييها بالغيث فتنبت وتزدهر فكذلك القلوب تموت بترك التذكير والتوجيه والإِرشاد وتحيا على التذكير والإِرشاد .
(4/208)

وقوله تعالى : { قد بينا لكم الآيات } أي وضحناها لكم في هذا الكتاب الكريم لعلكم تعقلون أي لنعدّكم بذلك لتعقلوا عنّا ما نُخاطبكم به ونصح لكم فيه فاذكروا ولا تنسوه .
وارجعوا قلوبكم وتعهدوها بذكر الله والدار الآخرة . وقوله تعالى { إن المصدقين } أي المتصدقين بفضول أموالهم في سبيل الله والمصدقات كذلك وأقرضوا الله قرضاً حسناً بما أنفقوه في الجهاد طيبة به نفوسهم لا منة فيه ولا رياء ولا سمعة هؤلاء يضاعف لهم أي ثواب صدقاتهم وإقراضهم ربهم إلى عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف ولهم أجر كريم وهو الجنة والذين آمنا بالله ورسله فصدقوا بالله رباً وإلهاً وبرسل الله المصطفين هداة إلى الله ودعاة إليه هؤلاء هم الصديقون ففازوا بمرتبة الصديقية والشهداء الذين استشهدوا في معارك الجهاد هم الآن عند ربهم لهم أجرهم ونورهم أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة . هؤلاء الأصناف الثلاثة مثلهم مثل السابقين وأصحاب اليمين . والذين كفروا أي بالله ورسوله وكذبوا بآياتنا أي بآيات ربهم الحاوية لشرائعه وعبادته فلم يعبدوه بها هؤلاء الأدنون هم أصحاب الجحيم الذين يلازمونها وتلازمهم أبداً نعوذ بالله من حالهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التحذير من الغفلة ونسيان ذكر الله وما عنده من نعيم وما لديه من نكال وعذاب .
2- وجوب التذكير للمؤمنين والوعظ والإِرشاد والتعليم خشية أن تقسوا قلوبهم فيفسقوا كما فسق أهل الكتاب ويكفروا كما كفروا .
3- تقرير حقيقة وهي أن الأرض تحيا بالغيث والقلوب تحيا بالعلم المواعظ والتذكير بالله .
4- بيان أصناف المؤمنين ورتبهم وهم المتصدقونوالمقرضون في سبيل الله أموالهم والمؤمنين بالله ورسله حق الإِيمان والصديقون وشهداء الجهاد في سبيل الله جعلنا الله منهم .
(4/209)

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) شرح الكلمات :
{ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } : أي ان الحياة أشبه بالأمور الخيالية قليلة النفع سريعة الزوال .
{ وزينة } : أي ما يتزين به المرء من أنواع الزينة والزينة سريعة التغير والزوال .
{ وتفاخر بينكم وتكاثر في : أي أنها لا تخرج عن كونها لهواً ولعباً وزينة وتفاخر اً وتكاثراً الأموال والأولاد } في الأموال والأولاد .
{ كمثل غيث اعجب الكفار : أي مثلها في سرعة زوالها وحرمان صاحبها من الدار الآخرة نباته } ونعيمها كمثل مطر أعجب الكفار أي الزراع أجبهم نباته أي ما نبت به من الزرع .
{ ثم يهيج فتاره مصفراً } : أي يبس فتراه مصفراً آن أوان حصاده .
{ ثم يكون حطاما } : ثم يتحول بسرعة إلى حطام يابس يتفتت .
{ الا متاع الغرور } : أي وما الحياة الدنيا في التمتع بها إذ الحياة نفسها غرور لا حقيقة لها .
{ سابقون إلى مغفرة من ربكم } : أي سارعوا بالتوبة مسابقين غيركم لتغفر لكم ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم .
{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } : أي الموعود به من المغفرة والجنة .
{ والله ذو الفضل العظيم } : أي فلا يبعد تفضله بذلك الموعود به وإن كان عظيماً .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم ي توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يزيد في كمالهم وسعادتهم في الحياتين فخاطبهم قائلا : اعلموا أيها المؤمنون الذي استبطانا قلوبهم أي خشوعهم إذ الإِقبال على الدنيا هو سبب الغفلة عن الآخرة ومتطلباتها من الذكر والعمل الصالح { أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد } هذه حقيقتها وهي أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال . فلا تغتروا بها ولا تقبلوا بكلكم عليها أنصح لكم بذلك . فاللهو كاللعب لا يُخلِفان منفعة تعود على اللاهي اللاعب ، والزينة سرعان ما تتحول وتتغير وتزول والتفاخر بين المتفاخرين مجرد كلام ما وراءه طائل أبداً والتكاثر لا ينتهي الى حد ولا يجمع الا بالشقاء والنصب والتعب ثم يذهب أو يُذهب عنه فلا بقاء له ولا دوام وله تبعات لا ينجو منها صاحبها إلا برحمة من الله وإليكم مثل الحياة الدنيا إنها { كمثل غيث } أي مطر { أعجب الكفار } أي الفلاحين الذين كفروا بذرة بالتربة { نباته } الذي نبت به أي المطر { ثم يهيج فتراه } بعد أيام { مصفرا } ثم يهيج أي ييبس { ثم كون حطاماً يتفتت هذه هي الدنيا من بدايتها الى نهايتها المؤلمة أما الآخرة ففيها عذاب شديد لأهل الشرك والمعاصي لا بد لهم منه يفارقونه ، ومغفرة من الله ورضوان لأهل التوحيد وصالح الأعمال وما الحياة الدنيا وقد عرَضنا عليكم مثالها فما هي إلا متاع الغرور أي إنها لا حقيقة لها وكل ما فيها من المتع التي يتمتع بها إلا غرور باطل . وعليه فأنصح لكم سابقوا إلى مغفرة من ربكم أي سارعوا بالتوبة مسابقين بعضكم بعضا لتغفر ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم التي عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للذين آمنوا بالله ورسوله أي هُيئت وأحضرت فهى مُعدة مهيأة .
(4/210)

ذلك فضل الله أي المغفرة ودخول الجنة يؤتيه من يشاء ومن سارع الى التوبة فآمن وعمل صالحاً وتخلى عن الشرك والآثام فهو ممن شاء له فضله ولذلك وفقه للإِيمان وصالح الأعمال . والله ذو الفضل العظيم فلا يستبعد منه ذلك المطلوب المرغوب من النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا .
2- الدعوة إلى المسابقة في طلب مغفرة الذنب ودخول الجنة .
3- بيان الجنة ما يُكسبها وهو الإِيمان بالله ورسله ومستلزماته من التوحيد والعمل الصالح .
(4/211)

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) شرح الكلمات :
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض } : أي بالجدب وذهاب المال .
{ ولا في أنفسكم } : أي بالمرض وفقد الولد .
{ إلا في كتاب من قبل من نبرأها } : أي في اللوح المحفوظ قبل أن نخلقها .
{ إن ذلك على الله يسير } : أي سهل ليس بالصعب .
{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم } : أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي مما تحبون من الخير .
{ ولا تفرحوا بما آتاكم } : أي بما أعطاكم فرح البطر أما فرح الشكر فهو مشروع .
{ والله لا يحب كل مختال فخور } : أي مختال بتكبره بما أعطى ، فخور أي به على الناس .
{ الذين يبخلون } : أي بما وجب عليهم أن يبذلوه .
{ ويأمرون الناس بالبخل } : أي بمنع ما وجب عليهم عطاؤه .
{ ومن يتول } : أي عن الإِيمان والطاعة وقبول مواعظ ربهم .
{ فإن الله غني } : أي غني عن سائر خلقه لأن غناه ذاتى له لا يستمده من غيره .
{ حميد } : أي محمود بجلاله وجمالة وآلائه ونعمه على عباده .
{ بالبينات } : أي بالحجج والبراهين القاطعة على صدق دعوتهم .
{ وأنزلنا معهم الكتاب } : أي وأنزل عليهم الكتب الحاوية للشرائع والأحكام .
{ والميزان } : أي العدل الذي نزلت الكتب بالأمر به وتقريره .
{ ليقوم الناس بالقسط } : أي لتقوم حياتهم فيما بينهم على أساس العدل .
{ فيه بأس شديد } : أي في الحديد بأس شديد والمراد آلات القتال من سيف وغيره .
{ ومنافع للناس } : أي ينتفع به الناس إذ ما من صنعة الا والحديد آلتها .
{ وليعلم الله من ينصره ورسله } : أي وأنزلنا الحديد وجعلنا فيه بأساً شديداً ليعلم الله من ينصره في دنيه وأوليائه وينصر رسله المبلغين عنه .
{ بالغيب } : أي وهم لا يشاهدونه بأبصارهم في الدنيا .
{ إن الله قوى عزيز } : أي لا حاجة إلى نصرة أحد وإنما طَلَبهَا يَتَعَبَّدُ بها عباده .
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في إرشاد المؤمنين وتوجيههم إلى ما يكملهم ويسعدهم فقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة } أي ما أصابكم أيها المؤمنون من مصيبة في الأرض بالجدب والقحط أو الطوفان أو الجوائح تصيب الزرع { ولا في أنفسكم } بالمرض وفقد الولد إلاَّ وهي في كتاب أي في كتاب المقادير ، اللوح المحفوظ مكتوبة بكميتها وكيفيتها وزمانها ومكانها { من قبل أن نبرأها } أي وذلك قبل خلق الله تعالى لها وإيجادها . وقوله : { إن ذلك على الله يسير } أي علمه بها وكتابته لها قبل خلقها وإيجادها في وقتها سهل على الله يسير .
وقوله { لكيلا تأسوا } أي أعلمناكم بذلك بعد قضائنا وحكمنا به أزلاً من أزل ألا تحزنوا على ما فاتكم مما تحبون في دنياكم من الخير ، ولا تفرحوا بما آتاكم فرح الأشر والبطر فإنه مضر أما فرح الشكر فلا بأس به فقد ينعم الله على العبد ليشكره .
وقوله : { والله لا يحب كل مختال فخور } يحذر أولياءه من خصلتين ذميمتين لا تنبغيان للمؤمن وهما الاختيال أي التكبر والفخر على الناس بما أعطاه الله وَحَرَمَهَم .
(4/212)

وقوله { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } هذا بيان لمن لا يحبهم الله وهم أهل الكبر والفخر بذكر صفتين قبيحتين لهم وهما البخل الذي هو منع الواجب والأمر بالبخل والدعوة إليه فهم لم يكتفوا ببخلهم فأمروا غيرهم بالبخل الذي هو منع الواجب وعدم بذله والعياذ بالله من هذه القبائح الأربع . وقوله : { ومن يتول } أي عن الإِيمان والطاعة وعدم قبول وعظ الله وإرشاده { فإن الله هوالغني } عن سائر خلقه لأن غناه ذاتي له لا يستمده من غيره { الحميد } أي محمود بجلاله وجماله وإنعامه على سائر عباده .
وقوله تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي بالحجج القواطع وأنزلنا معهم الكتاب الحاوي للشرائع والأحكام التي يكمل عليها الناس ويسعدون وأنزلنا الميزان وذلك ليقوم الناس بالعدل أي لتقوم حياتهم على أساس العدالة والحق .
وقوله تعالى { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } أي وكما أنزلنا الكتاب للدين والعدل للدنيا أنزلنا الحديد لهما معاً للدين والدنيا فيما فيه من البأس الشديد في الحروب فهو لإقامة الدين بالجهاد { ومنافع للناس } إذْ سائر الصناعات متوقفة عليه فهو للدنيا .
وقوله تعالى : { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } أي من الحكمة في إنزال الحديد أن يعلم الله من ينصره أي ينصر دينه ورسله بالجهاد معهم والوقوف إلى جانبهم وهم يبلغون دعوة ربهم بالغيب أي وهم لا يشاهدون الله تعالى بأعينهم وإن عرفوه بقلوبهم .
وقوله تعالى : { إن الله قوي عزيز } إعلام بأنه لا حاجة به إلى نصرة أحد من خلقه وذلك لقوته الذاتية وعزته التى لا ترام ، وإنما كلف عباده بنصرة دينه ورسله وأوليائه تشريفاً لهم وتكريماً وليرفعهم بذلك الى مقام الشهداء .
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
2- بيان الحكمة في معرفة القضاء والقدر والإِيمان بهما .
3- حرمة الاختيال والفخر والبخل والأمر بالبخل .
4- بيان إفضال الله وإنعامه على الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان وإنزال الحديد بما فيه من منافع للناس وبأس شديد .
(4/213)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) شرح الكلمات :
{ ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم } : أي وتالله لقد أرسلنا نوحاً هو الأب الثاني للبشر وإبراهيم هو أبو الأنبياء .
{ والكتاب } : أي التوراة والزبور والإِنجيل والفرقان .
{ فمنهم مهتد } : أي من أولئك الذرية أي سالك سبيل الحق والرشاد .
{ وكثير منهم فاسقون } : أي عن طاعة الله ورسله ضال في طريقه .
{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا } : أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهينا الى عيسى .
{ وقفينا بعيسى بن مريم } : أي أتبعانهم بعيسى بن مريم لتأخره عنهم في الزمان .
{ وجعلنا في قلوب الذي اتبعوه } : أي على دنيه وهم الحواريون وأتباعهم .
{ رأفة ورحمة } : أي ليناً وشفقة .
{ ورهبانية ابتدعوها } : أي وابتدعوا رهبانية لم يكتبها الله عليهم . وهي اعتزال النساء والانقطاع في الأديرة والصوامع للتعبد .
{ إلا ابتغاء رضوان الله } : أي إلا طلبا لرضوان الله عز وجل .
{ فما رعوها حق رعايتها } : أي لم يلتزموا بما نذروه على أنفسهم من الطاعات .
{ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } : أي فأعطينا الذي ثبتوا على إيمانهم وتقواهم أجرهم .
{ وكثر منهم فاسقون } : لا أجر لهم ولا ثواب إلا العقاب .
معنى الآيات :
يخبر تعالى أنه كما أرسل رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان ارسل كذلك نوحاً وإبراهيم فنوح هو أبو البشر الثاني وإبراهيم هو أبو الأنبياء من بعده ذكرهما لمزيد شرفهما ، ولما لهما من آثار طيبة فقال { ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة } أي في أولادهما النبوة والكتاب فهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط من ذرية نوح وإسماعيل وإسحاق وباقي الأنبياء من ذرية ابراهيم وقوله { فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } أي فمن أولئك الذرية المهدى وأكثرهم فاسقون وقوله { ثم قفينا على آثارهم برسلنا } أي رسولا بعد رسول إلى عيسى بن مريم ، وقفينا بعيسى بن مريم أي أتبعاتهم بعيسى بن مريم كل ذلك لهداية العباد إلى ما يكملهم ويسعدهم وقوله { وآتيناه الإِنجيل } أي آتينا عيسى بن مريم الإِنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة والرأفة اللين وأشد الرحمة . وقوله { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعها الذين اتبعوا عيسى { ما كتبناها عليهم } أي لم يكتبها الله تعالى عليهم لما فيها من التشديد ولكن ما ابتدعوها الا طلباً لرضوان الله ومرضاته فما رعوها حق رعايتها حيث لم يوفوا بما التزموا به من ترك النيا والإِقبال على الآخرة حيث تركوا لانساء ولبسوا الخشن من الثياب وأكلوا الخشن من الطعام ونزلوا الصوامع والأديرة .
ولهذه الرهبانية سبب مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما نذكره باختصار للفظه ومعناه قال كان بعد عيسى ملوك بدلوا التوراة وحرفوا الإِنجيل وألزموا العامة بذلك ، وكان بينهم جماعة رفضُوا ذلك التحريف للدين ولم يقبلوه ففروا بدينهم ، والتحقوا بالجبال وانقطعوا عن الناس مخافة قتلهم أو تعذيبهم لمخالفتهم دين ملوكهم المحدث الجديد فهذا الانقطاع بداية الرهبانية ، وعاش أولئك المؤمنون وماتوا وجاء جيل من أبناء الدين المحرف فذكروا سيرة الصالحين الأولين فأرادوا أن يفعلوا فعلهم فانقطعوا الى الصوامع والأديرة ، ولكنهم جهال وعلى دين محرف مبدّل فاسد فما انتفعوا بالرهبانية المبتدعة وفسق أكثرهم عن طاعة الله ورسوله .
(4/214)

وهو ما دل عليه قول الله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الأولون المؤمنون الذي فروا من الكفر والتعذيب وعبدوا الله تعالى بما شرع ، وقوله { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين أتوا من بعدهم إلى يومنا هذا إذ هم يعبدون الله بدين محرف باطل ولم يلتزموا بالرهبنة الصادقة بالزهد في الدنيا والإِقبال على الآخرة .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان منة الهل على عباده بإرسال الرسل .
2- بيان سنة الله في الناس وهي أنه إذا أرسل لهداية الناس يهتدى بعض ويضل بعض فيفسق .
3- ثناء الله على عيسى بن مريم واتباعه بحق من الحواريين وغيرهم إلى أن غيرت الملوك دين المسيح وضل الناس وأصبحوا فاسقين عن دين الله تعالى .
4- تحريم البدع والابتداع ولا رهبانية في الإِسلام ولكن يعبد الله بما شرع .
(4/215)

لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) شرح الكلمات
{ يا أيها الذين آمنوا } : أي بعيسى بن مريم وموسى من قبله .
{ اتقوا الله وآمنوا برسوله } : أي خافوا عقاب الله وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه .
{ يؤتكم كفلين } : يعطكم الله نصيبين من الأجر مقابل إيمانكم بينيكم وبمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ ويجعل لكم نوراً تمشون فيه } : أي في الدنيا إذ تعيشون على هداية الله وفي الآخرة تمشون به على الصراط .
{ لئلا يعلم أهل الكتاب } : أي لكى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله . واللام في فئلا مزيدة لتقوية الكلام .
معنى الآيتين :
هذا نداء الله لأهل الكتاب بعد أن ذكر نبذة عن رسلهم وأتباعهم نادى الموجودين منهم بعنوان الإِيمان أي ما من آمنتم بالرسل السابقين حسب ادعائكم اتقوا الله فلا تفرقوا بين رسل الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم يؤتكم أي عطكم كفلين أي حظين ونصيبين من رحمته ومثوبته ويجعل لكم نوراً تمشون به في الدنيا وهو الهداية الإِسلامية إذ الإِسلام صراط مستقيم صاحبه لا يضل ولا يشقى وتمشون به فى الآخرة على الصراط إلى دار السلام الجنة ، ويغفر لم ذنوبكم الماضية الحاضرة والله غفور رحيم . وذلك ليعلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين رفضوا الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإِسلام أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله أي لا يقدرون على الحصول على شيء من فضل الله ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- أعظم نصيحة تقدم لأهل الكتاب لو أخذوا بها تضمنها نداء الله لهم وما وعدهم به في هذه الآية الكريمة .
2- فضل الإيمان والتقوى إذ هما سبيل الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة .
3- إبطال مزاعم أهل الكتاب في احتكار الجنة لهم ، وإعلامهم بأنهم محرمون منها ما لم يؤمنوا برسول الله ويتقوا الله فعل أوامره واجتناب نواهيه .
(4/216)

 

حارث همام مزامير

مزمار فضي
25 أكتوبر 2009
549
19
18
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد صدّيق المنشاوي
علم البلد
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

للرفع

موضوع قيّم

جزاكم الله خيراً
 

الماسه البيضاء

مشرفة سابقة
2 أبريل 2010
4,594
52
0
الجنس
أنثى
رد: كتاب ايسر التفاسير لابي بكر الجزائري || جزء الذاريات [ نصيا ] متجدد باذن الله

أسأل الله أن ينفع به
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع