وهذا من الأدب الراقي الذي يُراعى فيه الضيف ومشاعره ، فلربما يظن الضيف عند غضب مضيفه أنه يقصد أن يفعل ذلك ليضجره فينصرف ، أو أن الضيف يغضب لغضب المضيف فيتابعه على ما غضب عليه ، وبالتالي لا يقام بحق الضيافة ؛ وقد بوب البخاري -
يقرر النبي e أن الضيافة حق للضيف ليس على سبيل المكافأة والمجازاة ، بمعنى أن من
ض
يفني أضيفه ، ومن أكرمني أكرمه ، وإنما من نزل ضيفًا ، فلابد أن يؤدى إليه حق الضيافة ؛
بصرف النظر عن كون الضيف يؤدي ذلك للمضيف إن نزل به ضيفًا أو لا يؤديه ؛ ففي حديث
مالك بن نضلة t قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا نَزَلْتُ بِهِ فَلَمْ يُكْرِمْنِي وَلَمْ يَقْرِنِي ، ثُمَّ نَزَلَ بِي أَجْزِيهِ بِمَا صَنَعَ ، أَمْ أَقْرِيهِ ؟ قَالَ : " اقْرِهِ " ( [1]) ؛ ومعنى كلام ابن
نضلة t : أُعَامِلُهُ إذَا مَرَّ بِي بِمِثْلِ مَاعَامَلَنِي بِهِ، أم أقرب له ما أقري به الضيف ؟ فقال له النبي e : " أَقْرِهِ " .
[1] - أحمد : 3 / 473 ، والطبراني في الكبير : 19 / 276 ، 277 ، وابن حبان ( 3410 ، 5416 ) ؛
والحاكم ( 7364 ) وصححه .
أبو الضيفان هو خليل الرحمن إبراهيم u ، فهو أول من ضيف الضيف ، وقد أثنى الله -
- على إبراهيم e في إكرام ضيفه من الملائكة حيث فقال : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [ [ الذاريات : 24 ، 27 ] ؛ وهؤلاء الأضياف هم الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ببشارة إبراهيم ، وإهلاك قوم لوط ؛ فمروا بإبراهيم e أولا ، وجاءوه في صورة بشر ، فأسرع بإكرامهم ، وأدى إليهم حق الضيافة على أكمله ؛ ويستفاد من قصة إبراهيم e مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة :
منها : تعجيل القرى ، لقوله : ] فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ .
ومنها : كون القرى من أحسن ما عنده ] بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ ، لأنهم ذكروا أن الذي كان عنده البقر ، وأطيبه لحمًا الفتى السمين المنضج .
ومنها : تقريب الطعام إلى الضيف .
ومنها : خدمة الضيف بنفسه .
ومنها : ملاطفتهم بالكلام بغاية الرفق ، ] أَلا تَأْكُلُونَ [ .
ومنها : أن للمضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا ؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة نظر لا بتحديده ، حتى لا يحرج ضيفه ؛ وفي ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه -
: حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك ، فبَينا هو يأكل معه إذ تعلَّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ ، فقال له هشام : عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ ؟ فقال : وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي ، واللّه لا أكلت عندك أبدًا ؛ ثم خرج وهو يقول :
وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل ... يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ
وقد أثنى الله U على إبراهيم e في هذه الآيات ثناء يظهرمنوجوهمتعددة:
أحدها أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون ، وهذا على أحد القولين : إنه إكرام إبراهيم لهم ، والثاني : إنهم المكرمون عند الله ، ولا تنافي بين القولين فالآية تدل على المعنيين .
الثاني : قوله تعالى : ] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [ فلم يذكر استئذانهم ، ففي هذا دليل على أنه e كان قد
عُرِفَ بإكرام الضيفان واعتياد قراهم ، فبقي منزله مضيفة مطروقًا لمن ورده ، لا يحتاج إلى
الاستئذان ، بل استئذان الداخل دُخُولُهُ ، وهذا غاية ما يكون من الكرم .
الثالث : قوله لهم : ] سَلامٌ [ بالرفع ، وهم سلموا عليه بالنصب ، والسلام بالرفع أكمل ، فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام ؛ والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد ، فإبراهيم حياهم أحسن من تحيتهم ؛ فإن قولهم : ] سَلامًا [ يدل على : سلمنا سلاما ؛ وقوله : ] سَلامٌ [ أي : سلام عليكم .
الرابع : أنه حذف ( أنتم ) من قوله : ] قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [ ؛ فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفِّر الضيف لو قال : أنتم قوم منكرون ، فحَذْفُ المبتدأ هنا من ألطف الكلام .
الخامس : أنه بنى الفعل للمفعول ، وحذف فاعله ، فقال : ] مُنْكَرُونَ [ ، ولم يقل : ( إني أنكركم ) وهو أحسن في هذا المقام ، وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة .
السادس : أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم ؛ والروغان هو الذهاب في اختفاء ، لا يكاد يشعر به الضيف ؛ وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء لا يشعر به الضيف فيشق عليه ويستحي ؛ فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام ، بخلاف من يقول لضيفه : مكانكم حتى آتيكم بالطعام ، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه .
السابع : أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة ؛ فدل على أن ذلك كان معدًّا عندهم مهيئًا للضيفان ، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه .
الثامن : قوله تعالى : ] فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [ دل على خدمته للضيف بنفسه ولم يقل : ( فأمر لهم ) ، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه ، ولم يبعثه مع خادمه ؛ وهذا أبلغ في إكرام الضيف .
التاسع : أنه جاء بعجل كامل ، ولم يأت ببضعة منه ، وهذا من تمام كرمه e .
العاشر : أنه سمين لا هزيل ، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم ، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية فآثر به ضيفانه .
الحادي عشر : أنه قربه إليهم بنفسه ، ولم يأمر خادمه بذلك .
الثاني عشر : أنه قربه ، ولم يقربهم إليه ، وهذا أبلغ في الكرامة ، أن يجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه ، ويحمل إلى حضرته ، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب إليه .
الثالث عشر : أنه قال : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، وهذا عرض وتلطف في القول ، وهو أحسن من قوله : كلوا ، أو مدوا أيديكم ؛ وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه ، ولهذا يقولون : بسم الله ، أو : ألا تتصدق ، أو : ألا تجبر ، ونحو ذلك .
الرابع عشر : أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل ، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا ، وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل ، قال لهم : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، ولهذا أوجس منهم خيفة ، أي : أحسها وأضمرها في نفسه ، ولم يبدها لهم ؛ وهو الوجه .
الخامس عشر : فإنهم لما امتنعوا من أكل طعامه خافم نهم ، ولم يظهر لهم ذلك ، فلما علمت الملائكة منه ذلك ، قالوا : لا تخف ، وبشروه بالغلام .
فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب ، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم ، وكفى بهذه الآداب شرفًا وفخرًا ، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين .ا.هـ ( [1] ) .
_ [1] - انظر ( جلاء الأفهام ) لابن القيم ص 272 : 274 بشيء من الاختصار .
: يقول تعالى ذكره : من وقاه الله شحَّ نفسه ] فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ المخلَّدون في الجنة ؛ والشحّ في كلام العرب : البخل ، ومنع الفضل من المال([3]) ؛ قال النووي -
روى أبن أبي الدنيا في ( قرى الضيف ) عن بديح مولى عبد الله بن جعفر قال : خرجت مع عبد الله بن جعفر في بعض أسفاره ، فنزلنا إلى جانب خباء من شعر ، وإذا صاحب الخباء رجل من بني عذرة ، قال : فبينا نحن كذلك ، إذا نحن بأعرابي قد أقبل يسوق ناقة حتى وقف علينا ، ثم قال : أي قوم ، ابغوني شفرة [ أي : سكينا ] ، فناولناه الشفرة ، فوجأ في لبتها [ موضع الذبح فوق الصدر ] ، وقال : شأنكم بها ؛ قال : وأقمنا اليوم الثاني ، وإذا نحن بالشيخ العذري يسوق ناقة أخرى فقال : أي قوم ، ابغوني شفرة ، قال : فقلنا : إن عندنا من اللحم ما ترى ، قال : فقال : أبحضرتي تأكلون الغاب ؟ ، ناولوني شفرة ، فناولناه الشفرة فوجأ في لبتها ، ثم قال : شأنكم بها ، وبقينا اليوم الثالث ، فإذا نحن بالعذري يسوق ناقة أخرى حتى وقف علينا ، فقال : أي قوم ، ابغوني شفرة ، قال : قلنا : إن معنا من اللحم ما ترى ، فقال : أبحضرتي تأكلون الغاب ؟ إني لأحسبكم قوما لئامًا ، ناولوني الشفرة ، فناولناه الشفرة فوجأ في لبتها ، ثم قال : شأنكم بها .
قال : وأخذنا في الرحيل ، فقال ابن جعفر لخازنه : ما معك ؟ قال : رزمة ثياب ، وأربع مائة دينار ، قال : اذهب بها إلى الشيخ العذري ، قال : فذهب بها فإذا جارية في الخباء ، فقال : يا هذه خذي هدية ابن جعفر ، قالت : إنا قوم لا نقبل على قرى أجرًا ، قال : فجاء إلى ابن جعفر فأخبره ، فقال : عد إليها ، فإن هي قبلت ، وإلا فارم بها على باب الخيمة ، فعاودها ؛ فقالت : اذهب عنا بارك الله فيك ، فإنا قوم لا نقبل على قرانا أجرًا ، فوالله لئن جاء شيخي فرآك هاهنا ، لتلقين منه أذى ، قال : فرمى بالرزمة والصرة على باب الخباء ، ثم ارتحلنا فما سرنا إلا قليلا إذا نحن بشيء يرفعه السراب مرة ويضعه أخرى ، فلما دنا منا إذا نحن بالشيخ العذري ومعه الصرة والرزمة ، فرمى بذلك إلينا ثم ولى مدبرًا ، فجعلنا ننظر في قفاه هل يلتفت ؟ فهيهات ، قال : فكان ابن جعفر يقول : ما غلبنا بالسخاء إلا الشيخ العذري ( [1]) .
خاتمة :
هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذه الرسالة ؛ والذي يتبين منه عظيم اهتمام منهج الإسلام بالضيف ؛ وأن هذه الآداب الراقية مع الضيف ، هي قربات إلى الله تعالى ، لها جزاؤها الحسن في الدنيا والآخرة ؛ مما يحدو بالمحسن أن يزداد إحسانًا ، وبالمسيء أن يبادر بالتوبة ويتدارك تقصيره .
والحمد لله أولا وأخيرا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وعظيم سلطانه ، كما يحب ربنا ويرضى ؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا .
وكتبه أفقر العباد إلى عفو رب البرية محمد بن محمود بن إبراهيم عطية