رد: هل تؤيد القراءة بالمقامات ادخل و صوت
بل يصب في نفس الوادي .. و هو احد محاور البحث ليس جله و هذا الذي استرعى انتباهي في البحث و الذي ارتاح اليه قلبي ..
... قراءة التطريب بترديد الأصوات , وكثرة الترجيعات , وقد بحث ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المسألة بحثاً مستفيضاً , وبعد أن ذكر أدلة الفريقين المانعين والمجيزين , قال رحمه الله تعالى : (( وفصل النزاع أن يُقال : التطريب والتغني على وجهين , أحدهما : ما اقتضته الطبيعة , وسَمَحَت به من غير تكلُّف ولا تمرين ولا تعليم , بل إذا خُلِّي وطبعه , واسترسلت طبيعتُه , جاءت بذلك التطريب والتلحين , فذلك جائز , وإن أعان طبيعتَه بفضل تزيين وتحسين , كما قال أبو موسى الأشعري للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( لو علمتُ أنك تسمعُ لحبَّرته لكَ تحبيراً )) ([30]) .
والحزين ومن هاجه الطربُ والحبُّ والشوقُ لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة , ولكنَّ النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع , وعدم التكلُّف والتصنُّع فيه , فهو مطبوع لا متطبِّع , وكَلفٌ لا متكلِّف , فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه , وهو التغنِّي الممدوح المحمود , وهو الذي يتأثر به التالي والسامعُ , وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها , الوجه الثاني : ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع , وليس في الطبع السماحةُ به , بل لا يحصلُ إلاَّ بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن , كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة , وأوزانٍ مخترعة لا تحصلُ إلاَّ بالتعلُّم والتكلُّف , فهذه هي التي كرهها السلفُ وعابوها وذمُّوها , ومنعوا القراءة بها , وأنكروا على مَن قرأ بها , وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه , وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ , ويتبيَّن الصوابُ من غيره , وكلُّ مَن له علم بأحوال السلف يعلمُ قطعاً أنهم بُرآءُ من القراءة بألحان الموسيقى المتكلَّفة , التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة , وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويُسوِّغوها , ويعلمُ قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب , ويُحسِّنون أصواتهم بالقرآن , ويقرؤونه بشَجىً تارة , وبطَربٍ تارة , وبشوقٍ تارة , وهذا أمرٌ مركوز في الطباع تقاضيه , ولم ينه عنه الشارع مع شدَّة تقاضي الطباع له , بل أرشدَ إليه وندبَ إليه , وأخبر عن استماع الله لِمن قرأ به , وقال : (( ليسَ منَّا مَن لَم يتغنَّ بالقرآن )) وفيه وجهان : أحدهما : أنه إخبارٌ بالواقع الذي كلُّنا نفعله , والثاني : أنه نفيٌ لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم )) ([31]) انتهى .