إعلانات المنتدى


هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

mouslime

مزمار فضي
14 أبريل 2006
792
1
0
رد: هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

(بسم الل)
السلام عليكم و رحمة الله



دائما مع السيرة العطرة لعروة بن الزبير


روايته للشعر
بعث معاوية إلي عروة مقدمه المدينة فاستنشده الشعر ثم قال له أتروي قول جدتك صفية بنت عبد المطلب:
خالجت آباد الدهور عليهم فلو كان زبر مشركا لعذرته وأسماء لم تشعر بذلك أيم ولكنه ـ قد يزعم الناس ـ مسلم
قال نعم وأروي قولها:
ألا أبلغ بني عمي رسولا وسائل في جموع بني علي بأنا لا نقر الضيم فينا متى نقرع بمروتكم نسؤكم ويظعن أهل مكة وهي سكن مجازيل العطاء إذا وهبنا ونحن الغافرون إذا قدرنا وأنا والسوابح يوم جمع ففيم الكيد فينا والإمار إذا كثر التناشد والفخار ونحن لمن توسمنا نضار وتظعن من أماثلكم ديار هم الأخيار إن ذكر الخيار وأيسار إذا حب الخيار وفينا عند عدوتنا انتصار بأيديها وقد سطع الغبار
وإنما قالت ذلك في قتل أبي أزيهر تعير أبا سفيان بن حرب، وكان صهره قتله هشام بن الوليد، قال معاوية حسبك يا ابن أخي هذه بتلك وقد روى لعروة بعض أبيات من الشعر ومما قاله لما بني قصر العقيق:
بنيناه فأحسنا بناه تراهم ينظرون إليه شزرا فساء الكاشحين وكان غيظا يراه كل مختلف وسار بحمد الله خير العقيق يلوح لهم على وضح الطريق لأعدائي وسر به صديقي ومعتمر إلي البيت العتيق
وبئر عروة مشهور بالعقيق طيبة الماء، وفيها يقول أحد الشعراء:
لو يعلم الشيخ غدوى بالسحر في فتية مثل الدنانير غرر بين أبي بكر وزيد وعمر قد شمخ المجد هناك وأزمخر يسقون من جاء ولا يؤذي بشر قصدا إلي البئر التي كان خصر وقاهم الله النفاق والضجر ثم الحواري لهم جد أغر فهم عليها بالعشي والبكر لزاد في الشكر وإن كان شكر

عروة وخالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والي حمص، منذ أيام عثمان، وكان قد عظم شأنه بالشام، ومال إليها أهلها، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد، ولبأسه وما أوقعه بالروم، وما أظهره من شجاعة وجلد، فأحبه الناس، وخشي معاوية على نفسه منه، وساورته من أن يرى رجلا مثل عبد الرحمن، وقد تعلقت به القلوب بهذه الصورة، فطلب من ابن أثال أن يعمل الحيلة في قتله والتخلص منه، وضمن له في نظير ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص.
وبيت ابن أثال الأمر في نفسه، وأخذ يتحين الفرصة المواتية ليحقق لمعاوية ما أراده، وكان ابن أثال رجلا غزواته المظفرة ببلاد الروم، وكان المفروض أن تنصب له حفلات التكريم والإجلال لخدماته التي أداها للدولة، ولكن الخوف على السلطان أفسد كل الأمور، وجعل النجاح سببا للخوف، ومبررا للموت بدلا من الحياة، ودس ابن أثال شربة مسمومة إلي عبد الرحمن مع بعض مماليكه، فشربها، ومات بحمص، ووفي معاوية لابن أثال بما ضمنه له، فوضع عنه خراجه وولاه خراج حمص.
ولم يعد ما حدث سرا، فقد تحدث به الناس، وتناقلته الأخبار، في جنبات الدولة المختلفة، وأصبح حديث المجالس، وحدث أن جلس خالد بن عبد الرحمن إلي عروة بن الزبير، ويبدو أنه لم يعرفه، فسأله: من أنت؟
فأجاب: أنا خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
فقال عروة: ما فعل ابن أثال؟
وكأنما أحس خالد أن عروة يعرض به، وبعدم انتصاره لدم أبيه، فقام من عنده، وخرج من فوره متوجها إلي حمص، وهناك أخذ يترصد لابن أثال لتمكنه منه الفرصة، حتى رآه يوما راكبا، فاعترضه خالد، فضربه بسيفه فقتله، ولما رجع الأمر إلي معاوية حبسه أياما ثم أغرمه دية ابن أثال، ورجع خالد إلي المدينة بعدما أخذ بثأر أبيه، ثم أتى عروة، فسلم عليه، فقال له عروة: ما فعل ابن أثال؟
فأجاب عبد الرحمن: قد كفيتك ابن أثال، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة ولم يجب، وكأنما يعرض بأولاد الزبير أن لم يأخذوا بثأر أبيهم، حينما قتله ابن جرموز.
وكان خالد حين قتل ابن أثال لم يتوار، وإنما أنشد:
أنا ابن سيف الله فأعرفوني ولم يبق إلا حسبي وديني
وصار صل به يميني
وري صاحب نسب قريش قال: لما قتل الزبير يوم الجمل كان موقف بنيه في غاية من الحرج والضيق، فلم يدعهم الناس وفقد أبيهم، بل أخذوا يلقونهم بما يكرهون، وقد ضايق ذلك أشد الضيق بني الزبير، وفي ذلك يقول عروة: لما قتل الزبير يوم الجمل جعل الناس يلقوننا بما نكره، ونسمع منهم الأذى، فقلت لأخي المنذر: انطلق بنا إلي حكيم بن حزام حتى نسأله عن مثالب قريش، فنلقي من يشتمنا بما نعرف.
فانطلقنا حتى دخلنا عليه داره، فذكرنا ذلك له، فقال لغلام له: أغلق باب الدار، ثم قام إلي سوط راحلته، فجعل يضربنا وتلوذ منه، حتى قضى بعض ما يريد. ثم قال: أعندي تلتمسان معايب قريش، ايتدعا في قومكما يكف عنكما ما تكرهان.
يقول عروة: فانتفعنا بأدبه.
في غمرة الأحداث:
نشأ عروة كما نرى من سير أحداث حياته في المدينة المنورة، وأخذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة خالته عائشة رضي الله عنها، وكان مثل العلية من أبناء قريش، وقد مر بنا حديثه مع عبد الملك وأخويه عبد الله ومصعب ابني الزبير لما جلسوا يتمنون، ولما وقعت أحداث فتنة ذي النورين عثمان رضي الله عنه كانت الأمور تمضي به وبأمثاله ممن هم في سنه هينة سهلة حتى قتل عثمان، وولي على الخلافة، وثارت الفتنة وكان لعائشة دور كبير في المطالبة بدم عثمان، وكان الزبير على رأس المعارضين لعلي هو وطلحة بحجة الأخذ بالثأر من قتلة عثمان، وفي موقعة الجمل رج عروة لصغر سنه، وهناك رواية تقول: إن عبد الله أخاه هو الذي طلب إلي أبيه أن يعيده، لما رآه أعاد أخوة له ليسوا أشقاء، ولكن الذي تواترت عليه كتب السير فيما عدا البلاذري في أنساب الأشراف أن عروة وأبا بكر بن عبد الرحمن ممن ردا يوم الجمل لصغر سنهما، إذ كان كل منهما في سن الثالثة عشرة، وهذا هو أول حدث يوشك أن يدخل عروة فيما كان يدور من الصراع بين المسلمين في ذلك الوقت، ولكنه نجا منه بفضل صغر سنه.


t7
 

mouslime

مزمار فضي
14 أبريل 2006
792
1
0
رد: هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

(بسم الل)
السلام عليكم و رحمة الله


نواصل النفحات الأخيرة لعروة بن الزبير



ولما صفا الأمر لبني أمية بعد عام الجماعة هدأت الأمور أيام معاوية، وانصرف كل إلي شأنه، وكان ذلك حقا بسبب ما أبداه الحسن رضي الله عنه من إيثار مصلحة الأمة وتجنيبها الفرقة، والحرص على حقن دماء المسلمين، إلا أن الصراع الذي هدأ، والوحدة التي عاش الناس في ظلها بدأ لابنه يزيد من بعده، فأخذت سحب الفرقة تغيم سماء المسلمين، وبدأت النزعات الكامنة تظهر، وجرت الأحداث دامية محزنة انتهت بمقتل الحسين رضي الله عنه في العراق، بعدما آل الأمر إلي يزيد، ودعا ابن الزبير إلي نفسه في مكة، وانتشر سلطانه مدة على العراق ومصر، وبدا على الساحة السياسية ثلاث جماعات تتصارع مما مزق وحدة المسلمين كل ممزق: الزبيريون في الحجاز، والأمويون في الشام، والمغامرون الذين تستروا تحت راية الأخذ بثأر الحسين رضي الله عنه في العراق بزعامة المختار بن أبي عبيد الثقفي، يضاف إلي هؤلاء جمعيا الخوارج الذين لا يرضون عن واحدة من هذه الجماعات، ويرون حربهم جميعا وخروجهم عن الإسلام، وبدأت هذه الجماعات المتحاربة تأكل بعضها واحدة تلو الأخرى، وانفرط عقد المسلمين، وسالت الدماء بينهم حتى لم يعد هناك من قوى تواجه بعضها إلا الزبيريين في الحجاز والعراق بعد مقتل المختار، والأمويين أو بني مروان من بعدهم في الشام، ولم يلبث بنو مروان أن انتزعوا العراق من الزبيريين، وقتل مصعب ابن الزبير، وتحصن أخوه عبد الله بمكة، في هذا الجو المضطرب عاش عروة، ولم يكن يستطيع أن يكون بمنأى عنه، حتى لو أراد؛ لأن أخاه عبد الله كان يدعو لنفسه، وكان عروة معه بمكة لما اشتد به الحصار، وأخذ عدد ممن حوله يزينون له أن يستسلم؛ ولكنه أبى، وقد جرى هذا الحديث مرة وعروة حاضر، وكان عروة يرى أن يتنازل أخوه حقنا للدماء، ويرى فيما فعل الحسن مع معاوية قدوة له، وقد أورد صاحب العقد وصفا لهذا المجلس الأخير لابن الزبير، وما جرى فيه من حوار فقال لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها ابن الزبير، جمع من كان معه من القرشيين، فقال: ما ترون؟
فقال رجل من بني مخزوم من آل بني ربيعة: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا وإما أن تأذن لنا فنخرج.
فقال ابن الزبير: لقد كنت عاهدت الله أن لا يبايعني أحد فأقيله بيعته إلا ابن صفوان. فقال له ابن صفوان: أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت بموتك، وإنها لتأخذني الحفيظة أن أسلمك في مثل هذه الحالة.
قال له رجل آخر: اكتب إلي عبد الملك بن مروان.
فقال له: كيف اكتب: من عبد الله أمير المؤمنين إلي عبد الملك بن مروان، فوالله لا يقبل هذا أبدا، أم اكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من ذلك.
فقال عروة بن الزبير وهو جالس معه على السرير ـ: يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة. قال: من هو؟
قال:حسن بن علي خلع نفسه، وبايع معاوية.
فرفع ابن الزبير رجله فضرب بها عروة حتى ألقاه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قبلت ما يقولون ما عشت إلا قليلا، وقد أخذت الدنية، وإن ضربة بسيف في عز خير من لطمة من ذل".
ويبدو أن عروة كان قد شارك في القتال، فقد روي له البلاذري بيتا من الشعر أنشده وهو يقاتل:
أبي الحواريون إلا مجدا من يقتل اليوم يلاق رشدا

الرحلة إلي عبد الملك
لم يكد الحجاج يدخل مكة بعد مقتل عبد الله بن الزبير حتى امتطى عروة ناقة نجيبة، ومعه مال خرج به إلي المدينة، فأودعه هناك، ثم واصل السير إلي عبد الملك بدمشق حتى وصلها قبل رسل الحجاج، فقال للحاجب: استأذن لي على أمير المؤمنين، فسأله: من أنت؟
فقال: قل له أبو عبد الله، ولما أخبر الحاجب عبد الملك قائلا: إن رجلا يستأذن، ويقول: قل له أبو عبد الله.
قال: ذاك عروة بن الزبير، ائذن له.
فلما دخل سلم عليه بالخلافة، وعانقه ورحب به وأجلسه على السرير. فقال عروة:
نمت بأرحام إليك قريبة ولا قرب للأرحام ما لم تقرب
ثم جرى الحديث بينهما حتى وصل إلي عبد الله بن الزبير، فقال عروة: بان، فسأل عبد الملك: وما فعل؟
أجاب عروة: قتل رحمه الله.
فخر عبد الملك ساجدا.
قال عروة: فإن الحجاج صلبه، فهب جثته لأمه.
قال: نعم. وكتب إلي الحجاج يعظم ما بلغه من صلبه، وكتب إليه بشأن عروة قائلا: إن عروة كان مع أخيه، فلما قتل عدو الله أخذ مالا من مال الله وهرب.
فكتب إليه عبد الملك: إنه لم يهرب، ولكنه أتاني مبايعا، وقد أمنته وحللته مما كان، وهو قادم عليك، فإياك وعروة. ويبدو أن عروة كان قد عاد إلي الشام بعد دفن أخيه، إذ كانت الصلة بينه وبين الملك قديمة أيام أن كانا يجلسان معا في مسجد المدينة، وعز على الحجاج أن يفلت عروة بالأموال، فعاود الكتابة إلي عبد الملك بشأنه حتى هم عبد الملك أن يبعث به إلي الحجاج، فقال عروة لما أحس ذلك من عبد الملك: ليس الذليل من قتلتموه، ولكن من ملكتموه، وقال: ليس بملوم من صبر حتى مات كريما، ولكن الملوم من خاف من الموت، وسمع مثل هذا الكلام.
فقال عبد الملك: لن تسمع أبا عبد الله شيئا تكرهه. ويبدو أن عروة أقام بعض الوقت عند عبد الملك، وأظهر عبد الملك من إكرامه والحفاوة به ما يليق بعروة، وربما جدد ذلك لهما صحبتهما في مسجد المدينة، لما كانا في أول الشباب جادين في تحصيل العلم والنسك، وكان عبد الملك معجبا بعلم عروة، وقد مر بنا إشارته على الزهري أن يلزمه، فدخل هو وعروة يوما بستانا فأعجب عروة جماله ونظامه وشجره وثماره، فقال: ما أحسن هذا البستان. فقال عبد الملك: أنت والله احسن منه، إن هذا يؤتي أكله كل عام وأنت تؤتي أكلك كل يوم.

هل ولى عروة اليمن لعبد الملك
ذكر صاحب العقد الفريد أن عروة كان عاملا على اليمن لعبد الملك بن مروان، وكانت العلاقة بين عروة والحجاج علاقة تربص وتوثب، والحجاج رجل الدولة، ويدها اليمنى، ومسكت منافسيها في العراق والحجاز، وما كان له أن يستريح، وهو يرى أخ عدو بني مروان اللدود يتولى عملا لهم على اليمن، ولم ينس بعد الأموال التي أخذها واحتمى منه بعد الملك، واتصل بعروة أن الحجاج عازم على مطالبته بالأموال التي تحت يده، وعزله عن عمله، ففر إلي عبد الملك، وعاذ به تخوفا من الحجاج. واستدفاعا لضرره وشره.
فلما بلغ الحجاج لجوء عروة إلي عبد الملك غاظه ذلك وكتب إليه: أما بعد، فإن لواذ المعترضين بك، وحلول الهائجين إلي المكث بساحتك، واستلانتهم دمث أخلاقك، وسعة عفوك كالعارض المبرق لأعدائه، لا يعدم له شائما، رجاء استمالة عفوك، وإذا أدنى الناس بالصفح عن الجرائم كان ذلك تمرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل ضال، والناس عبيد العصى، هم على الشدة أشد استباقا منهم على اللين، ولنا قبل عروة بن الزبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قطع لطمع غيره فليبعث به أمير المؤمنين إن رأى ذلك والسلام.
يقول صاحب العقد الفريد: فلما قرأ عبد الملك الكتاب بعث إلي عروة، ثم قال: إن كتاب الحجاج قد ورد فيك، وقد أبى إلا إشخاصك إليه، ثم قال لرسول الحجاج: شأنك به. فالتفت إليه عروة مقبلا عليه، وقال: "أما والله ما ذل وخزى من مات، ولكن ذل وخزى من ملكتموه، والله لئن كان الملك بجواز الأمر، ونفاذ النهي، إن الحجاج لسلطان عليك، ينفذ أموره دون أمورك، إنك لتريد الأمر يزينك عاجله، ويبقى لك أكرومة آجله، فيجذبك عنه، ويلقاه دونك، ليتولى من ذلك الحكم فيه، فيحظى بشرف عفو إن كان، أو بجرم عقوبة إن كنت وما حاربك من حاربك إلا على أمر هذا بعضه".
فنظر عبد الملك في كتاب الحجاج مرة أخرى بعد سماع مقالة عروة، ورفع بصره إلي عروة تارة، ثم دعا بدواة وقرطاس، فكتب إليه: "أما بعد، فإن أمير المؤمنين رآك مع ثقته في نصيحتك خابطا في السياسة خبط عشواء الليل، فإن رأيك الذي يسول لك أن الناس عبيد العصى هو الذي أخرج رجالات العرب إلي الوثوب عليك، وإذا أحرجت العامة بعنف السياسة، كانوا أوشك وثوبا عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلي ضلال الداعي وهداه إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك. وقد وليت العراق قبلك ساسة وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم، وللشدة واللين أهلون، والإفراط في العفو افضل من الإفراط في العقوبة والسلام.

الأيام الأخيرة
ولم تكد تنجلي هذه الشدة، ويستريح الناس جميعا من الحجاج، حتى يعود عروة إلي المدينة، ويستقر بها، وينصرف للعلم والفقه والمغازي والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلي جانب البذل من جاهه وماله ما ينفع الناس، وهو الذي حفر بئر عروة المعروفة حتى اليوم، وكان في منهجه في نشر العلم متبعا للأثر، مقتفيا له، حتى قال ابنه هشام عنه: ما قال أبي في شيء برأيه قط، وكان قد عكف على بناء قصر له بالعقيق، فلما انتهى منه وحفر بئره، دعا جماعة فأطعمهم، فلما عاتبوه على ترك المدينة، قال تلك الكلمة التي رويت عنه، والتي تشعر بأن الناس انصرفوا إلي ما لا ينفعهم، فوجد السلامة في البعد عنهم، وقد يعبر عن ذلك قوله: "لم يعد في المدينة إلا حاسد على نعمة أو شامت بمصيبة.
وتوفى عروة رحمه الله في أرضه عام 94 هـ على الصحيح ودفن بها، وهي السنة التي يقال لها سنة الفقهاء لكثرة من توفى منهم فيها، فرحمه الله ورضى عنه.

t7
 

mouslime

مزمار فضي
14 أبريل 2006
792
1
0
رد: هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

(بسم الل)
السلام عليكم و رحمة الله


ميمونة بنت الحارث



في أول ذي القعدة من السنة السابعة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء، وكان عدد المسلمين يزيد على الألفين .. وكانت هذه العمرة بدل العمرة التي خرج الرسول لتأديتها وأبنت مكة إلا أن يعود في العام الذي يليه بمقتضى صلح الحديبية.
ودخل المسلمون مكة وهم يظهرون قوتهم للمشركين، وقد هال سكان مكة أن يروا المسلمين بكل هذه القوة وهم يهللون ويكبرون عند دخولهم بيت الله الحرام .. حتى أن كثيرا منهم غادرها حتى لا يروا المسلمين يعودون إلي أم القرى رغما عن أنوفهم ويطوفون بالبيت العتيق.
ارتفعت أصوات المسلمين .. وقد وعوا كلمة الرسول لهم:
ـ "رحمن الله امرأ أراهم اليوم قوة من نفسه".
وعندما لاح للمسلمين أول بيت وضع للناس قالوا بصوت يرج مكة كلها:
ـ "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".
وبعد أن أتم الرسول مناسك العمرة .. ظل إلي جوار الكعبة حتى صلاة الظهر .. وهناك أمر بلال أن يقوم بالآذان من فوق الكعبة .. وقد اغتاظ المشركون لما رأوا من قوة المسلمين وبأسهم .. فهؤلاء الذي خرجوا مهاجرين من سنوات يعودون إليها اليوم بعد أن حققوا العديد من الانتصارات على مشركي مكة .. وعلى اليهود .. وأصبحوا أصحاب قوة ونفوذ .. فقد بدل الله خوفهم أمنا. وضعفهم قوة .. وهاهم اليوم يعودون إلي البلد الذي طردهم لا يخافون أحدا .. ولا يهابون أحدا إلا الله سبحانه وتعالى، وكان للمسلمين الحق في الإقامة في مكة ثلاثة أيام على حسب اتفاق صلح الحديبية.
وفي هذه الأثناء خطب النبي ميمونة بنت الحارث الهلالية، وهي أخت (أما الفضل) زوجة العباس بن عبد المطلب .. وكان قد مات عنها زوجها..
وأراد الرسول الكريم أن يعرس بها في مكة، وأن يقيم مأدبة يدعو فيها أهل مكة لعل قلوبهم تلين، ويبتعدوا عن صلفهم وعدائهم للنبي والإسلام بلا مبرر إلا الحقد ودواعي الجاهلية، ولكنهم أصموا آذانهم، ورفضوا أن يقيم المسلمون مدة أكثر من المدة التي حددتها المعاهدة المبرمة بينهم وبين الرسول في الحديبية. وخرج الرسول متجها صوب المدينة.
وعند (سرف) على بعد أميال من مكة .. لحقت به زوجته ميمونة حيث بنى بها الرسول. وميمونة وكان اسمها (بره) كانت واحدة من أربع نساء فضليات .. فأختها أم الفضل تزوجت عم النبي العباس، وكانت أوائل النساء اللائى أعلن إسلامهن بعد خديجة رضي الله عنها .. وأختها الأخرى أسماء بنت عميس زوجة ابن عم الرسول جعفر بن أبي طالب .. وأخت سلوى بنت عميس زوج أسد الله حمزة بن عبد المطلب..
ويقول الرواة أن ميمونة هي التي رغبت في الزواج من آخر رسل الله وأنها أسرت إلي أختها أم الفضل بذلك .. وأخبرت أم الفضل زوجها العباس الذي نقل رغبة (ميمونة) إلي ابن أخيه .. فما كان من الرسول إلا أن بعث بجعفر ليخطبها..
ويقال أيضا أنها عندما علمت أن رسول الله وافق على رغبتها أنها ركبت راحلتها وتوجهت حيث يوجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له:
ـ "البعير وما عليه لله ورسوله.
لقد كانت صادقة مع نفسها .. صادقة مع مشاعرها .. لم تبال بما يقول المنافقون..
وقد نزل قوله تعالى:
{يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالتك التي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيماً "50" } (سورة الأحزاب)
وكانت ميمونة هي آخر زوجات رسول الله .. وقد انتقلت إلي جوار ربها سنة 51 هجرية .. ودفنت في (سرف) نفس المكان الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

*****

أما مارية القبطية التي أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم المقوقس عظيم مصر ردا على رسالته، والتي أنجبت له ابنه إبراهيم فلم تكن أما من أمهات المسلمين، ولكنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم بملك اليمين، وقد أسكنها الرسول صلى الله عليه وسلم بعالية المدينة حتى تبتعد عن غيرة نسائه وخاصة عائشة التي قالت عنها:
ـ ما غرت من امرأة إلا مثل ما غرت من مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة، فأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد أنزلها أول ما قدم بها في بيت (حارثة بن النعمان) فكانت جارتنا، وكان عامة النهار عندها فجزعت، فحولها إلي العالية بأقصى المدينة، وكان يذهب إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا".
وقد بلغت من غيرة عائشة منها أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أنجب منها ابنه إبراهيم، كان شديد الفرح به، وحمله إلي أم المؤمنين عائشة ولكن عائشة قالت له:
ـ ما أراه يشبهك في شيء!!
فقال لها الرسول العظيم وهو يحمل فلذة كبده:
ـ إنكن صوحب يوسف.
وقد حزن الرسول حزنا شديد عندما مات إبراهيم، وقال كلمته الخالدة:
ـ "تدمع العين، ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، أنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وقد توفيت رضي الله عنها في خلافة عمر بن الخطاب ودفنت بالبقيع.

t7
 

mouslime

مزمار فضي
14 أبريل 2006
792
1
0
رد: هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

(بسم الل)
السلام عليكم و رحمة الله

نبدأ على بركة الله سيرة الإمام ابن حزم


لم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلا كتب في الحب وأحوال العشاق بمثل هذه الرقة والعذوبة والصراحة، وجادل الفقهاء في الوقت نفسه بكل تلك الحدة والعنف والصرامة ..!
اجتمعت فيه صفات متناقضة: لين الطبع وسعة الأفق وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الانفعال، والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه .. فهو يناقش كل وجوه النظر في المسائل، حتى إذا اطمأن إلى رأي، أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر بهم، وكال لهم الاتهامات، لا يراعي لهم فضلا ولا وقارا ..!
من أجل ذلك أحبه بعض الناس حتى تحدوا فيه حكام عصرهم، وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغروا به السلطان.!
يشهد مجالس الأنس، ويسمع مع ظرفاء عصره، ويستمع للغناء حتى يؤذن للفجر فينصرف للصلاة، ثم يعتكف النهار والليل بعد ذلك بعيداً عن السمار والظرفاء، يقرأ ويتأمل ويكتب، ثم يخرج ليحضر مجالس العلم يتلقى، ويحاور الشيوخ، ويعلم الطلاب.
ولد وعاش ومات في الأندلس ـ أجمل بلاد المسلمين وخيرها ـ في شر فترة من عصور التاريخ الإسلامي .. إذ كانت الدولة الإسلامية العظمى في الأندلس، قد تمزقت إلى دويلات صغيرة، فذهب زمن الخلفاء أولى العزم العماليق العظام، ليجيء بدلا منه عصر الحكام الأقزام، ليتصارعوا فيما بينهم، وليكيد كل واحد منهم لأخيه. ويعربد على دويلته فينقصها من أطرافها، ويحالف الفرنجة الطامعين في أن يستعيدوا الأندلس بأسره .. ومن هؤلاء الحكام الأقزام من رضى الدنية في دينه ودنياه، فأغرى الفرنج بالأموال الطائلة ليعينوه على أطماعه في الدويلات الإسلامية المجاورة الأخرى..!
وهكذا انطفأت منارات المعرفة في قرطبة، وهي التي تضيء لكل ما حولها وما يليها من بلاد أوربا، فأصبحت قرطبة عاصمة الدولة الكبرى في الأيام الزاهد الذاهبة، دويلة من الدويلات الإسلامية..! وانصرف أهل قرطبة من جد الأمور إلى هزلها ..
ونهبت خزائن الكتب في قرطبة، وهي خزائن لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل .. وانصرف أهل قرطبة عن اقتناء الكتب كما تعودوا، إلى حيازة الجواري الحسان والغلمان!. وبعد أن كان الأثرياء يتنافسون على شراء الكتب الجديدة، حتى لقد كان المؤلفون في المشرق العربي ينشرون كتبهم في الأندلس، قبل أن تظهر في بلادهم، كما صنع صاحب الأغاني، بعد كل هذا أصبح الناس يتنافسون على شراء الجواري الشقراوات والغلمان من فرنا وإيطاليا والجزر المجاورة في المحيط والبحر الأبيض المتوسط.
وبدلا من التفنن في إقامة خزائن للكتب، تفننوا في بناء الأجنحة للجواري. وذوي فن النسخ وافتقر الناسخون، لتزدهر صناعة النخاسة ويثري النخاسون!. وأصبحت أسواق الأدب في متنزهات قرطبة مغاني للعشاق وخمائل للمتعة!
وإذ بالعقل العربي في الأندلس يهجر تقاليده الإسلامية في البحث والمغامرة واكتشاف المجهول وإغناء الحياة بالإضافات، ليسقط في الجمود والتقليد. وإذ بالناس يتخذون الشيوخ أولياء من دون الله، ويتشفعون بهم من دون العمل..!
وخلال هذا التحول كانت الفضائل تتهاوى، وقيم الإسلام تترنح، والباطل يغشى وجه الحياة، والإنسان الصادق يغترب .. والحق كسير!
وانطفأت الحمية .. وخبت الغيرة، وتزايل قدر الكتاب والشعراء والمفكرين ومهرة الصناع وأهل الفنون، المنتجة ليعلو مقام الجواري والغلمان والمخنثين والشذاذ..!
وخلال هذا كله يتناقل الناس قصة أمير في أشبيلية اشتهت إحدى نسائه أن تغوص بأقدامها في الطين، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك المعجون بالماء المعطر..! أنفق على هذه البركة ما يكفي لتجهيز جيش، حتى إذا أحاطت جيوش الفرنجة بأشبيلية والأمير ونساؤه يعبثون عراة في طين المسك لم يجد الأمير في خزائنه ما يتقوى به على الدفاع عن مدينته.!
وهكذا سقطوا في الطين .. المعطر!
وفي بعض نواحي الأندلس تقل المياه، وينقطع المطر فتجف الأرض، ويعطش الأحياء، وبدلا من أن يؤدي المسلمون صلاة الاستسقاء، عسى أن يستجيب لهم الله فيعم الماء، ليسقوا الأحياء والأرض، كانوا يتجهون إلى فلنسوة جلبها أسلافهم من الإمام مالك، ليستسقوا بها..!
ثم يتناقل الناس قصة رجل فاضل من أهل العم عشق جندياً حسن الطلعة من جيش الفرنجة الذي كان يحاصر إحدى المدن، فاستخلص الرجل الذي كان فاضلا هذا الجندي لنفسه، وأمره على قصره لينهي ويأمر فيه، وأباحه حريم القصر، لينال الرجل العالم من الجندي ما يريد..!
وحين كانت خزائن الدويلات خالية مما تتطلبه مؤنة الجيش، بنى أحد الأمراء قصرا ضخما وجلب له غرائب الأزهار والأشجار والطيور النادرة، وشق له نهرا صغيرا من قمة الجبل حيث تتراكم الثلوج في الشتاء لينحدر الماء إذا ذابت الثلوج، ويصب في جداول تتخلل حدائق القصر، وتنتهي إلى بحيرة صنع قاعها من الرخام الأزرق الفاخر الثمين، ورصعت شطآنها بالأحجار الكريمة! لتسبح فيها الجواري الشقراوات المجلوبات من جنوب فرنسا، على شعاع الشمس إذا كان النهار، وعلى ضوء القمر أو المصابيح الذهبية في ليالي الصيف..!
وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة، ومظاهر مؤسية من فساد المجتمع نشأ ابن حزم.
عاش في هذا المضطرب نحو اثنين وسبعين عاما .. اشتغل خلالها بالسياسة والأدب، والفقه، والشعر، وكابد الحياة والناس، وعرف المتاع والعذاب، وحاول أن يتعاطى الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والفلك والرياضة وعلم النفس وسماه بهذه الاسم، واحتك بمجتمعه، فصوره ورسم أعماقه ومفاسده ومظالمه، وهب في انفعال يرفض مجتمعه ذاك، ويحاول أن يهدم واقعه لينيبه من جديد!
وفي سبيل ذلك لم يكتف بالكتابة بل خاض غمرات الصراع السياسي واشترك في مغامرات عسكرية .. وعرف الحب والنعيم، وعرف الجوى، ولم يتحرج ـ وهو الفقيه الذي يتربص به أعداؤه ـ من التصريح بتجاربه ومشاهداته، في بيان مشرق عذب، لم يتكلف فيه تغطية العبارات والألفاظ ..
وترك مؤلفات كتبها بلغت عدتها أربعمائة بين كتب طوال ورسائل قصيرة كالمقالات .. ذلك أن ابن حزم كان حين يعكف على القراءة والكتابة لا يخرج عما أخذ فيه، ولا يسمح لأي ظرف مهما يكن خطره بأن يعطله!
وكثيرا ما كان يرفض الخروج من غرفة عمله، ويأمر برد زواره وقاصديه! ولقد أغضب بسلوكه ذاك. كثيرا من أصدقائه والمقربين إليه، ولكنه كان يعتذر إليهم إذا خرج من عمله يستروح، فلولا أنه يأخذ نفسه بالشدة في العمل، لما أتيح له أن ينجز شيئا .. والعمل عنده عبادة، ولئن اعتكف العابد ليتعبد، فما ينبغي أن يصرفه عن شأنه أي طارق حتى يفرغ مما هو فيه!
ولد علي بن احمد بن سعيد بن حزم، في آخر شهر رمضان قبيل شروق يوم عيد الفطر عام 384 هـ، في قرطبة حاضرة ذلك الزمان. كان أبوه وزيراً للخليفة الأموي هشام المؤيد وهو من أواخر الخلفاء الأمويين في الأندلس ..
ولد ابن حزم في قصر فاخر، فقد أصاب أجداده وأبوه ثروة ضخمة، فترك أبوه منازل الأباء في غربي قرطبة حيث يسكن أوساط الناس، واتخذ لنفسه قصرا منيفا في حي السادة شرقي قرطبة، على مقربة من دار الخلافة.
تفتحت عينا الصبي على مجال الترف، ومسارح المتاع، ومغاني الجمال، في قصر أبيه الشامخ على مرتفع يشرف على كل قرطبة، محاطا بحدائق واسعة، ترتفع فيها الأشجار، ويصوغ الزهر، ويغرد الطير، وتنساب الجداول الصغيرة، ويتفجر الماء في نافورات منمنمة الحواشي والجنبات بالفسيفساء ..
على مرائي الجمال ومغان الحسن تلك تفتحت عيناه .. فما سمع في طفولته غير الشدو، والغناء، وما رأى غير الوجوه الصباح، وخضرة الحدائق، وروعة ألوان الطبيعة الفتانة، وما ملأ صدره إلا بشذي الزهر وعطر الفاتنات .. الجبال على البعد تجلل هاماتها الثلوج وتغمر الخضرة الريانة كل سفوحها .. وهمس الجداول، وخرير الأنهار، ورنين الضحكات الفضية، وعطر الأنسام، وحلاوة الأنغام واتساق القدود، ونضارة الخدود والتماع الأضواء على الملابس الزاهية تلف القامات المتأودة .. أشعة واهنة من الشمس تتسلل من وراء السحاب وتتخلل الأغصان اللفاء، فتوشي الظلال على الأديم ذي الأعشاب .. منابر الذهب والفضة .. هذا هو كل ما عرفه ابن حزم منذ نشأ حتى وثب به الصبا على أوافل الفتوة .. وبلغ أولى سنوات الشباب ..
وهو في الخامسة عشرة، تمرد على الخليفة هشام المؤيد أقرب الأمراء إليه، فساقوا جيشا من العرب والبربر والفرنجة فأسقطوا الخليفة، وولوا مكانه رجلا آخر من بني أمية .. وعزل الحاكم الجديد والد ابن حزم من منصبه واعتقله، ثم أفرج عنه، بعد حين ..
قال ابن حزم: "شملنا بعد قيام أمر المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والتغريب والاغرام الفادح .. وأرزمت الفتنة وخصتنا، إلى أن توفى أبي الوزير رحمة الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنين وأربعمائة" ..
كان ابن في الخامسة عشرة حين سقط الخليفة هشام المؤيد، وعزل أبوه من منصب الوزارة، وصادرت الدولة الجديدة قصره في شرقي قرطبة وما وصلت إليه من أمواله .. وبقى للأسرة بعد ذلك شيء .. منازل قديمة في غربي قرطبة انتقلت إليها، وضياع ودور متفرقة في أرجاء الأندلس.
ولقد عاش أبوه معتزلا الناس أربع سنوات بعد النكبة، ثم مات حزينا محسورا، وتآمر الفرنجة والبربر وبعض بني أمية على الحاكم الجديد، فوثبوا عليه، وولوا مكانه رجلا آخر، وعاثوا في قرطبة فسادا فنهبوا الأموال وانتهكوا الحرمات واغتصبوا النساء.
وهاهو ذا الآن يصبح وحيدا بعد أن قتل أبوه الوزير صبرا وكمدا. ترك الفتى قرطبة باكيا، وكتب يصف حالته "ضرب الدهر ضرباته. وأجلينا عن منازلنا، وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطة أول المحرم عام أربع وأربعمائة" ..
كان إذ ذاك في العشرين .. فتى مثقل القلب بالهموم، تضطرم أعماقه بالإصرار على أن يغير هذا العالم المثخن بالفوضى والمظالم والفساد.! لقد علمه أبوه الوزير وثقفه لكي يصبح وزيرا مثله، فقد كانت الوزارة في ذلك الزمان تورث كما يورث الملك! وقد علمه أبوه منذ بدأ يعي، أنه قرشي من بني أمية .. جاء أجداده مع الفتح الإسلامي. علمه أن جده الأعلى كان أخا بالولاية ليزيد بن أبي سفيان الذي بعثه أبو بكر الصديق في أول بعثة لفتح الشام ..
وإذن فمعاوية عمه، وأجداده هم الذين فتحو الأندلس وأقاموا فيها الدولة العظمى .. فالوفاء لأسلافه يقضي عليه بأن ينتصر للأمويين، ويدافع عنهم، ويدعم دولتهم .. فإذا سقطت هذه الدولة فالوفاء يقتضيه أن يعمل من أجل إحيائها..! .. فإذا تصارع أمراؤها فليعتزل هو الصراع!.
كان قبل، قد نال قسطا من التعليم. وما أرسله أبوه ليتعلم في حلقات الجامع، أو عهد به إلى مدرس .. بل آثر أن يعلمه في القصر. ولأن أباه كان خبيرا بما آلت إليه الحياة من فساد وتفسخ، لم يشأ أن يعهد بهذا الطفل إلى معلمين من الرجال .. بل اختار له معلومات من النساء من قريباته من الجواري .. وكانت من نساء قرطبة فقيهات وراويات شعر ومقرئات ومحدثات وطبيبات وعالمات بالفلك والفلسفة.
ربى ابن حزن في حجور النساء كما قال .. ولا زمهن حتى بلغ مرحلة الشباب .. وأتاح له لزومهن معرفة كثير من أحوالهن وأسرارهن، ودراسة خلجات قلوبهن، والإطلاع على ما يملكن من فضائل ورذائل.!
كتب عن هذه المرحلة من صباه فيما بعد، فأعلن عدم ثقته بالنساء، وحكم عليهن في ألفاظ مكشوفة أنهن ما لم يشغلهن العلم أو العمل متفرغات البال للرجال.
"قرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم، يوكل ثقة له بنسائه، يلقي عليهم ضريبة من غزل الصوف، يشتغلن بها أبد الدهر، فالمرأة بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال .. ثم يقول: "لقد شاهدت النساء، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأني ربيت في حجورهن، نشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب" ثم يسترسل "… وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرا من الأشعار، ودربنني على الخط، ولم يكن وكدي (أي همي)، وأعمال ذهني منذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدا إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك وأنا لا أنسى شيئا مما أراه منهن. وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل.
ويعترف أنه منذ الطفولة قد اطلع من أسرار النساء والرجال على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم احسن قط بأحد ظنا في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في ..
إن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (الغيرة من الإيمان)
فلم أزل باحثا عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن، ولولا أن أكون منبها على عورات يستعاذ بالله منها، لأوردت من تنبههن في السر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب .. ثم يضيف: "أني لأعرف هذا وأتقنه، ومع هذا يعلم الله وكفى به عليما أني برئ الساحة" .. وثم يقسم بأغلظ الأيمان على عفته، وأنه لم يقترف حراما قط.!
وابن حزم يروي ذكريات طفولته عن النساء اللائى عهد إليهن أبوه بتربيته .. وهن كما قال من الجواري المهذبات ومن قرابته. وكان أبوه يزوره خلال الدرس ليطمئن عليه، وقد أقام عليه رقباء ورقائب من الشيوخ والنساء العجائز.
على أنه صبا إلى شقراء منهن فامتنعت منه ولاحقها في شرفات القصر عسى أن تبادله ما يحس، فيستوهبها أباه، ولكنها ظلت تتمنع فأباها عليه أبوه، ووهبه شقراء أخرى، ولكن الفتى لم يستطع السلو عنها سنوات .. فزوجه أبوه من شقراء أجل من تلك، ووهبه جارية شقراء أيضاً، وعاش ابن حزم لا يستحسن غير الشقراوات كما قال ..
وكان قد حفظ القرآن وقدرا صالحا من الشعر وجود الخط .. وأن له أن يفارق مدرسة النساء إلى حلقات الرجال. واختار له أبوه عالما زاهدا ناسكا فاضلا، وتحرى الأب أن يكون معلم ابنه حصورا ..
كتب ابن حزم "وأني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة، وتمكن غرارة الفتوة مقصورا، محظورا على بين رقباء، ورقائب (من النساء)، فلما ملكت نفسي وقلت صحبت أبا الحسن بن علي علي الفاسي. وكان عاقلا عالما ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح، وفي الزهد في الدنيا، والاجتهاد للآخرة. ودينا وورعا، فنفعني الله به كثيرا، وعلمت مواضع الإساءة وقبح المعاصي. ومات أبو الحسن رحمه الله في طريق الحق .."

يتبع
 

mouslime

مزمار فضي
14 أبريل 2006
792
1
0
رد: هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

(بسم الل)
السلام عليكم و رحمة الله

نسترسل سيرة الإمام ابن حزم


صحب ابن حزم هذا الشيخ الذي اختاره له أبوه، فأنتزعه الشيخ من كل دواعي الإغراء لمن هو في مثل سنه، فما كانت النساء تحجب عن الرجال، وكان هذا كما يقول ابن حزن هو جاري العادة في التربية ببلاد الأندلس.
بدأ الجلوس إلى شيخه وهو في نحو السادة عشرة وصحبه إلى حلقات علماء التفسير والحديث واللغة.
بهر الفتى أشياخه بسرعة استيعابه، وقوة حفظه، ودقة فهمه .. وبعد أن استوعب ابن حزم ما في مجالس القرآن والتفسير، صحبه شيخه ومربيه إلى حلقات الفقه.
حتى إذا خرج مربيه إلى الحج فمات في بعض الطريق، استقل ابن حزم بحضور الحلقات وقد علم من شيخه الراحل قدر كل واحد من أصحاب الحلقات .. فلزم الحلقات بالجامع الكبير بالجانب الغربي من قرطبة، حيث يعيش أواسط الناس وسوادهم، وأهل العلم والطلاب. وفي هذه الحلقات عنى إلى جانب علوم الدين بدراسة النحو وعلوم اللغة والفلك والفلسفة والمنطق وسائر المعارف الإنسانية الموجودة في عصره.
ولقد اهتم بالنحو اهتماما خاصا، وأدرك أن إتقان النحو هو سبيله إلى فهم النصوص. ذلك أنه كان قد شهد عجبا مما يؤدي إليه الجهل الشائع بالنحو. حتى لقد تفكه بحكايات عن ذلك فيما بعد .. فروي أن رجلا كان يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة "وكان عديم الورع قليل الصلاح. فخطبنا يوم الجمعة في جامع قرطبة فتلا في خطبته: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) فقرأها بنونين (عننتم). فلما انتهت الصلاة جاءه بعض تلاميذه وكانوا يأخذون عنه رأي مالك، فذكروا له الآية صحيحة، فأنكرها وزعم أنه هكذا تعلمها وهكذا يعلمها. فلما احتكموا إلى المصحف، دخل وعاد بالمصحف وقد حذف نقطة من ناء عنتم، لتكون نونين!" ..
ويروى عن مقرئ أخر يعلم الناس القرآن، وهو عربي بل قرشي، "وأحد مقرئين ثلاثة كانوا يقرئون العامة في قرطبة"، وكان لا يحسن النحو، فقرأ عليه قارئ يوما في سورة ق
{وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} (سورة ق)
فرد عليه القرشي "تحيد بالتنوين". فراجعه القارئ وكان يحسن النحو، فلج المقرئ وثبت على "التنوين". وانتشر الخبر، حتى وصل إلى فقيه كان صديقا لذلك المقرئ، "فذهب إليه وقال للمقرئ القرشي: "انقطع عهدي بقراءة القرآن على مقرئ، وقد أردت تجديد ذلك عليك". فسارع الفقيه إلى ذلك. فبدأ يقرأ من سورة ق حتى إذا بلغ إلى الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بتنوين كلمة (تحيد). فقال الفقيه للمقرئ: "لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك". فلج المقرئ. فقال له الفقيه: (يا أخي أنه لم يحملني على القراءة عليك إلا ردك إلى الحق في لطف، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو .. فإن الأفعال لا يدخلها التنوين البتة). فتحير المقرئ ولم يقتنع حتى جاءوا بالمصحف وبعدد من مصاحف الجيران فوجدها مشكولة بلا تنوين".
ظل ابن حزم يدرس العلوم الدينية واللغوية والعلوم الإنسانية ودرس الكتب المترجمة في الأدب والفلسفة والخطابة والفلك. ودرس الرياضات. ودرس الشعر العربي وأخبار العرب والتاريخ.
ولقد درس العلوم الدينية على مذهب الإمام مالك، وكان هو المذهب الرسمي للدولة، فقد فرضه الأمويون، وما كانوا يعينون قضاة أو يسمحون لفقيه أو عالم، بالفتيا أو إلقاء الدروس، إن لم يكن من اتباع الإمام مالك .. ولم يسمحوا لمذهب غيره بالوجود في الأندلس، كما فرض العباسيون في المشرق مذهب الإمام أبي حنيفة .. ولهذا قال ابن حزم: "مذهبان انتشروا بقوة السلطان، مذهب أبي حنيفة في المشرق ومذهب مالك في المغرب".
انكب ابن حزم على طلب العلم .. حتى أصبحت قرطبة مسرحا للحرب بين الأمراء الأمويين في صراعهم الداخلي يرمون قرطبة بجند البربر وعسكر الفرنجة على قرطبة الشماء، ليفسدوا فيها الدماء .. حتى لقد قتلوا نحو عشرين ألفا من أهلها من بينهم عدد كبير من العلماء والفقهاء والمقرئين والقراء وشيوخ المساجد!
فرحل الشاب إلى مرية بعيدا عن قرطبة لقيم في ضيعة لأهله هناك، وفي أعماقه ينزف القلب الممزق، ويحتدم في صدره الشوق إلى أن ينفذ الإسلام وأن ينشل الأندلس بأسره من كل هذا الهوان ..!
ولكن كيف؟! ما عساه أن يصنع هو وحده، وهو بعد طالب علم في الثانية والعشرين، بلا جيش ولا نصير!؟
فليتفرغ هناك لدراسة كل ما بين يديه من آثار في الدين والفكر، وكل معطيات العقل الإنساني .. فليعمر عقله بالعلم وقلبه بالأمل حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .. وعندما يجئ الوقت، سيشرع قلمه ليواجه الفوضى، والعار، والفساد بأقوى مما يستطيعه السيف البتار ..!
وفي المرية، وجد عددا كبيرا من الشيوخ ممن هاجروا في أرض الله الواسعة، نأيا بأنفسهم عن مضطرب الفتنة والدماء في قرطبة المنتهكة، التي غمرت أجواءها العطرة الطيبة، رائحة الموت، والحياة المتعفنة، ورائحة العار ..!
ولذم ابن حزم من وجد في "المرية" من شيوخ قرطبة وأخذ عنهم، وقسم وقته بين حضور الدروس في المسجد، والقراءة في البيت .. وظل على هذا الحال نحو ثلاث سنوات.
ولكن الأمراء الأمويين في صراعهم على السلطة سقطوا جميعاً فأل الأمر في قرطبة إلى آل حمود .. وهم علويون، وبين الأمويين والعلويين خصام متقد!
استولى العلويون على قرطبة، وبسطوا سلطانهم على كثير من أقطار الأندلس، فتوجس ابن حزم في نفسه خيفة مما قد يقع له .. فهو ابن أسرة تنتمي للأمويين.
وصحت مخاوف ابن حزم طالب العلم الذي أصبح في الخامسة والعشرين، إذ أوقع به والي "المرية"، واتهمه بالتآمر مع صاحب له ليعيدوا ملك بني أمية .. فاعتقله هو وصاحبه شهرا ثم أمر بإبعادهما. فتطوع أحد أصحاب حاكم "المرية" باستضافة ابن حزم وصاحبه .. يقول ابن حزم "فأقامنا عنده شهورا في خير دار إقامة، وبين خير أهل وجيران، وعند أجل الناس همة، وأكملهم معروفا، وأتمهم سيادة، ثم ركبنا البحر قاصدين بلنسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضى عبد الرحمن بن محمد وساكناه بها.
كان المرتضى عبد الرحمن بن محمد حفيد عبد الرحمن الناصر رجلا صالحا، هرب من قرطبة حين اشتعلت فيها الحروب الداخلية بين أبناء عمومته من الأمويين، واعتزل الفتنة، فم ظهر بعد حين في "بلنسية"، ودعا لنفسه بالخلافة ..
بادر ابن حزم بتأييد المرتضى .. فهاهو ذا رجل صالح من بني أمية، على نقيض الأمراء الأمويين الآخرين الذين أباحوا قرطبة جيوش البربر والفرنجة، وارتضوا أن يؤدوا الجزية للفرنجة ليستعينوا بهم في الصراع على الحكم!
وكان المرتضى متفقها يعرف ابن حزم عنه التقوى وحسن الدين، ويتوسم فيه أن سيعيد مجد جده الأعلى عبد الرحمن الناصر، أيام نهض يوحد الأندلس، ويستعيد فيه عظمة الإسلام، فسعى في عمارة الأرض وجعل من قرطبة حصنا حصينا للإسلام، ومشرقا لنور المعرفة، وجعل متنزهاتها ندوات للثقافة والجدل الفلسفي، يتمشى فيها المفكرون يجادلون ويعلمون، كما كانت أثينا في عصورها الزاهرة.
وكان المرتضى عبد الرحمن بن محمد نفسه يريد أن يعيد قرطبة والأندلس كله إلى أيام جده حين كان ملوك أوروبا وأمراؤها يسعون إليه أو يقدمون له الجزية، وحين كان العلماء والفقهاء والمفكرون والكتاب والشعراء هم قسمات الوجه المضيء لقرطبة، ودولة الإسلام في الأندلس!
ولكن المرتضى عبد الرحمن بن محمد لم يكن يملك من مواهب رجل الدولة إلا الصلاح وحسن النية والرغبة الصادقة في الإصلاح .. ولا شيء بعد! .. لا حزم، ولا قدرة، ولا حسن بصر بالرجال، ولا سائر الوسائل التي تكفل النجاح لمن يريد أن يتولى أمر الناس ويقود أو ينشئ دولة.!
ولكن ابن حزم وجد نفسه مندفعا إلى مبايعة الرجل الصالح،عسى أن يستطيعا معا هدم هذا العالم الفاسد وبناءه من جديد على البر والتقوى والنجدة والعدل.
أقام ابن حزم في بلنسية مع المرتضى عبد الرحمن بن محمد يدعو إليه ويحشد له طلاب العلم ويخطب الناس ويطالبهم بأن يبايعون بالخلافة. على أنه ظل خلال نشاطه السياسي العارم، يواظب على حلقات الدرس فيتلقى عن شيوخها.
وذات مرة سأل ابن حزم شيخ الحلقة عن مسألة من فقه مالك، فأجابه شيخه، ولكن ابن حزم لم يقتنع بالإجابة فاعترض، وضاق به الشيخ، فقال له أحد الطلاب المقربين إلى شيخ الحلقة: "ليس هذا من منتحلاتك!" ذلك أنه كان حتى ذلك الوقت ينتحل كتابة الشعر والنثر الفني فحسب، وكان زملاؤه يشدون له بطلاوة الأسلوب ورشاقة العبارة، ولم يستطع ابن حزم أن يرد فما كان يعرف فقه مالك بعد، وضحك منه الشيخ والطلاب.
غضب ابن حزم حتى قام لينصرف من الحلقة، ولكنه كظم غيظه وقعد إلى نهاية الدرس، ثم اعتكف في داره يقرأ النهار والليل في فقه مالك، وفقه الأئمة الآخرين أصحاب المذاهب، وخرج بعد عدة أشهر إلى الناس، فحضر الحلقة التي شهدت السخرية منه .. فناظر الشيخ والطلاب احسن مناظرة، فأدهشهم، وقال وهو ينصرف: أنا أتبع الحق واجتهد، ولا أتقيد بمذهب.
وأثناء انقطاعه لقراءة الفقه، أعجبه بمذهب الشافعي، فمال إليه ولكنه لم يتقيد به .. أعجب في الشافعي تمسكه بالنصوص من القرآن والسنة، وعزوفه عن تقليد من سبقه، واستنباطه الأحكام من النصوص، واعتباره الفقه هو النص أو الحمل على النص (أي استخراج الحكم من النص أي القياس عليه).
غير أن ابن حزم لم يلبث أن هجر القياس، ووجد أن ما قاله الشافعي في رفض الاستحسان، يصلح حجة لرفض القياس، وأنه لا حكم إلا فيما تضمنته نصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة إجماعا لا يختلف عليه واحد منهم رضي الله عنهم.
وقد اهتدى إلى هذا الرأي عندما ما كان يقرأ فقه الإمام الشافعي .. وما كتبه الآخرون عنه، فوقع على كتاب داود الأصبهاني عن مناقب الشافعي .. وأعجب الشاب بالأصبهاني وكتابته، وحاول أن يتتبعه ولكنه لم يجد في بلنسية ما يغنيه .. لو أنه يعود إلى قرطبة أم المدائن في الأندلس! ففي قرطبة مهما يكن من أمر ما ليس في غيرها من المدائن!
ولقد عاتبه بعض أصدقائه في موقفه من المذهب المالكي، فقال لهم أن الإخلاص للإسلام هو الذي دفعه إلى أن يترك المذهب .. وما يبالي هو ما يكون من أمر، مادام الإخلاص للإسلام هو رائده فيما يأخذ وما يدع من الأمور! ويروى لهم أن عيسى عليه السلام سأله أحد الحواريين ما هو الإخلاص ومن المخلص فقال عليه السلام: "المخلص من إذا عمل خيرا لا يهمه أن يحمده الناس".
عاد ابن حزم يدعو إلى المرتضى عبد الرحمن بن محمد، حتى اجتمع للمرتضى جيش يصلح للزحف، فقرر أن يزحف إلى غرناطة فيستولي عليها، ويجيش من أهلها عسكرا كثيفا يستولي به على قرطبة التي أمتنع فيها العلويون.
وسار ابن حزم مع الجيش تحت راية المرتضى ولكن الجيش لم يصل إلى غرناطة. فقد اغتيل المرتضى وهزم جيشه، ووقع ابن حزم في الأسر! وبعد حين أطلق من الأسر، فاختار أن يعود إلى قرطبة ليتفرغ للعلم بعد أن غاب عنها نحو ستة أعوام.
هاهو ذا من جديد في قرطبة مدينته التي لم يحب ركنا آخر من الأرض كما أحبها، والتي عرف فيها عذوبة أيام الصبا، ثم قسوة الحياة منذ عزل أبوه، ومات، وشاهد طرقاتها الظليلة ومتنزهاتها الغناء يختلط فيها دم الإنسان بالمعرة والأوحال! ولكنها مهما يكن من أمر، خير المدائن عنده، ومهما يكن ما حدث فيها للفكر والمعرفة، فمازالت هي هي أزخر بلاد الدنيا بالمعارف ومهما يكن ما حدث لخزائن الكتب فيها، وللفقهاء والعلماء، فإنه يستطيع أن يجد فيها من الكتب ومن البيئة الثقافية ما لن يجده فيما عداها من أرض الله.
منذ وقع ابن حزم وهو في بلنسية على كتاب للفقيه داود بن علي الأصبهاني، وهو حريص على أن يستزيد من فقه الرجل.
ووجد في قرطبة كل كتب داود الأصبهاني. التي تضمنت منهجه في الاعتماد على النصوص من القرآن والسنة وإجماع الصحابة في استنباط الأحكام.
وداود الأصبهاني من مدينة أصبهان تعلم فيها ورحل إلى بغداد وغيرها من حواضر الإسلام، ولد عام 202 هـ وعاش خمسين عاما تفقه فيها على مذهب الشافعي، ولكنه رفض وخالف الشافعي في الاجتهاد وهو الاعتماد على النص، أو القياس على النص. وقال: "إن الشريعة لا رأي فيها ولا اجتهاد، فهي نصوص فحسب، ولا علم في الإسلام إلا من النص". وقد سأله أحد الذين يعرفون إعجابه بالشافعي: "كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعي؟! "فأجاب: "أخذت أدلة الشافعي في إبطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس.." وقيل عنه: "أنه أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الأحكام قولا واضطر إليه فعلا وسماه الدليل" .. والدليل الذي يعنيه داود مفهوم من ظاهر النص كأنه يقول الحديث الشريف. "كل مسكر خمر. وكل خمر حرام". فهما مقدمتان دون ذكر النتيجة والنتيجة المحذوفة المفهومة من ظاهر النص، أن كل مسكر حرام. وهذا ليس قياسا، بل فهم لظاهر نص فيه إيجاز بالحذف. وكأنه بقول الله تعالى: "قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف." فهذا شرط للمغفرة، وهو يعم كل من يعصي الله والرسول لا الكفرة وحدهم.
قال عنه أحد معاصريه: "لو اقتصر على ما هو فيه من العلم لظننت أنه يكمد به أهل البدع مما عنده من البيان والأدلة. ولكنه تعدى.
وكان زاهدا عابدا. ولقد وجه إليه أحد المعجبين من الحكام يوما بألف درهم تعينه على العيش فردها قائلاً لمن جاء بها: "قل لمن أرسلك بأي عين رأيتني، وما الذي بلغك من حاجتي وخلتي حتى وجهت إلى بهذا؟".
وقد وجد ابن حزم في قرطبة حين عاد إليها هذه المرة بعض الذين تأثروا بآراء داود، ووسعوا منهجه الظاهري، وتركوا كتبهم في خزائن الكتب بقرطبة، وفي صدور بعض اتباعهم، فدرس ابن حزم كتبهم وتتلمذ عليهم .. وخلال خمس سنوات وهب فيها نفسه للعلم، ودراسة الفقه الظاهري، لم يعد الشاب يفكر في السياسة. وأعلن الخلاف مع الشافعي متابعا فقه أهل الظاهر وقيل لي في خلافه مع الشافعي بعد أن أحبه وأعجب به، فاستشهد بما قاله الإمام الشافعي حين عوتب على خلافه مع الإمام مالك وهو شيخه: "أقول في هذا ما قاله أرسطو حين خالف أفلاطون: أستاذي وأنا أحبه ولكن الحقيقة أحب إلى من أفلاطون."
وتمر الأعوام وابن حزم لا يشغله إلا الدرس الجاد.
ووجد بعض المتعصبين من اليهود والنصارى يطعنون في الإسلام مستغلين الضمور الفكري والفقهي، وشيوع التقليد، وتجمد العقل، فانبرى لهم ابن حزم يجادلهم، ويسفه آراءهم، في حدة وعنف، مؤكدا أن ما اعترى الحياة الإسلامية من فساد وبلادة، وما يشيع فيها من جمود فكري، وتقليد أعمى للسلف، ليس من الإسلام. ولكنه محنة للإسلام.
ولهو يعد نفسه لمعارك فكرية أخرى يجلو فيها حقائق الإسلام كما هي في أصلها الثابت من ظاهر النصوص وإجماع الصحابة .. ولهو سعيد بتفرغه للعلم، يكتب النثر الفني والشعر، ويناقش آراء أرسطو في المنطق، وفتاوى الفقهاء المقلدين .. ولهو ينضج على نار التأملات، والقراءات الجادة المتصلة بمنهجه في الفقه .. ولهو مستغرق مستوعب في العلم .. إذ بالسياسة تفرض نفسها عليه مرة أخرى، وتقتحم بابه في عنف، وتنتزعه انتزاعا من تأملاته وقراءاته وكتاباته ومناظراته ..

يتبع.
 

mouslime

مزمار فضي
14 أبريل 2006
792
1
0
رد: هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

(بسم الل)
السلام عليكم و رحمة الله


نسترسل سيرة الإمام ابن حزم

ان قد سئم السياسة فتركها، وظل يرقب بألم ما يضيق به صدره ولا ينطلق به لسانه: تناحر الأمراء على السلطة، وفتك بعضهم ببعض، وهم خلال هذا الصراع قد وطأوا أكناف قرطبة وهامتها لسنابك خيل الفرنجة "فلحق بيوتات قرطبة معرة في نسائهم وأبنائهم."
إنه متعب من السياسة وأهل السياسة .. متعب من الأصدقاء .. متعب من الحياة .. متعب من كل شيء .. ولا راحة له إلا في العلم والكتابة..!
فقد رأى فيما رأى: هشام المؤيد الأموي الذي استوزر أباه، يعزل، ثم يختفي، ثم يظهر، ثم يتولى الأمر..
لكم فجمع ابن حزم في هشام هذا بعد أن تعود احترامه وأشرب حبه منذ الصغر!. ذلك أن المؤيد هذا، تولى الخلافة من جديد وأصبح أمير المؤمنين، فناوأه أمير أخر من بني عمومته، وزحف بجنده، فاستنصر هشام بالفرنجة وعرض أن ينزل لهم عن قشتالة.! .. ونصره الفرنجة بهذا الثمن، ولكن مناوئه غلبه على قرطبة وأسقطه، ثم قتله .. واستعان هو الآخر بالفرنجة ليوطد أركان ملكه!
غير أن السنوات تمر، والانقلابات تستمر، وتتوالى التغيرات فلا يستطيع العقل أن يلاحقها .. وهاهو ذا يستقر في قرطبة من جديد، ولكن تحت حكم العلويين من آل حمود الذي أسقطوا حكم الأمويين.
وتمضي الحياة وهو سعيد بنشاطه العلمي وهمومه الفكرية ..
هدأ ابن حزم عن السياسة، ولكن أهل قرطبة لم يهدأوا .. فثاروا على حاكمهم العلوي واختاروا واحدا من بني أمية ليولوه الخلافة مكان الخليفة العلوي .. وهو حفيد آخر للخليفة العظيم عبد الرحمن الناصر .. صاحب قرطبة في زمن البطولات والشموخ.!
كان ابن حزم قد بلغ الثانية والثلاثين من العمر، وحين رأى إصرار أهل قرطبة على تولية حفيد آخر لرجل العصر الذهبي عبد الرحمن الناصر، أنضم إليهم، فما كان بوسعه أن يسكت.!!
مرة أخرى تغزو قلبه الأشواق إلى بناء الأندلس من جديد واستعادة الأيام الرائعة الغابرة .. فترك تأملاته وكتبه ومناظراته وقلمه وانضم للثائرين!..
وعزل أهل قرطبة الخليفة العلوي، وولوا مكانه عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار حفيد الناصر. ولم يكد يتولى حتى عين ابن حزم وزيرا له.
ولكن الخليفة الجديد لم يكن يملك من المواهب شيئاً ولم تكن له ميزة تؤهله لأن يكون أمير المؤمنين .. إلا أنه حفيد عبد الرحمن الناصر! كان شابا في نحو الثالثة والعشرين، غريرا، ساقط الهمة، سيطرت عليه النساء وأهل الدسائس .. وكان إلى ذلك طائشا يأخذ بالظن، مزهوا بشبابه وثرائه، مفتونا بالسلطة .. فلم يكد يستقر على عرش قرطبة، حتى شك في جماعة من الذين حملوه إلى العرش وهم من أهل المشورة والرأي والحكمة في الأندلس، وكافأهم على ما بذلوه من أجله بعزلهم وإقصائهم وإلقاء بعضهم في غيابات السجود، واتهمهم بالتآمر عليه ليولوا مكانه أمويا آخر وأظهر بدلا منهم عددا من الرقعاء وأهل الشذوذ وأصحاب السمعة السيئة!!
ولم ينتصح بنصيحة أحد، فقد أقنعته شكوكه وأقنعته بطانته أن كل من يعارضه يريد أن يسقطه، ويفاضل عليه أحد أبناء عمومته من الأمويين وثارت قرطبة من جديد وأخرت قادتها من السجن عنوة، وزحف الثائرون على قصر الخليفة فانتزعوه منه وقتلوه .. ولم يكن قد مر على ولايته أكثر من شهرين..!
وداست أقدام الثائرين ابن حزم وزير الخليفة المخلوع .. واتهموه بأنه سكت على المظالم، فألقوا به في السجن ولبث في السجن عدة أشهر.
ثم راجع الثواب أنفسهم وفحصوا أعمال ابن حزم خلال ولاية الخليفة المقتول، فلم يثبتوا على أن حزم الموافقة على الفساد أو المظالم، وثبت لهم أنه كان عاجزا .. كان وزيرا لا يؤخذ برأيه، ولقد حاول أن يعتزل، ولكنه خاف طغيان الخليفة .. فقضى الشهرين وزيرا يتحمل الوزر بلا غنم..
خرج ابن حزم من السجن وفي عزمه ألا يتعاطى السياسة أبدا وأن يهب عمره كله للكتابة .. وعاد إلى العمل .. يقرأ ويكتب ويناظر..
ولكنه لم يكد يتفرغ لعمله أربع سنوات حتى ظهر رجل آخر أموي اسمه هشام من أحفاد عبد الرحمن الناصر.
هشام آخر!! وهو مرة أخرى من أحفاد الخليفة الذهبي العظيم!! .. ما أكثر ما تسخر الحياة بابن حزم الباحث عن الهدوء!
مرة أخرى يترك القلم والورق والمناظرة وينضم إلى الثوار!
ونظر هشام المعتد بالله بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر فيمن حوله من الرجال، فاختار ابن حزم وزيرا.
ولكنه الخليفة الجديد كان هو الآخر مخيبا للظنون، فلم يحقق شيئاً مما عقده الناس عليه من آمال، وشغله الصراع مع بني عمومته والأمراء الآخرين، وازدادت الدولة ضعفا، وصح فيها قول كبير الفرنجة أيام الفتح الإسلامي: لا تقاوموا الفاتحين فهم يتحركون بروح الفداء ويزحفون بالحرص على الاستشهاد وطمعا في نعيم الآخرة، وبإيمان جائح يستطيع أن يقتحم كل الصعاب .. ولكن انتظروا حتى يشغلوا بالمال والسلطة، ويتنازعوا على الحكم، وحينئذ يستطيع الفرنجة أن يستردوا الأندلس.
وفي الحق أن العرب حين نزلوا أرض الأندلس، بعزم، وجسارة قلب، وإدارة لا تقهر، اجتاحوا الأندلس بمثل طاقات المد، فهي لا تتوقف ولا يقاومها أحد بعد. وكانوا قد أحرقوا السفن من ورائهم، فما إلى فرار من سبيل، ولا محيص .. فإما الشهادة أو النصر!
ولكن نبوءة كبير الفرنجة تحققت، فتدهورت الأمور وتمزقت الدولة حتى أصبحت حراب الفرنجة تسند عرش أمير المؤمنين.!
على أن قرطبة ثارت على أمير المؤمنين هشام المعتد بالله، وأسقطته وأسقطت معه الدولة الأموية كلها، فلم تقم قائمة لها إلى الأبد .. وتولى بدلا من الأمويين ملوك الطوائف .. وقسموا إمارات الأندلس فيما بينهم، وأختفي الخليفة المخلوع في أحد الثغور حتى مات بعد ست سنوات من خلعه.
أما ابن حزم، فلم يبق وزيرا حتى سقط الحكم الأموي، بل اعتزل المنصب حين تأكد له أنه لن يستطيع أن يحقق شيئا للدولة مما عاش يحلم به، إذ استيقن أن حفيد عبد الرحمن الناصر هزيل لا رجاء فيه.
ما ضعف ابن حزم أمام السياسة، وما حقق من خلالها شيئا ينفع الناس!؟ لقد وجدها أداة فاسدة التعبير، فليبحث إذن عن أداة أصلح!
ووجد في الكتابة التعبير عن أشواقه في إصلاح أمور الأمة، والنهوض بأحوال المسلمين، وعزم للقلب المعذب. وأنه ليشعر في أغوار نفسه أن جهاده بالفكر والقلم كالجهاد في سبيل الله بالسيف والمال .. ولكن في أي أرض يختار معركته.! ..؟
لم يشأ أن يحيا في قرطبة تحت ظلال حكم ملوك الطوائف .. فتركها وطاف بالأندلس، يجمع من حوله طلاب العلم فيلقي عليهم الدروس ويناظرهم، ويفرغ لنفسه يقرأ ويتأمل ويكتب. كانت له ضياع في أكثر من مكان في ريف الأندلس فكان يقيم في المدن القريبة من هذه الضياع، ثم يطوف بالعاملين في الأرض يتأمل أحوالهم ..
وهاله ما هم فيه من شقاء ..! وإنهم ليدفعون إيجارا باهظا للأرض، ولا يبقى ما يكفيهم للعيش بعد أداء الأجرة للملاك!! .. والملاك يحصلون على هذه الأموال الطائلة ويبنون القصور ويقتنون الجواري الحسان ويعيشون حياة فارغة من البطالة واللهو..!
وفكر ابن حزم في القاعدة الشرعية التي عليها هذا النظام، وعاد يقرأ النصوص في القرآن والسنة من جديد، وتتبع الآثار وأخبار الصحابة، حتى انتهى به النظر إلى أن نظام الإيجار في الأرض الزراعية حرام، فقد جرت السنة على المزارعة: يأخذ المالك نصف الإيراد أو ثلثيه أو ثلاثة أرباعه أو قل من ذلك والباقي يحصل عيه الزراع .. هكذا فعل الرسول "ص" بأهل خيبر .إذ زارعهم مناصفة.
وأعلن هذا الرأي فقامت عليه القيامة .. وأسرع كبار الملاك إلى الفقهاء يلتمسون منهم دفع البلاء الذي سينجم عن رأي ابن حزم ..
واجمع الفقهاء على أن ابن حزم يحرف في الدين، فهو يبتدع رأيا يخالف به كل الأئمة أصحاب المذاهب: مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان والشافعي، واحمد بن حنبل، بل أنه ليخالف ما جرى عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان .. ثم إنه يناقض حتى شيخه الفقيه الذي نقل عنه استنباط الأحكام من ظاهر النص إلى الإجماع وهو داود الأصبهاني، إمام أهل الظاهر الذي أخذ عنه ابن حزم كل الأصول والفروع في الفقه.
لقد أتى ابن حزم إذن بما لم يقل به الأوائل .. وأنها لكبيرة أراد بها إثارة الفتنة بين الزراع وأصحاب المزارع .. فما ينبغي للحكام أن يتركوه يحدث من البدع أكثر مما أحدث..!
واتهم ابن حزم مخالفيه بالجهل وقال أن فقيها عظيما هو إمام أهل مصر الليث بن سعد قد نادى بهذا الرأي منذ أكثر من قرنين، وكانت له ضياع كثيرة، لم يؤجرها منذ اهتدى إلى هذا الرأي، بل كان ينتفع بها بالمزارعة، وكان يجعل معظم ما يحصل عليه في صرر ويجلس أيام الحصاد أمام باب داره في الفسطاط بجوار جامع عمرو، فيوزع الصرر على الفقراء والمساكين وذوي القربى كل واحد صرة أو أكثر من الصرر ويرسل بعضها خفية إلى أصحاب الحاجات من أهل العلم.: معلمين وطلابا..!
ولم يهتم أحد من الفقهاء الإمام الليث بأنه يثير الفتنة ، وحين عارضه بعض فقهاء عصره ممن يعيشون في ظروف اجتماعية مختلفة قال: "نحن أهل مصر والنوبة أدرى بأحوالنا من سوانا"!
لم يشغب أحد على الإمام الليث لأنه رأى قصر استثمار الأرض الزراعية على المزارعة، ولذلك لم يتوقف كثيرا ليدافع عن رأيه وليطنب في تقليله وتسبيبه! .. وكان كل ما لقيه الإمام الليث من خصوصية فيما بعد، هو إهمال أثاره ومؤلفاته ثم طمسها بعد موته، حتى لقد تحسر الإمام الشافعي على ضياع هذه الآثار النفسية، فوقف على قبر الليث وبكى .. ثم قال: "إنه أفقه من مالك، ولكن أهل مصر أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به"!!
فما بال فقهاء عصر ابن حزم يتهمونه بالزيغ، والبدعة..؟! وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..!
إنه ليخرج على مذاهب الأئمة الأربعة الكبار، وبصفة خاصة مذهب الإمام مالك الذي جرى على أحكامه القضاء في المغرب والأندلس، ومذهب الإمام أبي حنيفة الذي جرى عليه القضاء في المشرق، فهما قطبان تدور عليهما الشريعة والفتيا، .. وهذه كبيرة عند المقلدين!!
واستنفر هذا الاتهام ابن حزم إلا أنه يخالف مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة مبتدع من أهل النار!؟
ورد على متهميه بهجوم عنيف على متبعي المذهبين، قبل أن يبدأ في توضيح رأيه في المزارعة والإجارة ..
قال: إنه يفتي من السنة، فالمزارعة هي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يؤجر أرض خيبر حين فتحها الله عليه، وإنما تركها مزارعة بالنصف لزراعها، وكانوا هم يهود خيبر، ثم مضى يقول: "فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك لأنه لم يأمرنا قط باتباعهما. فمتبعهما مخالف لله تعلى. وإن كانت فتياهما مخالفة للنص فلا يحل لأحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة. وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله .. قال معاوية لابن عباس: (أنت على ملة ابن عمك علي، قال: لا. ولا على ملة عثمان. أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم) .. وقالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: (نريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب. فقال عمر بن عبد العزيز: ) (قاتلهم الله، والله ما أردت دون رسول الله إماما) .. فإن لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله تعالى "وإن تطع أهل الأرض يضلوك عن سبيل الله" وقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وقليل ما هم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا. فطوبى للغباء)
وأنذر عليه السلام بدروس العلم (أي اضمحلاله) وظهور الجهل (أي تفوقه) ..
ثم يضيف ابن حزم ساخرا: "فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن، وهيهات!"
ثم يستطرد ابن حزم " .. ولكن الحق والصدق هو ما أنذر به رسول الله. والذي درس هو اتباع القرآن والسنن فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون جعلنا الله منهم، ولا عدا بنا منهم .. وأما ولايتهم القضاء فهذه أخرى وأندم، وما عناية جورة الأمراء وظلمة الوزراء خلة محمودة، ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة. وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة والعتاة من بني العباس (في الشرق) وبني مروان (في الغرب) بالعنايات والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء، وعودة الخلافة ملكا عضوضا، وابتزازا للأمة .. فهؤلاء القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الإسلام المحبين لسنن الجور والمكر "وأنواع من الربا والرشوة"، وأنواع الظلم وحل عرى الإسلام. وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم، وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي (يشير إلى محنة خلق القرآن التي جلد وعذب فيها الإمام احمد بن حنبل) .. فمثل هؤلاء لا يكترث بهم، وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف (تلميذ أبي حنيفة) على هارون الرشيد (في بغداد) وتغلب يحيى (من اتباع مالك) على عبد الرحمن بن الحكم (في قرطبة) فلم يقلد القضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان. والناس حراص على الدنيا، فتتلمذ لهما الجمهور لا تدينا، ولكن طلبا للدنيا".
ثم يمضي في دحضه آراء المتمسكين بالمذاهب فيقول: "ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف، وفي مناديح رحبة (جمع مندوحة) عن هذا التعسف، بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه".
وقال عن خصومه أنهم أحد رجلين: إما رجل لا يعلم السنة فهو جاهل، أو رجل علمها، وتركها إلى أقوال الأئمة أصحاب المذاهب فهو يخالف أوامر الله ورسوله. وكلا الرجلين فاسد الرأي ساقط الفتيا " ولا يحق له أصلا أن ينتحل العلم أو الفقه".
ويسوق ابن حزم بعد هذا حجته الدامغة من السنة بأسانيدها الصحاح الثابتة:
ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها، فإن أبي فليمسك أرضه
عن نقل متواتر موجب للعلم المتيقن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. وعن نقل أخر متواتر إنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجرة.
ـ من النقل المتواتر: "أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها. ولهم شطر ما يخرج منها" وشطر ما يخرج منها أي نصفه. ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نصف ثمرها، ويروي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر أراد إجلاء اليهود عنها فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمرة
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نقركم بها على ذلك ما شئنا"
فقروا بها حتى أجلاهم عمر بن الخطاب..

يتبع.
 

mouslime

مزمار فضي
14 أبريل 2006
792
1
0
رد: هلّموا اخوتي لجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات الاسلامية لنستخلص منهم العبر

(بسم الل)
السلام عليكم و رحمة الله


الإمام ابن حزم
ولم يسكت مخالفوه من الفقهاء والعلماء فردوا عليه الاتهام بالجهل ومخالفة الله ورسوله، واتهموه بقصور الفهم، إذ لم يفهم أن صلى الله عليه وسلم حرم إجارة الأرض بحكم خاص لا يجوز تعميمه، لأنه كان بشأن واقعة معينة، وهذا هو عين ما فهمه أصحاب المذاهب من الأئمة الكبار. فقد اقتتل رجلان على إجارة أرض زراعية
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كان هذا شأنكم فملا تكروا المزارع"
أي لا تؤجروها فهو لم ينه عن مسلمان، فرد عليهم أن هذا يمكن أن ينطبق على المزارعة أيضاً، فقد يؤدي النزاع فيها إلى اقتتال مسلمين! .. ولكنهم أيدوا رأيهم في إباحة الإجازة بما قاله سعد بن أبي وقاص: "أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض بالذهب والورق".
ولكن ابن حزم رد قولهم عليهم، بالطعن في قوة السند الذي روى الحديث الوارد في واقعة الاقتتال، والخبر المنقول عن سعد بن أبي وقاص، وذهب إلى أنه حتى لو صح الأثران، فما يجوز العدول عن السنة الثابتة إلى خبر يرويه صحابي واحد مهما يكن خطر شأنه.! واتهمهم بأنهم بإباحة الأجر إنما يظلمون الزراع ويحابون الملاك! بأن يؤدي الزارع التزامه ويسلم المالك الأجرة المتفق عليها كاملة، مهما يقل الإنتاج، أو حتى إن لم تنتج الأرض أصلا. وهذا هو الظلم بعينه، "وما ربك بظلام للعبيد".
واستخلص النتيجة في حسم: "لا تجوز إجارة الأراضي أصلا لا لحرث فيها ولا للغرس فيها ولا للبناء فيها ولا شيء من الأشياء أصلا، لا لمدة مسماة قصيرة ولا طويلة، ولا بغير مدة مسماة، لا بدنانير ولا بدراهم، ولا بشيء أصلا، فمتى وقع فسخ أبدا، ولا يجوز في الأرض إلا المزارعة بجزء مسمى مما يخرج منها. أو المغارسة كذلك فقط، فإن كان فيها بناء قل أو أكثر جاز استئجار ذلك البناء وتكون الأرض تبعا لذلك البناء غير داخلة في الإجارة أصلا .. ثم يكرر "لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بعرض ولا بطعام مسمى ولا بشيء أصلا" .. فهو يعتبر إجارة الأرض بأي مقابل حراما" .. ويضيف "ولا يحل قي زرع الأرض إلا أحد ثلاثة أوجه: إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منها شيئاً، فإن اشتركا في الآلة والحيوان والأعوان دون أن يأخذ من الأرض كراء فحسن، وأما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذرة وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى مسمى إما النصف أو الثلث أو الربع، ونحو ذلك، أكثر أو أقل. ولا يشترط على صاحب الأرض شيء من كل ذلك. ويكون الباقي للزراع قل ما أصاب أو كثر. فمن أبى فليمسك أرضه" .. ثم يقول أن عقد المزارعة ليس له أجل "لأنه لم يوجبه نص ولا إجماع فهو شرط ليس في كتب الله تعالى فهو باطل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم .. وليس لأحد أن يوجب ولا يحلل إلا بنص ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى وشرع من الدين ما لم يأذن به الله. قال الله تعالى: "أم للإنسان ما تمنى..".
أما إجارته التعاقد في المزارعة على ما دون النصف على خلاف فعل الرسول فهو ليس خروجا على السنة أو قياسا عليها .. ويقول "إن حكم سائر الأجزاء كحكم النصف فإذا كان النصف حلالا، فسائر الأجزاء حلال، وهذا برهان ضروري متيقن لا يجوز خلافه .. فإن المتعاقدين على النصف قد تعاقدا على ما دون النصف بدخول ذلك النصف".
وجرى في المساقاة على رأيه في المزارعة. فأفتى بأن إيجار الماء لسقي الزرع لا يجوز. ولا يجوز شراؤه للوضوء أو الشرب.
لم يقتنع بهذه الآراء أحد من الفقهاء أو كبار ملاك الأرض الزراعية، ولكنها بهرت شباب العصر المخلصين، المتطلعين إلى العدل، فالتفوا حوله أينما اتجه ..
وحماه تجمعهم حوله، من فتك بعض أعدائه به .. فقد كادوا له عند أمراء الولايات التي طاف أو يطوف بها، وحرض عليه كبار الملاك والفقهاء المخالفون، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا منه، فقد وجد الحماية في حصن حصين من إعجاب الشباب والزراع والفلاحين به، والتفافهم من حوله في جولاته بريف الأندلس .. وخشي الأمراء أن يبطشوا به، فتنفجر الثورة عليهم .. ولكنهم ضايقوه وضيقوا عليه، فأخذوا يقتطعون من أملاكه، ويصادرون بعض أراضيه، حتى اضطر إلى الرحيل عن الأندلس كله، بعد أن طاف بمعظم ريفه ومدنه والجزر التابعة له. إلى حاضرة أخرى من حواضر الفقه والفكر يشد الرحال ويركب البحر ..
إلى الجزر الشرقية بالقرب من المغرب، حيث تسربت كتب نادرة من خزائن قرطبة بعد نهبها، وحيث يعيش عدد من فقهاء الأندلس ممن هاجروا في الأرض بعد فساد الأمر في الأندلس، وبعد أن طفا الزبد، وذهب ما ينفع الناس.!
وفي جزية أندلسية صغيرة على مقربة من المغرب التقى بكثير من العلماء والفقهاء والمفكرين من أهل المغرب، وبقصادها من علماء المشرق.
وهناك استمع إلى الفقهاء وناظرهم وناظروه وجلس إليه طلاب العلم. ولكنه لم ينس قرطبة، ففي قلبه حنين متوقد! وإن نفسه لتتمزق حسرات..!
كتب إلى صديق له بالأندلس: "أنت تعلم أن ذهني منقلب، وبالي مضطرب بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وفساد الأحوال، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس من الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعه افضل ما عودنا. وأن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم مما تحيف، ومواهبه المحيطة بنا، ونعمه التي غمرتنا لا تحد ولا يؤدي شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه وإليه منقلبنا، وكل عارية راجعة إلى معيرها وله الحمد أولا وأخرا".
ولقد حاول أمير القيروان أن يصله ببعض الهدايا والمال، وتقديرا له ولكن ابن حزم رفض، وكان يرفض عطايا الأمراء بعد بني أمية، ثم إنه على الرغم مما فقده لم يكن في حاجة، وأنه ليشعر في أغوار نفسه أنه فوق الأمراء والوزراء لأنه كاتب وفقيه ومفكر.
ولم يكن ابن حزم يأبى على غيره أن يقبل الهدايا من السلطان، وكان يعجب لمن يتعففون عنها بشبهة أن الحرام داخلها بغصب أو نحوه، وهم في ذات الوقت يسكتون عن المحرمات التي يقترفها الأمراء كالعضب والفساد والإفساد وما إلى ذلك؟ ..
كان يهزأ بهم ويزري عليهم إذ ينأون بأنفسهم عن الشبهات، وهم يستبيحون المحرمات. ويغرقون فيها إلى الأذقان! .. وشبههم بالذين سألوا عبد الله بن عمر عن المحرم في الحج أو العمرة أمحل له أن يقتل حشرات الفراش؟ فسألهم ابن عمر: "من أنتم؟" فقالوا من "الكوفة" فقال لهم "قاتلكم الله. تسألون عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بني علي رضي الله عنهما!؟
استقر ابن حزم على مكانه الجديد سنوات، لم ينقطع فيها عن القراءة والكتابة، على الرغم من أنه كان ينفق وقتا طويلا في مناظرة الفقهاء والجلوس في الحلقات ليتلقى عنه طلاب العلم في إعجاب به شديد في المدن الصغيرة التي تقع في أطراف الأندلس على مقربة من المغرب.
وعلى الرغم من بعده عن عواصم الأندلس لم يهدأ عنه مخالفوه من الفقهاء هناك، إذا استمر على منهجه من نبذ المذاهب الأربعة، ومهاجمة أتباعها ومقلدي الأئمة الكبار، وازداد عنفا على مخالفيه، واشتد في وجوب الاعتماد على النصوص وحدها، وهاجم الذين يعتمدون على الرأي إن لم يوجد نص.
وقادته حماسته للمنهج الظاهري ورفضه للقياس وللاجتهاد بالرأي إلى الوقوع في التناقض. ذلك أنه كان يرى أن الحكم إذا لم يوجد في النص أو في إجماع الصحابة فهو على استصحاب الحال .. أي على الإباحة لأن الله تعالى قال: "وخلق لكم ما في الأرض جميعا "فكل ما في الأرض مباح لبني آدم، إلا ما حرمه الله تعالى بنص في القرآن أو السنة النبوية. وتفهم النصوص بظاهرها ولكن إنسان حق فهمها ..
لتزم ابن حزم هذا المنهج التزاما صارما شجع به غير أولي العلم على الفتيا، فتجاسر بعضهم على الشريعة، واشتطوا في ذلك، فخالفوا بسوء فهم نصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة، على نقيض ما أراد أن بحزم.
ثم أن ابن حزم نفسه في رفضه القياس وأدوات الرأي الأخرى لاستنباط الأحكام فيما لم يرد به نص ولم ينعقد عليه إجماع .. ابن حزم في منهجه هذا وقع في غرائب.
ذلك أن الفقهاء الآخرين عللوا الأحكام وفهموا أسبابها، فألحقوا الوقائع الجديدة في الحكم عليها، بما أوردته النصوص، إذا اتحدت العلة وتماثلت الحالات .. أما ابن حزم فهو يرى أن الشريعة غير معللة ولا مسببة إلا بنفسها، وإلا إذا وردت العلل والأسباب في نصوصها.
ومن الغرائب التي وقع فيها:
اجمع الفقهاء على نجاسة الخنزير ولعابه قياسا على نجاسة لعاب الكلب، ولكنه خالفهم جميعا لأن النص لم يرد على الخنزير، ولا حرام ولا حلال إلا بنص، فسؤر الخنزير إذن طاهر.
وبول الإنسان ينجس الماء لأنه حكم بنص، وقياس الكلب بالخنزير وسائر الحيوان خطأ .. فبولها لا ينجس الماء لأنه لا نص ولا إجماع.!
وأباح لغير المتوضئ بل وللجنب والحائض والنفساء مس المصحف والقراءة فيه. وهو في هذا كله يأخذ بآراء شيخ أهل الظاهر داود الأصبهاني الذي قال أنه لا نص يمنع هؤلاء من القراءة في المصحف.
واعتبر العمرة فرضا كالحج، وركنا من أركان الإسلام لقوله تعالى: "وأتموا الحج والعمرة لله".
وقال أن الزواج واجب وفرض شرعي على كل من هو قادر على النفقة والعدل مع زوجه،
وذلك بنص الحديث الشريف: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج"
وهو في كل ما يأخذ وما يدع من أمور الدين لا يقبل مخالفة ويقسو على معارضيه ويتهمهم بالجهل، وقلة الدين، وارتكاب الأخطاء الشنيعة."!
وكان هذا الأسلوب في الجدل يوغر الصدور. وقد وصفه بعض أصدقائه: "أوتي العلم كله، ولكنه لم يؤت سياسة العلم".
وبدأ الذين ناظرهم في مهجره الجديد يضيقون به .. فلم تعد الحفاوة كما ألقها في أول سنوات قدومه.!!
ثم إنه لقي صديقا عزيزا قادما من قصبة الأندلس، ولابن حزم سبق فضل عليه، ولكن الصديق نسى الفضل السابق وتجافى ابن حزم. وحز هذا في نفسه وأدرك أن الحملة عليه من فقهاء الأندلس مع تغير الحال به، وغضب أمراء الأندلس عليه. كل ذلك أفسد عليه بعض المودات والقلوب، حتى قلب مثل هذا الصديق.!
ورأى ابن حزم أن يكشف للمسلمين حقيقة مهاجميه من فقهاء الأندلس عسى أن يبطل تأثيرهم على الآخرين فكتب: " .. قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه.
وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل أن يفتوا في مسألة من الديانة ولا يجوز قبول شهادتهم. وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا وهو يتغطى بالديباج الذي هو الحرير المحض لحافا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس الحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق. وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من انحراف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه. شاهدنا هذا نحن منه عيانا، وعلى جمهور أهل البلد، إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها" ..
ثم يوجه حديثه إلى الناس كافة فيطالبهم من جديد بالاجتهاد لاستنباط الأحكام من النصوص، فهذا خير من التقليد "والمجتهد المخطئ خير من المقلد المصيب. فهو في تقليده عاص الله عز وجل لأنه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه .. وكل من عمل عملا بخلاف الله تعالى فهو باطل .. والمجتهد أعظم أجرا من المقلد المصيب وافضل، لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته، والمجتهد المخطئ مأجور باجتهاده غير آثم بخطئه. فأجر متيقن وسلامة مضمونة أضمن من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك.
وبهذا أغضب فقهاء الأندلس جميعا فكلهم مقلد للإمام مالك، ثم أنه ليتهمهم بالفسق والجهل ومخالفة الشريعة في حياتهم الخاصة وباقتراف المنكر والتزوير في فتاويهم.
وأغضب معهم فقهاء المغرب كله لأنهم هم أيضا مقلدون للإمام مالك .. وما منهم مجتهد واحد مخطئ أو مصيب!
واستعرت الحملة عليه في الأندلس، واتهمه فقهاؤها بالقذف في المحصنين والمحصنات، وطالبوا أمراءهم بإقامة الحد عليه.
وبنا به مهجره، واضطربت تحته أرض الجزر الأندلسية الشرقية التي اطمأن عليها سنوات، وزادت الجفوة بينه وبين فقهائها .. ولكن كيف العودة؟ وهم هنالك في المدن الكبرى يتربصون به ويترقبون عودته؟!
واعتزل الحياة والناس، والكتابة في الفقه، وانكب على قراءة اليونانيات والمعارف الأخرى وعاودته طبيعة التحدي فرفض منطق أرسطو! ولكن ابن حزم لم يحكم الحجة لاضطراب نفسه وقلقه مما يعاني .. وأتاح لمنافسيه أن يسخروا به لأنه يطاول أرسطو بغير دليل مقنع!
وخلال قراءته المتنوعة في المعارف الإنسانية قرأ أن جالينوس يفضل اللغة اليونانية على غيرها من اللغات ويقول أن سائر اللغات إنما تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع. ووقف ابن حزم عند رأي آخر يذهب إلى أن العربية هي "افضل اللغات لأنه نزل بها كلامه تعالى".
كتب ابن حزم يناقض أصحاب هذه الآراء: "وقد توهم قوم في لغتهم أنها افضل اللغات وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل إنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى:
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}
وقال تعالى:
{فإنما يسرناه بلسانك لعلم يتذكرون}
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك .. ثم قال عن دعوى جالينوس أن لغة اليونان افضل اللغات "وهذا جهل شديد لأنه كل سامع لغة غير لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس" .. أي إما نباح كلاب أو نقيق ضفادع .. ثم استطرد: "إن الله قد كلم موسى عليه السلام بالعبرانية (وهي لغة موسى وقومه) ونزل الصحف على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا. أما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والإجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك. إلا أنه لابد من لغة يتكلمون بها ضرورة .. وقد أدعى البعض أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، واحتج بقول الله عز وجل
{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}
.. فقلت له: قل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. ولأنهم قالوا: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. ولأنهم قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. ثم يستطرد: " .. وقد أدى هذا الوسواس الباطل باليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية، فلا يكتبون عليهم غيرها .. وفي هذا من السخف ما ترى. وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه. عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل".
وخلال اعتكافه في تلك المدينة الصغيرة في جزيرة نائية بأقصى شرق الأندلس على مقربة من المغرب كتب رسالة في أسماء الله الحسنى، وخرج بها على فقهاء الأندلس والمغرب، فأبدوا إعجابهم بها، وعجب سائر العلماء لابن حزم هذا: لحدة طبعه وعنفه، ولعمق فكره، وجمال أسلوبه وانفجار علمه وتدفقه .. وكرر أحدهم ما قاله صديق لابن حزم من قبل "هذا الرجل أوتي العلم كله"، ولكنه لم يؤت سياسة العلم فهو يصك مخالفيه صك الجندل للوجه." ورضى هو عن زوال الجفوة بينه وبين العلماء.

يتبع
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع